أحلام الملكة النائمة - 3
أبوه ضحك ،ظاهر ضحك خوف! ّ
بنرجعها،
بحنان شديد ،حنان بتاع زول مف ّلس ،ويقول ليه( :أ ّمك ّ
لكن واهلل بت شيخ النذير دي طيبة ومسكينة ،إنت بس ما تعرفها،
بعدين بت يتيمة ،حرام أنا لو ط ّلقتها أخو يراعيها ما عندهاَ .و ِكت
طر َدتك من البيت ،أبوها رسلها ،أبوها فعال كان راجل َف ُقر ،واهلل
َ
ِ
أنا فرحت َوكت مات!).
وحسني يقول ليه( :دي مرة قاهرة ،بتقدر تد ّبر حياهتا ،ندّ هيا
الورقة ومعاها عس لبن .وكيف ما عندها أخو؟ النسوان زمان
59
كان بيقولوا نميش للنذير يدّ ينا اجلنا ،طيب ليه ما جاب الولد!؟
النجار خم ّلع!).
وال باب ّ
شيخ النذير دا استغفر اهلل من ذنبه قالوا بتاع ُسفيل .عز الدين
ود حسن نوري قبل يميش اخلرطوم زمان مشى ليه وقال ليه:
(عندي عوارض ،حمل ما اشتغل حتصل مصيبة) ،قال ليه :اجلامعة
ممكن يفكّوا العارض ويشوفوا ليك شغل!).
ضحك سليامن األعرج وقال :شغل شنو دة ج ّن سفيل وال
مكتب عمل!
بعدين بعد يشتغل قالوا ليه اجلن بيجوك يف اليوم تالتة مرات!.
قال سليامن مدّ عيا عدم الفهم :جيوه ليه؟
قال سليامن التاجر :حيجوه يعني لقولة خري؟ حيجوه ينوموا
معاه عشان خيلصوا حقهم!.
أها وعز الدين قال شنو؟
قال ليهم تالتة مرات يف اليوم كتري! حنشتغل متني يعني لو
اجلن حينط علينا كل شوية!.
ضحك األعرج وقال:
يا سليامن السنة الفاتت حسني قالوا طلب بتّك الصغرية أبيت
تدّ يه ،هسع كيف؟
ضحك التاجر وقال :واهلل أنا ما أبيته ،البت قالت دايرة تقرأ،
هسع لو وافقت كان مرقنا لينا
أصلها بت َف ُقر ،ال َق ُروا عملو شنو؟ ّ
60
يب كيلو دهب زي الربنامج بتاع التلفزيون!.
قال الطاهر :قبل سنتني جاين قال يل داير أزرع معاك يف
احلواشة .أنا يف احلقيقة كنت حمتاج يل زول معاي ،كنت داير
ّ
أزرع مساحة أكرب شامر ،أنا كنت سامع انه بيشتغل كويس لكن ما
بيسمع الكالم ومرات يسافر أثناء املوسم بدون يك ّلمك ،قلت ليه
يا حسني إنت مزارع كويس لكن أنا كامن بحب االنضباط.
قال يل( :انضباط شنو! دي زراعة وال دفاع شعبي!) ،قلت
ليه( :دفاع شعبي ما بعرفه ،لكن أنا عندي كل يش يف مواعيده،
ننضف الزراعة ونروهيا باملواعيد) ،قال يل:
نسدّ البوغة باملواعيدّ ،
(خالص أ ّديني يومني أفكر يف املوضوع ألن قصة انضباط دي
بتذكّرين اجليش) .قبل سنتني ناس اجليش كان قبضوه يف سوق
السبت ،و ّدوه معسكر ،الظاهر تعب فيه تالتة شهور لغاية ما
رشد) .قلت ليه خري ،لكن تاين ما رجع .يعني رشد قبل ما نبدأ
ِ
هسع؟!.
معسكر الزراعة! يا ريب يكون ماخدْ يف خاطرو مني لغاية ّ
ضحك حاج سعيد وقال :أنا احلمدهلل ال جاين يل عرس وال
يل زراعة .لو جاين للزراعة كنت بش ّغله ،األوالد كلهم مشوا
الدهب ،ما تصدّ ق َو ِكت تلقى ليك زول جيي داير يزرع! حتى لو
زرع القمح يف الصيف! والعيش يف الشتاء!
قال الطاهر :لكن أنا نفعته ،لو قلت ليه تعال أزرع ما كان مشى
مرق ليه بشوال شامر
الدهب ولقى نصيبه! لو زرع معاي كان َ
وشوال قمح وقرياطني ويكة!.
61
قال صالح اجلاز :الطاهر إنت الظاهر عاوز ليك سلفية وال
حاجة!.
يمول يل املوسم كان
ضحك الطاهر وقال :واهلل لو لقيت زول ّ
وسعت الزراعة شوية السنة دي ،أوالد حسن أخوي قالوا ماشني
ّ
الدهب وقالوا يل ممكن تزرع أرضنا معاك السنة دي!.
بمنسق
رحب به حاج سعيد :مرحبا
جاء فارس بعد قليلّ ،
ّ
الرشطة الشعبية السابق!.
منسق
قال سليامن األعرج :بدل السابق أحسن تقول ليه ّ
الرشطة الشعبية املخلوع! ألن الكيزان وكت استغنوا منه وال حتى
قالوا ليه رفدناك .جا تاين يوم لقى زول قاعد يف حمله! الرشطة
الشعبية بقت زي بلدنا اهلاملة دي ،اليصحى بدري يقلبها!.
قال فارس :احلمدهلل لقينا شغل! الدهب بتاع حسني جا يف
وقته!.
مالك ومال حسني كامن؟
مايل كيف؟ الزول صاحبي من زمان ،يف املدرسة كان وراي
والزمن داك كان ضعيف وقصري عشان كدة األوالد الكبار بيقلعوا
منه الفطور ويد ّقوه بال سبب ،أنا كنت ش ّغال ليه حارس شخيص
حق الفطور ما عنده ،أوىل
من الزمن داك ،لو كنت بحرسه أيام ّ
أبقى حارسه الشخيص بعد بقى غني!.
وحتحرسه من منو؟.
الكيزان احلرامية أول ما سمعوا بقصة الدهب ،جاه ضابط
62
أمن قال ليه ناس اجليش بيفتّشوا عليك عشان إنت رشدت من
اجليش ،أنا ممكن أعمل ليك محاية ،لكن تدّ يني كيلو دهب! باهلل
شوف الناس املا بتختيش دي! حسني أ ّداه مليون جنيه وقال ليه
تعال يل بعد فرتة!.
ضحك حاج سعيد وقال :حراستك ليهو دي زي حراسة
الديب للغنم! زي حراسة الكيزان لبلدنا!.
واصل فارس :أنا قلت ليه( :جرام ما تدّ يه! الناس ديل أنا
بعرفهم كويس ،لو جاك تاين قول ليه قابل فارس ،السكرتري
بتاعي)!.
إنت سكرتري وال غفري؟
غفري شنو يا حاج! أصلها وكالة؟ أنا مدير أعامل حسني عبد
الرسول!.
يا زول إنت مالك تر ّقي نفسك برسعة كدة من غفري يل سكرتري
يل مدير أعامل ،بعد شوية حتقول الدهب حقي!.
قال فارس :شيخ عيل بتاع اللجنة الشعبية جاهو قال ليه أدفع
ربع للجنة الشعبية وأنا بعفيك من الرضائب والزكاة وبو ّقف
لينا ت ّ
ناس اجليش لو جو يفتشو عليك!.
ربع حيميش عىل جيب شيخ
قال سليامن األعرج :وطبعا الت ّ
عيل!.
قال فارس :جيب غريق تقول فيه (كوروكي) أصال ما بيتميل!.
63
هسع ،ألن
أنا قلت ليه( :قول ليه خري ،لكن ما تدّ يه حاجة ّ
ممكن ينفعك يل قدّ ام لو عاوز تصديق ألرض وال حاجة!) ،حسني
قال عاوز يعمل مصنع تعليب ،أنا قلت ليه أحسن تقلب بالقروش
دي يف السوق!.
قال حاج سعيد :يقلب وين ،دا لو طلع شرب من البلد دي،
يأكلوه متاسيح الكيزان حي!.
قال الطاهر :أنا رأيي يعمل مرشوع قمح كبري ،جييب
ّ
الرشاشات!.
قاطعه فارسّ :
رشاشات شنو؟ دا مرشوع وال جنجويد! ما
قادر تقول الرش املحوري؟.
اخلوي واسعة وخصبة ،بس
واصل الطاهر :األرض فوق يف َ
مشكلتها املوية .لو جاب الرشكات الكبرية البيحفروا األرض
باملكنات ،ممكن يطلعوا موية كترية!.
قال فارس :مكنات شنو اليحفروا بيها ،مرشوع دة وال النهر
الصناعي العظيم!.
قال حاج سعيد :املوية مشكلة ،والكهرباء بقت تقطع كتري،
نص املوسم تقطع .عشان كدا أحسن
ما ممكن يزرعوا بيها ويف ّ
يشوف ليه حاجة تاين.
قال األعرج :خليه يعمل مرشوع تسمني ،يشرتي هبايم،
وعجول وممكن يل قدّ ام يعمل مصنع لألجبان!.
طيب ما نفس املشكلة ،مع زراعة األعالف حتكون التكلفة
64
عالية .لو بلدنا دي فيها مطر ومراعي كبرية ممكن.
قال فارس :أنا رأيي ،قلت ليه ،ختيل الدهب قاعد أو تشرتي
دوالر أو بيوت .ألن بعد شوية اجلنيه حقنا دا إال تشيل منه
تالتة شواالت عشان تشرتي ربطة جرجري .بعدين اجلامعة ديل
ما حيخ ّلوه إال يقلعوا القروش دي .نعمل بالغ نقول اترسق
غرة صالة ويقول ليهم أنا بقيت
أو يعمل ليه دقينة وننجر ليه ّ
معاكم ،يدّ هيم شوية قروش يقول ليهم دا دعم للجهاد .دا أحسن
مرشوع اآلن .ويرتشح جملس الشعب .حيجوا ناس املؤمتر الوطني
ّ
يرتشحوا معاه عشان يلقوا ليهم قرشني وخيلعوا .والدقينة ساهلة،
أنا قلت ليه حتى الكيزان األصليني ناس شيخ عيل ،شايلني املوس
يف جيبهم .شيخ النور مرة حكى يل قال يل( :مشيت يل شيخ عيل
يف البيت داير يل شهادة سكن للولد .أنا شعرت يف حاجة ألن يف
األول ما كان داير يقابلني ،سام ُعه يقول يل الولد :قول ليه مايف.
كوركْت قلت ليه :أمرق يا عيل وإال بجي داخل!) .أها جا مارق!
َ
لقيت دقنه حملوقة نضيف ،قال يل :ما بقدر أط ّلع ليك الشهادة إال
الدقن مترق شوية عشان أقدر امرق من البيت) ،قلت ليه( :وط ّيب
(املرة الصغرية مسكينة
حلقت الدقن ليه؟) ،ضحك وقال يلَ :
غشيمة شوية .سم َعت أخبار انقالب عسكري يف بوركينافاسو يف
التلفزيون ،بدون تسمع اخلرب كويس جات جارية وأنا يف احلامم
خبطت يل الباب ،قلت ليها يف شنو :قالت يل أحلق يف انقالب!
