أحلام الملكة النائمة - 4
اجلميل .متنيت يف تلك اللحظة أن يتعطل البص أو حيدث زلزال
قوته عرش درجات عىل مقياس هذا احللم اجلميل لنبقى نطفو فيه
إىل األبد .حني أخلدت اجلميلة إىل النوم ،انقطعت فجأة نغامت
الطنبور ،نام العامل كله ،بدت حتى الصحراء نفسها كأهنا وجدت
يف تلك اللحظة كغطاء سحرى لنوم اجلميلة .مل يكن يصدر عنها
أي صوت أثناء نومهاّ ،
كأن العامل نفسه توقف عن التنفس ،كنت
الوحيد الذي بقي مستيقظا فيام صوت البص يزأر يف سكون
الصحراء مثل أسد هزمه اجلوع .كان القمر احلزين ال يزال واقفا
يف النافذة ،ومن خلفه صف طويل من الكواكب يف انتظار خبز
الوجه النائم الساحر.
وحتى ال أشعر بالسأم ،ألنني ال أخلد أبدا للنوم أثناء السفر
حتى وإن كنت أسافر يف قارب هيدهده املوج وضوء القمر،
فكرت يف ممارسة هوايتي يف قراءة أحالم من خيلدون للنوم حويل.
مل أر شيئا يف البداية حتى حسبت أن سحر هذه اجلميلة ع ّطل كل
مواهبي يف اقتحام ذاكرة النائمني ،فجأة رأيت اهلواء داخل البص
مليئا بأنفاس أحالمها .ال بدّ أن للجميلة النائمة سحرا جيعلني ال
84
أقرأ أحالم النائمني يف ذاكريت مثلام كنت أفعل ،بل أشاهد كل يشء
معروضا أمامي يف اهلواء.
رأيت وجوها معلقة يف الفضاء مثل النجوم ،رأيتها جتلس مثل
امللكة الكنداكة فوق عرش من النور ،ثم بدأت شالالت الضوء
تتدفق من عرشها تعرب مثل سيل من النور فتهرب أمامها جيوش
الظالم ،فيصبح العامل كله كتلة من الضوء .ال بد أن اجلميلة
انتقلت فجأة إىل نوم عميق فقد اختفت أحالمها من اهلواء،
رغم أن بقية خيوط شالالت ضوء عرشها كانت ال تزال تيضء
العامل .رأيت أحالم الرجل الذي أحرض حلوى الطحنية للجميلة،
دهشت ألن أحالمه يغلب عليها اجلشع ،كان جالسا بلحية طويلة
تالمس األرض ،يف متجر ضخم مكدس بالبضائع من كل نوع،
كل ما حيلم به كان معروضا للبيع ،حسبته من حادثة الطحنية
يملك قلبا كبريا حتى أنه اختلس نقود صديقه بدافع احلب ،لكن
أحالمه أوضحت أنه يمكن أن خيتلس نقودا لدوافع أخرى .رأيت
أحالم الفتى الصغري الذي كان يعزف عىل الطنبور ،وجدت فيها
بقية الصور التي ضاعت من أحالم اجلميلة حني غرقت يف جلة
النوم العميق .الوجوه املتناثرة مثل نجوم تائهة يف الفضاء ومواكب
النور ،التي تصعد يف رحلتها إىل أبد السامء .رأيت أحالم رجل
جيلس يف مؤخرة البص ،عرفت من أحالمه أنه لص فقري ال جيد
حتى ما يسدّ رمقه .كان يرسق يف حلمه قرصا منيفا لرجل يملك
ُسلطة وماال .كان اللص جالسا أرضا حييص أكداسا من العمالت
الصعبة التي عثر عليها يف القرص .متنّيت أال ترشق الشمس أبدا،
سيتعي عليها إيقاظه بأشعتها
أن تضيع يف الفضاء وتنسى أي عامل
ّ
85
احلارقة .وأن أظل إىل األبد جالسا يف أطياف أحالم هذه امللكة.
هبرين بركان ضوء الفجر املتدفق يف املكان .حسبت أن
فجأة َ
الضوء قادم من اخلارج ،حيث العامل بدأ يصبح أشبه بالفضة
وصف
الذائبة ،وتراجع إىل الفضاء القمر الواقف يف النافذة
ّ
الكواكب من خلفه ،قبل أن أكتشف الفجر الصاعد من أحالم
امللكة النائمة ،مواكب من النور وسيوال من البرش التي هتدر يف
الشوارع ،يف الرحلة الطويلة نحو الشمس.
86
أبـــي
أصبحت كبريا ومن ح ّقك اآلن أن تزوره.
قالت أ ّمي :لقد
َ
قالت ذلك وكأهنا تتحدّ ث عن شخص ال تستطيع وصف
صورته ،مل أفهم مل جعلتني نربات صوهتا أشعر بأهنا كانت تتحدث
عن شخص مل يسبق هلا أن رأته مطلقا.
حني تراه ،قالت :صافِ ْحه بأدب.
ع ّل َمتني كيف جيب أن أصافحه بأدب ،جيب أن ينحني جسمي
إىل األمام قليال وتقرتب شفتي من يده :إن سألك عني ،قالت ،قل
له نحن بخري وأننا ال نحتاج إىل أي يشء.
ارتديت يف الصباح جلبابا أصفر اللون خاطته أمي بنفسها،
وض َعت يل حول عنقي شاال من قامش قطني بارد امللمس.
كان الوقت شتاء ،والرياح الباردة تص ّفر يف أزقة القرية.
سوف مترض ،قالت يل وهي تصلح من وضع الشال حول
رقبتي :جيب أن حتافظ عليه دائام حول عنقك حتى ال مترض.
ثم وض َعت عىل رأيس طاقية بيضاء من الصوف وأعطتني
87
نقودا تكفيني إلجيار احلافلة التي سأستق ّلها.
حني أصبحت جاهزا للخروج ،أوقفتني وأحرضت مبخرا
والكمون األسود
به قطع مجر محراء ألقت فيها حبات من البخور
ّ
ثم جعلتني أستنشق الدخان ،فيام تضع هي يدها عىل رأيس وتقرأ
بعض آيات القرآن ثم دارت باملبخر ثالث دورات حول رأيس.
الكمون األسود وهي تتقافز
كنت أحب رائحة احرتاق حبات
ّ
فوق النار املشتعلة وكأهنا حتاول اهلروب من مصري حمتوم.
كررت يل قوهلا:
حني و ّدعتني أمام باب البيت ّ
قل له نحن بخري وال ينقصنا يشء ،ثم ترددت قليال وقالت :إن
سألك كيف نعيش ال تقل له شيئا عن حياكة الطواقي واملالبس أو
عن عملك يف الصيف يف املزارع ،قل له إن خالك يرسل لنا ماال
نعيش منه.
وقفت قليال يف انتظار احلافلة ،كان العامل قد بدأ
يف الشارع
ُ
يسرتد حياته وروائح احلياة تعبق من داخل البيوت ،رائحة دخان
نار جريد النخيل التي تعد النسوة طعام اإلفطار عليها ورائحة
اخلبز الساخن.
مدرستي التي ستفتح أبواهبا بعد أيام ،واملشوار
تذكّرت َ
الطويل الذي أقطعه إليها ذهابا وإيابا كل يوم ،وفكرت:
هل سيهديني أيب محارا؟
تو ّقف السائق مرت ّددا حني رفعت يدي وسألني قبل أن يتو ّقف
88
متاما:
هل معك نقود يا فتى؟
رفعت يدي بالورقة النقدية التي كنت ال أزال أقبض عليها
بأصابعي ،فتبسم السائق وأوقف السيارة وسط عاصفة صغرية
من الصفري والغبار.
جلست يف اخللف .كان للحافلة مقعدان طويالن متقابالن
جيلس عىل كل مقعد مخسة ركّاب ،مل أتبني مالمح الركّاب اآلخرين
جيدا بسبب الربد ،كان اجلميع ُي َغطون وجوههم.
سمعت فقط أحدهم يتحدث مع جاره ،كان يبدو وكأنه
يتحدث إىل نفسه بصوت عال:
لقد ّقررت أال أغامر بالزراعة هذا العام ،يف العام املايض
بعت قطعة أرض ورثتها عن والدي
خرست كل يشء ،ولوال أين ُ
ألسدّ د ديون البنك لقضيت بقية عمري يف السجن.
ر ّد عليه صوت مبحوح:
أفضل السجن عىل أن أجلس
وماذا نفعل؟ نجلس يف البيوت؟ ّ
يف انتظار مساعدة من شخص ما.
ع ّلق الرجل األول:
يف هذا الزمان ال يصلح أن تكون شجاعا ،جيب أن تكون حذرا
وإال واجهت املتاعب!.
استغرقتني أحالمي فتباعدت أصوات الرجلني ومل أعد أسمع
89
أو أرى شيئا سوى تفاصيل صورة استقبال أيب يل واحلامر الذي
سأعود به.
البد أن والدي سيكون كريام معي .مل َيرين منذ مخس سنوات.
لديه أطفال من زوجته األخرى ،كام قالت يل أمي .لكنني ابنه
األكرب ،سمعت يف القرية كثريا أن االبن األكرب يكون له وضع
عيل اسم والده؟ ال بدّ أنه حي ّبني مثلام كان حيب
خاص ،أمل يطلق ّ
والده وإال ملا أطلق عىل اسمه.
كنت أفكر كيف سأعود ومعي احلامر .لن أمتكّن بالطبع من
العودة باحلافلة .سيكون الطريق طويال باحلامر لكنه سيكون
ممتعا جدا .احلافلة تعرب برسعة .ال تستطيع رؤية العامل من حولك
بصورة أفضل مثلام حيدث من عىل ظهر احلامر .السيارة تعرب برسعة
فتختلط مشاهد األشياء ،وحتى حني تبطئ سريها تغطي كل يشء
حوهلا بالغبار .كأن الغرض من الرسعة يف التنقل بالسيارة هو أن
تدفن كل العامل حولك وتدفن نفسك أكثر داخل نفسك وخطط
حياتك.
شعرت بفرح إضايف ،سأمتكن من توفري مبلغ صغري .املال الذي
جيب أن أدفعه لقاء أجر العودة باحلافلة .سأعيده إىل أمي لكنها لن
تأخذه عىل األرجح ،سأشرتي شيئا يوم السوق القادم حني أذهب
لرشاء مستلزمات البيت .فكرت ماذا أشرتي .قلم جديد ،حذاء
خفيف أستخدمه يف الصيف حني أذهب للعمل يف املزارع ،ألن
حذائي القديم أصبح باليا .لكن أمي قد ال تسمح يل بارتدائه .يف
ترص أمي أن أرتدي احلذاء املحيل
الصيف تكثر العقارب لذلك ّ
90
املصنوع من جلد األبقار .إنه حيمي القدم من العقارب ومن
الشوك الذي ينترش يف كل مكان.
قال صاحب الصوت املبحوح :أفكّر يف العودة للعمل يف
مصلحة الربيد ،لقد باعتها احلكومة لبعض األشخاص ورشعوا
يف استثامرها بصورة حديثة.
