أحلام مغترب - 2
طعام الغداء ،ذاه ًبا إلى كليته ،فإ ذا عاد منها لم يشغل
وقته بشيء سوى المذ اكرة ،وقد طلب الفتى تغيير غرفته
متخلصا من إسالم وأفعاله ،وانقطع عن نزول
هذا العام
ً
ً
مستغال
إجازة الجمعة بالرغم من مشقة هذا القرار عليه
ذلك الوقت في تنظيف غرفته وثيابه ومذ اكرة ما لم يكمله
طيلة األسبوع ،فال ينزل إال مرة في الشهر ينتظرها بنار
الشوق.
[]40
أحمدَالمح مديَ
...كان يرى أن تلك الزهرة التي سقطت من فرع
الشجرة ليس لها أن تظل تنظر إليه حتى تذبل وتموت بل
عليها أن تنبت لتصبح شجرة تعلو فروعها لتصل إلى ذلك
الفرع فيشعر بالفخر أن هذه الشجرة العظيمة سقطت
يوما منه.
ً
...والحق أنه استفاد من غربته كثي ًرا فقد صار
طبا ً
خا بارعً ا تغار منه أمه ،فكان يمتع معدته بالدجاج
المشوي مع المعكرونة بعض أيام األسبوع ،والكشري
األصفر مع رقائق البطاطس في البعض اآلخر ،والسمك
المقلي مع األرز األبيض من حين آلخر ،ولم ينس تلك
المرة التي تحدى فيها نفسه وطهى طاجن بطاطس
باللحم – طبخته المفضلة التي كانت رائحتها وحدها
تشبعه وتسعد قلبه– ولكن تلك الطبخة بالتحديد كانت
تذكره بطعام أمه وتدليلها للطبق وتزينها إياه فيجده
الجائع لوحة فنية تشبع روحه قبل أن تشبع جسده ،كما
أن غرفته ضرب بها المثل في النظافة والتنظيم فقد كان
مولعً ا بهما كأمه.
[]41
أح لمَمغترَبَ
ً
قليال على الغربة إال أن صعوبة الكلية
...رغم تغلبه
وكبر مناهجها وكثرة محاضراتها كانوا عقبة دون تحقيق
حلمه ،فهو يذكر كيف نغصت البروتينات ليله وشغلت
الفيتامينات التي تشابكت وظائفها ومصادرها تفكيره،
وكم كانت الدروس العملية تذرفه الدموع وتهيج حواسه
وتضطرب لها معدته ويتوتر فيها تنفسه ،ولكنه كان يرى
أن حلمه يستحق ذلك التعب بل يستحق أكثر من ذلك
إذا رغب ،فلم يرهقه السهر بل سعد به ،ولم يضق
أنيسا ،ولم ينفر من طول
بالمذ اكرة بل وجدها
ً
المحاضرات بل بكر إليها.
...كان الفتى كلما وقع في حفرة من حفر الدراسة
تذكر حلمه الذي ينتظره على السطح ،فلم يهتم لعمق
الحفرة بل حاول الصعود غير ناظر خلفه بل ناظر إلى
المسافة القليلة المتبقية.
...وجاءت االمتحانات ،تلك اللحظة التي انتظرها،
تلك اللحظة التي شعر فيها بالخيبة مرتين ،فماذا ينتظره
[]42
أحمدَالمح مديَ
هذه المرة؟ ،هل يجد فيها ً
أمال أم أن اليأس سيدق بابه
مرة أخرى.
...لم تكن االمتحانات بالسهلة وإنما شابهت في
صعوبتها صعوبة الدراسة بل ربما فاقتها ،وكان يشعر
الفتى في كل لجنة أنه يبتعد عن حلمه خطوة ،ولكنه لم
يدع الخوف يسيطر عليه كما فعل من قبل ،وأخذ يتلقى
ً
قائال "اعذريني
األسئلة الصعبة بابتسامة ،وكأنه يحدثها
لن أدعك توقظيني من هذا الحلم الجميل".
...انتهت االمتحانان وبدأت اإلجازة ،فلم ينتظر
ظهور النتيجة وترك القاهرة ،ولكنه لم يتجه إلى المنزل
وإنما إلى اإلسكندرية ،حيث المؤتمر الطبي لمناقشة
مرض السرطان والذي سيحضره أطباء وكيميائيون من
أنحاء العالم ،وحيث مكتبة اإلسكندرية لتمده بما رغب
من كتب.
...كان الفتى قد سمع عن هذا المؤتمر الذي
سيعرض فيه الدواء الذي توصل العلماء إليه والذي
ُ
يمنعهم من استخدامه أعراضه الجانبية الخطيرة،
[]43
أح لمَمغترَبَ
محاولين أن يصلوا إلى حل لتلك المشكلة ،وقد رغب
الفتى أن يكون واح ًدا من الحضور ،فيستمع إلى آراء هؤالء
العلماء وحلولهم ،فيكون بذلك قد خطى خطوة كبيرة في
طريقه.
...ويصل إلى اإلسكندرية ويصل مكان المؤتمر
ليتفاجأ بأنه ال يسمح بالحضور إال ألساتذة الجامعات
فقط ،في تلك اللحظة نبض قلب الصبي متذك ًرا صعوبة
االمتحانات خائ ًفا من النتيجة قل ًقا أن يضيع حلمه من
جديد ،وعاد الصبي إلى المنزل منسيه حزنه الكتب التي
رغب في شرائها.
[]44
()٩
...وصل الفتى إلى المنزل فوجد أمه بانتظاره
فارتمى في حضنها ليشبع نفسه من الحنان الذي حرمته
ضر معهم سفرة
ح أ
الغربة منه ،ثم سلم على أبيه ،و َ
العشاء ،ثم استسلم بعدها إلى نوم عميق فيه شيء من
اطمئنان لم يجده في نوم المغترب.
...يستيقظ في اليوم التالي على دفيء أمه ،ثم
يجتمعوا ثالثتهم على الفطور محدثهم الفتى عما مر به في
غربته ،مستقبلين حديثه في أسى تارة وفي نوبات من
[]45
أح لمَمغترَبَ
الضحك تارة أخرى ،وشعر الفتى أن هذا اليوم أفضل يوم
مر به في حياته.
...ما أحلى ذلك الشعور ،إنه الفراش نفسه،
والدفيء نفسه ،والفطور نفسه ،ولكنهم اليوم أكثر تأثي ًرا
من أي يوم ،إنها نفس المغترب التي تصور لنفسها عود
ً
ً
فراشا ،وكأن
ساقا من ذهب ،والبعوض
القش في بيتها
ذلك المنزل يكيد لساكنيه ويصب في صدورهم سح ًرا كي
ال يتركوه.
ً
كسوال ،ولكن ليس هناك ما يفعله في
...لم يكن
هذا الفراغ ،فقد كان سيقضي إجازته في دراسة ما
سيسمعه في المؤتمر ولكنه لم يتمكن من الحضور ولم
يَصور المؤتمر في الوقت الذي نجد فيه شاشات التلفاز
وقد ملئت بالمؤتمرات الصحفية والرياضية واالقتصادية،
أما العلم فليس من الشيء المهم الذي تهتم به الدولة
ً
حكومة أو شع ًبا.