رضبتني خلمة بدون ما أشعر حلقت الدقن ،وجيت جاري ،كنت
جمهز يل حفرة يف احلوش عشان الظروف ما معروفة لو حصل يش
ّ
ندس فيها شوية دهب النسوان لغاية نعرف احلاصل! أها ش ّغال
65
املرة التانية قالت يل:
أجهز يف احلفرة وأمللم يف احلاجات جاتني َ
االنقالب يف بوركينافاسو!).
66
العقرب
كنا نجلس ثالثتنا عىل األرض يف ركن الزنزانة البعيد ،نشعر
باإلرهاق بسبب عدم النوم ليال طوال عدة أيام ،كنا نشعر يف تلك
اللحظة هبدوء غريب ،ربام من فرط اإلرهاق الذي خيمد فيك حتى
الرغبة يف التفكري .قمنا بعمل اقرتاع رسي عىل حبة سجائر إضافية
خيمن نوع التعذيب الذي سنتعرض له هذه الليلة.
ملن يستطيع أن ّ
طوال ٍ
ليال كانوا ُيبقوننا مستيقظني حتى الصباح بحيل خمتلفة:
التعليق يف مروحة السقف ،أو الرش باملاء البارد أو الصدمات
الكهربائية.
بعد قليل اقتحم ضابط األمن الزنزانة ،ومعه جندي ،يبدو أن
لديه اليوم فكرة جديدة ،فقد أمر اجلندي قائال :امجع أحذيتهم!.
مل تكن هناك أحذية باملعنى املعروف ،كانت كومة من القامش
والبالستيك املهرتئ ،مجعها اجلندي ووضعها يف كيس بالستيك
أسود .تو ّقعت أهنم ربام سيرضبوننا عىل أقدامنا .للوهلة األوىل مل
أشعر باخلوف ،كنت أشعر أن أطرايف قد فقدت اإلحساس من
تعرضت إليه من رضب ،بام يكفي لعدم اإلحساس بأي
فرط ما ّ
67
تعذيب جديد.
عرض الضابط آخر حيل التعذيب ،قال خياطبنا:
عندها َ
أنتم األرشار يف هذا الوطن تريدون إغراق وطننا يف الفوىض،
تتظاهرون ضد السلطة الرشعية ومتزقون صور رأس النظام ،يا
لكم من تعساء! .مل يكن هناك جديد حتى اآلن ،نفس اخلطبة
اليومية تقريبا.
رفع علبة زجاجية أمام املصباح الكهربائي الذي حيمله يف يده،
فرأينا شيئا صغريا يتحرك داخل الزجاجة.
أعلن بنربة انتصار :ستقيض هذه العقرب الليلة معكم يف
الزنزانة! إهنا من النوع الذي يعيش يف اجلبال ،تتغذى عىل
األعشاب السامة والصخور! لدغتها تساوي لدغة مائة عقرب
عادية!.
ووجه ضوء
فتح الضابط غطاء العلبة ثم نثر حمتوياهتا أرضاَّ ،
مصباحه الكهربائي عليها .رأينا العقرب يف ضوء املصباح ترسع
هاربة باجتاه اجلدار ،عرفنا أننا خرسنا مجيعا رهان حبة السجائر.
يف كل األحوال من سيأبه للفوز بسيجارة ،إن كان ال أحد منا
سيضمن منذ اللحظة أنه سيعيش حتى الصباح!.
مل يكن هناك ضوء كهربائي يف الغرفة ،حني أطفأ الضابط
مصباحه ساد يف املكان ظالم رهيب ،كان هناك ضوء خفيف
يتسلل عرب الباب من املمر .أغلق الضابط باب الزنزانة ،فغرقنا
يف الظالم .بعد قليل بدأنا نتبني خيوط الضوء القليلة التي كانت
68
تترسب عرب النافذة الصغرية يف أعىل اجلدار من مصباح كهربائي
بعيد ربام كان أحد املصابيح املستخدمة يف حراسة أسوار السجن.
كانت تلك املرة األوىل التي ننتبه فيها خليوط الضوء تلك ،والتي
كانت تسقط عىل اجلدار املواجه للنافذة الصغرية دون أن تيضء
شيئا حوهلا ،بل ترتك فقط خيطا مائيا رقيقا عىل اجلدار.
يف البداية مل جيرؤ أي منا عىل احلركة من فرط اخلوف والذهول،
قال أكثرنا خربة :يف املرة التالية جيب أن نرتاهن عىل يشء أكثر قيمة
حتى نفكر بعمق ،وال نكتفي باألشياء التقليدية.
من حتدث كان أكثرنا متاسكا ،يبدو أنه اعتاد بسبب تعدد مرات
اعتقاله عىل هذه املفاجآت ،يف السنوات األخرية كان قد قىض يف
املعتقل وقتا أطول مما قضاه يف بيته أو يف أي مكان آخر ،كان دائام
حيكي أنه يف إحدى الفرتات القليلة التي قضاها خارج السجن،
كان ينهي معاملة يف إحدى املؤسسات وحني ُطلب منه كتابة
عنوانه ،كتب دون تردد ودون أن يشعر بوجود خطأ ما ،عنوان
املعتقل!
قال :لدينا دقائق قليلة نفكر فيها كيف جيب أن نحمي أنفسنا
قبل وصول العقرب إىل مكاننا .مل تكن معنا أعواد ثقاب ،كنا
نخفيها يف الفناء لنستخدمها يف التدخني أثناء االسرتاحات التي
ُيسمح لنا فيها باخلروج إىل الفناء ،كنا نتص ّبب عرقا .مل أفهم ما
قدمي احلافيتني من
الذي قاله زميلنا ،بدأت ال إراديا أحاول رفع
ّ
األرض ،يقولون إن لدغة العقرب يف األطراف هي األسوأ! كنت
مشتّتا بني رضبة املوت القادمة وبني صور أرسيت التي بدأت تقف
69
أمامي ،كأهنم جاءوا إللقاء نظرة وداع أخرية .ابنتي الكربى كانت
تقف يف املقدمة واحلزن خييم عليها ،ستكون قد استعدت للذهاب
للمرة األوىل إىل املدرسة .مل أكن متأكّدا من اليوم الذي سيبدأ فيه
عامها الدرايس األول ،لكنني حاولت حساب ذلك فوصلت إىل
أن يوم ٍ
غد ربام سيكون يومها األول يف املدرسة ،اآلن مل أعد متأكّدا
إن كنت سأكون ح ّيا حني تذهب ابنتي للمرة األوىل إىل املدرسة.
قال زميلنا الذي حافظ عىل بعض متاسكه :هناك حبل تعذيب
ّ
سنعذب أنفسنا بأنفسنا هذه الليلة،
مربوط إىل مروحة السقف،
سنحاول تقدير الوقت ،يمسك كل منا باحلبل ملدة دقائق ثم خييل
الفرصة لآلخر ،وهكذا حتى الصباح ،بدال من أن نقيض الليلة
كلها يف رعب وخوف ستخفف الدقائق التي يتعلق فيها أحدنا
إىل مروحة السقف من رعبه وخوفه ،ستكون هذه االسرتاحة من
انتظار املوت مفيدة ،وتعطي كل واحد فينا بعض القوة لنصمد
حتى الصباح! ثم تنهد وقال :من املؤسف أنه ال توجد سوى
مروحة سقف واحدة ،وإال لكان هناك أكثر من حبل للتعلق فيه!
شعرنا باألسف لعدم وجود معدات تعذيب كافية .قال زميلنا
املتامسك مازحا :حني يزورنا مقرر حقوق اإلنسان إن عرف
مكاننا ،سنطالب بالعدل ،بتوفري أدوات كافية للتعذيب ،حبل
ومروحة لكل مسجون!
قال زميلنا :يمسك أحدنا باحلبل ويبدأ البقية يف العد حتى
الوصول إىل الرقم مخسامئة ،وعندها يتسلق من عليه الدور احلبل
وهكذا .عملية العد نفسها ستساعد يف شغلنا قليال عن التفكري يف
70
العقرب .صمت قليال ثم قال كمن يفكر يف الظالم بصوت ٍ
عال:
ربام وجدت العقرب طريقها إىل اخلارج ،لكن ذلك سيعني أن
نظل طوال فرتة إقامتنا هنا يف ترقب ظهورها يف أية حلظة!.
مل يكن هناك وقت لنضيعه يف التفكري بصوت ٍ
عال ،حتركنا فورا
نتحسس طريقنا يف الظالم حتى عثرنا عىل احلبل.
ّ
عيل،
من حسن احلظ ،وقعت القرعة التي أجريناها برسعة ّ
جيرب التعذيب اإلنقاذي من العقرب .يف املرة
ألكون أول من ّ
األوىل حني قاموا يف حفل استقبالنا بتعليقي إىل مروحة السقف،
كنت متأكدا يف الدقائق األوىل أنني سأموت قبل أن تالمس
قدماي األرض مرة أخرى ،وبدت يل مروحة السقف مثل مشنقة.
أما اآلن فقد شعرت ّ
أن هذه املشنقة هي واحة األمان الوحيدة يف
العامل ،هي التي ستوفر يل دقائق ثمينة للحياة .مل أشعر بآالم اليدين
وأجزاء اجلسم األخرى بسبب تعلقي يف السقف ،كان كل مهي
ّ
أستغل دقائق احلياة الثمينة يف استعادة حيايت بوضوح أكثر ربام
أن
للمرة األخرية.
ما إن شعرت ببعض األمان حتى قفزت صورة سالفة إىل
واجهة ذاكريت .صبيحة يوم اعتقايل ،ذهبت معها إىل السوق،
واشرتينا بعض األشياء التي ستحتاج إليها يف املدرسة ،كانت قد
تبقت بضعة أشهر عىل بداية العام الدرايس ،لكنها كانت متعجلة
للذهاب إىل املدرسة .اشرتينا حقيبة بالستيكية محراء صغرية
ُرسمت عليها بعض الشخصيات الكارتونية ،لتضع فيها بعض
األشياء التي ستحملها معها إىل املدرسة ،قارورة من البالستيك
71
امللون للامء وعلبة بالستيك صغرية لتضع فيها وجبة إفطارها.
كانت سالفة تبكي حني أخذين اجلنود من البيت ،مل تفهم ِل َ جيب
عيل أن أذهب معهم ،وكانت تبكي ألهنا كانت ترغب يف اخلروج
ّ
معي وأمسكت أمها هبا لتمنعها من ذلك .أبلغني الضابط أنني
سأغيب فقط لنصف ساعة أجيب فيها عن بعض األسئلة التي
تتعلق ببعض نشاطايت.