قال املزارع الذي أعلن إرضابا عن العمل والذي رغم أن
وجهه كان مغطى متاما لكنني ختيلته مبتسام بخبث:
لن يعيدوك إىل العمل أبدا .أنت ال تعرف شيئا عن املخرتعات
احلديثة .من يعمل معهم جيب أن يعرف كيف يتعامل مع جهاز
الكمبيوتر وأنت بالكاد تستطيع فتح جهاز الراديو ،كام أهنم ال
حيتاجون إىل عامل كثريينُ .يقال إن هذا الكمبيوتر ينجز يف حلظة
واحدة عمل مائة رجل!.
هذه ختاريف ،قال صاحب الصوت املبحوح ،خت ّيلته مبتسام
بكآبة .أنا أعرف عميل جيدا وأؤ ّديه بصورة مثالية .أختم الرسائل
وأوزعها يف احلقائب الصحيحة ،وحتى حني ال يكون هناك حرب
ّ
لألختام املعدنية أصنع حربا من الصمغ والكربون .ال تستطيع آلة
صامء تفقد عقلها حني تنقطع الكهرباء أن تفعل ذلك.
أرضب عن العمل للمرة األوىل بصوت
ضحك املزارع الذي َ
عال .أصابني ارجتاج صوت ضحكته بخيبة أمل ،ال أدري مل
خت ّيلت لضحكه شكال خمتلفا .قال:
انتهى عهد الرسائل التي ختتموهنا بأختامكم احلمقاء .أمل تسمع
91
زرا عىل الكمبيوتر فيقرأ الشخص
بالربيد اإللكرتوين؟ تضغط ّ
الذي أرسلت إليه الرسالة يف اجلانب اآلخر من العامل رسالتك
يف نفس اللحظة ويصلك ر ّده قبل أن تكمل كوب الشاي الذي
ترشبه!.
املرص عىل العمل مل يستسلم بعد :هذه أوهام ،كيف
الرجل
ّ
يمكنني أن أثق يف أن رسالتي تنقلها آلة صامء يمتلئ جوفها
بالكهرباء دون أن حتذف منها شيئا أو تنقلها جلهة أخرى بدال من
اجلهة التي أقصدها .وما عيب رسالة أحتفظ هبا يف جيبي وأبرزها
عند احلاجة وأحتفظ هبا يف حقيبتي تذكارا من شخص عزيز،
أشمها عبق زمن
تتغي رائحتها بفعل الزمان ،أتذكّر حني ّ
وحني ّ
آخر تعيدين الرسالة إليه.
تذكّرت قول أمي :ال تنزعج إن مل يستقبلك بو ّد .إنه أب طيب
رغم حرصه أحيانا عىل إظهار عكس ذلك.
ر ّددت العبارة يف رسي حتى اقتنعت هبا :إنه أب طيب ،إنه أب
طيب.
فكرت يف محاري الصغري .قد أمحل معي إىل املدرسة أحد
أصدقائي ممن يمشون إليها عىل أقدامهم مثيل .لن أفعل طبعا
مثل ذلك الصديق الذي َي ُض إىل املدرسة عىل ظهر محار كسول
يسري خطوة إىل األمام ثم يسرتيح قليال قبل أن يستأنف خطوة
أخرى .زمالئي يقولون إن احلامر ليس كسوال لكن صديقي هو
92
الكسول .ال يطعم احلامر جيدا .يسري احلامر يف البداية برسعة ثم
تنفد قواه حتت ثقل وزن صديقي البدين والذي حني جيد أنه ال بدّ
أن يتخلص من بعض األشياء التي حيملها حتى خيفف الوزن عىل
احلامر يمسك جيدا بإناء طعام اإلفطار ويلقي أرضا بحقيبة القامش
التي حيمل فيها الكتب املدرسية!.
يتعمد عدم إطعام
صديق آخر يفرس األمر بأن صديقنا الكسول ّ
محاره حتى يصل كل يوم ّ
متأخرا ،ألنه بسبب عدم حبه للمدرسة
ال يتعجل الوصول إليها!.
لن أفعل مثله ،سأعتني بإطعام محاري حني أخرج عرصا
لرعي املاعز سأصحب محاري معي للرعي .سأمحل طنبوري معي
وأجلس بعيدا أراقب املاعز واحلامر وأغني حتى تغرب الشمس.
ويف الصيف حني أذهب للعمل يف تسميد أشجار الفواكه يف املزارع
سآخذه معي ليأكل من احلشائش التي نزيلها من حتت أشجار
املوالح قبل أن نضع زبل البهائم الذي ُيستخدم كسامد حميل.
كان املزارع النشيط ال يزال حياجج برغبته العودة ليعمل
يترسب إىل أذين مصحوبا بزعيق الريح الراحلة
موظفا ،صوته ّ
فوق حقول القمح .ختتلط مع صوت أمي:
إنه أب طيب ،إنه أب طيب.
93
ال حاجة بنا لرجال الرشطة
املدرس املتقاعد ساقا فوق ساق وهو جيلس
يضع أبو احلسن ّ
متر من أمامه يف عجلة .قبل
عىل صخرة أمام بيته يرقب الناس التي ّ
أيام حصل عىل معاشه .املعاش قليل ولن يكفي لكي يبقى عىل
سيضطر للكتابة إىل ابنه األكرب الذي هاجر منذ سنوات
قيد احلياة،
ّ
ليساعده ببعض املال .اليشء الوحيد الذي جيعله يشعر ببعض
تفرغه لنزاع عىل قطعة أرض صغرية مع جار هلم.
السعادة كان هو ّ
قبل أشهر ق َطع اجلار غابة صغرية يف األرض املتنازع عليها وباعها
ملصلحته.
يضحك األستاذ أبو احلسن قائال بصوته اجلهوري :سأجعل
هذا التافه يكره اليوم الذي ُولد فيه!.
يضحك بدون مناسبة أثناء كالمه ويتحدّ ث مع الناس
واجلريان وكأهنم تالميذ :هذا صحيح! أنت تتحدّ ث بلغة واضحة
وصحيحة ،لكن ينقصك بعض الثقة بالنفس ،يضحك بدون
لدي تلميذ يعاين من نفس مشكلتك ،حني
سبب ،ويواصل :كان ّ
حياول رشح أمر ما يزيد األمر تعقيدا بسبب لغته السيئة وهتاونه
94
يف استخدام الكلامت املناسبة ،يضحك بصوت ٍ
عال ،يا هلا من
مهزلة! إنه كسول جدا! يستخدم أول كلمة ختطر عىل باله ،حتى
وإن مل يكن هلا عالقة بام يريد قوله ،يضحك مرة أخرى ويسحب
نفسا من سيجارته ويقول :يف زماننا ما كان يمكن ألحد أن
حتولت املدارس إىل متاجر تبيع للناس
يتساهل يف أمر كهذا ،اآلن ّ
أي يشء إال العلم الصحيح ،يضحك ،وحني يقول شخص ما
احلقيقة ،يرسلون إليه خطابا من سطرين ،كأهنم مل يتذكّروا أنه بلغ
س ّن املعاش إال حني بدأ لسانه ينطق يف االجتاه املعاكس ،يضحك
أي تالميذ هؤالء ،طلبت من ولدي الذي
بصوت جهوريّ ،
يدرس يف مدرسة ثانوية أن يكتب يل عريضة قبل أيام لنقدّ مها إىل
مدير الرشطة ،حول األشجار التي قطعها هذا البائس وباعها ،لقد
كتب رسالة تصلح حلبيب ،يضحك بصوته األجش ،كيف لنا أن
نخاطب مدير الرشطة بعبارة تقول :نحن بخري وما بنا غري الشوق
لكم ،إهنا مهزلة! كيف يشتاق أحدهم لرجال الرشطة؟! ،ال بدّ
أنه يشتاق أيضا الرتكاب جريمة ما! يضحك بصوته اجلهوري،
ولدي ليس سيئا ،لكن نوع التعليم الذي يتلقاه هو املسئول عن
ذلك ،يضحك بصوت أجش ،وحني يقول هلم شخص ما احلقيقة
حييلونه للصالح العام ،كأن مشاكل العامل كلها ستحل جمرد أن
أجلس أنا أمام بيتي دون عمل!.
ينتهز أحد اجلريان فرصة أن أبو احلسن انشغل بجذب نفس
طويل من سيجارته وقال :وهل قامت الرشطة بحل املشكلة؟.
ضحك أبو احلسن وقال :تس ّلم مدير الرشطة العريضة
95
وقال إنه سريي ما جيب عمله ،هل جيب أيضا أن نع ّلمهم كيف
يقومون بعملهم ،مضت عدة أيام ومل حيرك ساكنا ،هل رسقة غابة
عمل مرشوع؟ يضحك بصوته اجلهوري ،ال بد أن تلك املقولة
ارس ْق شيئا صغريا تقبض الرشطة عليكِ ،
صحيحةِ ،
ارس ْق شيئا
كبريا جدا حترسك الرشطة! لكن هذا الرشطي يغامر بمستقبله،
يضحك بصوت أجش ينفجر يف اهلواء يف دوائر زلزالية مثل الرعد:
سريى كيف أتعامل مع إمهاله ملصالح املواطن ،سيدفع ثمنا باهظا،
سأشكوه إىل رؤسائه وسأطلب نقله إىل نقطة يف الصحراء حيث
لن جيد أحدا يك ّلمه سوى اجلن ،أحد تالميذي األوفياء وصل
إىل رتبة اللواء ،ال أدري كيف استطاع الوصول إىل ذلك هبذه
الرسعة ،إنه صغري جدا ،يضحك بصوته األجش ،أتذكر كيف
كان مشاغبا يف الفصل وكان يرسق أحيانا ،وضع يده عىل جبهته
كمن يتذكر شيئا وقال :ليس أحيانا ،لقد رسق عدة مرات ،كان
يرسق األوراق واألقالم وثامر الدوم من زمالئه ،ومرة جترأ ورسق
جرس املدرسة نفسه ،يضحك ،يا له من مشاغب عنيد ،استدللنا
عىل اجلرس من رنينه ،بعد أن وصل إىل البيت مل يتو ّقف عن قرع
حضنا الستعادته ،أوقف إخوته الصغار يف صف
اجلرس حتى َ ْ
مدريس مستخدما اجلرس ،وكان جيلدهم برفق عىل أخطائهم
الصغرية أثناء الطابور ،غريب أن مشاغبا مثله كان حياول تطبيق
نوع من النظام يف بيته ،يضحك ،وفجأة يصبح لواء يف الرشطة،
يا هلا من مهزلة! ال بدّ أن أحد أقاربه ساعده للوصول إىل هذا
املكان ،يضحك بصوت جهوري ،لن أقبل أية مساومة يف مسألة
الغابة ،إهنا مسألة مبدأ ،سأطلب إحضار كل احلطب الذي قطعه
96
هذا املخادع ،قطعة حطب واحدة ناقصة ستعني مشكلة كبرية
وسيذهب مدير الرشطة إىل الصحراء ،سيذهب مدير الرشطة إىل
الصحراء ،يضحك ويردد كلمة الصحراء عدة مرات كأنام ليوحي
بأن له مقدرات حتيل السهول اخلرضاء إىل صحاري جرداء.