...مضى تلك اإلجازة يدفع الملل عنه بالقراءة تلك
سلبت من معظم الناس واستبدلوها
العادة التي ُ
[]46
أحمدَالمح مديَ
بمشاهدة األفالم واالستماع إلى األغاني ،وإن وجد الفتى
فيهم المتعة ولكنه لم يجد فيهم النفع بالقدر الذي وجده
في القراءة.
...كان الفن في هذا الوقت يتسم بالغرابة ،فقد
ابتدع فاقدي الفن لونًا جديدً ا من هزل الغرض منه
التجارة مطلقين عليه اسم الفن الشعبي ،وكأن أحدً ا لم
يخبرهم أن الفن الشعبي هو أصل ألوان الفنون
المختلفة ،وأنه بريء مما يدعونه عليه.
....أوشكت اإلجازة على االنتهاء ،وظهرت النتيجة
وحصل على تقدير امتياز ورتب الثالث على دفعته ،ورغم
أن تلك النتيجة كانت لتسعده في الماضي إال أنها اآلن
بدت وكأنه رسب ،فحلمه يتوقف على التعيين الجامعي
وذاك بدوره يتوقف على المركز األول ،ولكنه رغم ذلك
وجد فيها دافعً ا يحثه على التقدم وذكرى تنسيه مشقة
الدراسة.
...وانتهت اإلجازة ،وكان عليه أن يودع منزله وأهله
ويستقبل الغربة من جديد ،فتلك األشهر القليلة كانت
[]47
أح لمَمغترَبَ
كفيلة أن تنسيه غربته ،حتى إذا عاد إليها شعر كأنه
يغترب ألول مرة في حياته ،ووصل القاهرة ليبدأ ألم
الشوق وسهر المذ اكرة ورحلة الحلم.
[]48
()1٠
...كان العام الثالث له بالكلية سريع المضي ،لم
يشعر فيه بانقضاء الوقت ،انتهى بحصوله على المركز
األول لهذا العام ،والمركز الثالث بالنسبة للمجموع
التر اكمي ،وبدأ يشعر باقتراب حلمه ،وزاد خوفه عليه
حتى تحول إلى قسوته على نفسه وكأنه صورة مصغرة
عن أبويه ،ربما الشيء الفعلي الذي استفاده من هذا
العام ،هو فهمه لقسوة أبويه عليه وتقديره لحبهما الكبير
تجاهه.
[]49
أح لمَمغترَبَ
...لم تكن حياته الدراسية مقتصرة على الدراسة
فقط ،فكان عض ًوا في إحدى األسر الجامعية ،التي كان لها
نشاطات اجتماعية وخيرية وفنية ،وقد استفاد من تلك
ً
قليال من انطوائه ونمى مهاراته
التجربة كثي ًرا ،فتخلص
الكتابية وأحس بقيمة الوقت وتعلم إدارته ،وكانت
األعمال الخيرية تبث في روحه سالم وكانت دعوات الناس
تلتف حوله كالحصن فتقيه مما يتربص به من شر.
...وحين بدأ عامه األخير في الكلية ،شعر كأنه
يدرس ألول مرة ،وأحس بأن مصيره متعلق بتلك الحزمة
من الورق الذي وإن أهان عليه األمر القيمة العلمية
للورق ،إال أنه لم يكف عن سخطه على تلك المنظومة
التعليمية التي تتالعب بمستقبل ماليين من الطالب،
ولكنه قد عزم في قرارته أنه لن يكون دمية في أيد الدولة
تحركها كيفما شاءت ،فاإلنسان يبني البيت وليس
العكس ،فلن يسمح هذه المرة أن يتخلله اليأس أو يقيده
الحزن.
[]50
أحمدَالمح مديَ
حريصا على درجاته،
...فمضى الصبي في عامه
ً
راغ ًبا في المركز ،ولكنه غير خائف على حلمه ،غير متخل ًيا
عنه ،ودخل االمتحانات مستعدً ا لها ،وخرج منها منتظ ًرا
مستسلما للقلق أخرى ،وبعد
نتيجتها متحل ًيا بالصبر تارة
ً
ثالثة أشهر من االمتحانات جاءته النتيجة فصدم لها
وسقطت لها دموعه ودموع أبويه معه.
...وفي قاعة كبيرة فرشت بالزهور وزينت جدرانها
بالستائر الحمراء المرتدية سوا ًرا من ذهب ،وملئت
وعين بالجامعة،
بالطالب وأقاربهم واألساتذة ،كُرم الفتى ُ
وكان لحظة تلقيه شهادة التخرج يتأمل في الدنيا واصفها
باألم التي تنتظر بكاء رضيعها لتفهم ما يريد فتعطيه له أو
تمنعه عنه ،وكان يرى في القدر أبوابًا كثيرة قد يغلق في
وجهنا بعضها ولكنه غلق ال فائدة منه فباقي األبواب تؤدي
إلى نفس المكان ولكن بطريق مختلف.
...أحس الفتى أنه اآلن ال يمنعه شيء عن حلمه،
وأن الساحة تركت له ،ومصيره اآلن بيده ال بيد الدولة،
ً
خوفا ،فقد كان خائ ًفا أال يفي
وكان في تلك اللحظة أكثر
[]51
أح لمَمغترَبَ
بعهده ،وكان خائ ًفا أال يكون جدي ًرا بتلك المكانة التي
وصل لها ،وخائ ًفا أن يكون هذا الحلم الذي عاش معه
عمره ليس من حقه ،ولكن ال يمكنه الحزم في ذلك ،وما
عليه سوى المحاولة واالنتظار.
[]52
()11
...لقد حقق أول أحالمه ،ولكن هذا الحلم أبقاه في
غربته ،فمن ناحية هو معيد في جامعة عين شمس ،ومن
أخرى هو في العاصمة حيث يمكنه الشروع في بحثه ،فلن
تنتهي الغربة بنهاية الدراسة كما كان يصبر نفسه بل هي
على وشك أن تبدأ.
...شرع في تحضير الماجستير ،وحصل عليه بعد
مرور عام من تخرجه ،وقد كان القدر في هذه األيام صدي ًقا
يُقدم له يد العون ،فأتيحت له فرصة للسفر إلى إنجلترا
[]53
أح لمَمغترَبَ
لتحضير الدكتوراه ،وكانت تدور حول إيجاد عالج
للسرطان.
ظلما
...حين وصل إنجلترا ،وجد أن الغربة ازدادت
ً
وطمعً ا ،فحرمته من الزيارة الشهرية التي كانت تزوده بما
افتقده فيها من دفيء واطمئنان ،كما أن شوقه لم يكن
مقتص ًرا على بيته وأسرته بل زاد عليه شوقه لوطنه برغم
ما فيه من فوضى وزحام وتفرقة ،ولكنه كان يجد في ذلك
الحرمان دافعً ا إلنهاء دراسته سريعً ا قبل أن يقتله
الشوق ،ويرثه الحرمان.