مضت ثالثة أشهر وما زلت يف املعتقل ،مل يتم حتى اللحظة
أتعرض فقط يوميا مع زمالئي للتعذيب .بعد
استجوايب ،كنت ّ
مرور أكثر من شهرينُ ،ح ّولنا من املعتقل الرسي الذي بقينا فيه إىل
هذا السجن ،شعرنا ببعض األمل بأن خروجنا من ذلك املعتقل
الرسي قد يكون إشارة لقرب اإلفراج عنا ،لك َّن شيئا مل يتغري .كنا
نتعرض لنفس التعذيب يوم ّيا ،ولنفس حماوالت جعلنا نعرتف
ّ
بجرائم مل نرتكبها لالستيالء عىل السلطة.
مرت الدقائق الثمينة مثل ملحة برص ،حني أعلن زميالي
ّ
وصوهلام إىل الرقم مخسامئة .نزلت من احلبل وشاركت مع زمييل
اآلخر يف رفع زميلنا وربطه إىل مروحة السقف.
كان العرق يتصبب غزيرا من جسمي ،حتى شعرت أن
قدمي ،كنت أرفع قدمي احلافية وأرضب هبا
األرض تغرق أسفل
ّ
األرض أمال يف قتل العقرب إن اقرتبت مني ،لكن زمييل نبهني
ّ
أن هذه الطريقة قد جتذب العقرب إىل مكاين ،ألن العقرب ربام
ستفضل أن تتحرك قريبا من اجلدار ،توقفت عىل الفور ،لكنني
ّ
واصلت رفع قدمي الواحدة تلو األخرى يف اهلواء ،نظرت باجتاه
72
النافذة التي يترسب منها ضوء ضئيل فوجدهتا عالية جدا ،كام أهنا
مغلقة بقضبان حديدية بحيث يستحيل التعلق فيها كام خطر يل
يف البداية .مرت دقائق رهيبة وحان دور زميلنا الثالث ،رفعناه،
كان يشكو من آالم يف قدميه بسبب التعذيب ،فلم يستطع التع ّلق
ج ّيدا يف احلبل وسقط عىل األرض ،رفعناه مرة أخرى ،رغم أنه
كان حياول إقناعنا بأن نتعلق نحن إىل احلبل ونرتكه ،لكننا أقنعناه
أن يبقى ممسكا باحلبل ،وسنساعده نحن برفع جسده بأيدينا حتى
نخفف الضغط عىل يديه ،مل يكن يرغب يف إرهاقنا ،لكننا أرصرنا
عليه ليبقى يف مكانه .كان العرق يتصبب مني بشدة ،وارتفع
صوت دقات قلبي ،خاصة أننا مع بقائنا ونحن نرفع جسد زميلنا
الثالث مل يكن متاحا يل رفع أقدامي من األرض .كنت أحدّ ق يف
تبي وجود يشء يتحرك .أحيانا ،كان خي ّيل يل
الظالم حويل حماوال ّ
أنني أرى شيئا يشبه ذيل العقرب املرفوع يتحرك باجتاهي ،كنت
أحبس أنفايس منتظرا الرضبة القاتلة يف كل حلظة.
جاء دوري مرة أخرى للصعود إىل احلبل .ما إن ارتفعت قدماي
يف اهلواء ،حتى عدت أفكر يف ابنتي وزوجتي .تركت لزوجتي يف
البيت ماال قليال ،وال أعرف كيف ستستطيع تدبري أحواهلا إن طال
غيايب ،ربام جيب أن تذهب للعيش مع والدها .بيت والدها بعيد،
وستكون هناك مشكلة يف وصول ابنتي إىل مدرستها ،فكرت :ربام
يمكنهم نقلها إىل مدرسة أخرى مؤ ّقتا .مدرسة تكون قريبة من
بيت جدها .بسبب عميل يف مؤسسة حكومية ،ربام يطردونني من
العمل بسب الغياب .ستكون زوجتي أبلغتهم أنني معتقل يف قضايا
ربرا إضاف ّيا لطردي من العمل .وبالطبع
سياسية .وسيكون ذلك م ّ
73
عيل
حني ال ندفع إجيار البيت ألشهر سيطردنا املالك .وسيكون ّ
حني أخرج من هنا ،أن أبدأ استعادة حيايت من الصفر ،لن يكون
سهال العثور عىل عمل ،ال توجد فرص كثرية .ومعظم الرشكات
يرسهم استخدام
اخلاصة يملكها أشخاص يتبعون للحكومة ،لن ّ
شخص تتهمه حكومتهم بالتواطؤ ضدها.
مل أجد حال ألي من مشكاليت .حني انتهت فرتيت وحان دور
زمييل اآلخر ،كنت أتوقع وأنا أهبط إىل األسفل أنني ما إن تالمس
قدماي األرض ،حتى أجد العقرب بذيلها املرشع يف اهلواء يف
انتظاري .لكن حلسن احلظ وصلت قدماي إىل األرض بسالم.
بدأت فورا يف حتريكهام برسعة إىل األعىل أمال أن متر العقرب من
أسفل جسدي دون أن متسني .كنت أبطئ أحيانا حني أرفع إحدى
متعجلة ال شك أنني حني أرفع
قدمي يف اهلواء ،لو مل تكن العقرب
ّ
ّ
قدمي وأنزهلا ،سوف أنزهلا فوق ذنبها ،لكن العقرب ستكون
قدمي ،هي نفسها
متعجلة بحيث أهنا ستعرب كالسهم من بني
ّ
ّ
متعجلة وهي تبحث عن
ستشتم رائحة خطر يف املكان ،وستكون
ّ
ّ
مكان آمن هلا! هل تعرف العقرب أهنا أيضا يف السجن؟! لو كانت
تعلم أنني أضعف منها كثريا ،ربام لبقيت بعيدا عنا ،هي تستطيع
أن حتفر أسفل اجلدار ،وجتد طريقا إىل احلرية ،بينام أظل أنا يف رمحة
من ال يعرف الرمحة ،فكرت قليال :هل حني حتفر العقرب أسفل
اجلدار وجتد نفسها يف اخلارج ،هل ستشعر بالفرق؟ أخشى أهنا
بعد ضياع جهد عدة ٍ
ليال يف احلفر ستجد نفسها يف فناء السجن!
أو ستكتشف أن خارج السجن نفسه ليس سوى سجن كبري! لكن
العقرب لن هتتم ،ستبحث عن أمجة حشائش أو فرع شجرة جاف
74
أو شقوق جدار وختتبئ فيها وخترج ليال لتدبري عيشها! انتبهت
لفكريت األخرية! أن العقرب خترج ليال لتدبري عيشها ،وبدأت
أرفع قدمي بطريقة هستريية ودون قصد خت ّطيت الرقم الذي
توقفت عنده أثناء حسايب لفرتة زمييل يف احلبل بأكثر من مائة! لكن
زمييل اآلخر كان ال يزال حيتفظ بالرقم الصحيح.
حني جاء دوري للمرة السابعة أو العارشة كنت منهكا متاما،
ربام بسبب اخلوف وقلق انتظار العقرب ،أكثر من أي جمهود بذلته
زمييل إىل احلبل أو التعلق باحلبل ،لكنني رغم التعب
يف رفع
ّ
الشديد استطعت الصعود والبقاء يف األعىل دون مساعدة .كنت
أشعر أنني أنزف داخل جسدي بنفس نزف العرق الذي غطى
جسمي ،وأن مقدريت حتى عىل التفكري قد تعطلت .لبثت يف مكاين
زمييل .يف
مثل حجر ،ال أرى وال أسمع شيئا وال حتى صوت
ّ
النهاية حني شعرت أن الوقت طال وأنني أخذت أكثر من حصتي
كثريا ،ناديت عىل زمالئي فلم أسمع شيئا ،تركت جسدي ينزلق
إىل األرض ،فوجدت نفيس فوق جسدي زمييل ،كانا مستغرقني
وسمها ،وأسلام
متاما يف النوم ،نسيا من فرط التعب العقرب
ّ
جسدهيام املكدودين إىل النوم ،كانت خيوط قليلة من ضوء الفجر
قد ترسبت إىل الغرفة ،لكن الرؤية كانت ال تزال غري واضحة.
زمييل وأسلمت جسدي إىل النوم.
تكومت بجانب
ّ
75
جدي والشاي ورئيس اللجنة الشعبية
ّ
قلت جلدي املشغول برشاب الشاي :سيحرض رئيس اللجنة
الشعبية اليوم!.
جفل جدي ووضع كوب الشاي أرضا ،وقال :ماذا يريد هذا
التافه؟.
قلت :يقول إنه يريد احصاء األرسة بنفسه .يقول إننا نحصل
عىل حصة ُسكّر أكرب من عددنا احلقيقي!.
واحلقيقة ّ
سجل كل أفراد األرسة ،حتى
أن جدي هو الذي ّ
املوجودين خارج الوطن ،أضاف حتى بعض املوتى ،مفرسا ذلك
بقولهَ :من العبقري الذي يستطيع أن جيد فرقا واحدا بيننا وبني
املوتى!؟.
وكل ذلك بسبب عشقه للشاي ،حيث تظل ناره مشتعلة طوال
اليوم ،وكانت حصة السكر التي ختص املوتى واألحياء تذهب
معظمها إىل جوفه ،دون أن تريض شيئا من هنمه املستمر إىل الشاي.
قال جدي :هل فرغ هؤالء األوغاد من ّ
حل كل مشاكل الدنيا
76
ومل يتبق سوى مشكلة رطل السكر الذي نكرم به ضيوفنا؟ قاموا
برسقة الديزل املخصص للموسم الزراعي وباعوه يف السوق
األسود ،ال يوجد دواء يف املستشفى ،والطبيب الوحيد هاجر من
الوطن ،املدرسة االبتدائية آيلة إىل السقوط فوق رؤوس التالميذ
وال توجد مقاعد ليجلسوا عليها أو كتب أو أقالم .وال عمل
لرئيس اللجنة سوى إحصاء الناس لتوزيع السكر بالعدل وهو ال
يرمي سوى لرسقة السكّر املتبقي لبيعه يف السوق السوداء!.
رشب جدي بقية كوب الشاي وقال يل :متى سيحرض هذا
الغبي؟.
قلت :قال إنه سيحرض بعد صالة الظهر.
وضع جدي خطته ،سنختبئ نحن ،وسوف تبقى النساء فقط
يف البيت وسنرتك باب البيت مفتوحا.
جاء رئيس اللجنة الشعبية ،وجد باب البيت مفتوحا ،طرق
الباب ومل يرد عليه أحد ،تردد قليال ونحن نراقبه من فوق السقف
نحبس أنفاسنا حتى ال ننفجر يف الضحك ،وألنه مسئول كبري،
بحكم الدستور ،فقد تقدّ م إىل داخل البيت مثل عادة أهل الريف،
وهو يص ّفق بيديه .أذكر قصة رجل يف القرية كان حيب مصافحة
النساء ،وكلام دخل إىل ٍ
بيت ما كان يتجاهل مكان الرجال وينطلق
إىل داخل البيت رافعا صوته مثل مذيع نرشة األخبار :كيف حالكم
يا أهل الدار!.
تقدم رئيس اللجنة الشعبية إىل داخل البيت ،حتى وصل إىل
77
صالة البيت الرئيسية وقام بتحية النسوة املشغوالت بتنظيف
القمح إلرساله إىل املطحن.
