‫طعام الغداء‪ ،‬ذاه ًبا إلى كليته‪ ،‬فإ ذا عاد منها لم يشغل‬
‫وقته بشيء سوى المذ اكرة‪ ،‬وقد طلب الفتى تغيير غرفته‬
‫متخلصا من إسالم وأفعاله‪ ،‬وانقطع عن نزول‬
‫هذا العام‬
‫ً‬
‫ً‬
‫مستغال‬
‫إجازة الجمعة بالرغم من مشقة هذا القرار عليه‬
‫ذلك الوقت في تنظيف غرفته وثيابه ومذ اكرة ما لم يكمله‬
‫طيلة األسبوع‪ ،‬فال ينزل إال مرة في الشهر ينتظرها بنار‬
‫الشوق‪.‬‬
‫[‪]40‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫‪ ...‬كان يرى أن تلك الزهرة التي سقطت من فرع‬
‫الشجرة ليس لها أن تظل تنظر إليه حتى تذبل وتموت بل‬
‫عليها أن تنبت لتصبح شجرة تعلو فروعها لتصل إلى ذلك‬
‫الفرع فيشعر بالفخر أن هذه الشجرة العظيمة سقطت‬
‫يوما منه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ ...‬والحق أنه استفاد من غربته كثي ًرا فقد صار‬
‫طبا ً‬
‫خا بارعً ا تغار منه أمه‪ ،‬فكان يمتع معدته بالدجاج‬
‫المشوي مع المعكرونة بعض أيام األسبوع‪ ،‬والكشري‬
‫األصفر مع رقائق البطاطس في البعض اآلخر‪ ،‬والسمك‬
‫المقلي مع األرز األبيض من حين آلخر‪ ،‬ولم ينس تلك‬
‫المرة التي تحدى فيها نفسه وطهى طاجن بطاطس‬
‫باللحم – طبخته المفضلة التي كانت رائحتها وحدها‬
‫تشبعه وتسعد قلبه– ولكن تلك الطبخة بالتحديد كانت‬
‫تذكره بطعام أمه وتدليلها للطبق وتزينها إياه فيجده‬
‫الجائع لوحة فنية تشبع روحه قبل أن تشبع جسده‪ ،‬كما‬
‫أن غرفته ضرب بها المثل في النظافة والتنظيم فقد كان‬
‫مولعً ا بهما كأمه‪.‬‬
‫[‪]41‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫ً‬
‫قليال على الغربة إال أن صعوبة الكلية‬
‫‪ ...‬رغم تغلبه‬
‫وكبر مناهجها وكثرة محاضراتها كانوا عقبة دون تحقيق‬
‫حلمه‪ ،‬فهو يذكر كيف نغصت البروتينات ليله وشغلت‬
‫الفيتامينات التي تشابكت وظائفها ومصادرها تفكيره‪،‬‬
‫وكم كانت الدروس العملية تذرفه الدموع وتهيج حواسه‬
‫وتضطرب لها معدته ويتوتر فيها تنفسه‪ ،‬ولكنه كان يرى‬
‫أن حلمه يستحق ذلك التعب بل يستحق أكثر من ذلك‬
‫إذا رغب‪ ،‬فلم يرهقه السهر بل سعد به‪ ،‬ولم يضق‬
‫أنيسا‪ ،‬ولم ينفر من طول‬
‫بالمذ اكرة بل وجدها‬
‫ً‬
‫المحاضرات بل بكر إليها‪.‬‬
‫‪ ...‬كان الفتى كلما وقع في حفرة من حفر الدراسة‬
‫تذكر حلمه الذي ينتظره على السطح‪ ،‬فلم يهتم لعمق‬
‫الحفرة بل حاول الصعود غير ناظر خلفه بل ناظر إلى‬
‫المسافة القليلة المتبقية‪.‬‬
‫‪ ...‬وجاءت االمتحانات‪ ،‬تلك اللحظة التي انتظرها‪،‬‬
‫تلك اللحظة التي شعر فيها بالخيبة مرتين‪ ،‬فماذا ينتظره‬