...ومضى في دراسته جاهدً ا ،فدرس كل ما له
عالقة بالمرض ،وفتش في األبحاث قديمها وحديثها ،وأقام
الكثير من التجارب ،وحضر الكثير من األدوية ،ولكنه في
كل مرة يفشل سواء لعجز الدواء عن القضاء على المرض
أو لتسببه في مشاكل خطيرة أخرى.
مهتما
...في ظل غرقه في أبحاثه ،كان كأي مصري
ً
بم يدور في وطنه من أحداث خاصة إن وجدت انتخابات
حقيقية بعد فترة من الثبات الرئاسي ،وقد رشح هذا
[]54
أحمدَالمح مديَ
العام غير المرشح الثابت لدورتين شابًا في الخامسة
والعشرين من عمره ،ولكنه رغم صغره كان من أنجح
المستشارين االقتصاديين حول العالم ،وقد كان برنامج
ً
حافال بالمشروعات االقتصادية التي بدت
هذا الشاب
ً
خياال سيعيد إلى مصر أمومتها ،كما
عقالنية أكثر من كونها
أن ماضي عبدالغني وحاضره يرسمان ما فيه من إيمان
ووفاء وفطنة وعقل سياسي جعله محبوبًا من كل
المحيطين به ،فنال فور ترشحه على شعبية كبيرة ،خاصة
بعد ما وجده الشعب من تراجع اقتصادي وتعليمي
وصحي في اآلونة األخيرة .
...لم يمض على ترشح عبد الغني أسبوعين حتى
صدر إعالن بانسحابه ،كما أنه اختفى عن الصورة ،ولم يكن
ذلك بالغريب ولكن الغريب كان عدم سؤال الناس عنه أو
عن سبب انسحابه ،وكأنهم يعلمون إجابة السؤال مسب ًقا.
...كان الغريب ً
أيضا في فكرة االنتخابات ،أنها تبدو
ديموقراطية ولكنها في األصل عكس ذلك ،فهي تعطي
الحق للمواطن في التصويت ولكنها تفرض عليه
[]55
أح لمَمغترَبَ
المرشحين ،فتعتبر الصوت الرافض لكل المترشحين
ملغ ًيا ،فيا لها من مزحة.
...كانت خيبة األمل الوطنية كبيرة ،ولكن دفعتها
نتائج التجربة األخيرة ،فقد نجح الدواء الجديد على
الفئران ولم يترك آثار جانبية يقلق منها ،ولم يبق سوى
تجربته على البشر.
...عاد إلى الوطن ومعه بحثه ودرجة الدكتوراه
وموافقة بتجربة الدواء على البشر ،وجاءت نتيجة الدواء
على البشر كنتيجته على الفئران ،وهنا تحقق حلم الصبي.
...أقيم مؤتم ًرا لمناقشة هذا البحث ،وأصر الفتى
على إقامة هذا المؤتمر في مصر ،وحضر المؤتمر أطباء
وعلماء من أنحاء العالم ،ووقف الفتى ليلقي كلمته
ً
قائال" :إن الحلم ال يقتصر على كلية بعينها،
االفتتاحية
فمن كان يريد أن يكون دكتو ًرا ،فإن جميع الكليات تتيح
ذلك ،ومن كان يريد أن يكون طبي ًبا فيمكنه أن يساعد في
عالج الناس حتى ولو لم يدخل أي كلية من األساس ،ومن
حا فالنجاح هو طرد الحزن الذي
كان يريد أن يكون ناج ً
[]56
أحمدَالمح مديَ
يكبح إرادتنا ويقتل أحالمنا ويشل حركتنا ،ومن كان يريد
أن يكون غن ًيا فعليه أن يتذوق ً
أوال طعم الفقر ،أما من أراد
وظيفة في مصر فليس عليه سوى أن يدخل كلية الطب
وعليه أن يسرع في ذلك قبل أن تنضم إلى أخواتها من
الكليات األخرى ،إنني أرى شبابًا اتخذوا من المقاهي
ً
منازال متوهمين أن حلمهم دمرته الثانوية وتلتها في تدميره
الكلية ،وأنا اآلن أعالج آالف المرضى في أنحاء العالم وأنا
لم أدرس الطب ،إن الحلم هو من اكتشف هذا الدواء
وليس أنا ،إن األمل هو من جمعنا اآلن من بقاع األرض،
إننا اليوم نحتفل بالقضاء على مرض ولكن العالم مليء
باألمراض التي اندست في أفكارنا وغزت عادتنا وحطمت
مبادئنا وأنستنا ديننا ،لن يقضي على تلك األمراض مركب
كيميائي ،بل سيقضي عليها عقول حالمة وقلوب آملة".
[]57
()1٢
...يا له من ملل ،رغم أنه تزوج وأنجب طفلة يغار
منها القمر أسماها ليلى لتذكره بأحالمه التي تزوره ً
ليال ،إال
حا إلى الكلية ،عص ًرا
أن الملل كاد يقتله ،فهو يذهب صبا ً
إلى معملهً ،
ليال عائ ًدا لبيته ،ثم يعيد تلك الدورة في اليوم
الثاني.
...لقد رأى أنه ال معنى للحياة بال حلم يسعى
لتحقيقه فيفشل في ذلك فيحاول مرة أخرى ،وجلس
ينتظر ما الذي تعده تلك العين وهذا العقل من أحالم.
[]58
أحمدَالمح مديَ
...إنه ضوء يقترب شي ًء فشي ًء ،وها هو يستقر في
عقله ،إنه الحلم الجديد "مبادرة العربية وكفى".
...ظهر مؤخ ًرا في المجتمعات العربية ما يسميه
الناس رقي ،ويجده هو تخلف ،فقد انتشر بين الناس
وخاصة صغار السن شعور سام بازدراء العربية ،متخذين
ً
عوضا عنها لغات المجتمعات الراقية.
...كان هو ومجموعة من الكتاب الناشئين في ذلك
الوقت ،يرون في ذلك نوعً ا من أنواع الغزو التي تهدف إلى
تحويل المجتمعات العربية بالتدريج إلى مجتمعات
أجنبية ،وإن لن تكن تابعة لها سياس ًيا ،فإنها ستكون
تابعة لها اجتماع ًيا.
...أقام هؤالء الشباب حملة بعنوان "العربية
وكفى" ،كان من أهداف تلك الحملة:
• االهتمام باألعمال الفنية المكتوبة والمسموعة
والمرئية ،لتنقل إلى العامة صورة عن عظمة
اللغة ومجتمعاتها ومبادئها ومبادئهم.
[]59
أح لمَمغترَبَ
• حث الناس خاصة الشباب على استخدام
معان،
العربية في التعبير عما بداخلهم من
ٍ
متخليين عن اللغات األخرى.
• االهتمام التعليمي اللغوي ،باستخدام بالغة
اللغة التي تحسدها عليها اللغات األخرى ،في
صياغة المناهج ،واالهتمام ً
أيضا بتعليم اللغات
األخرى مع حصر استخدامها للطوارئ.