يف تلك اللحظة بالتحديد ظهر جدي فجأة وكأنه قادم من
اخلارج.
رصخ بصوت عال يف الرجل الذي كان حياول حتيته :ماذا تفعل
هنا يا رجل وسط النساء؟.
تل ّفت الرجل حواليه حمرجا ،وقبل أن حياول استدراك املوقف
قال جدي :كيف تدخل إىل البيوت بدون إذن أهلها؟.
ظهرنا نحن يف تلك اللحظة حسب اخلطة ورصخ جدي فينا:
أين كنتم يا أوالد ليدخل هذا الرجل إىل البيت وجيلس وسط
النساء.
ناداين جدي :اذهب يا ولد واستدعي أحد رجال الرشطة!.
ظهر أشقائي الكبار وهم حيملون العيص ،وقال جدي بعد
أن شعر بمأزق رئيس اللجنة الشعبية الذي أجلمته املفاجأة فلم
يستطع النطق :أال يوجد قانون يف هذه البلد؟ كيف تدخل البيوت
بدون إذن اهلها؟.
كنت أنا قد خرجت الستدعاء البوليس وتسكّعت يف الفناء
حسب اخلطة ،بدأ الرجل يعتذر :واهلل مل أكن أعلم أنه ال يوجد
رجال يف البيت!.
ارتاح جدي قليال لالنكسار الواضح يف صوت الرجل وقال:
78
بالنسبة يل ال مشكلة لقد قبلت االعتذار ،لكن األوالد لن
يقبلوا ذلك.
تطاير الرشر من عيون إخويت الكبار لدي سامعهم عبارة
جدي ،وقال أحدمها وهو يتقدّ م رافعا اجلزء احلديدي من العصا:
جيب أن نقتله!.
امسك به جدي ورصخ فيه :انتظر ،ذهب الولد إلحضار
البوليس!.
يف تلك اللحظة التي وصل فيها الرعب إىل مداه ،وصل عمي
حسب اخلطة وقال بصوت عال :أهدأوا يا إخويت ما الذي حيدث
هنا؟.
قال جدي :هذا الرجل دخل البيت بدون إذن ووجدناه جالسا
وسط النساء!.
ترصفه ،وانتهر األوالد
زجر عمي رئيس اللجنة الشعبية عىل ّ
يف الوقت نفسه ليضعوا العيص جانبا ويرتكوه حلل املشكلة.
قال جدي :أرسلنا الولد ليحرض البوليس ،بيوت الناس ليست
فوىض يدخلها كل من هب ودب!.
أمر عمي أحد إخويت ليجري إلعاديت قبل أن أصل إىل
البوليس ،وصاح يف النساء طالبا إعداد الشاي ،معلنا :يا إخويت
هذا الرجل جارنا وإن أخطأ فاملسامح كريم!.
شعر الرجل ببعض الراحة وترقرقت دمعة يف عينيه ،طلب منه
عمي اجللوس وذهب ليحرض الشاي ،رشب الرجل الشاي وهو
79
يكرر االعتذار بأنه مل يكن يعلم بأن البيت ليس به رجال.
سأله عمي بلطف عن الغرض من الزيارة.
قال بعد تردد إنه يف احلقيقة جاء إلحصاء سكان البيت بعد
أن وصلت شكاوي إىل اللجنة بأن األرسة حتصل عىل كمية من
السكر أكرب من احلصة القانونية.
وقال عمي :أنت بنفسك تعرف استهالك السكر مع عدد
األطفال الكبري والضيوف ،إهنا وقية واحدة لكل فرد هي كل
ما نحصل عليه من طاقة نستهلكها يف عراك ركوب املواصالت
العامة والشجار ،الناس بسبب الفقر يشعرون بالتوتر لذلك
يتشاجر اجلميع مع اجلميع طوال اليوم!.
قال رئيس اللجنة الشعبية :واهلل معكم حق.
وقال اجلد :بالعكس نحن عددنا زاد ،عدد من أقربائنا جاءوا
من القرية للدراسة أو العالج ويعيشون معنا .ال توجد فرص
عالج أو تعليم يف الريف!.
قال رئيس اللجنة الشعبية :كالمك صحيح يا حاج.
أخرج رئيس اللجنة الشعبية بطاقة متوين جديدة من جيبه
وقال :العدد املسجل هنا عرشين شخص ًا كم العدد اآلن؟ قال
جدي عىل الفور :أربعني.
رشف رئيس اللجنة الشعبية رشفة طويلة مصحوبة بخط
موسيقي قبل أن يكتب :مخسة وأربعني!.
80
الرحلة الطويلة نحو الشمس
أو أحالم امللكة النائمة
كانت الفتاة اجلميلة تتن ّقل داخل البص بجسد خفيف مثل
فراشة ،مل تكن متيش عىل قدمني مثل البرش ،بل تتخ ّلل األشياء
أثناء عبورها مثل سحابة ،مثل غاممة عطر ،وكانت رائحة جسدها
خليط ًا من عبق الزهور ورائحة األرض :رائحة احلياة .كنا نجلس
داخل البص كأننا يف رحلة إىل عوامل أخرى ،إىل الفضاء .وكأننا
منومون مغناطيسيا ،ال نعرف مل جيب أن نستيقظ أو نخلد للنوم.
ّ
أي من الركاب أين نحن ومتى نصل
مل تشغلنا الساعة ،ومل يسأل ّ
وجهتنا .كأننا وصلنا وجهتنا منذ زمان بعيد فلم يعد ذلك يشغلنا،
مل نكن نملك زمننا أو قرارنا أو حتى وجوهنا التي كانت تتحرك
آليا يف الفراغ ،تصطدم ببعضها ،مثل طائرات ورقية ،كأن قوة
جمهولة كانت تتحكم يف حركتها وسكوهنا.
حني توقف البص يف سوق ليبيا حمطته األخرية قبل أن ينطلق
إىل الصحراء .أبدى أحدهم الرغبة يف الذهاب إىل السوق لرشاء
علبة سجائر ،أعطاه الشاب الذي جيلس بجانبي ثالثة جنيهات
81
طالبا منه إحضار (صباع أمري) معه .قبل نزوله من البص ،تلكّأ
الرجل ونظر باستعطاف باجتاه الفتاة اجلميلة أمال أن تطلب منه
شيئا ما ،ترسله إىل أي مكان ،كان مستعدا للذهاب إىل اجلحيم
إن كان املقابل بسمة ساحرة أو كلمة شكر .مل خت ّيب اجلميلة ظنه،
طلبت منه بصوت مالئكي أن ُيرض هلا نصف رطل من حلوى
الطحنية! قبل أن متدّ يدها إىل جيبها لتسحب حمفظتها الصغرية
لتدفع قيمة الطحنية .ودون تر ّدد ،خرجت يف نفس اللحظة
وبنفس الرسعة مخسون حمفظة بعدد ركاب البص عارضني دفع
قيمة الطحنية! حتى الطفل اجلالس أمامي أخرج كيسا من قامش
الد ّمور به عمالت معدنية أصبحت خارج االستخدام بفضل
التضخم ،والتغيري املتكرر للعملة الوطنية ،وال تكفي لرشاء أية
يش ،عارضا الدفع! سحبت أنا أيضا حمفظتي وإن كنت بقيت
لربهة مندهشا لفكرة أن حيتاج كل هذا اجلامل ألكل الطحنية!
لكن الرجل الذاهب إىل السوق مل جيد مكافأة له أفضل من الطلب
نفسه ،رفض أخذ نقود من اجلميلة مؤكدا إنه يملك ماال كثريا .يف
ما بعد اكتشفت أنه مل يكن يملك ماال كثريا أو قليال ،وأنه اشرتى
حلوى الطحنية بثمن (صباع أمري) الذي حصل عليه من الرجل
اآلخر! ال بد أنه فكر قائال لنفسه :يستطيع الرجال االنتظار! لكن
لتبق
كيف نجعل املالك ينتظر؟! وما جدوى (صباع أمري) أصال؟ َ
األكواب املكسورة واألطباق كام هي يف مكاهنا ،يف كل األحوال
ّ
التقشف الذي أعلنته احلكومة ال يوجد كثري من الطعام
بسبب
حيتاج إىل استخدام حتى األطباق املكسورة .واختفت حلسن احلظ
مادة السكّر من البيوت واألسواق بسبب الغالء .عرفت بذلك
82
حني وجدت الشاب اجلالس بجانبي يتشاجر مع الرجل الذي
أحرض الطحنية ،هامسا له بأنه سيخرب اجلميلة ّ
بأن الطحنية تم
رشاؤها بنقوده إن مل ُي ِعد إليه النقود فورا! بالفعل سمعت الرجل
يقول وكأنه قرأ أفكاري :يمكنك االنتظار ،أنت معتاد عليه منذ أن
َولدت ،كأنك خرجت إىل الدنيا فقط لتتنقل من (صف) إىل آخر!
تقف أحيانا ىف صف لتشرتي خبزا ويميض الزمن وأنت واقف
ّ
وتدق مارشات انقالبات عسكرية
(يتغري حتى العامل من حولك)
وانقالبات مضادة ،وأنت واقف كأن مصري العامل كله متوقف
عىل انتظارك لقطعة خبز ال جتيء وإن جاءت ال تسد رمقا .أنت
متمرس عىل االنتظار دون هدف ،لكن كيف نجعل املالك ينتظر؟
هل رأيت من قبل مالكا يقف يف صفوف اخلبز أو الدواء؟!.
كف عن
كان ر ّده مقنعا حتى إن
الشاب اجلالس إىل جواري ّ
ّ
التذمر وتذكريه كل بضع دقائق بأنه مدين له بثمن الطحنية ،وأنه
هو من جيب أن تشكره اجلميلة ألنه دفع ثمن الطحنية .مل نشعر
بحرارة اجلو ،رغم أن الصحراء خارج البص كانت عىل وشك
االشتعال ،مىض النهار الطويل برسعة كأنه يسابق البص نفسه،
حتى انتبهنا إىل الشمس التي كانت تغرق يف الصحراء .بدت لنا
كأهنا ترفع يدها مستنجدة بنا أن ننقذها قبل أن تغرق يف جحيم
الظالم .كان صعبا علينا فهم مرور الزمن ،فقد بدت لنا الشمس
الغاربة جزءا من اجلامل األبدي الذي ُيغرق الكون كله .تعاىل
نتبي
صوت عزف عىل آلة الطنبور ،مىض بعض الوقت قبل أن ّ
خيوطه من بني هدير اجلامل من حولنا .كان الرجل الذي أحرض
الطحنية هو ّأول من تن ّبه إىل الفتى اجلالس يف مقدمة البص يعزف
83
حلنا حزينا مثل تلك الشمس الغاربة ،بدا لنا اللحن نفسه وكأنه
يستنجد بيشء جمهول حتى ال يضيع وسط أمواج السحر الذي
يغرق املكان.