يستغل جار آخر صمته املفاجئ ويقول :لكن احلطب تم بيعه
كله!.
سيكون ذلك من سوء حظه ،أعرف شخصا آخر يعمل يف
مصلحة املساحة ،كان تلميذا نظيفا هيتم بمالبسه ونظافة جسمه،
الوحيد الذي كان يستحيل أن جتد يف شعره قمال ،بقية التالميذ
كان يمكن مشاهدة القمل يسري يف رؤوسهم يف خطني أشبه
بشوارع األسفلت ،يضحك بصوته األجش ،لكنه كان سيئا يف
دروسه ،،يضحك ،جيهل متاما كيف يتعامل مع األرقام ،ال حيفظ
شيئا وال حتى بالعصا ،لقد أسديت له معروفا كبريا ،يضحك
قائال بحيث بدت العبارة جزءا من بقايا ضحكته التي تناثرت يف
اهلواء خملفة يف املكان شعورا بالفوىض :يا له من مغفل! كنت ال
أرضبه أبدا حني يرتكب األخطاء يوميا ،كنت أقول له :ال فائدة
من رضبك ،الرضب يف امليت حرام! لو كان يو ّد إحراز تقدّ م يف
مستواه لكان جديرا به أن يطلب منا رضبه طوال اليوم! اآلن حان
الوقت لريد يل هذا اجلميل ،لقد كان نحيال جدا وما كان بوسعه
حتمل الرضب! مرة واحدة أقدم مدرس آخر عىل رضبه ،هل
ّ
تبول
تعرفون ما فعل؟ يا للمهزلة! يضحك بصوت أجش :لقد ّ
يف ثيابه! كانت ستحدث كارثة ،اآلن أحتاجه ،ال أستطيع أن أذكّره
97
بامضيه لكنني قطعا سأضحك حني أراه وقد أصبح مسئوال كبريا،
سأتذكّر لوحدي كيف كان موقفه سيئا والسائل الساخن يتدفق
من ثيابه! ال أدري ما هي العالقة بني البول ومصلحة مهمة مثل
املساحة ،أصبحت كل األشياء قذرة!.
يضحك ،ال أعرف كيف استطاع النجاح وأن يصبح موظفا
مرموقا يف مصلحة املساحة! ال بدّ أنه يعرف شخصا ما ساعده يف
الوصول إىل تلك الوظيفة! سأطلب منه أن يعيد مسح هذه األرض
ويعيدها إ ّيل أنا صاحبها احلقيقي ويذهب معي إىل املحكمة حتى
يدفع يل هذا البائس تعويضا عن السنوات التي استغل فيها هذه
األرض دون وجه حق .إن مل يتعاون معي قد اضطر لرواية قصة
البول تلك!.
أما قضية بيع حطب أرض متنازع عليها فهذه قضية جنائية،
إهنا رسقة يف وضح النهار ،وإذا مل يستطع مدير الرشطة حل هذه
املشكلة فام فائدة وجوده هنا ،ليس لدينا مشاكل كثرية يف هذه
القرية ،ال يوجد لصوص سوى لص واحد تقاعد عن عمله بسبب
الشيخوخة وبسبب فقدان أسنانه يف حادث هنري .ال تتشاجر
النسوة هنا ألن معظمهن مسنّات ،فقدن الرغبة يف الشجار،
يقضني معظم الوقت يف النوم ويف وضع السعوط يف أفواههن،
يامرسن فقط أحيانا ،بسبب امللل ،نميمة طيبة يستعدن فيها ذكرى
بعض الشجارات العادية يف القرية .من يريد أن يرشب اخلمر يغلق
يتعي علينا
باب بيته عليه ،فلامذا جيب أن يكون هنا رجال رشطة ّ
أن ندعوهم بني احلني واآلخر لتناول الطعام ألن واجب الضيافة
98
يفرض علينا ذلك.
إن كانوا ال يستطيعون منع بيع غابة صغرية فلامذا يبقون؟ إن
رحل رجال الرشطة فإن باستطاعتي أن أجعل آخر لص يف القرية
تعهد بعدم العودة إىل الرسقة حتى وإن شعر باجلوع .إنه
يو ّقع عىل ّ
تعهده ،لو أنه جاء إىل املدرسة ملا تع ّلم الرسقة
رجل طيب أثق يف ّ
وربام ألصبح رجل رشطة هو نفسه ،يستطيع اللصوص معرفة
بعضهم البعض!.
يضحك بصوته اجلهوري ويقول :سيخطئ ذلك الشاب
الذي أصبح مديرا للرشطة ،أعرف رجال يف رتبة اللواء ،كان أحد
أفضل تالميذي ،سأخربه باألمر وعندها سيجد مديرنا نفسه يف
أكرر الصحراء ،بعض البؤساء يفيدهم البقاء هناك ،لن
الصحراءّ ،
جتد أحدا يكلمك ،تضطر أن تكلم نفسك ،تتأمل العامل ،وحتيص
ومهريب اإلبل الذين ال تستطيع إلقاء القبض عليهم،
النجوم،
ّ
إهنم مسلحون جيدا بأسلحة حديثة وليست مثل هذه البنادق
القديمة التي ور َثتها حكومتنا عن االنجليز ،حني تكون وحيدا
يف الصحراء ،هناك أيضا فوائد ،هتبط عليك حكمة لن جتدها ولو
بقيت مائة عام وسط اآلخرين ،سيكون حمظوظا ،لكنه سيفتقد
الغذاء اجليد وسهرات الرشاب الرسية ،ال يوجد يف الصحراء من
يصنع اخلمور حتى يذهب رجال الرشطة ملصادرهتا واستخدامها
ألنفسهم .بإمكانه أيضا تع ّلم صناعة اخلمور البلدية بنفسه ،األمر
بسيط للغاية ،كنا نفعل ذلك قبل سنوات حني كنا نعمل يف مدرسة
صممنا بأنفسنا جهاز تقطري بدائي لكنه ف ّعال ،أذكر صديقي
نائيةّ ،
99
صمم اجلهاز ،كان ذلك باعرتافه العمل الوحيد املفيد الذي
الذي ّ
قام به طوال حياته .كان أحدنا يذهب إىل سوق القرية األسبوعي
مرة يف الشهر لرشاء بلح اجلاو ،وهو رخيص السعر ألن طعمه
رديء ،كأنك تأكل قطعة خشب معطونة يف الصمغ ،لكنه جيد
لصناعة اخلمر .حيرض لنا الصبية املاء بالربميل من النهر .هناية العام
اكتشفنا ،أننا رشبنا عرشين برميال من اخلمر الرديء!.
يقاطعه أحد اجلريان هامسا :انظر من جاء هناك ،إنه مدير
الرشطة!.
وهب أبو احلسن واقفا كمن لدغته عقرب
مدير الرشطة،
ّ
مناديا عىل ولدهِ :
يصح أن
أحض كرس ّيا يا ولد ملدير االرشطة ،ال
ّ
جيلس معنا عىل األرض ،هؤالء الرجال ْ
يشقون طوال اليوم حلفظ
األمن فكيف نجعلهم جيلسون عىل األرض .اجلس يا سيدي،
زيارتك مثل وجودك يف هذه القرية أشياء تسعدنا ،انظر لقد هجر
كل اللصوص القرية بفضل جهدك ،مل يبق سوى واحد فقد حتى
أسنانه ومل يعد مصدر خوف ،لوال وجودك يا سيدي حلرض مزيد
من اللصوص ،هذه إحدى مشاكل طريق األسفلت هذا ،إنه دعوة
للصوص للتجول بسهولة من مكان إىل آخرِ .
أحض القهوة يا
جيهزوا طعام غداء يليق بمدير الرشطة ،اجلس
ولد ،وأخربهم أن ّ
يا سيدي.
لكن مدير الرشطة رفض أن جيلس ،قال إنه مشغول ويريد
فقط إخطار أبو احلسن أنه اتفق مع جاره أن يتنازل له عن نصف
100
احلطب الذي ق َطعه من الغابة يف األرض املتنازع عليها.
إهنا العدالة بعينها يا سيدي ،ويضحك بصوته األجش ،انظر
حصلت عىل عود واحد من هذه
لوال وجودك يف هذه القرية ملا
ُ
الغابة وأنا الذي أعيش بمعاش قليل بعد أن ع ّلمت آالف التالميذ،
مدرسني وبعضهم يف مصلحة الغابات .لنح ّيي
بعضهم يعمل اآلن ّ
هذا الرجل يا إخواين ،لوال وجوده ألصبح عدد اللصوص يف هذه
القرية ضعف عدد اآلخرين ،و َلتشاجر اللصوص حول من يرسق
فالن.
مىض رجل الرشطة يف طريقه بخطوات نشيطة وواثقة ،ع ّلق
أحد اجلريان قائال :ال يبدو كشخص يسري إىل الصحراء!.
وقال جار آخر :تعجبني خطواته النشيطة املستقيمة كأنه عود
من اخلشب ،أشعر باحلرسة منذ أن أصابتني آالم الظهر مل أعد
أستطيع امليش إال بعكّاز!.
قال أبو احلسن :هل تشكو من آالم يف ظهرك؟ سأخرب أحدهم
متخصصا يف العظام ،كان أحد تالميذي،
ليساعدك ،أعرف طبيبا
ّ
كان مهمال يف منظره يرتدي دائام مالبس قذرة وينتعل حذاء
مثقوبا ،لكنه كان جيدا يف احلساب ،كان سيئا يف املواد األخرى
حتى أنني دهشت كيف متكّن أن يصبح طبيبا ،ال بدّ أن أحد
معارفه ساعده يف ذلك...
101
الشيطان وعسكري البالستيك
عشية عيد الفطر كنا نتح ّلق حول والديت يف الفناء وهي تغسل
كومة من املالبس عىل ضوء مصباح الزيت ،سمعنا صوت هنيق
محار يمزق صمت الليل .قال أخي :إنه محار جارنا سيد ،وصمت
قليال قبل أن يتذكر شيئا :هذا احلامر معتاد عىل قطع رباطه
واالعتداء عىل مزارع اآلخرين ،ال بد أن شخصا ما يرضبه اآلن!.
قالت أمي :هذا ليس محارا ..إنه شيطان!.
قلت :أال ُتبس كل الشياطني يف رمضان؟
قالت أمي :نعم ،لكن مساء اليوم األخري يف رمضان ُيعاد
إطالق كل الشياطني.
شعرت باخلوف ،سأبدأ بالذهاب إىل املدرسة قريبا ،ال مشكلة
صباحا ،سأذهب مع أخي ،لكن عند العودة جيب أن أعود وحدي
ألنني سأغادر املدرسة مبكرا وسأقطع طريقا مليئا بأشجار كثيفة،
سمعت من أخي أن الشياطني تسكن فيها.
حكاية الشياطني جعلت أمي تتذكّر شيئا فتو ّقفت عن غسيل
102
املالبس ريثام تعدّ اجلمر يف موقد صغري من الفخار لتطلب من
أخي تبخري البيت كله لطرد الشياطني.