• إعادة الرقابة اللغوية على اإلعالم ،لمنعه من
إفساد اللغة لدى العامة.
بسيطا ،أصعب بكثير
...كان ذلك الحلم وإن بدى
ً
مما سبقه من أحالم ،حيث لم يكن يواجه القدر هنا ،وإنما
كان يواجه مجتمعات بحكوماتها وشعوبها.
...ولدت الحملة في الحادي والعشرين من فبراير
من عام ألفين وستة وعشرين ميالديًا ،ولقيت نق ًدا كثي ًرا
من البعض ،وسخرية من البعض اآلخر ،وصفها البعض
بحملة إلى الجاهلية ،والبعض بحملة أصحاب الكهف ،أما
النقاد فجاء نقدهم بضعف اللغة عن التعبير عن أحداث
[]60
أحمدَالمح مديَ
العصر الحديث ومكوناته ،ولكنها لقت مع ذلك القليل من
المؤيدين.
...رفض اإلعالميون الحملة واعتبروا ما جاء فيها
إهانة لهم ،ورفض أصحاب الفن الحملة واجديها بعد عن
الواقع ،ورفضت الحكومة الحملة بهدف مو اكبة التطور
التعليمي -الذي ال نراه إال في تصريحاتهم ،-ورفض
الشباب الحملة ألن كل ما هو عربي سيء.
يوما ما هو
...إهانة إلعالميين ،لم يعلم معظمهم ً
معنى أن يحترم المرء نفسه ،فتحولوا إلى تجار ال يهمهم
شيء أكثر من اإلعالنات التي ترعى برامجهم ،حتى وإن
تسببوا في سبيل ذلك من إنشاء عداوة بين البعض ،أو
اللهو بأعراض البعض ،أو الخروج عن الحق إال الباطل
لضمان استمرارية البرنامج.
...بعد عن واقع لفنانين لم يرو في الواقع إال شره،
فعبروا عنه بكثافة تخيل للمتلقي أن الواقع يخلو من
الخير ،فعبروا في أعمالهم عن عشوائية المجتمعات
العربية وانتشار البلطجة فيها ،وتحول أبنائها إلى حيوانات
[]61
أح لمَمغترَبَ
تسوقهم شهواتهم ،فصدقنا نحن قبل العالم أننا بالفعل
هكذا.
...تطور عملية تعليمية تهدف إلى جعل الطالب
حاسوبًا عليه تسجيل كل المعلومات ليفرغها آخر العام
في سلة المهمالت ،ذاك التطور الذي تتصوره المنظومة في
المناهج فقط غافلة أو قاصدة الغفلة عن التطور في
الطريقة التعليمية والتطور في مؤسساتها حتى ال أجد
نفسي في مقعدي وعلى قدمي زميل لي.
...شباب يرون كل ما هو عربي سيء ،كيف لي أن
أرد عليهم وهم يرون أنفسهم سيئين متخلفين فهم عرب،
ليس لي أن أقنع الحيوان أن يتخذ أسلوب اإلنسان ما
دمت لم أقنعه أنه إنسان ً
أوال.
...إن هذا الحلم يبدو أنه مستحيل ،ولكنه األمل
الذي يصارع الزمن ليحول المستحيل ممك ًنا ،إنها القناعة
التي ترينا هذا العدد القليل من المؤيدين كاف ًيا ،إنه الحق
يوما أن ينتصر.
الذي له ً
[]62
()13
...خيركم من يبدأ بنفسه ،لم ينتظر هؤالء الشباب
استجابة اآلخرين لهم ،ولكنهم بدأوا بأنفسهم ،متخذ كل
منهم حرفته وسيلة لزيادة قطر دائرة المؤيدين.
فيلما ألول مرة بالفصحى ،وشارك فيه
...فعرض
ً
كبار الممثلين بالرغم من رفضهم للحملة ،إال أن قصة
الفيلم المثيرة أجبرتهم على الموافقة على تأدية الفيلم،
وقد نال هذا الفيلم إعجابًا كبي ًرا لقصته التي تحدثت عن
محمد علي في القرن الحادي والعشرين ،مظه ًرا فيها
الكاتب إرادة المصري التي قضت على الفساد المنزرع في
[]63
أح لمَمغترَبَ
ً
عوضا عنه ،ولم يتوقف
أراضي الوطن ،وزراعة أزهار التقدم
النجاح على إرضاء الجماهير فنال الفيلم جوائز عديدة،
أهمها بالنسبة لهم ذلك الوصف الذي عبر به بعض النقاد:
"إن الفيلم صور ازدها ًرا عصريًا في ثوب ازدهار لغوي لم
يستخدمه المصممون منذ عقود" ،فكان هذا الوصف
ً
دليال على نجاح حملتهم .
راق،
...وكذلك ظهر بعض اإلعالميون في ثوب عربي ٍ
جاذبين بصدقهم ورقيهم الكثير من المشاهدين ،وانهالت
معهم اإلعالنات.
...وكذلك قام عالم الكيمياء بدوره ،فلم تشهد
محاضراته وأبحاثه إال تعبير بالغي نقي ،فجذب بعلمه
الكثير من األجانب إلى تعلم العربية ،ودفع العرب إلى
العودة إلى أصول لغتهم ،وجمع حوله كبار المترجمين
ليترجموا أبحاثه.
...وقد جاءت نتائج أعمالهم مبهرة ،فاتسعت
الدائرة كثي ًرا ،وسار على دربهم الكثير ،فظهرت أهم الكتب
العلمية بالعربية ،وسابقت األفالم العربية في شتى دور
[]64
أحمدَالمح مديَ
إعالما يمكننا أن نترك أبناءنا
العرض بأنحاء العالم ،ووجد
ً
يشاهدونه.
...ولقد جاءت النتيجة على غير توقعهم ،فقد
انعكس هذا الرقي اللغوي على المجتمع ،وتلي االزدهار
اللغوي ازدهار فكري ،والفكر سبب كل تقدم.
...تحقق حلم المغترب ولكنه تعلم أن األحالم ال
تنتهي ،فأنا اآلن على فراش الموت ،ترقص الكلمات على
اهتزاز يدي ،وتتوقف من حين آلخر منتظرة دخول النفس،
ومع ذلك فإن عقلي الذي لم يعد قاد ًرا على أداء وظيفته
مليء باألحالم ،ولو أنني سأحي بعد تلك اللحظة فلن
أضيع لحظة دون محاولة تحقيقها.
...هنا يتوقف القلم ،ويعم الصمت حتى يقطعه
صراخ فتاة تنهمر الدموع من عينيها ،لقد مات وهو غارق
في أحالمه التي كان أهمها بالنسبة إلي ه هو إيجاد صديق،
ولكنه مات قبل أن يعرف أنه حقق ً
أيضا ذلك الحلم ،فقد
صاحب الوحدة ،وكانت له صدي ًقا وف ًيا لم يتركه أبدً ا في
حين تركه كل من حوله.
[]65
ف
َ كلمةَللمؤل
وأن، قارئي العزيز كم يسعدني أن تتواصل معي...