ثم بدأ الفتى يغني ،كان يغني مقطعا وتغني الفتاة اجلميلة
مقطعا آخر ،غرقنا متاما يف سحر الغناء الذي شعرنا كأننا نطفو
فوق أمواجه .رأيت القمر يقرتب من النافذة ،جذبه صوت الغناء
بنرجعها،
بحنان شديد ،حنان بتاع زول مف ّلس ،ويقول ليه( :أ ّمك ّ
لكن واهلل بت شيخ النذير دي طيبة ومسكينة ،إنت بس ما تعرفها،
بعدين بت يتيمة ،حرام أنا لو ط ّلقتها أخو يراعيها ما عندهاَ .و ِكت
طر َدتك من البيت ،أبوها رسلها ،أبوها فعال كان راجل َف ُقر ،واهلل
َ
ِ
أنا فرحت َوكت مات!).
وحسني يقول ليه( :دي مرة قاهرة ،بتقدر تد ّبر حياهتا ،ندّ هيا
الورقة ومعاها عس لبن .وكيف ما عندها أخو؟ النسوان زمان
59
كان بيقولوا نميش للنذير يدّ ينا اجلنا ،طيب ليه ما جاب الولد!؟
النجار خم ّلع!).
وال باب ّ
شيخ النذير دا استغفر اهلل من ذنبه قالوا بتاع ُسفيل .عز الدين
ود حسن نوري قبل يميش اخلرطوم زمان مشى ليه وقال ليه:
(عندي عوارض ،حمل ما اشتغل حتصل مصيبة) ،قال ليه :اجلامعة
ممكن يفكّوا العارض ويشوفوا ليك شغل!).
ضحك سليامن األعرج وقال :شغل شنو دة ج ّن سفيل وال
مكتب عمل!
بعدين بعد يشتغل قالوا ليه اجلن بيجوك يف اليوم تالتة مرات!.
قال سليامن مدّ عيا عدم الفهم :جيوه ليه؟
قال سليامن التاجر :حيجوه يعني لقولة خري؟ حيجوه ينوموا
معاه عشان خيلصوا حقهم!.
أها وعز الدين قال شنو؟
قال ليهم تالتة مرات يف اليوم كتري! حنشتغل متني يعني لو
اجلن حينط علينا كل شوية!.
ضحك األعرج وقال:
يا سليامن السنة الفاتت حسني قالوا طلب بتّك الصغرية أبيت
تدّ يه ،هسع كيف؟
ضحك التاجر وقال :واهلل أنا ما أبيته ،البت قالت دايرة تقرأ،
هسع لو وافقت كان مرقنا لينا
أصلها بت َف ُقر ،ال َق ُروا عملو شنو؟ ّ
60
يب كيلو دهب زي الربنامج بتاع التلفزيون!.
قال الطاهر :قبل سنتني جاين قال يل داير أزرع معاك يف
احلواشة .أنا يف احلقيقة كنت حمتاج يل زول معاي ،كنت داير
ّ
أزرع مساحة أكرب شامر ،أنا كنت سامع انه بيشتغل كويس لكن ما
بيسمع الكالم ومرات يسافر أثناء املوسم بدون يك ّلمك ،قلت ليه
يا حسني إنت مزارع كويس لكن أنا كامن بحب االنضباط.
قال يل( :انضباط شنو! دي زراعة وال دفاع شعبي!) ،قلت
ليه( :دفاع شعبي ما بعرفه ،لكن أنا عندي كل يش يف مواعيده،
ننضف الزراعة ونروهيا باملواعيد) ،قال يل:
نسدّ البوغة باملواعيدّ ،
(خالص أ ّديني يومني أفكر يف املوضوع ألن قصة انضباط دي
بتذكّرين اجليش) .قبل سنتني ناس اجليش كان قبضوه يف سوق
السبت ،و ّدوه معسكر ،الظاهر تعب فيه تالتة شهور لغاية ما
رشد) .قلت ليه خري ،لكن تاين ما رجع .يعني رشد قبل ما نبدأ
ِ
هسع؟!.
معسكر الزراعة! يا ريب يكون ماخدْ يف خاطرو مني لغاية ّ
ضحك حاج سعيد وقال :أنا احلمدهلل ال جاين يل عرس وال
يل زراعة .لو جاين للزراعة كنت بش ّغله ،األوالد كلهم مشوا
الدهب ،ما تصدّ ق َو ِكت تلقى ليك زول جيي داير يزرع! حتى لو
زرع القمح يف الصيف! والعيش يف الشتاء!
قال الطاهر :لكن أنا نفعته ،لو قلت ليه تعال أزرع ما كان مشى
مرق ليه بشوال شامر
الدهب ولقى نصيبه! لو زرع معاي كان َ
وشوال قمح وقرياطني ويكة!.
61
قال صالح اجلاز :الطاهر إنت الظاهر عاوز ليك سلفية وال
حاجة!.
يمول يل املوسم كان
ضحك الطاهر وقال :واهلل لو لقيت زول ّ
وسعت الزراعة شوية السنة دي ،أوالد حسن أخوي قالوا ماشني
ّ
الدهب وقالوا يل ممكن تزرع أرضنا معاك السنة دي!.
بمنسق
رحب به حاج سعيد :مرحبا
جاء فارس بعد قليلّ ،
ّ
الرشطة الشعبية السابق!.
منسق
قال سليامن األعرج :بدل السابق أحسن تقول ليه ّ
الرشطة الشعبية املخلوع! ألن الكيزان وكت استغنوا منه وال حتى
قالوا ليه رفدناك .جا تاين يوم لقى زول قاعد يف حمله! الرشطة
الشعبية بقت زي بلدنا اهلاملة دي ،اليصحى بدري يقلبها!.
قال فارس :احلمدهلل لقينا شغل! الدهب بتاع حسني جا يف
وقته!.
مالك ومال حسني كامن؟
مايل كيف؟ الزول صاحبي من زمان ،يف املدرسة كان وراي
والزمن داك كان ضعيف وقصري عشان كدة األوالد الكبار بيقلعوا
منه الفطور ويد ّقوه بال سبب ،أنا كنت ش ّغال ليه حارس شخيص
حق الفطور ما عنده ،أوىل
من الزمن داك ،لو كنت بحرسه أيام ّ
أبقى حارسه الشخيص بعد بقى غني!.
وحتحرسه من منو؟.
الكيزان احلرامية أول ما سمعوا بقصة الدهب ،جاه ضابط
62
أمن قال ليه ناس اجليش بيفتّشوا عليك عشان إنت رشدت من
اجليش ،أنا ممكن أعمل ليك محاية ،لكن تدّ يني كيلو دهب! باهلل
شوف الناس املا بتختيش دي! حسني أ ّداه مليون جنيه وقال ليه
تعال يل بعد فرتة!.
ضحك حاج سعيد وقال :حراستك ليهو دي زي حراسة
الديب للغنم! زي حراسة الكيزان لبلدنا!.
واصل فارس :أنا قلت ليه( :جرام ما تدّ يه! الناس ديل أنا
بعرفهم كويس ،لو جاك تاين قول ليه قابل فارس ،السكرتري
بتاعي)!.
إنت سكرتري وال غفري؟
غفري شنو يا حاج! أصلها وكالة؟ أنا مدير أعامل حسني عبد
الرسول!.
يا زول إنت مالك تر ّقي نفسك برسعة كدة من غفري يل سكرتري
يل مدير أعامل ،بعد شوية حتقول الدهب حقي!.
قال فارس :شيخ عيل بتاع اللجنة الشعبية جاهو قال ليه أدفع
ربع للجنة الشعبية وأنا بعفيك من الرضائب والزكاة وبو ّقف
لينا ت ّ
ناس اجليش لو جو يفتشو عليك!.
ربع حيميش عىل جيب شيخ
قال سليامن األعرج :وطبعا الت ّ
عيل!.
قال فارس :جيب غريق تقول فيه (كوروكي) أصال ما بيتميل!.
63
هسع ،ألن
أنا قلت ليه( :قول ليه خري ،لكن ما تدّ يه حاجة ّ
ممكن ينفعك يل قدّ ام لو عاوز تصديق ألرض وال حاجة!) ،حسني
قال عاوز يعمل مصنع تعليب ،أنا قلت ليه أحسن تقلب بالقروش
دي يف السوق!.
قال حاج سعيد :يقلب وين ،دا لو طلع شرب من البلد دي،
يأكلوه متاسيح الكيزان حي!.
قال الطاهر :أنا رأيي يعمل مرشوع قمح كبري ،جييب
ّ
الرشاشات!.
قاطعه فارسّ :
رشاشات شنو؟ دا مرشوع وال جنجويد! ما
قادر تقول الرش املحوري؟.
اخلوي واسعة وخصبة ،بس
واصل الطاهر :األرض فوق يف َ
مشكلتها املوية .لو جاب الرشكات الكبرية البيحفروا األرض
باملكنات ،ممكن يطلعوا موية كترية!.
قال فارس :مكنات شنو اليحفروا بيها ،مرشوع دة وال النهر
الصناعي العظيم!.
قال حاج سعيد :املوية مشكلة ،والكهرباء بقت تقطع كتري،
نص املوسم تقطع .عشان كدا أحسن
ما ممكن يزرعوا بيها ويف ّ
يشوف ليه حاجة تاين.
قال األعرج :خليه يعمل مرشوع تسمني ،يشرتي هبايم،
وعجول وممكن يل قدّ ام يعمل مصنع لألجبان!.
طيب ما نفس املشكلة ،مع زراعة األعالف حتكون التكلفة
64
عالية .لو بلدنا دي فيها مطر ومراعي كبرية ممكن.
قال فارس :أنا رأيي ،قلت ليه ،ختيل الدهب قاعد أو تشرتي
دوالر أو بيوت .ألن بعد شوية اجلنيه حقنا دا إال تشيل منه
تالتة شواالت عشان تشرتي ربطة جرجري .بعدين اجلامعة ديل
ما حيخ ّلوه إال يقلعوا القروش دي .نعمل بالغ نقول اترسق
غرة صالة ويقول ليهم أنا بقيت
أو يعمل ليه دقينة وننجر ليه ّ
معاكم ،يدّ هيم شوية قروش يقول ليهم دا دعم للجهاد .دا أحسن
مرشوع اآلن .ويرتشح جملس الشعب .حيجوا ناس املؤمتر الوطني
ّ
يرتشحوا معاه عشان يلقوا ليهم قرشني وخيلعوا .والدقينة ساهلة،
أنا قلت ليه حتى الكيزان األصليني ناس شيخ عيل ،شايلني املوس
يف جيبهم .شيخ النور مرة حكى يل قال يل( :مشيت يل شيخ عيل
يف البيت داير يل شهادة سكن للولد .أنا شعرت يف حاجة ألن يف
األول ما كان داير يقابلني ،سام ُعه يقول يل الولد :قول ليه مايف.
كوركْت قلت ليه :أمرق يا عيل وإال بجي داخل!) .أها جا مارق!
َ
لقيت دقنه حملوقة نضيف ،قال يل :ما بقدر أط ّلع ليك الشهادة إال
الدقن مترق شوية عشان أقدر امرق من البيت) ،قلت ليه( :وط ّيب
(املرة الصغرية مسكينة
حلقت الدقن ليه؟) ،ضحك وقال يلَ :
غشيمة شوية .سم َعت أخبار انقالب عسكري يف بوركينافاسو يف
التلفزيون ،بدون تسمع اخلرب كويس جات جارية وأنا يف احلامم
خبطت يل الباب ،قلت ليها يف شنو :قالت يل أحلق يف انقالب!