‫[‪]42‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫هذه المرة؟‪ ،‬هل يجد فيها ً‬
‫أمال أم أن اليأس سيدق بابه‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ ...‬لم تكن االمتحانات بالسهلة وإنما شابهت في‬
‫صعوبتها صعوبة الدراسة بل ربما فاقتها‪ ،‬وكان يشعر‬
‫الفتى في كل لجنة أنه يبتعد عن حلمه خطوة‪ ،‬ولكنه لم‬
‫يدع الخوف يسيطر عليه كما فعل من قبل‪ ،‬وأخذ يتلقى‬
‫ً‬
‫قائال "اعذريني‬
‫األسئلة الصعبة بابتسامة‪ ،‬وكأنه يحدثها‬
‫لن أدعك توقظيني من هذا الحلم الجميل"‪.‬‬
‫‪ ...‬انتهت االمتحانان وبدأت اإلجازة‪ ،‬فلم ينتظر‬
‫ظهور النتيجة وترك القاهرة‪ ،‬ولكنه لم يتجه إلى المنزل‬
‫وإنما إلى اإلسكندرية‪ ،‬حيث المؤتمر الطبي لمناقشة‬
‫مرض السرطان والذي سيحضره أطباء وكيميائيون من‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬وحيث مكتبة اإلسكندرية لتمده بما رغب‬
‫من كتب‪.‬‬
‫‪ ...‬كان الفتى قد سمع عن هذا المؤتمر الذي‬
‫سيعرض فيه الدواء الذي توصل العلماء إليه والذي‬
‫ُ‬
‫يمنعهم من استخدامه أعراضه الجانبية الخطيرة‪،‬‬
‫[‪]43‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫محاولين أن يصلوا إلى حل لتلك المشكلة‪ ،‬وقد رغب‬
‫الفتى أن يكون واح ًدا من الحضور‪ ،‬فيستمع إلى آراء هؤالء‬
‫العلماء وحلولهم‪ ،‬فيكون بذلك قد خطى خطوة كبيرة في‬
‫طريقه‪.‬‬
‫‪ ...‬ويصل إلى اإلسكندرية ويصل مكان المؤتمر‬
‫ليتفاجأ بأنه ال يسمح بالحضور إال ألساتذة الجامعات‬
‫فقط‪ ،‬في تلك اللحظة نبض قلب الصبي متذك ًرا صعوبة‬
‫االمتحانات خائ ًفا من النتيجة قل ًقا أن يضيع حلمه من‬
‫جديد‪ ،‬وعاد الصبي إلى المنزل منسيه حزنه الكتب التي‬
‫رغب في شرائها‪.‬‬

‫[‪]44‬‬

‫(‪)٩‬‬

‫‪ ...‬وصل الفتى إلى المنزل فوجد أمه بانتظاره‬
‫فارتمى في حضنها ليشبع نفسه من الحنان الذي حرمته‬
‫ضر معهم سفرة‬
‫ح أ‬
‫الغربة منه‪ ،‬ثم سلم على أبيه‪ ،‬و َ‬
‫العشاء‪ ،‬ثم استسلم بعدها إلى نوم عميق فيه شيء من‬
‫اطمئنان لم يجده في نوم المغترب‪.‬‬
‫‪ ...‬يستيقظ في اليوم التالي على دفيء أمه‪ ،‬ثم‬
‫يجتمعوا ثالثتهم على الفطور محدثهم الفتى عما مر به في‬
‫غربته‪ ،‬مستقبلين حديثه في أسى تارة وفي نوبات من‬