.تطلعني على رأيك ومقترحاتك
:لل تواصلَمعي
]67[
أحمدَالمح مديَ
[]69
وقته بشيء سوى المذ اكرة ،وقد طلب الفتى تغيير غرفته
متخلصا من إسالم وأفعاله ،وانقطع عن نزول
هذا العام
ً
ً
مستغال
إجازة الجمعة بالرغم من مشقة هذا القرار عليه
ذلك الوقت في تنظيف غرفته وثيابه ومذ اكرة ما لم يكمله
طيلة األسبوع ،فال ينزل إال مرة في الشهر ينتظرها بنار
الشوق.
[]40
أحمدَالمح مديَ
...كان يرى أن تلك الزهرة التي سقطت من فرع
الشجرة ليس لها أن تظل تنظر إليه حتى تذبل وتموت بل
عليها أن تنبت لتصبح شجرة تعلو فروعها لتصل إلى ذلك
الفرع فيشعر بالفخر أن هذه الشجرة العظيمة سقطت
يوما منه.
ً
...والحق أنه استفاد من غربته كثي ًرا فقد صار
طبا ً
خا بارعً ا تغار منه أمه ،فكان يمتع معدته بالدجاج
المشوي مع المعكرونة بعض أيام األسبوع ،والكشري
األصفر مع رقائق البطاطس في البعض اآلخر ،والسمك
المقلي مع األرز األبيض من حين آلخر ،ولم ينس تلك
المرة التي تحدى فيها نفسه وطهى طاجن بطاطس
باللحم – طبخته المفضلة التي كانت رائحتها وحدها
تشبعه وتسعد قلبه– ولكن تلك الطبخة بالتحديد كانت
تذكره بطعام أمه وتدليلها للطبق وتزينها إياه فيجده
الجائع لوحة فنية تشبع روحه قبل أن تشبع جسده ،كما
أن غرفته ضرب بها المثل في النظافة والتنظيم فقد كان
مولعً ا بهما كأمه.
[]41
أح لمَمغترَبَ
ً
قليال على الغربة إال أن صعوبة الكلية
...رغم تغلبه
وكبر مناهجها وكثرة محاضراتها كانوا عقبة دون تحقيق
حلمه ،فهو يذكر كيف نغصت البروتينات ليله وشغلت
الفيتامينات التي تشابكت وظائفها ومصادرها تفكيره،
وكم كانت الدروس العملية تذرفه الدموع وتهيج حواسه
وتضطرب لها معدته ويتوتر فيها تنفسه ،ولكنه كان يرى
أن حلمه يستحق ذلك التعب بل يستحق أكثر من ذلك
إذا رغب ،فلم يرهقه السهر بل سعد به ،ولم يضق
أنيسا ،ولم ينفر من طول
بالمذ اكرة بل وجدها
ً
المحاضرات بل بكر إليها.
...كان الفتى كلما وقع في حفرة من حفر الدراسة
تذكر حلمه الذي ينتظره على السطح ،فلم يهتم لعمق
الحفرة بل حاول الصعود غير ناظر خلفه بل ناظر إلى
المسافة القليلة المتبقية.
...وجاءت االمتحانات ،تلك اللحظة التي انتظرها،
تلك اللحظة التي شعر فيها بالخيبة مرتين ،فماذا ينتظره
[]42
أحمدَالمح مديَ
هذه المرة؟ ،هل يجد فيها ً
أمال أم أن اليأس سيدق بابه
مرة أخرى.
...لم تكن االمتحانات بالسهلة وإنما شابهت في
صعوبتها صعوبة الدراسة بل ربما فاقتها ،وكان يشعر
الفتى في كل لجنة أنه يبتعد عن حلمه خطوة ،ولكنه لم
يدع الخوف يسيطر عليه كما فعل من قبل ،وأخذ يتلقى
ً
قائال "اعذريني
األسئلة الصعبة بابتسامة ،وكأنه يحدثها
لن أدعك توقظيني من هذا الحلم الجميل".
...انتهت االمتحانان وبدأت اإلجازة ،فلم ينتظر
ظهور النتيجة وترك القاهرة ،ولكنه لم يتجه إلى المنزل
وإنما إلى اإلسكندرية ،حيث المؤتمر الطبي لمناقشة
مرض السرطان والذي سيحضره أطباء وكيميائيون من
أنحاء العالم ،وحيث مكتبة اإلسكندرية لتمده بما رغب
من كتب.
...كان الفتى قد سمع عن هذا المؤتمر الذي
سيعرض فيه الدواء الذي توصل العلماء إليه والذي
ُ
يمنعهم من استخدامه أعراضه الجانبية الخطيرة،
[]43
أح لمَمغترَبَ
محاولين أن يصلوا إلى حل لتلك المشكلة ،وقد رغب
الفتى أن يكون واح ًدا من الحضور ،فيستمع إلى آراء هؤالء
العلماء وحلولهم ،فيكون بذلك قد خطى خطوة كبيرة في
طريقه.
...ويصل إلى اإلسكندرية ويصل مكان المؤتمر
ليتفاجأ بأنه ال يسمح بالحضور إال ألساتذة الجامعات
فقط ،في تلك اللحظة نبض قلب الصبي متذك ًرا صعوبة
االمتحانات خائ ًفا من النتيجة قل ًقا أن يضيع حلمه من
جديد ،وعاد الصبي إلى المنزل منسيه حزنه الكتب التي
رغب في شرائها.
[]44
()٩
...وصل الفتى إلى المنزل فوجد أمه بانتظاره
فارتمى في حضنها ليشبع نفسه من الحنان الذي حرمته
ضر معهم سفرة
ح أ
الغربة منه ،ثم سلم على أبيه ،و َ
العشاء ،ثم استسلم بعدها إلى نوم عميق فيه شيء من
اطمئنان لم يجده في نوم المغترب.
...يستيقظ في اليوم التالي على دفيء أمه ،ثم
يجتمعوا ثالثتهم على الفطور محدثهم الفتى عما مر به في
غربته ،مستقبلين حديثه في أسى تارة وفي نوبات من
[]45
أح لمَمغترَبَ
الضحك تارة أخرى ،وشعر الفتى أن هذا اليوم أفضل يوم
مر به في حياته.
...ما أحلى ذلك الشعور ،إنه الفراش نفسه،
والدفيء نفسه ،والفطور نفسه ،ولكنهم اليوم أكثر تأثي ًرا
من أي يوم ،إنها نفس المغترب التي تصور لنفسها عود
ً
ً
فراشا ،وكأن
ساقا من ذهب ،والبعوض
القش في بيتها
ذلك المنزل يكيد لساكنيه ويصب في صدورهم سح ًرا كي
ال يتركوه.
ً
كسوال ،ولكن ليس هناك ما يفعله في
...لم يكن
هذا الفراغ ،فقد كان سيقضي إجازته في دراسة ما
سيسمعه في المؤتمر ولكنه لم يتمكن من الحضور ولم
يَصور المؤتمر في الوقت الذي نجد فيه شاشات التلفاز
وقد ملئت بالمؤتمرات الصحفية والرياضية واالقتصادية،
أما العلم فليس من الشيء المهم الذي تهتم به الدولة
ً
حكومة أو شع ًبا.