رضبتني خلمة بدون ما أشعر حلقت الدقن ،وجيت جاري ،كنت
جمهز يل حفرة يف احلوش عشان الظروف ما معروفة لو حصل يش
ّ
ندس فيها شوية دهب النسوان لغاية نعرف احلاصل! أها ش ّغال
65
املرة التانية قالت يل:
أجهز يف احلفرة وأمللم يف احلاجات جاتني َ
االنقالب يف بوركينافاسو!).
66
العقرب
كنا نجلس ثالثتنا عىل األرض يف ركن الزنزانة البعيد ،نشعر
باإلرهاق بسبب عدم النوم ليال طوال عدة أيام ،كنا نشعر يف تلك
اللحظة هبدوء غريب ،ربام من فرط اإلرهاق الذي خيمد فيك حتى
الرغبة يف التفكري .قمنا بعمل اقرتاع رسي عىل حبة سجائر إضافية
خيمن نوع التعذيب الذي سنتعرض له هذه الليلة.
ملن يستطيع أن ّ
طوال ٍ
ليال كانوا ُيبقوننا مستيقظني حتى الصباح بحيل خمتلفة:
التعليق يف مروحة السقف ،أو الرش باملاء البارد أو الصدمات
الكهربائية.
بعد قليل اقتحم ضابط األمن الزنزانة ،ومعه جندي ،يبدو أن
لديه اليوم فكرة جديدة ،فقد أمر اجلندي قائال :امجع أحذيتهم!.
مل تكن هناك أحذية باملعنى املعروف ،كانت كومة من القامش
والبالستيك املهرتئ ،مجعها اجلندي ووضعها يف كيس بالستيك
أسود .تو ّقعت أهنم ربام سيرضبوننا عىل أقدامنا .للوهلة األوىل مل
أشعر باخلوف ،كنت أشعر أن أطرايف قد فقدت اإلحساس من
تعرضت إليه من رضب ،بام يكفي لعدم اإلحساس بأي
فرط ما ّ
67
تعذيب جديد.
عرض الضابط آخر حيل التعذيب ،قال خياطبنا:
عندها َ
أنتم األرشار يف هذا الوطن تريدون إغراق وطننا يف الفوىض،
تتظاهرون ضد السلطة الرشعية ومتزقون صور رأس النظام ،يا
لكم من تعساء! .مل يكن هناك جديد حتى اآلن ،نفس اخلطبة
اليومية تقريبا.
رفع علبة زجاجية أمام املصباح الكهربائي الذي حيمله يف يده،
فرأينا شيئا صغريا يتحرك داخل الزجاجة.
أعلن بنربة انتصار :ستقيض هذه العقرب الليلة معكم يف
الزنزانة! إهنا من النوع الذي يعيش يف اجلبال ،تتغذى عىل
األعشاب السامة والصخور! لدغتها تساوي لدغة مائة عقرب
عادية!.
ووجه ضوء
فتح الضابط غطاء العلبة ثم نثر حمتوياهتا أرضاَّ ،
مصباحه الكهربائي عليها .رأينا العقرب يف ضوء املصباح ترسع
هاربة باجتاه اجلدار ،عرفنا أننا خرسنا مجيعا رهان حبة السجائر.
يف كل األحوال من سيأبه للفوز بسيجارة ،إن كان ال أحد منا
سيضمن منذ اللحظة أنه سيعيش حتى الصباح!.
مل يكن هناك ضوء كهربائي يف الغرفة ،حني أطفأ الضابط
مصباحه ساد يف املكان ظالم رهيب ،كان هناك ضوء خفيف
يتسلل عرب الباب من املمر .أغلق الضابط باب الزنزانة ،فغرقنا
يف الظالم .بعد قليل بدأنا نتبني خيوط الضوء القليلة التي كانت
68
تترسب عرب النافذة الصغرية يف أعىل اجلدار من مصباح كهربائي
بعيد ربام كان أحد املصابيح املستخدمة يف حراسة أسوار السجن.
كانت تلك املرة األوىل التي ننتبه فيها خليوط الضوء تلك ،والتي
كانت تسقط عىل اجلدار املواجه للنافذة الصغرية دون أن تيضء
شيئا حوهلا ،بل ترتك فقط خيطا مائيا رقيقا عىل اجلدار.
يف البداية مل جيرؤ أي منا عىل احلركة من فرط اخلوف والذهول،
قال أكثرنا خربة :يف املرة التالية جيب أن نرتاهن عىل يشء أكثر قيمة
حتى نفكر بعمق ،وال نكتفي باألشياء التقليدية.
من حتدث كان أكثرنا متاسكا ،يبدو أنه اعتاد بسبب تعدد مرات
اعتقاله عىل هذه املفاجآت ،يف السنوات األخرية كان قد قىض يف
املعتقل وقتا أطول مما قضاه يف بيته أو يف أي مكان آخر ،كان دائام
حيكي أنه يف إحدى الفرتات القليلة التي قضاها خارج السجن،
كان ينهي معاملة يف إحدى املؤسسات وحني ُطلب منه كتابة
عنوانه ،كتب دون تردد ودون أن يشعر بوجود خطأ ما ،عنوان
املعتقل!
قال :لدينا دقائق قليلة نفكر فيها كيف جيب أن نحمي أنفسنا
قبل وصول العقرب إىل مكاننا .مل تكن معنا أعواد ثقاب ،كنا
نخفيها يف الفناء لنستخدمها يف التدخني أثناء االسرتاحات التي
ُيسمح لنا فيها باخلروج إىل الفناء ،كنا نتص ّبب عرقا .مل أفهم ما
قدمي احلافيتني من
الذي قاله زميلنا ،بدأت ال إراديا أحاول رفع
ّ
األرض ،يقولون إن لدغة العقرب يف األطراف هي األسوأ! كنت
مشتّتا بني رضبة املوت القادمة وبني صور أرسيت التي بدأت تقف
69
أمامي ،كأهنم جاءوا إللقاء نظرة وداع أخرية .ابنتي الكربى كانت
تقف يف املقدمة واحلزن خييم عليها ،ستكون قد استعدت للذهاب
للمرة األوىل إىل املدرسة .مل أكن متأكّدا من اليوم الذي سيبدأ فيه
عامها الدرايس األول ،لكنني حاولت حساب ذلك فوصلت إىل
أن يوم ٍ
غد ربام سيكون يومها األول يف املدرسة ،اآلن مل أعد متأكّدا
إن كنت سأكون ح ّيا حني تذهب ابنتي للمرة األوىل إىل املدرسة.
قال زميلنا الذي حافظ عىل بعض متاسكه :هناك حبل تعذيب
ّ
سنعذب أنفسنا بأنفسنا هذه الليلة،
مربوط إىل مروحة السقف،
سنحاول تقدير الوقت ،يمسك كل منا باحلبل ملدة دقائق ثم خييل
الفرصة لآلخر ،وهكذا حتى الصباح ،بدال من أن نقيض الليلة
كلها يف رعب وخوف ستخفف الدقائق التي يتعلق فيها أحدنا
إىل مروحة السقف من رعبه وخوفه ،ستكون هذه االسرتاحة من
انتظار املوت مفيدة ،وتعطي كل واحد فينا بعض القوة لنصمد
حتى الصباح! ثم تنهد وقال :من املؤسف أنه ال توجد سوى
مروحة سقف واحدة ،وإال لكان هناك أكثر من حبل للتعلق فيه!
شعرنا باألسف لعدم وجود معدات تعذيب كافية .قال زميلنا
املتامسك مازحا :حني يزورنا مقرر حقوق اإلنسان إن عرف
مكاننا ،سنطالب بالعدل ،بتوفري أدوات كافية للتعذيب ،حبل
ومروحة لكل مسجون!
قال زميلنا :يمسك أحدنا باحلبل ويبدأ البقية يف العد حتى
الوصول إىل الرقم مخسامئة ،وعندها يتسلق من عليه الدور احلبل
وهكذا .عملية العد نفسها ستساعد يف شغلنا قليال عن التفكري يف
70
العقرب .صمت قليال ثم قال كمن يفكر يف الظالم بصوت ٍ
عال:
ربام وجدت العقرب طريقها إىل اخلارج ،لكن ذلك سيعني أن
نظل طوال فرتة إقامتنا هنا يف ترقب ظهورها يف أية حلظة!.
مل يكن هناك وقت لنضيعه يف التفكري بصوت ٍ
عال ،حتركنا فورا
نتحسس طريقنا يف الظالم حتى عثرنا عىل احلبل.
ّ
عيل،
من حسن احلظ ،وقعت القرعة التي أجريناها برسعة ّ
جيرب التعذيب اإلنقاذي من العقرب .يف املرة
ألكون أول من ّ
األوىل حني قاموا يف حفل استقبالنا بتعليقي إىل مروحة السقف،
كنت متأكدا يف الدقائق األوىل أنني سأموت قبل أن تالمس
قدماي األرض مرة أخرى ،وبدت يل مروحة السقف مثل مشنقة.
أما اآلن فقد شعرت ّ
أن هذه املشنقة هي واحة األمان الوحيدة يف
العامل ،هي التي ستوفر يل دقائق ثمينة للحياة .مل أشعر بآالم اليدين
وأجزاء اجلسم األخرى بسبب تعلقي يف السقف ،كان كل مهي
ّ
أستغل دقائق احلياة الثمينة يف استعادة حيايت بوضوح أكثر ربام
أن
للمرة األخرية.
ما إن شعرت ببعض األمان حتى قفزت صورة سالفة إىل
واجهة ذاكريت .صبيحة يوم اعتقايل ،ذهبت معها إىل السوق،
واشرتينا بعض األشياء التي ستحتاج إليها يف املدرسة ،كانت قد
تبقت بضعة أشهر عىل بداية العام الدرايس ،لكنها كانت متعجلة
للذهاب إىل املدرسة .اشرتينا حقيبة بالستيكية محراء صغرية
ُرسمت عليها بعض الشخصيات الكارتونية ،لتضع فيها بعض
األشياء التي ستحملها معها إىل املدرسة ،قارورة من البالستيك
71
امللون للامء وعلبة بالستيك صغرية لتضع فيها وجبة إفطارها.
كانت سالفة تبكي حني أخذين اجلنود من البيت ،مل تفهم ِل َ جيب
عيل أن أذهب معهم ،وكانت تبكي ألهنا كانت ترغب يف اخلروج
ّ
معي وأمسكت أمها هبا لتمنعها من ذلك .أبلغني الضابط أنني
سأغيب فقط لنصف ساعة أجيب فيها عن بعض األسئلة التي
تتعلق ببعض نشاطايت.