‫[‪]45‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫الضحك تارة أخرى‪ ،‬وشعر الفتى أن هذا اليوم أفضل يوم‬
‫مر به في حياته‪.‬‬
‫‪ ...‬ما أحلى ذلك الشعور‪ ،‬إنه الفراش نفسه‪،‬‬
‫والدفيء نفسه‪ ،‬والفطور نفسه‪ ،‬ولكنهم اليوم أكثر تأثي ًرا‬
‫من أي يوم‪ ،‬إنها نفس المغترب التي تصور لنفسها عود‬
‫ً‬
‫ً‬
‫فراشا‪ ،‬وكأن‬
‫ساقا من ذهب‪ ،‬والبعوض‬
‫القش في بيتها‬
‫ذلك المنزل يكيد لساكنيه ويصب في صدورهم سح ًرا كي‬
‫ال يتركوه‪.‬‬
‫ً‬
‫كسوال‪ ،‬ولكن ليس هناك ما يفعله في‬
‫‪ ...‬لم يكن‬
‫هذا الفراغ‪ ،‬فقد كان سيقضي إجازته في دراسة ما‬
‫سيسمعه في المؤتمر ولكنه لم يتمكن من الحضور ولم‬
‫يَصور المؤتمر في الوقت الذي نجد فيه شاشات التلفاز‬
‫وقد ملئت بالمؤتمرات الصحفية والرياضية واالقتصادية‪،‬‬
‫أما العلم فليس من الشيء المهم الذي تهتم به الدولة‬
‫ً‬
‫حكومة أو شع ًبا‪.‬‬
‫‪ ...‬مضى تلك اإلجازة يدفع الملل عنه بالقراءة تلك‬
‫سلبت من معظم الناس واستبدلوها‬
‫العادة التي ُ‬
‫[‪]46‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫بمشاهدة األفالم واالستماع إلى األغاني‪ ،‬وإن وجد الفتى‬
‫فيهم المتعة ولكنه لم يجد فيهم النفع بالقدر الذي وجده‬
‫في القراءة‪.‬‬
‫‪ ...‬كان الفن في هذا الوقت يتسم بالغرابة‪ ،‬فقد‬
‫ابتدع فاقدي الفن لونًا جديدً ا من هزل الغرض منه‬
‫التجارة مطلقين عليه اسم الفن الشعبي‪ ،‬وكأن أحدً ا لم‬
‫يخبرهم أن الفن الشعبي هو أصل ألوان الفنون‬
‫المختلفة‪ ،‬وأنه بريء مما يدعونه عليه‪.‬‬
‫‪ ....‬أوشكت اإلجازة على االنتهاء‪ ،‬وظهرت النتيجة‬
‫وحصل على تقدير امتياز ورتب الثالث على دفعته‪ ،‬ورغم‬
‫أن تلك النتيجة كانت لتسعده في الماضي إال أنها اآلن‬
‫بدت وكأنه رسب‪ ،‬فحلمه يتوقف على التعيين الجامعي‬
‫وذاك بدوره يتوقف على المركز األول‪ ،‬ولكنه رغم ذلك‬
‫وجد فيها دافعً ا يحثه على التقدم وذكرى تنسيه مشقة‬
‫الدراسة‪.‬‬
‫‪ ...‬وانتهت اإلجازة‪ ،‬وكان عليه أن يودع منزله وأهله‬
‫ويستقبل الغربة من جديد‪ ،‬فتلك األشهر القليلة كانت‬
‫[‪]47‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫كفيلة أن تنسيه غربته‪ ،‬حتى إذا عاد إليها شعر كأنه‬
‫يغترب ألول مرة في حياته‪ ،‬ووصل القاهرة ليبدأ ألم‬
‫الشوق وسهر المذ اكرة ورحلة الحلم‪.‬‬

‫[‪]48‬‬

‫(‪)1٠‬‬
‫‪ ...‬كان العام الثالث له بالكلية سريع المضي‪ ،‬لم‬
‫يشعر فيه بانقضاء الوقت‪ ،‬انتهى بحصوله على المركز‬
‫األول لهذا العام‪ ،‬والمركز الثالث بالنسبة للمجموع‬
‫التر اكمي‪ ،‬وبدأ يشعر باقتراب حلمه‪ ،‬وزاد خوفه عليه‬
‫حتى تحول إلى قسوته على نفسه وكأنه صورة مصغرة‬
‫عن أبويه‪ ،‬ربما الشيء الفعلي الذي استفاده من هذا‬
‫العام‪ ،‬هو فهمه لقسوة أبويه عليه وتقديره لحبهما الكبير‬
‫تجاهه‪.‬‬

‫[‪]49‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫‪ ...‬لم تكن حياته الدراسية مقتصرة على الدراسة‬
‫فقط‪ ،‬فكان عض ًوا في إحدى األسر الجامعية‪ ،‬التي كان لها‬
‫نشاطات اجتماعية وخيرية وفنية‪ ،‬وقد استفاد من تلك‬
‫ً‬
‫قليال من انطوائه ونمى مهاراته‬
‫التجربة كثي ًرا‪ ،‬فتخلص‬
‫الكتابية وأحس بقيمة الوقت وتعلم إدارته‪ ،‬وكانت‬
‫األعمال الخيرية تبث في روحه سالم وكانت دعوات الناس‬
‫تلتف حوله كالحصن فتقيه مما يتربص به من شر‪.‬‬
‫‪ ...‬وحين بدأ عامه األخير في الكلية‪ ،‬شعر كأنه‬
‫يدرس ألول مرة‪ ،‬وأحس بأن مصيره متعلق بتلك الحزمة‬
‫من الورق الذي وإن أهان عليه األمر القيمة العلمية‬
‫للورق‪ ،‬إال أنه لم يكف عن سخطه على تلك المنظومة‬
‫التعليمية التي تتالعب بمستقبل ماليين من الطالب‪،‬‬
‫ولكنه قد عزم في قرارته أنه لن يكون دمية في أيد الدولة‬
‫تحركها كيفما شاءت‪ ،‬فاإلنسان يبني البيت وليس‬
‫العكس‪ ،‬فلن يسمح هذه المرة أن يتخلله اليأس أو يقيده‬
‫الحزن‪.‬‬