قالت :مفروض أن نطلق البخور جمرد غروب شمس اليوم
األخري يف رمضان!.
عدنا بعد طرد الشياطني التي الحقها أخي حتى الشارع وهو
يشتمها بألفاظ قبيحة ،ذك ّْرته أن أمي من َعتنا من استخدام تلك
األلفاظ ،فقال يل إنه مل يسمع أمي ّ
حتذرنا من استخدامها ضد
الشياطني.
بعد أن فرغنا عدنا لنتح ّلق حوهلا ،أوصتنا يف حسم أن نبدو
عند زيارة قرب والدي يف مظهر حزين ونقرأ الفاحتة عىل روحه ثم
نغرس جريد النخيل فوق القرب.
سألت والديت نفس السؤال الذي سأله أخي العام املايض:
ملاذا نغرس جريد النخيل فوق قرب والدي؟ ،فقالت :إن هذه عادة
قديمة ،حيمل الناس يف أيام األعياد جريد النخيل ويضعونه عىل
جتف أوراق النخيل يتو ّقف عذاب املوتى يف
قبور ذوهيم وحتى ّ
الدار اآلخرة .شعرت بحزن مل أعرف له سببا ،وقال أخي :ملاذا
ال نزرع شجرة نخيل فوق القرب حتى ال ّ
نظرت
يتعذب أيب أبدا!ْ ،
إىل أمي فوجدت أهنا تفكّر كيف تر ّد عىل كالم أخي ثم انشغلت
بغسل املالبس.
تذكّرت بشوق تفاصيل يوم العيد املايض ،حني ذهبنا للمرة
مرت سوى بضعة أشهر عىل وفاة
األوىل لزيارته .مل تكن قد ّ
103
والدي .يف املقربة كنّا أول الواصلني ،كان هناك عدد كبري من
الصبية يلبسون مالبس العيد البيضاء اجلديدة ،كنا أنا وأخي
أصلحتها والديت لكنها كانت نظيفة وناصعة
نلبس مالبس قديمة
َ
البياض كأهنا جديدة.
تفرق الناس لزيارة ذوهيم املوتى .وجدت
بعد صالة العيد ّ
أحد أقاريب ،وكان يكربين بسنوات ،جيلس هبدوء جوار قرب والده
كأنه حيرس شيئ ًا ما ،ومل يكن يبذل جهدا ُيذكَر مثلنا إلظهار احلزن.
سألته ملاذا مل حيرضوا جريد النخيل لوضعه عىل قرب والده ،فقال:
ستحرضه والديت يف ما بعد .قلت له والديت حرضت مبكرا لزيارة
زوجها امليت فلامذا تتأخر والدته ،فكّر قليال ثم قال يل :والدتك
حترض للسنة األوىل ،ال بدّ أن ذكرى والدك ال تزال حية يف قلبها،
أما أ ّمي فهي حترض هنا منذ حوايل عرش سنوات ،ويف السنوات
األخرية مل تعد تذكر والدي كثريا ،لقد تضاعفت مسئولياهتا ،رغم
تزوجت لكن ال تزال هناك أخت أخرى.
أن أختي الكربي ّ
غرس أخي الذي يكربين بعام جريد النخيل فوق القرب،
ثم وقفنا معا نرقب والديت وهي تدعو لوالدي ومتسح الرمال
واحلىص فوق القرب.
سألت والديت هل ستذهب غدا مبكرا لزيارة والدي أم
ُ
ستذهب ّ
متأخرة مثل والدة الصبي الذي وجدناه يف املقربة يف
فسكت عن
العيد املايض؟ ،مل ترد والديت ورأيتها تبكي بصمت
ّ
الكالم.
كان الوقت قد ّ
تأخر .طل َبت منّا والديت أن نذهب لنخلد
104
إىل النوم حتى نستيقظ مبكرا ونذهب ألداء صالة العيد وزيارة
املوتى .لكننا مل نكن نرغب يف النوم ،وقال أخي :سننتظر معك
حتى تنتهني من غسيل املالبس.
لكن أمي قالت إن ذلك سيستغرق وقتا طويال وال داعي
لالنتظار.
طلب منها أخي أن تتوقف عن غسل بقية املالبس لتكملها يف
وقت آخر ،لكن أمي قالت إنه جيب أن تصبح كل املالبس املتسخة
يف البيت صبيحة العيد نظيفة وإال فإننا سنبقى بمالبس متسخة
حتى العيد القادم.
فكر أخي بصوت عال :ما دام بإمكاين اللعب طوال العام دون
أن تتسخ مالبيس فإن ذلك يستحق بعض التعب ،عارضا عىل
والديت مساعدهتا يف نقل املالبس التي فرغ غسلها لتعليقها عىل
حبل الغسيل ،لكن والديت طلبت منه أن يعيد الطواف يف البيت
بالبخور للتأكّد أن كل الشياطني قد خرجت.
كانت النار قد انطفأت يف املوقد فأعدنا إشعاهلا ثم نثرنا فوقها
البخور وأعدنا الطواف يف البيت .تذكرنا أننا مل ِّ
نبخر املخزن الكبري
الذي يقع يف الركن البعيد من الفناء وحتتفظ فيه والديت بمحصول
التمر الذي نجنيه من النخيل الذي تركه والدي .قلت ألخي ال
داعي ألن ّ
نبخره ،املخزن ميلء بالعقارب والفئران وليس املكان
املناسب لتقيم فيه الشياطني .ضحك أخي وقال :بالعكس لو كنت
مكان الشيطان الخرتت البقاء يف املخزن .يوجد متر كثري .كام إنه
بعيد عن أصوات اجلريان وشجارهم.
105
حيب الشيطان اهلدوء؟.
قلت ألخي :هل ّ
قال :نعم ،أمل تسمع بأهنم يقطنون دائام يف البيوت املهجورة
بعيدا عن الناس؟.
حيب الشجار!.
قلت :لكن الشيطان ّ
قال أخي :كيف عرفت؟.
قلت :حني تشاجر جارنا وزوجته قبل أيام بسبب أنه يعود
خممورا آخر الليل ويرضب األطفال قالت أمي إن الشيطان دخل
بينهام!.
ترسب منه هدوء غريب ،بدا لنا كأنه ال
حني فتحنا باب املخزن ّ
يمت بصلة إىل عاملنا الذي نعرف .مل جتعلنا صدمة اهلدوء اخلارق
ّ
الذي اخرتق عظامنا نرتاجع ،بالعكس شعرنا هبا تدفعنا إىل األمام.
كان املخزن خاليا ،مل َ ِ
ين بعد موعد قطع التمور ،ومتر العام املايض
سحبته والديت شيئا فشيئا وباعته لتغطي منرصفات حياتنا .عىل
األرض يف مؤخرة املخزن كانت هناك شمعة مضيئة تثري من
حوهلا دوائر رذاذية من الضوء .مل نندهش ،بدا لنا وجود الشمعة
متناغام مع اهلدوء الصاعق يف املكان ،ما لفت نظرنا أن خيطا من
الضوء كان يرتفع من الشمعة يف خط مستقيم إىل السقف ،بدا
ضوء املصباح الذي نحمل باهتا مقارنة بضوء الشمعة .اقرتبنا
منو َمني ،جلسنا حول الشمعة التي بدأ حجمها يزداد
منها وكأننا ّ
أصبحت مثل شجرة بيضاء
حتى احت ّلت نصف حجم املخزن،
َ
عمالقة ذات فروع ترامت برسعة يف كل االجتاهات ،تقدّ م أخي
106
ليتسلق الشجرة دون أن يكرتث إلحلاحي له بأن نغادر املكان،
تب ْعتُه بدافع اخلوف من الرتاجع وحدي ،مدّ أخي الذي اختفى
جسدُ ه داخل أغصان الشجرة البيضاء يدَ ه وسحبني إىل أعىل،
يف اللحظة التي ارتفع فيها جسدي سقطنا نحن االثنان داخل
حفرة من الضوء كان خيط الضوء املنبعث من الشمعة يتد ّفق فيها
هبدير مثل السيل ،جرينا لنبتعد عن هدير الضوء فوجدنا أنفسنا
يف مكان غريب يشبه مدينة خرجت من أحد األحالم .حولنا
جتولنا يف الشوارع
شاهدنا صفوفا من البيوت املعدنية الصفراءّ ،
اخلالية ،كل يشء ثابت يف مكانه ،حتى أشجار النخيل املزروعة
عىل جوانب شوارعها كانت كلها تبدو وكأن عصا ساحر عمالقة
أوقفت حركتها وأوقفت الزمن من حوهلا .مل نر كائنا يميشَ ،
دخ ْلنا
إىل أحد البيوت ،كل يشء مرتّب ونظيف ،بيوت رحبة يترسب
إليها الضوء من خالل نوافذ النحاس .مقاعد صغرية وأراجيح
تفحصت
منصوبة لألطفال يف األفنية وأكوام من األلعاب حوهلاّ ،
كومة األلعاب بدافع الفضول فوجدت شيئا غريبا ،حتى أنني
رصخت دون أن أشعر :وجدهتا!.
أشار يل أخي بغضب أن أصمت .عثرت عىل لعبة فقدهتا منذ
شهور وقلبت البيت كله بحثا عنها دون جدوى .لعبة بالستيكية
خرضاء اللون أهداها يل أحد أقاربنا :دمية يف صورة جندي يرقد
تأهب إلطالق النار وتغطي رأسه قبعة عسكرية ضخمة
يف وضع ّ
تشبه أطباق السعف التي تُستخدم حلفظ اخلبز .حني تس ّلمت تلك
اهلدية ّقررت حني أكرب أن أعمل يف اجليش.
107
ضحك رجل مس ّن من أقارب والديت كان يزورنا يوم عيد
األضحى حني سمع بأمنية حيايت اجلديدة وقال:
هناك ال يعمل أحد!.
قلت له :سأقرأ ليال وهنارا حتى أنجح وأحقق تلك األمنية!.
ضحك العجوز احلكيم وقال كالما مل أفهمه :ربام لن حتتاج
لكل ذلك!.
وجدت اللعبة وسط جمموعة من الدمي النحاسية ،ن ّظفتها من
الرتاب الضوئي العالق هبا واحتضنتها بقوة .قبل شهور حني مل
نعثر هلا عىل أثر ،اهتمت مجيع الناس برسقتها .اهتمت أخي وجارنا
الصغري الذي كان حيرض أحيانا برفقة أمه ،قالت أمي :الحاجة
بأحدهم لرسقة جنودك البالستيكية.
وقال الرجل املس ّن حني زارنا يف املرة التالية ل ُيحرض ألمي شيئا
ما :ما إن خترج إىل الشارع حتى جتد كثري ًا من هذه الدمى التي ال
تصنع شيئا سوى إزعاج الناس!.
بقوة حني سحبني أخي لنواصل جتوالنا
كنت أحتضن لعبتي ّ
مررنا بحوانيت مجيلة مليئة بالبضائع
يف املدينة التي مل نر فيها برشاَ .