مضت ثالثة أشهر وما زلت يف املعتقل ،مل يتم حتى اللحظة
أتعرض فقط يوميا مع زمالئي للتعذيب .بعد
استجوايب ،كنت ّ
مرور أكثر من شهرينُ ،ح ّولنا من املعتقل الرسي الذي بقينا فيه إىل
هذا السجن ،شعرنا ببعض األمل بأن خروجنا من ذلك املعتقل
الرسي قد يكون إشارة لقرب اإلفراج عنا ،لك َّن شيئا مل يتغري .كنا
نتعرض لنفس التعذيب يوم ّيا ،ولنفس حماوالت جعلنا نعرتف
ّ
بجرائم مل نرتكبها لالستيالء عىل السلطة.
مرت الدقائق الثمينة مثل ملحة برص ،حني أعلن زميالي
ّ
وصوهلام إىل الرقم مخسامئة .نزلت من احلبل وشاركت مع زمييل
اآلخر يف رفع زميلنا وربطه إىل مروحة السقف.
كان العرق يتصبب غزيرا من جسمي ،حتى شعرت أن
قدمي ،كنت أرفع قدمي احلافية وأرضب هبا
األرض تغرق أسفل
ّ
األرض أمال يف قتل العقرب إن اقرتبت مني ،لكن زمييل نبهني
ّ
أن هذه الطريقة قد جتذب العقرب إىل مكاين ،ألن العقرب ربام
ستفضل أن تتحرك قريبا من اجلدار ،توقفت عىل الفور ،لكنني
ّ
واصلت رفع قدمي الواحدة تلو األخرى يف اهلواء ،نظرت باجتاه
72
النافذة التي يترسب منها ضوء ضئيل فوجدهتا عالية جدا ،كام أهنا
مغلقة بقضبان حديدية بحيث يستحيل التعلق فيها كام خطر يل
يف البداية .مرت دقائق رهيبة وحان دور زميلنا الثالث ،رفعناه،
كان يشكو من آالم يف قدميه بسبب التعذيب ،فلم يستطع التع ّلق
ج ّيدا يف احلبل وسقط عىل األرض ،رفعناه مرة أخرى ،رغم أنه
كان حياول إقناعنا بأن نتعلق نحن إىل احلبل ونرتكه ،لكننا أقنعناه
أن يبقى ممسكا باحلبل ،وسنساعده نحن برفع جسده بأيدينا حتى
نخفف الضغط عىل يديه ،مل يكن يرغب يف إرهاقنا ،لكننا أرصرنا
عليه ليبقى يف مكانه .كان العرق يتصبب مني بشدة ،وارتفع
صوت دقات قلبي ،خاصة أننا مع بقائنا ونحن نرفع جسد زميلنا
الثالث مل يكن متاحا يل رفع أقدامي من األرض .كنت أحدّ ق يف
تبي وجود يشء يتحرك .أحيانا ،كان خي ّيل يل
الظالم حويل حماوال ّ
أنني أرى شيئا يشبه ذيل العقرب املرفوع يتحرك باجتاهي ،كنت
أحبس أنفايس منتظرا الرضبة القاتلة يف كل حلظة.
جاء دوري مرة أخرى للصعود إىل احلبل .ما إن ارتفعت قدماي
يف اهلواء ،حتى عدت أفكر يف ابنتي وزوجتي .تركت لزوجتي يف
البيت ماال قليال ،وال أعرف كيف ستستطيع تدبري أحواهلا إن طال
غيايب ،ربام جيب أن تذهب للعيش مع والدها .بيت والدها بعيد،
وستكون هناك مشكلة يف وصول ابنتي إىل مدرستها ،فكرت :ربام
يمكنهم نقلها إىل مدرسة أخرى مؤ ّقتا .مدرسة تكون قريبة من
بيت جدها .بسبب عميل يف مؤسسة حكومية ،ربام يطردونني من
العمل بسب الغياب .ستكون زوجتي أبلغتهم أنني معتقل يف قضايا
ربرا إضاف ّيا لطردي من العمل .وبالطبع
سياسية .وسيكون ذلك م ّ
73
عيل
حني ال ندفع إجيار البيت ألشهر سيطردنا املالك .وسيكون ّ
حني أخرج من هنا ،أن أبدأ استعادة حيايت من الصفر ،لن يكون
سهال العثور عىل عمل ،ال توجد فرص كثرية .ومعظم الرشكات
يرسهم استخدام
اخلاصة يملكها أشخاص يتبعون للحكومة ،لن ّ
شخص تتهمه حكومتهم بالتواطؤ ضدها.
مل أجد حال ألي من مشكاليت .حني انتهت فرتيت وحان دور
زمييل اآلخر ،كنت أتوقع وأنا أهبط إىل األسفل أنني ما إن تالمس
قدماي األرض ،حتى أجد العقرب بذيلها املرشع يف اهلواء يف
انتظاري .لكن حلسن احلظ وصلت قدماي إىل األرض بسالم.
بدأت فورا يف حتريكهام برسعة إىل األعىل أمال أن متر العقرب من
أسفل جسدي دون أن متسني .كنت أبطئ أحيانا حني أرفع إحدى
متعجلة ال شك أنني حني أرفع
قدمي يف اهلواء ،لو مل تكن العقرب
ّ
ّ
قدمي وأنزهلا ،سوف أنزهلا فوق ذنبها ،لكن العقرب ستكون
قدمي ،هي نفسها
متعجلة بحيث أهنا ستعرب كالسهم من بني
ّ
ّ
متعجلة وهي تبحث عن
ستشتم رائحة خطر يف املكان ،وستكون
ّ
ّ
مكان آمن هلا! هل تعرف العقرب أهنا أيضا يف السجن؟! لو كانت
تعلم أنني أضعف منها كثريا ،ربام لبقيت بعيدا عنا ،هي تستطيع
أن حتفر أسفل اجلدار ،وجتد طريقا إىل احلرية ،بينام أظل أنا يف رمحة
من ال يعرف الرمحة ،فكرت قليال :هل حني حتفر العقرب أسفل
اجلدار وجتد نفسها يف اخلارج ،هل ستشعر بالفرق؟ أخشى أهنا
بعد ضياع جهد عدة ٍ
ليال يف احلفر ستجد نفسها يف فناء السجن!
أو ستكتشف أن خارج السجن نفسه ليس سوى سجن كبري! لكن
العقرب لن هتتم ،ستبحث عن أمجة حشائش أو فرع شجرة جاف
74
أو شقوق جدار وختتبئ فيها وخترج ليال لتدبري عيشها! انتبهت
لفكريت األخرية! أن العقرب خترج ليال لتدبري عيشها ،وبدأت
أرفع قدمي بطريقة هستريية ودون قصد خت ّطيت الرقم الذي
توقفت عنده أثناء حسايب لفرتة زمييل يف احلبل بأكثر من مائة! لكن
زمييل اآلخر كان ال يزال حيتفظ بالرقم الصحيح.
حني جاء دوري للمرة السابعة أو العارشة كنت منهكا متاما،
ربام بسبب اخلوف وقلق انتظار العقرب ،أكثر من أي جمهود بذلته
زمييل إىل احلبل أو التعلق باحلبل ،لكنني رغم التعب
يف رفع
ّ
الشديد استطعت الصعود والبقاء يف األعىل دون مساعدة .كنت
أشعر أنني أنزف داخل جسدي بنفس نزف العرق الذي غطى
جسمي ،وأن مقدريت حتى عىل التفكري قد تعطلت .لبثت يف مكاين
زمييل .يف
مثل حجر ،ال أرى وال أسمع شيئا وال حتى صوت
ّ
النهاية حني شعرت أن الوقت طال وأنني أخذت أكثر من حصتي
كثريا ،ناديت عىل زمالئي فلم أسمع شيئا ،تركت جسدي ينزلق
إىل األرض ،فوجدت نفيس فوق جسدي زمييل ،كانا مستغرقني
وسمها ،وأسلام
متاما يف النوم ،نسيا من فرط التعب العقرب
ّ
جسدهيام املكدودين إىل النوم ،كانت خيوط قليلة من ضوء الفجر
قد ترسبت إىل الغرفة ،لكن الرؤية كانت ال تزال غري واضحة.
زمييل وأسلمت جسدي إىل النوم.
تكومت بجانب
ّ
75
جدي والشاي ورئيس اللجنة الشعبية
ّ
قلت جلدي املشغول برشاب الشاي :سيحرض رئيس اللجنة
الشعبية اليوم!.
جفل جدي ووضع كوب الشاي أرضا ،وقال :ماذا يريد هذا
التافه؟.
قلت :يقول إنه يريد احصاء األرسة بنفسه .يقول إننا نحصل
عىل حصة ُسكّر أكرب من عددنا احلقيقي!.
واحلقيقة ّ
سجل كل أفراد األرسة ،حتى
أن جدي هو الذي ّ
املوجودين خارج الوطن ،أضاف حتى بعض املوتى ،مفرسا ذلك
بقولهَ :من العبقري الذي يستطيع أن جيد فرقا واحدا بيننا وبني
املوتى!؟.
وكل ذلك بسبب عشقه للشاي ،حيث تظل ناره مشتعلة طوال
اليوم ،وكانت حصة السكر التي ختص املوتى واألحياء تذهب
معظمها إىل جوفه ،دون أن تريض شيئا من هنمه املستمر إىل الشاي.
قال جدي :هل فرغ هؤالء األوغاد من ّ
حل كل مشاكل الدنيا
76
ومل يتبق سوى مشكلة رطل السكر الذي نكرم به ضيوفنا؟ قاموا
برسقة الديزل املخصص للموسم الزراعي وباعوه يف السوق
األسود ،ال يوجد دواء يف املستشفى ،والطبيب الوحيد هاجر من
الوطن ،املدرسة االبتدائية آيلة إىل السقوط فوق رؤوس التالميذ
وال توجد مقاعد ليجلسوا عليها أو كتب أو أقالم .وال عمل
لرئيس اللجنة سوى إحصاء الناس لتوزيع السكر بالعدل وهو ال
يرمي سوى لرسقة السكّر املتبقي لبيعه يف السوق السوداء!.
رشب جدي بقية كوب الشاي وقال يل :متى سيحرض هذا
الغبي؟.
قلت :قال إنه سيحرض بعد صالة الظهر.
وضع جدي خطته ،سنختبئ نحن ،وسوف تبقى النساء فقط
يف البيت وسنرتك باب البيت مفتوحا.
جاء رئيس اللجنة الشعبية ،وجد باب البيت مفتوحا ،طرق
الباب ومل يرد عليه أحد ،تردد قليال ونحن نراقبه من فوق السقف
نحبس أنفاسنا حتى ال ننفجر يف الضحك ،وألنه مسئول كبري،
بحكم الدستور ،فقد تقدّ م إىل داخل البيت مثل عادة أهل الريف،
وهو يص ّفق بيديه .أذكر قصة رجل يف القرية كان حيب مصافحة
النساء ،وكلام دخل إىل ٍ
بيت ما كان يتجاهل مكان الرجال وينطلق
إىل داخل البيت رافعا صوته مثل مذيع نرشة األخبار :كيف حالكم
يا أهل الدار!.
تقدم رئيس اللجنة الشعبية إىل داخل البيت ،حتى وصل إىل
77
صالة البيت الرئيسية وقام بتحية النسوة املشغوالت بتنظيف
القمح إلرساله إىل املطحن.