‫[‪]50‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫حريصا على درجاته‪،‬‬
‫‪ ...‬فمضى الصبي في عامه‬
‫ً‬
‫راغ ًبا في المركز‪ ،‬ولكنه غير خائف على حلمه‪ ،‬غير متخل ًيا‬
‫عنه‪ ،‬ودخل االمتحانات مستعدً ا لها‪ ،‬وخرج منها منتظ ًرا‬
‫مستسلما للقلق أخرى‪ ،‬وبعد‬
‫نتيجتها متحل ًيا بالصبر تارة‬
‫ً‬
‫ثالثة أشهر من االمتحانات جاءته النتيجة فصدم لها‬
‫وسقطت لها دموعه ودموع أبويه معه‪.‬‬
‫‪ ...‬وفي قاعة كبيرة فرشت بالزهور وزينت جدرانها‬
‫بالستائر الحمراء المرتدية سوا ًرا من ذهب‪ ،‬وملئت‬
‫وعين بالجامعة‪،‬‬
‫بالطالب وأقاربهم واألساتذة‪ ،‬كُرم الفتى ُ‬
‫وكان لحظة تلقيه شهادة التخرج يتأمل في الدنيا واصفها‬
‫باألم التي تنتظر بكاء رضيعها لتفهم ما يريد فتعطيه له أو‬
‫تمنعه عنه‪ ،‬وكان يرى في القدر أبوابًا كثيرة قد يغلق في‬
‫وجهنا بعضها ولكنه غلق ال فائدة منه فباقي األبواب تؤدي‬
‫إلى نفس المكان ولكن بطريق مختلف‪.‬‬
‫‪ ...‬أحس الفتى أنه اآلن ال يمنعه شيء عن حلمه‪،‬‬
‫وأن الساحة تركت له‪ ،‬ومصيره اآلن بيده ال بيد الدولة‪،‬‬
‫ً‬
‫خوفا‪ ،‬فقد كان خائ ًفا أال يفي‬
‫وكان في تلك اللحظة أكثر‬
‫[‪]51‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫بعهده‪ ،‬وكان خائ ًفا أال يكون جدي ًرا بتلك المكانة التي‬
‫وصل لها‪ ،‬وخائ ًفا أن يكون هذا الحلم الذي عاش معه‬
‫عمره ليس من حقه‪ ،‬ولكن ال يمكنه الحزم في ذلك‪ ،‬وما‬
‫عليه سوى المحاولة واالنتظار‪.‬‬

‫[‪]52‬‬

‫(‪)11‬‬

‫‪ ...‬لقد حقق أول أحالمه‪ ،‬ولكن هذا الحلم أبقاه في‬
‫غربته‪ ،‬فمن ناحية هو معيد في جامعة عين شمس‪ ،‬ومن‬
‫أخرى هو في العاصمة حيث يمكنه الشروع في بحثه‪ ،‬فلن‬
‫تنتهي الغربة بنهاية الدراسة كما كان يصبر نفسه بل هي‬
‫على وشك أن تبدأ‪.‬‬
‫‪ ...‬شرع في تحضير الماجستير‪ ،‬وحصل عليه بعد‬
‫مرور عام من تخرجه‪ ،‬وقد كان القدر في هذه األيام صدي ًقا‬
‫يُقدم له يد العون‪ ،‬فأتيحت له فرصة للسفر إلى إنجلترا‬