امللونة وبمحالت الفواكه واخلرضوات .تبدو الفواكه من عىل
البعد يانعة كأهنا ال تزال يف أشجارها ،لكن حني اقرتبنا منها
يترسب إىل قلبينا،
قوته عرش درجات عىل مقياس هذا احللم اجلميل لنبقى نطفو فيه
إىل األبد .حني أخلدت اجلميلة إىل النوم ،انقطعت فجأة نغامت
الطنبور ،نام العامل كله ،بدت حتى الصحراء نفسها كأهنا وجدت
يف تلك اللحظة كغطاء سحرى لنوم اجلميلة .مل يكن يصدر عنها
أي صوت أثناء نومهاّ ،
كأن العامل نفسه توقف عن التنفس ،كنت
الوحيد الذي بقي مستيقظا فيام صوت البص يزأر يف سكون
الصحراء مثل أسد هزمه اجلوع .كان القمر احلزين ال يزال واقفا
يف النافذة ،ومن خلفه صف طويل من الكواكب يف انتظار خبز
الوجه النائم الساحر.
وحتى ال أشعر بالسأم ،ألنني ال أخلد أبدا للنوم أثناء السفر
حتى وإن كنت أسافر يف قارب هيدهده املوج وضوء القمر،
فكرت يف ممارسة هوايتي يف قراءة أحالم من خيلدون للنوم حويل.
مل أر شيئا يف البداية حتى حسبت أن سحر هذه اجلميلة ع ّطل كل
مواهبي يف اقتحام ذاكرة النائمني ،فجأة رأيت اهلواء داخل البص
مليئا بأنفاس أحالمها .ال بدّ أن للجميلة النائمة سحرا جيعلني ال
84
أقرأ أحالم النائمني يف ذاكريت مثلام كنت أفعل ،بل أشاهد كل يشء
معروضا أمامي يف اهلواء.
رأيت وجوها معلقة يف الفضاء مثل النجوم ،رأيتها جتلس مثل
امللكة الكنداكة فوق عرش من النور ،ثم بدأت شالالت الضوء
تتدفق من عرشها تعرب مثل سيل من النور فتهرب أمامها جيوش
الظالم ،فيصبح العامل كله كتلة من الضوء .ال بد أن اجلميلة
انتقلت فجأة إىل نوم عميق فقد اختفت أحالمها من اهلواء،
رغم أن بقية خيوط شالالت ضوء عرشها كانت ال تزال تيضء
العامل .رأيت أحالم الرجل الذي أحرض حلوى الطحنية للجميلة،
دهشت ألن أحالمه يغلب عليها اجلشع ،كان جالسا بلحية طويلة
تالمس األرض ،يف متجر ضخم مكدس بالبضائع من كل نوع،
كل ما حيلم به كان معروضا للبيع ،حسبته من حادثة الطحنية
يملك قلبا كبريا حتى أنه اختلس نقود صديقه بدافع احلب ،لكن
أحالمه أوضحت أنه يمكن أن خيتلس نقودا لدوافع أخرى .رأيت
أحالم الفتى الصغري الذي كان يعزف عىل الطنبور ،وجدت فيها
بقية الصور التي ضاعت من أحالم اجلميلة حني غرقت يف جلة
النوم العميق .الوجوه املتناثرة مثل نجوم تائهة يف الفضاء ومواكب
النور ،التي تصعد يف رحلتها إىل أبد السامء .رأيت أحالم رجل
جيلس يف مؤخرة البص ،عرفت من أحالمه أنه لص فقري ال جيد
حتى ما يسدّ رمقه .كان يرسق يف حلمه قرصا منيفا لرجل يملك
ُسلطة وماال .كان اللص جالسا أرضا حييص أكداسا من العمالت
الصعبة التي عثر عليها يف القرص .متنّيت أال ترشق الشمس أبدا،
سيتعي عليها إيقاظه بأشعتها
أن تضيع يف الفضاء وتنسى أي عامل
ّ
85
احلارقة .وأن أظل إىل األبد جالسا يف أطياف أحالم هذه امللكة.
هبرين بركان ضوء الفجر املتدفق يف املكان .حسبت أن
فجأة َ
الضوء قادم من اخلارج ،حيث العامل بدأ يصبح أشبه بالفضة
وصف
الذائبة ،وتراجع إىل الفضاء القمر الواقف يف النافذة
ّ
الكواكب من خلفه ،قبل أن أكتشف الفجر الصاعد من أحالم
امللكة النائمة ،مواكب من النور وسيوال من البرش التي هتدر يف
الشوارع ،يف الرحلة الطويلة نحو الشمس.
86
أبـــي
أصبحت كبريا ومن ح ّقك اآلن أن تزوره.
قالت أ ّمي :لقد
َ
قالت ذلك وكأهنا تتحدّ ث عن شخص ال تستطيع وصف
صورته ،مل أفهم مل جعلتني نربات صوهتا أشعر بأهنا كانت تتحدث
عن شخص مل يسبق هلا أن رأته مطلقا.
حني تراه ،قالت :صافِ ْحه بأدب.
ع ّل َمتني كيف جيب أن أصافحه بأدب ،جيب أن ينحني جسمي
إىل األمام قليال وتقرتب شفتي من يده :إن سألك عني ،قالت ،قل
له نحن بخري وأننا ال نحتاج إىل أي يشء.
ارتديت يف الصباح جلبابا أصفر اللون خاطته أمي بنفسها،
وض َعت يل حول عنقي شاال من قامش قطني بارد امللمس.
كان الوقت شتاء ،والرياح الباردة تص ّفر يف أزقة القرية.
سوف مترض ،قالت يل وهي تصلح من وضع الشال حول
رقبتي :جيب أن حتافظ عليه دائام حول عنقك حتى ال مترض.
ثم وض َعت عىل رأيس طاقية بيضاء من الصوف وأعطتني
87
نقودا تكفيني إلجيار احلافلة التي سأستق ّلها.
حني أصبحت جاهزا للخروج ،أوقفتني وأحرضت مبخرا
والكمون األسود
به قطع مجر محراء ألقت فيها حبات من البخور
ّ
ثم جعلتني أستنشق الدخان ،فيام تضع هي يدها عىل رأيس وتقرأ
بعض آيات القرآن ثم دارت باملبخر ثالث دورات حول رأيس.
الكمون األسود وهي تتقافز
كنت أحب رائحة احرتاق حبات
ّ
فوق النار املشتعلة وكأهنا حتاول اهلروب من مصري حمتوم.
كررت يل قوهلا:
حني و ّدعتني أمام باب البيت ّ
قل له نحن بخري وال ينقصنا يشء ،ثم ترددت قليال وقالت :إن
سألك كيف نعيش ال تقل له شيئا عن حياكة الطواقي واملالبس أو
عن عملك يف الصيف يف املزارع ،قل له إن خالك يرسل لنا ماال
نعيش منه.
وقفت قليال يف انتظار احلافلة ،كان العامل قد بدأ
يف الشارع
ُ
يسرتد حياته وروائح احلياة تعبق من داخل البيوت ،رائحة دخان
نار جريد النخيل التي تعد النسوة طعام اإلفطار عليها ورائحة
اخلبز الساخن.
مدرستي التي ستفتح أبواهبا بعد أيام ،واملشوار
تذكّرت َ
الطويل الذي أقطعه إليها ذهابا وإيابا كل يوم ،وفكرت:
هل سيهديني أيب محارا؟
تو ّقف السائق مرت ّددا حني رفعت يدي وسألني قبل أن يتو ّقف
88
متاما:
هل معك نقود يا فتى؟
رفعت يدي بالورقة النقدية التي كنت ال أزال أقبض عليها
بأصابعي ،فتبسم السائق وأوقف السيارة وسط عاصفة صغرية
من الصفري والغبار.
جلست يف اخللف .كان للحافلة مقعدان طويالن متقابالن
جيلس عىل كل مقعد مخسة ركّاب ،مل أتبني مالمح الركّاب اآلخرين
جيدا بسبب الربد ،كان اجلميع ُي َغطون وجوههم.
سمعت فقط أحدهم يتحدث مع جاره ،كان يبدو وكأنه
يتحدث إىل نفسه بصوت عال:
لقد ّقررت أال أغامر بالزراعة هذا العام ،يف العام املايض
بعت قطعة أرض ورثتها عن والدي
خرست كل يشء ،ولوال أين ُ
ألسدّ د ديون البنك لقضيت بقية عمري يف السجن.
ر ّد عليه صوت مبحوح:
أفضل السجن عىل أن أجلس
وماذا نفعل؟ نجلس يف البيوت؟ ّ
يف انتظار مساعدة من شخص ما.
ع ّلق الرجل األول:
يف هذا الزمان ال يصلح أن تكون شجاعا ،جيب أن تكون حذرا
وإال واجهت املتاعب!.
استغرقتني أحالمي فتباعدت أصوات الرجلني ومل أعد أسمع
89
أو أرى شيئا سوى تفاصيل صورة استقبال أيب يل واحلامر الذي
سأعود به.
البد أن والدي سيكون كريام معي .مل َيرين منذ مخس سنوات.
لديه أطفال من زوجته األخرى ،كام قالت يل أمي .لكنني ابنه
األكرب ،سمعت يف القرية كثريا أن االبن األكرب يكون له وضع
عيل اسم والده؟ ال بدّ أنه حي ّبني مثلام كان حيب
خاص ،أمل يطلق ّ
والده وإال ملا أطلق عىل اسمه.
كنت أفكر كيف سأعود ومعي احلامر .لن أمتكّن بالطبع من
العودة باحلافلة .سيكون الطريق طويال باحلامر لكنه سيكون
ممتعا جدا .احلافلة تعرب برسعة .ال تستطيع رؤية العامل من حولك
بصورة أفضل مثلام حيدث من عىل ظهر احلامر .السيارة تعرب برسعة
فتختلط مشاهد األشياء ،وحتى حني تبطئ سريها تغطي كل يشء
حوهلا بالغبار .كأن الغرض من الرسعة يف التنقل بالسيارة هو أن
تدفن كل العامل حولك وتدفن نفسك أكثر داخل نفسك وخطط
حياتك.
شعرت بفرح إضايف ،سأمتكن من توفري مبلغ صغري .املال الذي
جيب أن أدفعه لقاء أجر العودة باحلافلة .سأعيده إىل أمي لكنها لن
تأخذه عىل األرجح ،سأشرتي شيئا يوم السوق القادم حني أذهب
لرشاء مستلزمات البيت .فكرت ماذا أشرتي .قلم جديد ،حذاء
خفيف أستخدمه يف الصيف حني أذهب للعمل يف املزارع ،ألن
حذائي القديم أصبح باليا .لكن أمي قد ال تسمح يل بارتدائه .يف
ترص أمي أن أرتدي احلذاء املحيل
الصيف تكثر العقارب لذلك ّ
90
املصنوع من جلد األبقار .إنه حيمي القدم من العقارب ومن
الشوك الذي ينترش يف كل مكان.
قال صاحب الصوت املبحوح :أفكّر يف العودة للعمل يف
مصلحة الربيد ،لقد باعتها احلكومة لبعض األشخاص ورشعوا
يف استثامرها بصورة حديثة.