يف تلك اللحظة بالتحديد ظهر جدي فجأة وكأنه قادم من
اخلارج.
رصخ بصوت عال يف الرجل الذي كان حياول حتيته :ماذا تفعل
هنا يا رجل وسط النساء؟.
تل ّفت الرجل حواليه حمرجا ،وقبل أن حياول استدراك املوقف
قال جدي :كيف تدخل إىل البيوت بدون إذن أهلها؟.
ظهرنا نحن يف تلك اللحظة حسب اخلطة ورصخ جدي فينا:
أين كنتم يا أوالد ليدخل هذا الرجل إىل البيت وجيلس وسط
النساء.
ناداين جدي :اذهب يا ولد واستدعي أحد رجال الرشطة!.
ظهر أشقائي الكبار وهم حيملون العيص ،وقال جدي بعد
أن شعر بمأزق رئيس اللجنة الشعبية الذي أجلمته املفاجأة فلم
يستطع النطق :أال يوجد قانون يف هذه البلد؟ كيف تدخل البيوت
بدون إذن اهلها؟.
كنت أنا قد خرجت الستدعاء البوليس وتسكّعت يف الفناء
حسب اخلطة ،بدأ الرجل يعتذر :واهلل مل أكن أعلم أنه ال يوجد
رجال يف البيت!.
ارتاح جدي قليال لالنكسار الواضح يف صوت الرجل وقال:
78
بالنسبة يل ال مشكلة لقد قبلت االعتذار ،لكن األوالد لن
يقبلوا ذلك.
تطاير الرشر من عيون إخويت الكبار لدي سامعهم عبارة
جدي ،وقال أحدمها وهو يتقدّ م رافعا اجلزء احلديدي من العصا:
جيب أن نقتله!.
امسك به جدي ورصخ فيه :انتظر ،ذهب الولد إلحضار
البوليس!.
يف تلك اللحظة التي وصل فيها الرعب إىل مداه ،وصل عمي
حسب اخلطة وقال بصوت عال :أهدأوا يا إخويت ما الذي حيدث
هنا؟.
قال جدي :هذا الرجل دخل البيت بدون إذن ووجدناه جالسا
وسط النساء!.
ترصفه ،وانتهر األوالد
زجر عمي رئيس اللجنة الشعبية عىل ّ
يف الوقت نفسه ليضعوا العيص جانبا ويرتكوه حلل املشكلة.
قال جدي :أرسلنا الولد ليحرض البوليس ،بيوت الناس ليست
فوىض يدخلها كل من هب ودب!.
أمر عمي أحد إخويت ليجري إلعاديت قبل أن أصل إىل
البوليس ،وصاح يف النساء طالبا إعداد الشاي ،معلنا :يا إخويت
هذا الرجل جارنا وإن أخطأ فاملسامح كريم!.
شعر الرجل ببعض الراحة وترقرقت دمعة يف عينيه ،طلب منه
عمي اجللوس وذهب ليحرض الشاي ،رشب الرجل الشاي وهو
79
يكرر االعتذار بأنه مل يكن يعلم بأن البيت ليس به رجال.
سأله عمي بلطف عن الغرض من الزيارة.
قال بعد تردد إنه يف احلقيقة جاء إلحصاء سكان البيت بعد
أن وصلت شكاوي إىل اللجنة بأن األرسة حتصل عىل كمية من
السكر أكرب من احلصة القانونية.
وقال عمي :أنت بنفسك تعرف استهالك السكر مع عدد
األطفال الكبري والضيوف ،إهنا وقية واحدة لكل فرد هي كل
ما نحصل عليه من طاقة نستهلكها يف عراك ركوب املواصالت
العامة والشجار ،الناس بسبب الفقر يشعرون بالتوتر لذلك
يتشاجر اجلميع مع اجلميع طوال اليوم!.
قال رئيس اللجنة الشعبية :واهلل معكم حق.
وقال اجلد :بالعكس نحن عددنا زاد ،عدد من أقربائنا جاءوا
من القرية للدراسة أو العالج ويعيشون معنا .ال توجد فرص
عالج أو تعليم يف الريف!.
قال رئيس اللجنة الشعبية :كالمك صحيح يا حاج.
أخرج رئيس اللجنة الشعبية بطاقة متوين جديدة من جيبه
وقال :العدد املسجل هنا عرشين شخص ًا كم العدد اآلن؟ قال
جدي عىل الفور :أربعني.
رشف رئيس اللجنة الشعبية رشفة طويلة مصحوبة بخط
موسيقي قبل أن يكتب :مخسة وأربعني!.
80
الرحلة الطويلة نحو الشمس
أو أحالم امللكة النائمة
كانت الفتاة اجلميلة تتن ّقل داخل البص بجسد خفيف مثل
فراشة ،مل تكن متيش عىل قدمني مثل البرش ،بل تتخ ّلل األشياء
أثناء عبورها مثل سحابة ،مثل غاممة عطر ،وكانت رائحة جسدها
خليط ًا من عبق الزهور ورائحة األرض :رائحة احلياة .كنا نجلس
داخل البص كأننا يف رحلة إىل عوامل أخرى ،إىل الفضاء .وكأننا
منومون مغناطيسيا ،ال نعرف مل جيب أن نستيقظ أو نخلد للنوم.
ّ
أي من الركاب أين نحن ومتى نصل
مل تشغلنا الساعة ،ومل يسأل ّ
وجهتنا .كأننا وصلنا وجهتنا منذ زمان بعيد فلم يعد ذلك يشغلنا،
مل نكن نملك زمننا أو قرارنا أو حتى وجوهنا التي كانت تتحرك
آليا يف الفراغ ،تصطدم ببعضها ،مثل طائرات ورقية ،كأن قوة
جمهولة كانت تتحكم يف حركتها وسكوهنا.
حني توقف البص يف سوق ليبيا حمطته األخرية قبل أن ينطلق
إىل الصحراء .أبدى أحدهم الرغبة يف الذهاب إىل السوق لرشاء
علبة سجائر ،أعطاه الشاب الذي جيلس بجانبي ثالثة جنيهات
81
طالبا منه إحضار (صباع أمري) معه .قبل نزوله من البص ،تلكّأ
الرجل ونظر باستعطاف باجتاه الفتاة اجلميلة أمال أن تطلب منه
شيئا ما ،ترسله إىل أي مكان ،كان مستعدا للذهاب إىل اجلحيم
إن كان املقابل بسمة ساحرة أو كلمة شكر .مل خت ّيب اجلميلة ظنه،
طلبت منه بصوت مالئكي أن ُيرض هلا نصف رطل من حلوى
الطحنية! قبل أن متدّ يدها إىل جيبها لتسحب حمفظتها الصغرية
لتدفع قيمة الطحنية .ودون تر ّدد ،خرجت يف نفس اللحظة
وبنفس الرسعة مخسون حمفظة بعدد ركاب البص عارضني دفع
قيمة الطحنية! حتى الطفل اجلالس أمامي أخرج كيسا من قامش
الد ّمور به عمالت معدنية أصبحت خارج االستخدام بفضل
التضخم ،والتغيري املتكرر للعملة الوطنية ،وال تكفي لرشاء أية
يش ،عارضا الدفع! سحبت أنا أيضا حمفظتي وإن كنت بقيت
لربهة مندهشا لفكرة أن حيتاج كل هذا اجلامل ألكل الطحنية!
لكن الرجل الذاهب إىل السوق مل جيد مكافأة له أفضل من الطلب
نفسه ،رفض أخذ نقود من اجلميلة مؤكدا إنه يملك ماال كثريا .يف
ما بعد اكتشفت أنه مل يكن يملك ماال كثريا أو قليال ،وأنه اشرتى
حلوى الطحنية بثمن (صباع أمري) الذي حصل عليه من الرجل
اآلخر! ال بد أنه فكر قائال لنفسه :يستطيع الرجال االنتظار! لكن
لتبق
كيف نجعل املالك ينتظر؟! وما جدوى (صباع أمري) أصال؟ َ
األكواب املكسورة واألطباق كام هي يف مكاهنا ،يف كل األحوال
ّ
التقشف الذي أعلنته احلكومة ال يوجد كثري من الطعام
بسبب
حيتاج إىل استخدام حتى األطباق املكسورة .واختفت حلسن احلظ
مادة السكّر من البيوت واألسواق بسبب الغالء .عرفت بذلك
82
حني وجدت الشاب اجلالس بجانبي يتشاجر مع الرجل الذي
أحرض الطحنية ،هامسا له بأنه سيخرب اجلميلة ّ
بأن الطحنية تم
رشاؤها بنقوده إن مل ُي ِعد إليه النقود فورا! بالفعل سمعت الرجل
يقول وكأنه قرأ أفكاري :يمكنك االنتظار ،أنت معتاد عليه منذ أن
َولدت ،كأنك خرجت إىل الدنيا فقط لتتنقل من (صف) إىل آخر!
تقف أحيانا ىف صف لتشرتي خبزا ويميض الزمن وأنت واقف
ّ
وتدق مارشات انقالبات عسكرية
(يتغري حتى العامل من حولك)
وانقالبات مضادة ،وأنت واقف كأن مصري العامل كله متوقف
عىل انتظارك لقطعة خبز ال جتيء وإن جاءت ال تسد رمقا .أنت
متمرس عىل االنتظار دون هدف ،لكن كيف نجعل املالك ينتظر؟
هل رأيت من قبل مالكا يقف يف صفوف اخلبز أو الدواء؟!.
كف عن
كان ر ّده مقنعا حتى إن
الشاب اجلالس إىل جواري ّ
ّ
التذمر وتذكريه كل بضع دقائق بأنه مدين له بثمن الطحنية ،وأنه
هو من جيب أن تشكره اجلميلة ألنه دفع ثمن الطحنية .مل نشعر
بحرارة اجلو ،رغم أن الصحراء خارج البص كانت عىل وشك
االشتعال ،مىض النهار الطويل برسعة كأنه يسابق البص نفسه،
حتى انتبهنا إىل الشمس التي كانت تغرق يف الصحراء .بدت لنا
كأهنا ترفع يدها مستنجدة بنا أن ننقذها قبل أن تغرق يف جحيم
الظالم .كان صعبا علينا فهم مرور الزمن ،فقد بدت لنا الشمس
الغاربة جزءا من اجلامل األبدي الذي ُيغرق الكون كله .تعاىل
نتبي
صوت عزف عىل آلة الطنبور ،مىض بعض الوقت قبل أن ّ
خيوطه من بني هدير اجلامل من حولنا .كان الرجل الذي أحرض
الطحنية هو ّأول من تن ّبه إىل الفتى اجلالس يف مقدمة البص يعزف
83
حلنا حزينا مثل تلك الشمس الغاربة ،بدا لنا اللحن نفسه وكأنه
يستنجد بيشء جمهول حتى ال يضيع وسط أمواج السحر الذي
يغرق املكان.
ثم بدأ الفتى يغني ،كان يغني مقطعا وتغني الفتاة اجلميلة
مقطعا آخر ،غرقنا متاما يف سحر الغناء الذي شعرنا كأننا نطفو
فوق أمواجه .رأيت القمر يقرتب من النافذة ،جذبه صوت الغناء