‫[‪]53‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫لتحضير الدكتوراه‪ ،‬وكانت تدور حول إيجاد عالج‬
‫للسرطان‪.‬‬
‫ظلما‬
‫‪ ...‬حين وصل إنجلترا‪ ،‬وجد أن الغربة ازدادت‬
‫ً‬
‫وطمعً ا‪ ،‬فحرمته من الزيارة الشهرية التي كانت تزوده بما‬
‫افتقده فيها من دفيء واطمئنان‪ ،‬كما أن شوقه لم يكن‬
‫مقتص ًرا على بيته وأسرته بل زاد عليه شوقه لوطنه برغم‬
‫ما فيه من فوضى وزحام وتفرقة‪ ،‬ولكنه كان يجد في ذلك‬
‫الحرمان دافعً ا إلنهاء دراسته سريعً ا قبل أن يقتله‬
‫الشوق‪ ،‬ويرثه الحرمان‪.‬‬
‫‪ ...‬ومضى في دراسته جاهدً ا‪ ،‬فدرس كل ما له‬
‫عالقة بالمرض‪ ،‬وفتش في األبحاث قديمها وحديثها‪ ،‬وأقام‬
‫الكثير من التجارب‪ ،‬وحضر الكثير من األدوية‪ ،‬ولكنه في‬
‫كل مرة يفشل سواء لعجز الدواء عن القضاء على المرض‬
‫أو لتسببه في مشاكل خطيرة أخرى‪.‬‬
‫مهتما‬
‫‪ ...‬في ظل غرقه في أبحاثه‪ ،‬كان كأي مصري‬
‫ً‬
‫بم يدور في وطنه من أحداث خاصة إن وجدت انتخابات‬
‫حقيقية بعد فترة من الثبات الرئاسي‪ ،‬وقد رشح هذا‬
‫[‪]54‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫العام غير المرشح الثابت لدورتين شابًا في الخامسة‬
‫والعشرين من عمره‪ ،‬ولكنه رغم صغره كان من أنجح‬
‫المستشارين االقتصاديين حول العالم‪ ،‬وقد كان برنامج‬
‫ً‬
‫حافال بالمشروعات االقتصادية التي بدت‬
‫هذا الشاب‬
‫ً‬
‫خياال سيعيد إلى مصر أمومتها‪ ،‬كما‬
‫عقالنية أكثر من كونها‬
‫أن ماضي عبدالغني وحاضره يرسمان ما فيه من إيمان‬
‫ووفاء وفطنة وعقل سياسي جعله محبوبًا من كل‬
‫المحيطين به‪ ،‬فنال فور ترشحه على شعبية كبيرة‪ ،‬خاصة‬
‫بعد ما وجده الشعب من تراجع اقتصادي وتعليمي‬
‫وصحي في اآلونة األخيرة ‪.‬‬
‫‪ ...‬لم يمض على ترشح عبد الغني أسبوعين حتى‬
‫صدر إعالن بانسحابه‪ ،‬كما أنه اختفى عن الصورة‪ ،‬ولم يكن‬
‫ذلك بالغريب ولكن الغريب كان عدم سؤال الناس عنه أو‬
‫عن سبب انسحابه‪ ،‬وكأنهم يعلمون إجابة السؤال مسب ًقا‪.‬‬
‫‪ ...‬كان الغريب ً‬
‫أيضا في فكرة االنتخابات‪ ،‬أنها تبدو‬
‫ديموقراطية ولكنها في األصل عكس ذلك‪ ،‬فهي تعطي‬
‫الحق للمواطن في التصويت ولكنها تفرض عليه‬
‫[‪]55‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫المرشحين‪ ،‬فتعتبر الصوت الرافض لكل المترشحين‬
‫ملغ ًيا‪ ،‬فيا لها من مزحة‪.‬‬
‫‪ ...‬كانت خيبة األمل الوطنية كبيرة‪ ،‬ولكن دفعتها‬
‫نتائج التجربة األخيرة‪ ،‬فقد نجح الدواء الجديد على‬
‫الفئران ولم يترك آثار جانبية يقلق منها‪ ،‬ولم يبق سوى‬
‫تجربته على البشر‪.‬‬
‫‪ ...‬عاد إلى الوطن ومعه بحثه ودرجة الدكتوراه‬
‫وموافقة بتجربة الدواء على البشر‪ ،‬وجاءت نتيجة الدواء‬
‫على البشر كنتيجته على الفئران‪ ،‬وهنا تحقق حلم الصبي‪.‬‬
‫‪ ...‬أقيم مؤتم ًرا لمناقشة هذا البحث‪ ،‬وأصر الفتى‬
‫على إقامة هذا المؤتمر في مصر‪ ،‬وحضر المؤتمر أطباء‬
‫وعلماء من أنحاء العالم‪ ،‬ووقف الفتى ليلقي كلمته‬
‫ً‬
‫قائال‪" :‬إن الحلم ال يقتصر على كلية بعينها‪،‬‬
‫االفتتاحية‬
‫فمن كان يريد أن يكون دكتو ًرا‪ ،‬فإن جميع الكليات تتيح‬
‫ذلك‪ ،‬ومن كان يريد أن يكون طبي ًبا فيمكنه أن يساعد في‬
‫عالج الناس حتى ولو لم يدخل أي كلية من األساس‪ ،‬ومن‬
‫حا فالنجاح هو طرد الحزن الذي‬
‫كان يريد أن يكون ناج ً‬
‫[‪]56‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫يكبح إرادتنا ويقتل أحالمنا ويشل حركتنا‪ ،‬ومن كان يريد‬
‫أن يكون غن ًيا فعليه أن يتذوق ً‬
‫أوال طعم الفقر ‪ ،‬أما من أراد‬
‫وظيفة في مصر فليس عليه سوى أن يدخل كلية الطب‬
‫وعليه أن يسرع في ذلك قبل أن تنضم إلى أخواتها من‬
‫الكليات األخرى‪ ،‬إنني أرى شبابًا اتخذوا من المقاهي‬
‫ً‬
‫منازال متوهمين أن حلمهم دمرته الثانوية وتلتها في تدميره‬
‫الكلية‪ ،‬وأنا اآلن أعالج آالف المرضى في أنحاء العالم وأنا‬
‫لم أدرس الطب ‪ ،‬إن الحلم هو من اكتشف هذا الدواء‬
‫وليس أنا ‪ ،‬إن األمل هو من جمعنا اآلن من بقاع األرض‪،‬‬
‫إننا اليوم نحتفل بالقضاء على مرض ولكن العالم مليء‬
‫باألمراض التي اندست في أفكارنا وغزت عادتنا وحطمت‬
‫مبادئنا وأنستنا ديننا‪ ،‬لن يقضي على تلك األمراض مركب‬
‫كيميائي‪ ،‬بل سيقضي عليها عقول حالمة وقلوب آملة"‪.‬‬