قال املزارع الذي أعلن إرضابا عن العمل والذي رغم أن
وجهه كان مغطى متاما لكنني ختيلته مبتسام بخبث:
لن يعيدوك إىل العمل أبدا .أنت ال تعرف شيئا عن املخرتعات
احلديثة .من يعمل معهم جيب أن يعرف كيف يتعامل مع جهاز
الكمبيوتر وأنت بالكاد تستطيع فتح جهاز الراديو ،كام أهنم ال
حيتاجون إىل عامل كثريينُ .يقال إن هذا الكمبيوتر ينجز يف حلظة
واحدة عمل مائة رجل!.
هذه ختاريف ،قال صاحب الصوت املبحوح ،خت ّيلته مبتسام
بكآبة .أنا أعرف عميل جيدا وأؤ ّديه بصورة مثالية .أختم الرسائل
وأوزعها يف احلقائب الصحيحة ،وحتى حني ال يكون هناك حرب
ّ
لألختام املعدنية أصنع حربا من الصمغ والكربون .ال تستطيع آلة
صامء تفقد عقلها حني تنقطع الكهرباء أن تفعل ذلك.
أرضب عن العمل للمرة األوىل بصوت
ضحك املزارع الذي َ
عال .أصابني ارجتاج صوت ضحكته بخيبة أمل ،ال أدري مل
خت ّيلت لضحكه شكال خمتلفا .قال:
انتهى عهد الرسائل التي ختتموهنا بأختامكم احلمقاء .أمل تسمع
91
زرا عىل الكمبيوتر فيقرأ الشخص
بالربيد اإللكرتوين؟ تضغط ّ
الذي أرسلت إليه الرسالة يف اجلانب اآلخر من العامل رسالتك
يف نفس اللحظة ويصلك ر ّده قبل أن تكمل كوب الشاي الذي
ترشبه!.
املرص عىل العمل مل يستسلم بعد :هذه أوهام ،كيف
الرجل
ّ
يمكنني أن أثق يف أن رسالتي تنقلها آلة صامء يمتلئ جوفها
بالكهرباء دون أن حتذف منها شيئا أو تنقلها جلهة أخرى بدال من
اجلهة التي أقصدها .وما عيب رسالة أحتفظ هبا يف جيبي وأبرزها
عند احلاجة وأحتفظ هبا يف حقيبتي تذكارا من شخص عزيز،
أشمها عبق زمن
تتغي رائحتها بفعل الزمان ،أتذكّر حني ّ
وحني ّ
آخر تعيدين الرسالة إليه.
تذكّرت قول أمي :ال تنزعج إن مل يستقبلك بو ّد .إنه أب طيب
رغم حرصه أحيانا عىل إظهار عكس ذلك.
ر ّددت العبارة يف رسي حتى اقتنعت هبا :إنه أب طيب ،إنه أب
طيب.
فكرت يف محاري الصغري .قد أمحل معي إىل املدرسة أحد
أصدقائي ممن يمشون إليها عىل أقدامهم مثيل .لن أفعل طبعا
مثل ذلك الصديق الذي َي ُض إىل املدرسة عىل ظهر محار كسول
يسري خطوة إىل األمام ثم يسرتيح قليال قبل أن يستأنف خطوة
أخرى .زمالئي يقولون إن احلامر ليس كسوال لكن صديقي هو
92
الكسول .ال يطعم احلامر جيدا .يسري احلامر يف البداية برسعة ثم
تنفد قواه حتت ثقل وزن صديقي البدين والذي حني جيد أنه ال بدّ
أن يتخلص من بعض األشياء التي حيملها حتى خيفف الوزن عىل
احلامر يمسك جيدا بإناء طعام اإلفطار ويلقي أرضا بحقيبة القامش
التي حيمل فيها الكتب املدرسية!.
يتعمد عدم إطعام
صديق آخر يفرس األمر بأن صديقنا الكسول ّ
محاره حتى يصل كل يوم ّ
متأخرا ،ألنه بسبب عدم حبه للمدرسة
ال يتعجل الوصول إليها!.
لن أفعل مثله ،سأعتني بإطعام محاري حني أخرج عرصا
لرعي املاعز سأصحب محاري معي للرعي .سأمحل طنبوري معي
وأجلس بعيدا أراقب املاعز واحلامر وأغني حتى تغرب الشمس.
ويف الصيف حني أذهب للعمل يف تسميد أشجار الفواكه يف املزارع
سآخذه معي ليأكل من احلشائش التي نزيلها من حتت أشجار
املوالح قبل أن نضع زبل البهائم الذي ُيستخدم كسامد حميل.
كان املزارع النشيط ال يزال حياجج برغبته العودة ليعمل
يترسب إىل أذين مصحوبا بزعيق الريح الراحلة
موظفا ،صوته ّ
فوق حقول القمح .ختتلط مع صوت أمي:
إنه أب طيب ،إنه أب طيب.
93
ال حاجة بنا لرجال الرشطة
املدرس املتقاعد ساقا فوق ساق وهو جيلس
يضع أبو احلسن ّ
متر من أمامه يف عجلة .قبل
عىل صخرة أمام بيته يرقب الناس التي ّ
أيام حصل عىل معاشه .املعاش قليل ولن يكفي لكي يبقى عىل
سيضطر للكتابة إىل ابنه األكرب الذي هاجر منذ سنوات
قيد احلياة،
ّ
ليساعده ببعض املال .اليشء الوحيد الذي جيعله يشعر ببعض
تفرغه لنزاع عىل قطعة أرض صغرية مع جار هلم.
السعادة كان هو ّ
قبل أشهر ق َطع اجلار غابة صغرية يف األرض املتنازع عليها وباعها
ملصلحته.
يضحك األستاذ أبو احلسن قائال بصوته اجلهوري :سأجعل
هذا التافه يكره اليوم الذي ُولد فيه!.
يضحك بدون مناسبة أثناء كالمه ويتحدّ ث مع الناس
واجلريان وكأهنم تالميذ :هذا صحيح! أنت تتحدّ ث بلغة واضحة
وصحيحة ،لكن ينقصك بعض الثقة بالنفس ،يضحك بدون
لدي تلميذ يعاين من نفس مشكلتك ،حني
سبب ،ويواصل :كان ّ
حياول رشح أمر ما يزيد األمر تعقيدا بسبب لغته السيئة وهتاونه
94
يف استخدام الكلامت املناسبة ،يضحك بصوت ٍ
عال ،يا هلا من
مهزلة! إنه كسول جدا! يستخدم أول كلمة ختطر عىل باله ،حتى
وإن مل يكن هلا عالقة بام يريد قوله ،يضحك مرة أخرى ويسحب
نفسا من سيجارته ويقول :يف زماننا ما كان يمكن ألحد أن
حتولت املدارس إىل متاجر تبيع للناس
يتساهل يف أمر كهذا ،اآلن ّ
أي يشء إال العلم الصحيح ،يضحك ،وحني يقول شخص ما
احلقيقة ،يرسلون إليه خطابا من سطرين ،كأهنم مل يتذكّروا أنه بلغ
س ّن املعاش إال حني بدأ لسانه ينطق يف االجتاه املعاكس ،يضحك
أي تالميذ هؤالء ،طلبت من ولدي الذي
بصوت جهوريّ ،
يدرس يف مدرسة ثانوية أن يكتب يل عريضة قبل أيام لنقدّ مها إىل
مدير الرشطة ،حول األشجار التي قطعها هذا البائس وباعها ،لقد
كتب رسالة تصلح حلبيب ،يضحك بصوته األجش ،كيف لنا أن
نخاطب مدير الرشطة بعبارة تقول :نحن بخري وما بنا غري الشوق
لكم ،إهنا مهزلة! كيف يشتاق أحدهم لرجال الرشطة؟! ،ال بدّ
أنه يشتاق أيضا الرتكاب جريمة ما! يضحك بصوته اجلهوري،
ولدي ليس سيئا ،لكن نوع التعليم الذي يتلقاه هو املسئول عن
ذلك ،يضحك بصوت أجش ،وحني يقول هلم شخص ما احلقيقة
حييلونه للصالح العام ،كأن مشاكل العامل كلها ستحل جمرد أن
أجلس أنا أمام بيتي دون عمل!.
ينتهز أحد اجلريان فرصة أن أبو احلسن انشغل بجذب نفس
طويل من سيجارته وقال :وهل قامت الرشطة بحل املشكلة؟.
ضحك أبو احلسن وقال :تس ّلم مدير الرشطة العريضة
95
وقال إنه سريي ما جيب عمله ،هل جيب أيضا أن نع ّلمهم كيف
يقومون بعملهم ،مضت عدة أيام ومل حيرك ساكنا ،هل رسقة غابة
عمل مرشوع؟ يضحك بصوته اجلهوري ،ال بد أن تلك املقولة
ارس ْق شيئا صغريا تقبض الرشطة عليكِ ،
صحيحةِ ،
ارس ْق شيئا
كبريا جدا حترسك الرشطة! لكن هذا الرشطي يغامر بمستقبله،
يضحك بصوت أجش ينفجر يف اهلواء يف دوائر زلزالية مثل الرعد:
سريى كيف أتعامل مع إمهاله ملصالح املواطن ،سيدفع ثمنا باهظا،
سأشكوه إىل رؤسائه وسأطلب نقله إىل نقطة يف الصحراء حيث
لن جيد أحدا يك ّلمه سوى اجلن ،أحد تالميذي األوفياء وصل
إىل رتبة اللواء ،ال أدري كيف استطاع الوصول إىل ذلك هبذه
الرسعة ،إنه صغري جدا ،يضحك بصوته األجش ،أتذكر كيف
كان مشاغبا يف الفصل وكان يرسق أحيانا ،وضع يده عىل جبهته
كمن يتذكر شيئا وقال :ليس أحيانا ،لقد رسق عدة مرات ،كان
يرسق األوراق واألقالم وثامر الدوم من زمالئه ،ومرة جترأ ورسق
جرس املدرسة نفسه ،يضحك ،يا له من مشاغب عنيد ،استدللنا
عىل اجلرس من رنينه ،بعد أن وصل إىل البيت مل يتو ّقف عن قرع
حضنا الستعادته ،أوقف إخوته الصغار يف صف
اجلرس حتى َ ْ
مدريس مستخدما اجلرس ،وكان جيلدهم برفق عىل أخطائهم
الصغرية أثناء الطابور ،غريب أن مشاغبا مثله كان حياول تطبيق
نوع من النظام يف بيته ،يضحك ،وفجأة يصبح لواء يف الرشطة،
يا هلا من مهزلة! ال بدّ أن أحد أقاربه ساعده للوصول إىل هذا
املكان ،يضحك بصوت جهوري ،لن أقبل أية مساومة يف مسألة
الغابة ،إهنا مسألة مبدأ ،سأطلب إحضار كل احلطب الذي قطعه
96
هذا املخادع ،قطعة حطب واحدة ناقصة ستعني مشكلة كبرية
وسيذهب مدير الرشطة إىل الصحراء ،سيذهب مدير الرشطة إىل
الصحراء ،يضحك ويردد كلمة الصحراء عدة مرات كأنام ليوحي
بأن له مقدرات حتيل السهول اخلرضاء إىل صحاري جرداء.