...مضى تلك اإلجازة يدفع الملل عنه بالقراءة تلك
سلبت من معظم الناس واستبدلوها
العادة التي ُ
[]46
أحمدَالمح مديَ
بمشاهدة األفالم واالستماع إلى األغاني ،وإن وجد الفتى
فيهم المتعة ولكنه لم يجد فيهم النفع بالقدر الذي وجده
في القراءة.
...كان الفن في هذا الوقت يتسم بالغرابة ،فقد
ابتدع فاقدي الفن لونًا جديدً ا من هزل الغرض منه
التجارة مطلقين عليه اسم الفن الشعبي ،وكأن أحدً ا لم
يخبرهم أن الفن الشعبي هو أصل ألوان الفنون
المختلفة ،وأنه بريء مما يدعونه عليه.
....أوشكت اإلجازة على االنتهاء ،وظهرت النتيجة
وحصل على تقدير امتياز ورتب الثالث على دفعته ،ورغم
أن تلك النتيجة كانت لتسعده في الماضي إال أنها اآلن
بدت وكأنه رسب ،فحلمه يتوقف على التعيين الجامعي
وذاك بدوره يتوقف على المركز األول ،ولكنه رغم ذلك
وجد فيها دافعً ا يحثه على التقدم وذكرى تنسيه مشقة
الدراسة.
...وانتهت اإلجازة ،وكان عليه أن يودع منزله وأهله
ويستقبل الغربة من جديد ،فتلك األشهر القليلة كانت
[]47
أح لمَمغترَبَ
كفيلة أن تنسيه غربته ،حتى إذا عاد إليها شعر كأنه
يغترب ألول مرة في حياته ،ووصل القاهرة ليبدأ ألم
الشوق وسهر المذ اكرة ورحلة الحلم.
[]48
()1٠
...كان العام الثالث له بالكلية سريع المضي ،لم
يشعر فيه بانقضاء الوقت ،انتهى بحصوله على المركز
األول لهذا العام ،والمركز الثالث بالنسبة للمجموع
التر اكمي ،وبدأ يشعر باقتراب حلمه ،وزاد خوفه عليه
حتى تحول إلى قسوته على نفسه وكأنه صورة مصغرة
عن أبويه ،ربما الشيء الفعلي الذي استفاده من هذا
العام ،هو فهمه لقسوة أبويه عليه وتقديره لحبهما الكبير
تجاهه.
[]49
أح لمَمغترَبَ
...لم تكن حياته الدراسية مقتصرة على الدراسة
فقط ،فكان عض ًوا في إحدى األسر الجامعية ،التي كان لها
نشاطات اجتماعية وخيرية وفنية ،وقد استفاد من تلك
ً
قليال من انطوائه ونمى مهاراته
التجربة كثي ًرا ،فتخلص
الكتابية وأحس بقيمة الوقت وتعلم إدارته ،وكانت
األعمال الخيرية تبث في روحه سالم وكانت دعوات الناس
تلتف حوله كالحصن فتقيه مما يتربص به من شر.
...وحين بدأ عامه األخير في الكلية ،شعر كأنه
يدرس ألول مرة ،وأحس بأن مصيره متعلق بتلك الحزمة
من الورق الذي وإن أهان عليه األمر القيمة العلمية
للورق ،إال أنه لم يكف عن سخطه على تلك المنظومة
التعليمية التي تتالعب بمستقبل ماليين من الطالب،
ولكنه قد عزم في قرارته أنه لن يكون دمية في أيد الدولة
تحركها كيفما شاءت ،فاإلنسان يبني البيت وليس
العكس ،فلن يسمح هذه المرة أن يتخلله اليأس أو يقيده
الحزن.
[]50
أحمدَالمح مديَ
حريصا على درجاته،
...فمضى الصبي في عامه
ً
راغ ًبا في المركز ،ولكنه غير خائف على حلمه ،غير متخل ًيا
عنه ،ودخل االمتحانات مستعدً ا لها ،وخرج منها منتظ ًرا
مستسلما للقلق أخرى ،وبعد
نتيجتها متحل ًيا بالصبر تارة
ً
ثالثة أشهر من االمتحانات جاءته النتيجة فصدم لها
وسقطت لها دموعه ودموع أبويه معه.
...وفي قاعة كبيرة فرشت بالزهور وزينت جدرانها
بالستائر الحمراء المرتدية سوا ًرا من ذهب ،وملئت
وعين بالجامعة،
بالطالب وأقاربهم واألساتذة ،كُرم الفتى ُ
وكان لحظة تلقيه شهادة التخرج يتأمل في الدنيا واصفها
باألم التي تنتظر بكاء رضيعها لتفهم ما يريد فتعطيه له أو
تمنعه عنه ،وكان يرى في القدر أبوابًا كثيرة قد يغلق في
وجهنا بعضها ولكنه غلق ال فائدة منه فباقي األبواب تؤدي
إلى نفس المكان ولكن بطريق مختلف.
...أحس الفتى أنه اآلن ال يمنعه شيء عن حلمه،
وأن الساحة تركت له ،ومصيره اآلن بيده ال بيد الدولة،
ً
خوفا ،فقد كان خائ ًفا أال يفي
وكان في تلك اللحظة أكثر
[]51
أح لمَمغترَبَ
بعهده ،وكان خائ ًفا أال يكون جدي ًرا بتلك المكانة التي
وصل لها ،وخائ ًفا أن يكون هذا الحلم الذي عاش معه
عمره ليس من حقه ،ولكن ال يمكنه الحزم في ذلك ،وما
عليه سوى المحاولة واالنتظار.
[]52
()11
...لقد حقق أول أحالمه ،ولكن هذا الحلم أبقاه في
غربته ،فمن ناحية هو معيد في جامعة عين شمس ،ومن
أخرى هو في العاصمة حيث يمكنه الشروع في بحثه ،فلن
تنتهي الغربة بنهاية الدراسة كما كان يصبر نفسه بل هي
على وشك أن تبدأ.
...شرع في تحضير الماجستير ،وحصل عليه بعد
مرور عام من تخرجه ،وقد كان القدر في هذه األيام صدي ًقا
يُقدم له يد العون ،فأتيحت له فرصة للسفر إلى إنجلترا
[]53
أح لمَمغترَبَ
لتحضير الدكتوراه ،وكانت تدور حول إيجاد عالج
للسرطان.
ظلما
...حين وصل إنجلترا ،وجد أن الغربة ازدادت
ً
وطمعً ا ،فحرمته من الزيارة الشهرية التي كانت تزوده بما
افتقده فيها من دفيء واطمئنان ،كما أن شوقه لم يكن
مقتص ًرا على بيته وأسرته بل زاد عليه شوقه لوطنه برغم
ما فيه من فوضى وزحام وتفرقة ،ولكنه كان يجد في ذلك
الحرمان دافعً ا إلنهاء دراسته سريعً ا قبل أن يقتله
الشوق ،ويرثه الحرمان.