‫[‪]57‬‬

‫(‪)1٢‬‬
‫‪ ...‬يا له من ملل‪ ،‬رغم أنه تزوج وأنجب طفلة يغار‬
‫منها القمر أسماها ليلى لتذكره بأحالمه التي تزوره ً‬
‫ليال‪ ،‬إال‬
‫حا إلى الكلية‪ ،‬عص ًرا‬
‫أن الملل كاد يقتله‪ ،‬فهو يذهب صبا ً‬
‫إلى معمله‪ً ،‬‬
‫ليال عائ ًدا لبيته‪ ،‬ثم يعيد تلك الدورة في اليوم‬
‫الثاني‪.‬‬
‫‪ ...‬لقد رأى أنه ال معنى للحياة بال حلم يسعى‬
‫لتحقيقه فيفشل في ذلك فيحاول مرة أخرى‪ ،‬وجلس‬
‫ينتظر ما الذي تعده تلك العين وهذا العقل من أحالم‪.‬‬

‫[‪]58‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫‪ ...‬إنه ضوء يقترب شي ًء فشي ًء‪ ،‬وها هو يستقر في‬
‫عقله‪ ،‬إنه الحلم الجديد "مبادرة العربية وكفى"‪.‬‬
‫‪ ...‬ظهر مؤخ ًرا في المجتمعات العربية ما يسميه‬
‫الناس رقي‪ ،‬ويجده هو تخلف‪ ،‬فقد انتشر بين الناس‬
‫وخاصة صغار السن شعور سام بازدراء العربية‪ ،‬متخذين‬
‫ً‬
‫عوضا عنها لغات المجتمعات الراقية‪.‬‬
‫‪ ...‬كان هو ومجموعة من الكتاب الناشئين في ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬يرون في ذلك نوعً ا من أنواع الغزو التي تهدف إلى‬
‫تحويل المجتمعات العربية بالتدريج إلى مجتمعات‬
‫أجنبية‪ ،‬وإن لن تكن تابعة لها سياس ًيا‪ ،‬فإنها ستكون‬
‫تابعة لها اجتماع ًيا‪.‬‬
‫‪ ...‬أقام هؤالء الشباب حملة بعنوان "العربية‬
‫وكفى"‪ ،‬كان من أهداف تلك الحملة‪:‬‬
‫• االهتمام باألعمال الفنية المكتوبة والمسموعة‬
‫والمرئية‪ ،‬لتنقل إلى العامة صورة عن عظمة‬
‫اللغة ومجتمعاتها ومبادئها ومبادئهم‪.‬‬
‫[‪]59‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫• حث الناس خاصة الشباب على استخدام‬
‫معان‪،‬‬
‫العربية في التعبير عما بداخلهم من‬
‫ٍ‬
‫متخليين عن اللغات األخرى‪.‬‬
‫• االهتمام التعليمي اللغوي‪ ،‬باستخدام بالغة‬
‫اللغة التي تحسدها عليها اللغات األخرى‪ ،‬في‬
‫صياغة المناهج‪ ،‬واالهتمام ً‬
‫أيضا بتعليم اللغات‬
‫األخرى مع حصر استخدامها للطوارئ‪.‬‬
‫• إعادة الرقابة اللغوية على اإلعالم‪ ،‬لمنعه من‬
‫إفساد اللغة لدى العامة‪.‬‬
‫بسيطا‪ ،‬أصعب بكثير‬
‫‪ ...‬كان ذلك الحلم وإن بدى‬
‫ً‬
‫مما سبقه من أحالم‪ ،‬حيث لم يكن يواجه القدر هنا‪ ،‬وإنما‬
‫كان يواجه مجتمعات بحكوماتها وشعوبها‪.‬‬
‫‪ ...‬ولدت الحملة في الحادي والعشرين من فبراير‬
‫من عام ألفين وستة وعشرين ميالديًا‪ ،‬ولقيت نق ًدا كثي ًرا‬
‫من البعض‪ ،‬وسخرية من البعض اآلخر‪ ،‬وصفها البعض‬
‫بحملة إلى الجاهلية‪ ،‬والبعض بحملة أصحاب الكهف‪ ،‬أما‬
‫النقاد فجاء نقدهم بضعف اللغة عن التعبير عن أحداث‬