يستغل جار آخر صمته املفاجئ ويقول :لكن احلطب تم بيعه
كله!.
سيكون ذلك من سوء حظه ،أعرف شخصا آخر يعمل يف
مصلحة املساحة ،كان تلميذا نظيفا هيتم بمالبسه ونظافة جسمه،
الوحيد الذي كان يستحيل أن جتد يف شعره قمال ،بقية التالميذ
كان يمكن مشاهدة القمل يسري يف رؤوسهم يف خطني أشبه
بشوارع األسفلت ،يضحك بصوته األجش ،لكنه كان سيئا يف
دروسه ،،يضحك ،جيهل متاما كيف يتعامل مع األرقام ،ال حيفظ
شيئا وال حتى بالعصا ،لقد أسديت له معروفا كبريا ،يضحك
قائال بحيث بدت العبارة جزءا من بقايا ضحكته التي تناثرت يف
اهلواء خملفة يف املكان شعورا بالفوىض :يا له من مغفل! كنت ال
أرضبه أبدا حني يرتكب األخطاء يوميا ،كنت أقول له :ال فائدة
من رضبك ،الرضب يف امليت حرام! لو كان يو ّد إحراز تقدّ م يف
مستواه لكان جديرا به أن يطلب منا رضبه طوال اليوم! اآلن حان
الوقت لريد يل هذا اجلميل ،لقد كان نحيال جدا وما كان بوسعه
حتمل الرضب! مرة واحدة أقدم مدرس آخر عىل رضبه ،هل
ّ
تبول
تعرفون ما فعل؟ يا للمهزلة! يضحك بصوت أجش :لقد ّ
يف ثيابه! كانت ستحدث كارثة ،اآلن أحتاجه ،ال أستطيع أن أذكّره
97
بامضيه لكنني قطعا سأضحك حني أراه وقد أصبح مسئوال كبريا،
سأتذكّر لوحدي كيف كان موقفه سيئا والسائل الساخن يتدفق
من ثيابه! ال أدري ما هي العالقة بني البول ومصلحة مهمة مثل
املساحة ،أصبحت كل األشياء قذرة!.
يضحك ،ال أعرف كيف استطاع النجاح وأن يصبح موظفا
مرموقا يف مصلحة املساحة! ال بدّ أنه يعرف شخصا ما ساعده يف
الوصول إىل تلك الوظيفة! سأطلب منه أن يعيد مسح هذه األرض
ويعيدها إ ّيل أنا صاحبها احلقيقي ويذهب معي إىل املحكمة حتى
يدفع يل هذا البائس تعويضا عن السنوات التي استغل فيها هذه
األرض دون وجه حق .إن مل يتعاون معي قد اضطر لرواية قصة
البول تلك!.
أما قضية بيع حطب أرض متنازع عليها فهذه قضية جنائية،
إهنا رسقة يف وضح النهار ،وإذا مل يستطع مدير الرشطة حل هذه
املشكلة فام فائدة وجوده هنا ،ليس لدينا مشاكل كثرية يف هذه
القرية ،ال يوجد لصوص سوى لص واحد تقاعد عن عمله بسبب
الشيخوخة وبسبب فقدان أسنانه يف حادث هنري .ال تتشاجر
النسوة هنا ألن معظمهن مسنّات ،فقدن الرغبة يف الشجار،
يقضني معظم الوقت يف النوم ويف وضع السعوط يف أفواههن،
يامرسن فقط أحيانا ،بسبب امللل ،نميمة طيبة يستعدن فيها ذكرى
بعض الشجارات العادية يف القرية .من يريد أن يرشب اخلمر يغلق
يتعي علينا
باب بيته عليه ،فلامذا جيب أن يكون هنا رجال رشطة ّ
أن ندعوهم بني احلني واآلخر لتناول الطعام ألن واجب الضيافة
98
يفرض علينا ذلك.
إن كانوا ال يستطيعون منع بيع غابة صغرية فلامذا يبقون؟ إن
رحل رجال الرشطة فإن باستطاعتي أن أجعل آخر لص يف القرية
تعهد بعدم العودة إىل الرسقة حتى وإن شعر باجلوع .إنه
يو ّقع عىل ّ
تعهده ،لو أنه جاء إىل املدرسة ملا تع ّلم الرسقة
رجل طيب أثق يف ّ
وربام ألصبح رجل رشطة هو نفسه ،يستطيع اللصوص معرفة
بعضهم البعض!.
يضحك بصوته اجلهوري ويقول :سيخطئ ذلك الشاب
الذي أصبح مديرا للرشطة ،أعرف رجال يف رتبة اللواء ،كان أحد
أفضل تالميذي ،سأخربه باألمر وعندها سيجد مديرنا نفسه يف
أكرر الصحراء ،بعض البؤساء يفيدهم البقاء هناك ،لن
الصحراءّ ،
جتد أحدا يكلمك ،تضطر أن تكلم نفسك ،تتأمل العامل ،وحتيص
ومهريب اإلبل الذين ال تستطيع إلقاء القبض عليهم،
النجوم،
ّ
إهنم مسلحون جيدا بأسلحة حديثة وليست مثل هذه البنادق
القديمة التي ور َثتها حكومتنا عن االنجليز ،حني تكون وحيدا
يف الصحراء ،هناك أيضا فوائد ،هتبط عليك حكمة لن جتدها ولو
بقيت مائة عام وسط اآلخرين ،سيكون حمظوظا ،لكنه سيفتقد
الغذاء اجليد وسهرات الرشاب الرسية ،ال يوجد يف الصحراء من
يصنع اخلمور حتى يذهب رجال الرشطة ملصادرهتا واستخدامها
ألنفسهم .بإمكانه أيضا تع ّلم صناعة اخلمور البلدية بنفسه ،األمر
بسيط للغاية ،كنا نفعل ذلك قبل سنوات حني كنا نعمل يف مدرسة
صممنا بأنفسنا جهاز تقطري بدائي لكنه ف ّعال ،أذكر صديقي
نائيةّ ،
99
صمم اجلهاز ،كان ذلك باعرتافه العمل الوحيد املفيد الذي
الذي ّ
قام به طوال حياته .كان أحدنا يذهب إىل سوق القرية األسبوعي
مرة يف الشهر لرشاء بلح اجلاو ،وهو رخيص السعر ألن طعمه
رديء ،كأنك تأكل قطعة خشب معطونة يف الصمغ ،لكنه جيد
لصناعة اخلمر .حيرض لنا الصبية املاء بالربميل من النهر .هناية العام
اكتشفنا ،أننا رشبنا عرشين برميال من اخلمر الرديء!.
يقاطعه أحد اجلريان هامسا :انظر من جاء هناك ،إنه مدير
الرشطة!.
وهب أبو احلسن واقفا كمن لدغته عقرب
مدير الرشطة،
ّ
مناديا عىل ولدهِ :
يصح أن
أحض كرس ّيا يا ولد ملدير االرشطة ،ال
ّ
جيلس معنا عىل األرض ،هؤالء الرجال ْ
يشقون طوال اليوم حلفظ
األمن فكيف نجعلهم جيلسون عىل األرض .اجلس يا سيدي،
زيارتك مثل وجودك يف هذه القرية أشياء تسعدنا ،انظر لقد هجر
كل اللصوص القرية بفضل جهدك ،مل يبق سوى واحد فقد حتى
أسنانه ومل يعد مصدر خوف ،لوال وجودك يا سيدي حلرض مزيد
من اللصوص ،هذه إحدى مشاكل طريق األسفلت هذا ،إنه دعوة
للصوص للتجول بسهولة من مكان إىل آخرِ .
أحض القهوة يا
جيهزوا طعام غداء يليق بمدير الرشطة ،اجلس
ولد ،وأخربهم أن ّ
يا سيدي.
لكن مدير الرشطة رفض أن جيلس ،قال إنه مشغول ويريد
فقط إخطار أبو احلسن أنه اتفق مع جاره أن يتنازل له عن نصف
100
احلطب الذي ق َطعه من الغابة يف األرض املتنازع عليها.
إهنا العدالة بعينها يا سيدي ،ويضحك بصوته األجش ،انظر
حصلت عىل عود واحد من هذه
لوال وجودك يف هذه القرية ملا
ُ
الغابة وأنا الذي أعيش بمعاش قليل بعد أن ع ّلمت آالف التالميذ،
مدرسني وبعضهم يف مصلحة الغابات .لنح ّيي
بعضهم يعمل اآلن ّ
هذا الرجل يا إخواين ،لوال وجوده ألصبح عدد اللصوص يف هذه
القرية ضعف عدد اآلخرين ،و َلتشاجر اللصوص حول من يرسق
فالن.
مىض رجل الرشطة يف طريقه بخطوات نشيطة وواثقة ،ع ّلق
أحد اجلريان قائال :ال يبدو كشخص يسري إىل الصحراء!.
وقال جار آخر :تعجبني خطواته النشيطة املستقيمة كأنه عود
من اخلشب ،أشعر باحلرسة منذ أن أصابتني آالم الظهر مل أعد
أستطيع امليش إال بعكّاز!.
قال أبو احلسن :هل تشكو من آالم يف ظهرك؟ سأخرب أحدهم
متخصصا يف العظام ،كان أحد تالميذي،
ليساعدك ،أعرف طبيبا
ّ
كان مهمال يف منظره يرتدي دائام مالبس قذرة وينتعل حذاء
مثقوبا ،لكنه كان جيدا يف احلساب ،كان سيئا يف املواد األخرى
حتى أنني دهشت كيف متكّن أن يصبح طبيبا ،ال بدّ أن أحد
معارفه ساعده يف ذلك...
101
الشيطان وعسكري البالستيك
عشية عيد الفطر كنا نتح ّلق حول والديت يف الفناء وهي تغسل
كومة من املالبس عىل ضوء مصباح الزيت ،سمعنا صوت هنيق
محار يمزق صمت الليل .قال أخي :إنه محار جارنا سيد ،وصمت
قليال قبل أن يتذكر شيئا :هذا احلامر معتاد عىل قطع رباطه
واالعتداء عىل مزارع اآلخرين ،ال بد أن شخصا ما يرضبه اآلن!.
قالت أمي :هذا ليس محارا ..إنه شيطان!.
قلت :أال ُتبس كل الشياطني يف رمضان؟
قالت أمي :نعم ،لكن مساء اليوم األخري يف رمضان ُيعاد
إطالق كل الشياطني.
شعرت باخلوف ،سأبدأ بالذهاب إىل املدرسة قريبا ،ال مشكلة
صباحا ،سأذهب مع أخي ،لكن عند العودة جيب أن أعود وحدي
ألنني سأغادر املدرسة مبكرا وسأقطع طريقا مليئا بأشجار كثيفة،
سمعت من أخي أن الشياطني تسكن فيها.
حكاية الشياطني جعلت أمي تتذكّر شيئا فتو ّقفت عن غسيل
102
املالبس ريثام تعدّ اجلمر يف موقد صغري من الفخار لتطلب من
أخي تبخري البيت كله لطرد الشياطني.
قالت :مفروض أن نطلق البخور جمرد غروب شمس اليوم
األخري يف رمضان!.