...ومضى في دراسته جاهدً ا ،فدرس كل ما له
عالقة بالمرض ،وفتش في األبحاث قديمها وحديثها ،وأقام
الكثير من التجارب ،وحضر الكثير من األدوية ،ولكنه في
كل مرة يفشل سواء لعجز الدواء عن القضاء على المرض
أو لتسببه في مشاكل خطيرة أخرى.
مهتما
...في ظل غرقه في أبحاثه ،كان كأي مصري
ً
بم يدور في وطنه من أحداث خاصة إن وجدت انتخابات
حقيقية بعد فترة من الثبات الرئاسي ،وقد رشح هذا
[]54
أحمدَالمح مديَ
العام غير المرشح الثابت لدورتين شابًا في الخامسة
والعشرين من عمره ،ولكنه رغم صغره كان من أنجح
المستشارين االقتصاديين حول العالم ،وقد كان برنامج
ً
حافال بالمشروعات االقتصادية التي بدت
هذا الشاب
ً
خياال سيعيد إلى مصر أمومتها ،كما
عقالنية أكثر من كونها
أن ماضي عبدالغني وحاضره يرسمان ما فيه من إيمان
ووفاء وفطنة وعقل سياسي جعله محبوبًا من كل
المحيطين به ،فنال فور ترشحه على شعبية كبيرة ،خاصة
بعد ما وجده الشعب من تراجع اقتصادي وتعليمي
وصحي في اآلونة األخيرة .
...لم يمض على ترشح عبد الغني أسبوعين حتى
صدر إعالن بانسحابه ،كما أنه اختفى عن الصورة ،ولم يكن
ذلك بالغريب ولكن الغريب كان عدم سؤال الناس عنه أو
عن سبب انسحابه ،وكأنهم يعلمون إجابة السؤال مسب ًقا.
...كان الغريب ً
أيضا في فكرة االنتخابات ،أنها تبدو
ديموقراطية ولكنها في األصل عكس ذلك ،فهي تعطي
الحق للمواطن في التصويت ولكنها تفرض عليه
[]55
أح لمَمغترَبَ
المرشحين ،فتعتبر الصوت الرافض لكل المترشحين
ملغ ًيا ،فيا لها من مزحة.
...كانت خيبة األمل الوطنية كبيرة ،ولكن دفعتها
نتائج التجربة األخيرة ،فقد نجح الدواء الجديد على
الفئران ولم يترك آثار جانبية يقلق منها ،ولم يبق سوى
تجربته على البشر.
...عاد إلى الوطن ومعه بحثه ودرجة الدكتوراه
وموافقة بتجربة الدواء على البشر ،وجاءت نتيجة الدواء
على البشر كنتيجته على الفئران ،وهنا تحقق حلم الصبي.
...أقيم مؤتم ًرا لمناقشة هذا البحث ،وأصر الفتى
على إقامة هذا المؤتمر في مصر ،وحضر المؤتمر أطباء
وعلماء من أنحاء العالم ،ووقف الفتى ليلقي كلمته
ً
قائال" :إن الحلم ال يقتصر على كلية بعينها،
االفتتاحية
فمن كان يريد أن يكون دكتو ًرا ،فإن جميع الكليات تتيح
ذلك ،ومن كان يريد أن يكون طبي ًبا فيمكنه أن يساعد في
عالج الناس حتى ولو لم يدخل أي كلية من األساس ،ومن
حا فالنجاح هو طرد الحزن الذي
كان يريد أن يكون ناج ً
[]56
أحمدَالمح مديَ
يكبح إرادتنا ويقتل أحالمنا ويشل حركتنا ،ومن كان يريد
أن يكون غن ًيا فعليه أن يتذوق ً
أوال طعم الفقر ،أما من أراد
وظيفة في مصر فليس عليه سوى أن يدخل كلية الطب
وعليه أن يسرع في ذلك قبل أن تنضم إلى أخواتها من
الكليات األخرى ،إنني أرى شبابًا اتخذوا من المقاهي
ً
منازال متوهمين أن حلمهم دمرته الثانوية وتلتها في تدميره
الكلية ،وأنا اآلن أعالج آالف المرضى في أنحاء العالم وأنا
لم أدرس الطب ،إن الحلم هو من اكتشف هذا الدواء
وليس أنا ،إن األمل هو من جمعنا اآلن من بقاع األرض،
إننا اليوم نحتفل بالقضاء على مرض ولكن العالم مليء
باألمراض التي اندست في أفكارنا وغزت عادتنا وحطمت
مبادئنا وأنستنا ديننا ،لن يقضي على تلك األمراض مركب
كيميائي ،بل سيقضي عليها عقول حالمة وقلوب آملة".
[]57
()1٢
...يا له من ملل ،رغم أنه تزوج وأنجب طفلة يغار
منها القمر أسماها ليلى لتذكره بأحالمه التي تزوره ً
ليال ،إال
حا إلى الكلية ،عص ًرا
أن الملل كاد يقتله ،فهو يذهب صبا ً
إلى معملهً ،
ليال عائ ًدا لبيته ،ثم يعيد تلك الدورة في اليوم
الثاني.
...لقد رأى أنه ال معنى للحياة بال حلم يسعى
لتحقيقه فيفشل في ذلك فيحاول مرة أخرى ،وجلس
ينتظر ما الذي تعده تلك العين وهذا العقل من أحالم.
[]58
أحمدَالمح مديَ
...إنه ضوء يقترب شي ًء فشي ًء ،وها هو يستقر في
عقله ،إنه الحلم الجديد "مبادرة العربية وكفى".
...ظهر مؤخ ًرا في المجتمعات العربية ما يسميه
الناس رقي ،ويجده هو تخلف ،فقد انتشر بين الناس
وخاصة صغار السن شعور سام بازدراء العربية ،متخذين
ً
عوضا عنها لغات المجتمعات الراقية.
...كان هو ومجموعة من الكتاب الناشئين في ذلك
الوقت ،يرون في ذلك نوعً ا من أنواع الغزو التي تهدف إلى
تحويل المجتمعات العربية بالتدريج إلى مجتمعات
أجنبية ،وإن لن تكن تابعة لها سياس ًيا ،فإنها ستكون
تابعة لها اجتماع ًيا.
...أقام هؤالء الشباب حملة بعنوان "العربية
وكفى" ،كان من أهداف تلك الحملة:
• االهتمام باألعمال الفنية المكتوبة والمسموعة
والمرئية ،لتنقل إلى العامة صورة عن عظمة
اللغة ومجتمعاتها ومبادئها ومبادئهم.
[]59
أح لمَمغترَبَ
• حث الناس خاصة الشباب على استخدام
معان،
العربية في التعبير عما بداخلهم من
ٍ
متخليين عن اللغات األخرى.
• االهتمام التعليمي اللغوي ،باستخدام بالغة
اللغة التي تحسدها عليها اللغات األخرى ،في
صياغة المناهج ،واالهتمام ً
أيضا بتعليم اللغات
األخرى مع حصر استخدامها للطوارئ.
• إعادة الرقابة اللغوية على اإلعالم ،لمنعه من
إفساد اللغة لدى العامة.