‫[‪]60‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫العصر الحديث ومكوناته‪ ،‬ولكنها لقت مع ذلك القليل من‬
‫المؤيدين‪.‬‬
‫‪ ...‬رفض اإلعالميون الحملة واعتبروا ما جاء فيها‬
‫إهانة لهم‪ ،‬ورفض أصحاب الفن الحملة واجديها بعد عن‬
‫الواقع‪ ،‬ورفضت الحكومة الحملة بهدف مو اكبة التطور‬
‫التعليمي ‪-‬الذي ال نراه إال في تصريحاتهم‪ ،-‬ورفض‬
‫الشباب الحملة ألن كل ما هو عربي سيء‪.‬‬
‫يوما ما هو‬
‫‪ ...‬إهانة إلعالميين‪ ،‬لم يعلم معظمهم ً‬
‫معنى أن يحترم المرء نفسه‪ ،‬فتحولوا إلى تجار ال يهمهم‬
‫شيء أكثر من اإلعالنات التي ترعى برامجهم‪ ،‬حتى وإن‬
‫تسببوا في سبيل ذلك من إنشاء عداوة بين البعض‪ ،‬أو‬
‫اللهو بأعراض البعض‪ ،‬أو الخروج عن الحق إال الباطل‬
‫لضمان استمرارية البرنامج‪.‬‬
‫‪ ...‬بعد عن واقع لفنانين لم يرو في الواقع إال شره‪،‬‬
‫فعبروا عنه بكثافة تخيل للمتلقي أن الواقع يخلو من‬
‫الخير‪ ،‬فعبروا في أعمالهم عن عشوائية المجتمعات‬
‫العربية وانتشار البلطجة فيها‪ ،‬وتحول أبنائها إلى حيوانات‬
‫[‪]61‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫تسوقهم شهواتهم‪ ،‬فصدقنا نحن قبل العالم أننا بالفعل‬
‫هكذا‪.‬‬
‫‪ ...‬تطور عملية تعليمية تهدف إلى جعل الطالب‬
‫حاسوبًا عليه تسجيل كل المعلومات ليفرغها آخر العام‬
‫في سلة المهمالت‪ ،‬ذاك التطور الذي تتصوره المنظومة في‬
‫المناهج فقط غافلة أو قاصدة الغفلة عن التطور في‬
‫الطريقة التعليمية والتطور في مؤسساتها حتى ال أجد‬
‫نفسي في مقعدي وعلى قدمي زميل لي‪.‬‬
‫‪ ...‬شباب يرون كل ما هو عربي سيء‪ ،‬كيف لي أن‬
‫أرد عليهم وهم يرون أنفسهم سيئين متخلفين فهم عرب‪،‬‬
‫ليس لي أن أقنع الحيوان أن يتخذ أسلوب اإلنسان ما‬
‫دمت لم أقنعه أنه إنسان ً‬
‫أوال‪.‬‬
‫‪ ...‬إن هذا الحلم يبدو أنه مستحيل‪ ،‬ولكنه األمل‬
‫الذي يصارع الزمن ليحول المستحيل ممك ًنا‪ ،‬إنها القناعة‬
‫التي ترينا هذا العدد القليل من المؤيدين كاف ًيا‪ ،‬إنه الحق‬
‫يوما أن ينتصر‪.‬‬
‫الذي له ً‬

‫[‪]62‬‬

‫(‪)13‬‬
‫‪ ...‬خيركم من يبدأ بنفسه‪ ،‬لم ينتظر هؤالء الشباب‬
‫استجابة اآلخرين لهم‪ ،‬ولكنهم بدأوا بأنفسهم‪ ،‬متخذ كل‬
‫منهم حرفته وسيلة لزيادة قطر دائرة المؤيدين‪.‬‬
‫فيلما ألول مرة بالفصحى‪ ،‬وشارك فيه‬
‫‪ ...‬فعرض‬
‫ً‬
‫كبار الممثلين بالرغم من رفضهم للحملة‪ ،‬إال أن قصة‬
‫الفيلم المثيرة أجبرتهم على الموافقة على تأدية الفيلم‪،‬‬
‫وقد نال هذا الفيلم إعجابًا كبي ًرا لقصته التي تحدثت عن‬
‫محمد علي في القرن الحادي والعشرين‪ ،‬مظه ًرا فيها‬
‫الكاتب إرادة المصري التي قضت على الفساد المنزرع في‬
‫[‪]63‬‬