عدنا بعد طرد الشياطني التي الحقها أخي حتى الشارع وهو
يشتمها بألفاظ قبيحة ،ذك ّْرته أن أمي من َعتنا من استخدام تلك
األلفاظ ،فقال يل إنه مل يسمع أمي ّ
حتذرنا من استخدامها ضد
الشياطني.
بعد أن فرغنا عدنا لنتح ّلق حوهلا ،أوصتنا يف حسم أن نبدو
عند زيارة قرب والدي يف مظهر حزين ونقرأ الفاحتة عىل روحه ثم
نغرس جريد النخيل فوق القرب.
سألت والديت نفس السؤال الذي سأله أخي العام املايض:
ملاذا نغرس جريد النخيل فوق قرب والدي؟ ،فقالت :إن هذه عادة
قديمة ،حيمل الناس يف أيام األعياد جريد النخيل ويضعونه عىل
جتف أوراق النخيل يتو ّقف عذاب املوتى يف
قبور ذوهيم وحتى ّ
الدار اآلخرة .شعرت بحزن مل أعرف له سببا ،وقال أخي :ملاذا
ال نزرع شجرة نخيل فوق القرب حتى ال ّ
نظرت
يتعذب أيب أبدا!ْ ،
إىل أمي فوجدت أهنا تفكّر كيف تر ّد عىل كالم أخي ثم انشغلت
بغسل املالبس.
تذكّرت بشوق تفاصيل يوم العيد املايض ،حني ذهبنا للمرة
مرت سوى بضعة أشهر عىل وفاة
األوىل لزيارته .مل تكن قد ّ
103
والدي .يف املقربة كنّا أول الواصلني ،كان هناك عدد كبري من
الصبية يلبسون مالبس العيد البيضاء اجلديدة ،كنا أنا وأخي
أصلحتها والديت لكنها كانت نظيفة وناصعة
نلبس مالبس قديمة
َ
البياض كأهنا جديدة.
تفرق الناس لزيارة ذوهيم املوتى .وجدت
بعد صالة العيد ّ
أحد أقاريب ،وكان يكربين بسنوات ،جيلس هبدوء جوار قرب والده
كأنه حيرس شيئ ًا ما ،ومل يكن يبذل جهدا ُيذكَر مثلنا إلظهار احلزن.
سألته ملاذا مل حيرضوا جريد النخيل لوضعه عىل قرب والده ،فقال:
ستحرضه والديت يف ما بعد .قلت له والديت حرضت مبكرا لزيارة
زوجها امليت فلامذا تتأخر والدته ،فكّر قليال ثم قال يل :والدتك
حترض للسنة األوىل ،ال بدّ أن ذكرى والدك ال تزال حية يف قلبها،
أما أ ّمي فهي حترض هنا منذ حوايل عرش سنوات ،ويف السنوات
األخرية مل تعد تذكر والدي كثريا ،لقد تضاعفت مسئولياهتا ،رغم
تزوجت لكن ال تزال هناك أخت أخرى.
أن أختي الكربي ّ
غرس أخي الذي يكربين بعام جريد النخيل فوق القرب،
ثم وقفنا معا نرقب والديت وهي تدعو لوالدي ومتسح الرمال
واحلىص فوق القرب.
سألت والديت هل ستذهب غدا مبكرا لزيارة والدي أم
ُ
ستذهب ّ
متأخرة مثل والدة الصبي الذي وجدناه يف املقربة يف
فسكت عن
العيد املايض؟ ،مل ترد والديت ورأيتها تبكي بصمت
ّ
الكالم.
كان الوقت قد ّ
تأخر .طل َبت منّا والديت أن نذهب لنخلد
104
إىل النوم حتى نستيقظ مبكرا ونذهب ألداء صالة العيد وزيارة
املوتى .لكننا مل نكن نرغب يف النوم ،وقال أخي :سننتظر معك
حتى تنتهني من غسيل املالبس.
لكن أمي قالت إن ذلك سيستغرق وقتا طويال وال داعي
لالنتظار.
طلب منها أخي أن تتوقف عن غسل بقية املالبس لتكملها يف
وقت آخر ،لكن أمي قالت إنه جيب أن تصبح كل املالبس املتسخة
يف البيت صبيحة العيد نظيفة وإال فإننا سنبقى بمالبس متسخة
حتى العيد القادم.
فكر أخي بصوت عال :ما دام بإمكاين اللعب طوال العام دون
أن تتسخ مالبيس فإن ذلك يستحق بعض التعب ،عارضا عىل
والديت مساعدهتا يف نقل املالبس التي فرغ غسلها لتعليقها عىل
حبل الغسيل ،لكن والديت طلبت منه أن يعيد الطواف يف البيت
بالبخور للتأكّد أن كل الشياطني قد خرجت.
كانت النار قد انطفأت يف املوقد فأعدنا إشعاهلا ثم نثرنا فوقها
البخور وأعدنا الطواف يف البيت .تذكرنا أننا مل ِّ
نبخر املخزن الكبري
الذي يقع يف الركن البعيد من الفناء وحتتفظ فيه والديت بمحصول
التمر الذي نجنيه من النخيل الذي تركه والدي .قلت ألخي ال
داعي ألن ّ
نبخره ،املخزن ميلء بالعقارب والفئران وليس املكان
املناسب لتقيم فيه الشياطني .ضحك أخي وقال :بالعكس لو كنت
مكان الشيطان الخرتت البقاء يف املخزن .يوجد متر كثري .كام إنه
بعيد عن أصوات اجلريان وشجارهم.
105
حيب الشيطان اهلدوء؟.
قلت ألخي :هل ّ
قال :نعم ،أمل تسمع بأهنم يقطنون دائام يف البيوت املهجورة
بعيدا عن الناس؟.
حيب الشجار!.
قلت :لكن الشيطان ّ
قال أخي :كيف عرفت؟.
قلت :حني تشاجر جارنا وزوجته قبل أيام بسبب أنه يعود
خممورا آخر الليل ويرضب األطفال قالت أمي إن الشيطان دخل
بينهام!.
ترسب منه هدوء غريب ،بدا لنا كأنه ال
حني فتحنا باب املخزن ّ
يمت بصلة إىل عاملنا الذي نعرف .مل جتعلنا صدمة اهلدوء اخلارق
ّ
الذي اخرتق عظامنا نرتاجع ،بالعكس شعرنا هبا تدفعنا إىل األمام.
كان املخزن خاليا ،مل َ ِ
ين بعد موعد قطع التمور ،ومتر العام املايض
سحبته والديت شيئا فشيئا وباعته لتغطي منرصفات حياتنا .عىل
األرض يف مؤخرة املخزن كانت هناك شمعة مضيئة تثري من
حوهلا دوائر رذاذية من الضوء .مل نندهش ،بدا لنا وجود الشمعة
متناغام مع اهلدوء الصاعق يف املكان ،ما لفت نظرنا أن خيطا من
الضوء كان يرتفع من الشمعة يف خط مستقيم إىل السقف ،بدا
ضوء املصباح الذي نحمل باهتا مقارنة بضوء الشمعة .اقرتبنا
منو َمني ،جلسنا حول الشمعة التي بدأ حجمها يزداد
منها وكأننا ّ
أصبحت مثل شجرة بيضاء
حتى احت ّلت نصف حجم املخزن،
َ
عمالقة ذات فروع ترامت برسعة يف كل االجتاهات ،تقدّ م أخي
106
ليتسلق الشجرة دون أن يكرتث إلحلاحي له بأن نغادر املكان،
تب ْعتُه بدافع اخلوف من الرتاجع وحدي ،مدّ أخي الذي اختفى
جسدُ ه داخل أغصان الشجرة البيضاء يدَ ه وسحبني إىل أعىل،
يف اللحظة التي ارتفع فيها جسدي سقطنا نحن االثنان داخل
حفرة من الضوء كان خيط الضوء املنبعث من الشمعة يتد ّفق فيها
هبدير مثل السيل ،جرينا لنبتعد عن هدير الضوء فوجدنا أنفسنا
يف مكان غريب يشبه مدينة خرجت من أحد األحالم .حولنا
جتولنا يف الشوارع
شاهدنا صفوفا من البيوت املعدنية الصفراءّ ،
اخلالية ،كل يشء ثابت يف مكانه ،حتى أشجار النخيل املزروعة
عىل جوانب شوارعها كانت كلها تبدو وكأن عصا ساحر عمالقة
أوقفت حركتها وأوقفت الزمن من حوهلا .مل نر كائنا يميشَ ،
دخ ْلنا
إىل أحد البيوت ،كل يشء مرتّب ونظيف ،بيوت رحبة يترسب
إليها الضوء من خالل نوافذ النحاس .مقاعد صغرية وأراجيح
تفحصت
منصوبة لألطفال يف األفنية وأكوام من األلعاب حوهلاّ ،
كومة األلعاب بدافع الفضول فوجدت شيئا غريبا ،حتى أنني
رصخت دون أن أشعر :وجدهتا!.
أشار يل أخي بغضب أن أصمت .عثرت عىل لعبة فقدهتا منذ
شهور وقلبت البيت كله بحثا عنها دون جدوى .لعبة بالستيكية
خرضاء اللون أهداها يل أحد أقاربنا :دمية يف صورة جندي يرقد
تأهب إلطالق النار وتغطي رأسه قبعة عسكرية ضخمة
يف وضع ّ
تشبه أطباق السعف التي تُستخدم حلفظ اخلبز .حني تس ّلمت تلك
اهلدية ّقررت حني أكرب أن أعمل يف اجليش.
107
ضحك رجل مس ّن من أقارب والديت كان يزورنا يوم عيد
األضحى حني سمع بأمنية حيايت اجلديدة وقال:
هناك ال يعمل أحد!.
قلت له :سأقرأ ليال وهنارا حتى أنجح وأحقق تلك األمنية!.
ضحك العجوز احلكيم وقال كالما مل أفهمه :ربام لن حتتاج
لكل ذلك!.
وجدت اللعبة وسط جمموعة من الدمي النحاسية ،ن ّظفتها من
الرتاب الضوئي العالق هبا واحتضنتها بقوة .قبل شهور حني مل
نعثر هلا عىل أثر ،اهتمت مجيع الناس برسقتها .اهتمت أخي وجارنا
الصغري الذي كان حيرض أحيانا برفقة أمه ،قالت أمي :الحاجة
بأحدهم لرسقة جنودك البالستيكية.
وقال الرجل املس ّن حني زارنا يف املرة التالية ل ُيحرض ألمي شيئا
ما :ما إن خترج إىل الشارع حتى جتد كثري ًا من هذه الدمى التي ال
تصنع شيئا سوى إزعاج الناس!.
بقوة حني سحبني أخي لنواصل جتوالنا
كنت أحتضن لعبتي ّ
مررنا بحوانيت مجيلة مليئة بالبضائع
يف املدينة التي مل نر فيها برشاَ .
امللونة وبمحالت الفواكه واخلرضوات .تبدو الفواكه من عىل
البعد يانعة كأهنا ال تزال يف أشجارها ،لكن حني اقرتبنا منها
يترسب إىل قلبينا،