بسيطا ،أصعب بكثير
...كان ذلك الحلم وإن بدى
ً
مما سبقه من أحالم ،حيث لم يكن يواجه القدر هنا ،وإنما
كان يواجه مجتمعات بحكوماتها وشعوبها.
...ولدت الحملة في الحادي والعشرين من فبراير
من عام ألفين وستة وعشرين ميالديًا ،ولقيت نق ًدا كثي ًرا
من البعض ،وسخرية من البعض اآلخر ،وصفها البعض
بحملة إلى الجاهلية ،والبعض بحملة أصحاب الكهف ،أما
النقاد فجاء نقدهم بضعف اللغة عن التعبير عن أحداث
[]60
أحمدَالمح مديَ
العصر الحديث ومكوناته ،ولكنها لقت مع ذلك القليل من
المؤيدين.
...رفض اإلعالميون الحملة واعتبروا ما جاء فيها
إهانة لهم ،ورفض أصحاب الفن الحملة واجديها بعد عن
الواقع ،ورفضت الحكومة الحملة بهدف مو اكبة التطور
التعليمي -الذي ال نراه إال في تصريحاتهم ،-ورفض
الشباب الحملة ألن كل ما هو عربي سيء.
يوما ما هو
...إهانة إلعالميين ،لم يعلم معظمهم ً
معنى أن يحترم المرء نفسه ،فتحولوا إلى تجار ال يهمهم
شيء أكثر من اإلعالنات التي ترعى برامجهم ،حتى وإن
تسببوا في سبيل ذلك من إنشاء عداوة بين البعض ،أو
اللهو بأعراض البعض ،أو الخروج عن الحق إال الباطل
لضمان استمرارية البرنامج.
...بعد عن واقع لفنانين لم يرو في الواقع إال شره،
فعبروا عنه بكثافة تخيل للمتلقي أن الواقع يخلو من
الخير ،فعبروا في أعمالهم عن عشوائية المجتمعات
العربية وانتشار البلطجة فيها ،وتحول أبنائها إلى حيوانات
[]61
أح لمَمغترَبَ
تسوقهم شهواتهم ،فصدقنا نحن قبل العالم أننا بالفعل
هكذا.
...تطور عملية تعليمية تهدف إلى جعل الطالب
حاسوبًا عليه تسجيل كل المعلومات ليفرغها آخر العام
في سلة المهمالت ،ذاك التطور الذي تتصوره المنظومة في
المناهج فقط غافلة أو قاصدة الغفلة عن التطور في
الطريقة التعليمية والتطور في مؤسساتها حتى ال أجد
نفسي في مقعدي وعلى قدمي زميل لي.
...شباب يرون كل ما هو عربي سيء ،كيف لي أن
أرد عليهم وهم يرون أنفسهم سيئين متخلفين فهم عرب،
ليس لي أن أقنع الحيوان أن يتخذ أسلوب اإلنسان ما
دمت لم أقنعه أنه إنسان ً
أوال.
...إن هذا الحلم يبدو أنه مستحيل ،ولكنه األمل
الذي يصارع الزمن ليحول المستحيل ممك ًنا ،إنها القناعة
التي ترينا هذا العدد القليل من المؤيدين كاف ًيا ،إنه الحق
يوما أن ينتصر.
الذي له ً
[]62
()13
...خيركم من يبدأ بنفسه ،لم ينتظر هؤالء الشباب
استجابة اآلخرين لهم ،ولكنهم بدأوا بأنفسهم ،متخذ كل
منهم حرفته وسيلة لزيادة قطر دائرة المؤيدين.
فيلما ألول مرة بالفصحى ،وشارك فيه
...فعرض
ً
كبار الممثلين بالرغم من رفضهم للحملة ،إال أن قصة
الفيلم المثيرة أجبرتهم على الموافقة على تأدية الفيلم،
وقد نال هذا الفيلم إعجابًا كبي ًرا لقصته التي تحدثت عن
محمد علي في القرن الحادي والعشرين ،مظه ًرا فيها
الكاتب إرادة المصري التي قضت على الفساد المنزرع في
[]63
أح لمَمغترَبَ
ً
عوضا عنه ،ولم يتوقف
أراضي الوطن ،وزراعة أزهار التقدم
النجاح على إرضاء الجماهير فنال الفيلم جوائز عديدة،
أهمها بالنسبة لهم ذلك الوصف الذي عبر به بعض النقاد:
"إن الفيلم صور ازدها ًرا عصريًا في ثوب ازدهار لغوي لم
يستخدمه المصممون منذ عقود" ،فكان هذا الوصف
ً
دليال على نجاح حملتهم .
راق،
...وكذلك ظهر بعض اإلعالميون في ثوب عربي ٍ
جاذبين بصدقهم ورقيهم الكثير من المشاهدين ،وانهالت
معهم اإلعالنات.
...وكذلك قام عالم الكيمياء بدوره ،فلم تشهد
محاضراته وأبحاثه إال تعبير بالغي نقي ،فجذب بعلمه
الكثير من األجانب إلى تعلم العربية ،ودفع العرب إلى
العودة إلى أصول لغتهم ،وجمع حوله كبار المترجمين
ليترجموا أبحاثه.
...وقد جاءت نتائج أعمالهم مبهرة ،فاتسعت
الدائرة كثي ًرا ،وسار على دربهم الكثير ،فظهرت أهم الكتب
العلمية بالعربية ،وسابقت األفالم العربية في شتى دور
[]64
أحمدَالمح مديَ
إعالما يمكننا أن نترك أبناءنا
العرض بأنحاء العالم ،ووجد
ً
يشاهدونه.
...ولقد جاءت النتيجة على غير توقعهم ،فقد
انعكس هذا الرقي اللغوي على المجتمع ،وتلي االزدهار
اللغوي ازدهار فكري ،والفكر سبب كل تقدم.
...تحقق حلم المغترب ولكنه تعلم أن األحالم ال
تنتهي ،فأنا اآلن على فراش الموت ،ترقص الكلمات على
اهتزاز يدي ،وتتوقف من حين آلخر منتظرة دخول النفس،
ومع ذلك فإن عقلي الذي لم يعد قاد ًرا على أداء وظيفته
مليء باألحالم ،ولو أنني سأحي بعد تلك اللحظة فلن
أضيع لحظة دون محاولة تحقيقها.
...هنا يتوقف القلم ،ويعم الصمت حتى يقطعه
صراخ فتاة تنهمر الدموع من عينيها ،لقد مات وهو غارق
في أحالمه التي كان أهمها بالنسبة إلي ه هو إيجاد صديق،
ولكنه مات قبل أن يعرف أنه حقق ً
أيضا ذلك الحلم ،فقد
صاحب الوحدة ،وكانت له صدي ًقا وف ًيا لم يتركه أبدً ا في
حين تركه كل من حوله.
[]65
ف
َ كلمةَللمؤل
وأن، قارئي العزيز كم يسعدني أن تتواصل معي...
.تطلعني على رأيك ومقترحاتك
:لل تواصلَمعي
]67[
أحمدَالمح مديَ
[]69