‫أح لمَمغترَبَ‬
‫ً‬
‫عوضا عنه‪ ،‬ولم يتوقف‬
‫أراضي الوطن‪ ،‬وزراعة أزهار التقدم‬
‫النجاح على إرضاء الجماهير فنال الفيلم جوائز عديدة‪،‬‬
‫أهمها بالنسبة لهم ذلك الوصف الذي عبر به بعض النقاد‪:‬‬
‫"إن الفيلم صور ازدها ًرا عصريًا في ثوب ازدهار لغوي لم‬
‫يستخدمه المصممون منذ عقود"‪ ،‬فكان هذا الوصف‬
‫ً‬
‫دليال على نجاح حملتهم ‪.‬‬
‫راق‪،‬‬
‫‪ ...‬وكذلك ظهر بعض اإلعالميون في ثوب عربي ٍ‬
‫جاذبين بصدقهم ورقيهم الكثير من المشاهدين‪ ،‬وانهالت‬
‫معهم اإلعالنات‪.‬‬
‫‪ ...‬وكذلك قام عالم الكيمياء بدوره‪ ،‬فلم تشهد‬
‫محاضراته وأبحاثه إال تعبير بالغي نقي‪ ،‬فجذب بعلمه‬
‫الكثير من األجانب إلى تعلم العربية‪ ،‬ودفع العرب إلى‬
‫العودة إلى أصول لغتهم‪ ،‬وجمع حوله كبار المترجمين‬
‫ليترجموا أبحاثه‪.‬‬
‫‪ ...‬وقد جاءت نتائج أعمالهم مبهرة‪ ،‬فاتسعت‬
‫الدائرة كثي ًرا‪ ،‬وسار على دربهم الكثير‪ ،‬فظهرت أهم الكتب‬
‫العلمية بالعربية‪ ،‬وسابقت األفالم العربية في شتى دور‬
‫[‪]64‬‬

‫أحمدَالمح مديَ‬
‫إعالما يمكننا أن نترك أبناءنا‬
‫العرض بأنحاء العالم‪ ،‬ووجد‬
‫ً‬
‫يشاهدونه‪.‬‬
‫‪ ...‬ولقد جاءت النتيجة على غير توقعهم‪ ،‬فقد‬
‫انعكس هذا الرقي اللغوي على المجتمع‪ ،‬وتلي االزدهار‬
‫اللغوي ازدهار فكري‪ ،‬والفكر سبب كل تقدم‪.‬‬
‫‪ ...‬تحقق حلم المغترب ولكنه تعلم أن األحالم ال‬
‫تنتهي‪ ،‬فأنا اآلن على فراش الموت‪ ،‬ترقص الكلمات على‬
‫اهتزاز يدي‪ ،‬وتتوقف من حين آلخر منتظرة دخول النفس‪،‬‬
‫ومع ذلك فإن عقلي الذي لم يعد قاد ًرا على أداء وظيفته‬
‫مليء باألحالم‪ ،‬ولو أنني سأحي بعد تلك اللحظة فلن‬
‫أضيع لحظة دون محاولة تحقيقها‪.‬‬
‫‪ ...‬هنا يتوقف القلم‪ ،‬ويعم الصمت حتى يقطعه‬
‫صراخ فتاة تنهمر الدموع من عينيها‪ ،‬لقد مات وهو غارق‬
‫في أحالمه التي كان أهمها بالنسبة إلي ه هو إيجاد صديق‪،‬‬
‫ولكنه مات قبل أن يعرف أنه حقق ً‬
‫أيضا ذلك الحلم‪ ،‬فقد‬
‫صاحب الوحدة‪ ،‬وكانت له صدي ًقا وف ًيا لم يتركه أبدً ا في‬
‫حين تركه كل من حوله‪.‬‬
‫[‪]65‬‬

‫ف‬
َ ‫كلمةَللمؤل‬
‫ وأن‬،‫ قارئي العزيز كم يسعدني أن تتواصل معي‬...
.‫تطلعني على رأيك ومقترحاتك‬

:‫لل تواصلَمعي‬

]67[

‫أحمدَالمح مديَ‬

‫[‪]69‬‬