أحلام الملكة النائمة - 2

‫العازف الذي يعمل معه‪( :‬ستفرج غدا!)‪.‬‬
‫مل تكن هناك أي إشارات هلذا الفرج املزعوم الذي ظل يتوقعه‬
‫طوال الصيف‪ ،‬كام أنه مل يكن يفعل شيئا‪ ،‬ومل يغادر منزله حتى‬
‫منذ عدة أيام للبحث عن عمل يساعد قليال يف ظهور الفرج‪ .‬حني‬
‫سمع صوت تليفونه الن ّقال وهو يلفظ أنفاسه األخرية بسبب فراغ‬
‫بطاريته‪ ،‬التي ّ‬
‫يتعذر شحنها بسبب انقطاع الكهرباء يف البيت‬
‫بسبب عدم دفع فواتري الكهرباء؛ ّقرر ّ‬
‫أن منظر أشعة الشمس التي‬
‫تتس ّلل مثل فراشات سعيدة بني فروع شجرة النيم‪ ،‬يستحق أن‬
‫يؤلف من أجله أغنية تدين حتى العوملة‪:‬‬
‫حبيبي كان أمجل كثريا‬

‫حني رأيت صورته يف الواتساب‬

‫هو وجهاز التليفون يشكوان اجلوع‪ ،‬حلسن احلظ يف حني‬
‫تو ّقف جهاز التليفون‪ ،‬كان هو ال يزال يعمل‪ ،‬بطاقة قليلة‪ ،‬لكي‬
‫‪34‬‬

‫يتعمد إبقاء جسده يف الفراش طوال اليوم‪ ،‬دون‬
‫حيافظ عليها كان ّ‬
‫يتحرك من مكانه إال للرضورة القصوى‪ .‬وبام أنه مل يكن يأكل‬
‫أن ّ‬
‫شيئا فإنه مل يكن حمتاجا وال حتى ليذهب إىل املرحاض‪ .‬بقي يف‬
‫فراشه بطاقته املتناقصة حتى إنه مل يستطع أن ير ّد عىل حتية عازفه‬
‫الذي ظهر فجأة يف صالة البيت‪ ،‬بتحية أفضل من حتيته أو حتى‬
‫يغي شيئا من‬
‫أسوأ منها‪ .‬اكتفى فقط بابتسامة صغرية دون أن ّ‬
‫وضع جسده الصامت‪ .‬دهش ألنه مل يسمع صوت الباب حني‬
‫دخل العازف‪ ،‬ال بدّ ّ‬
‫أن تشغيل اجلسم بطاقة قليلة خي ّفض حتى من‬
‫قدرات حاسة السمع!‪.‬‬
‫(لدي أخبار سارة)‪.‬‬
‫أعلن عازف األورغ‪:‬‬
‫ّ‬

‫تساءل املغني بكسل‪( :‬هل قرر أحدهم أخريا الزواج؟)‪.‬‬

‫(ال‪ّ . .‬قرر أحدهم أخريا الطالق!)‪.‬‬

‫(هل سنغني أيضا حني حيدث الطالق؟ هل يوجد حفل‬
‫طالق؟ ال بد أن هذه إحدى إفرازات العوملة!)‪.‬‬

‫(ال‪ ،‬إنه فالن‪ ،‬ورث ماال عن والده‪ ،‬وشقيقه يعمل خارج‬
‫الوطن‪ .‬لقد ط ّلق زوجته باألمس)‪.‬‬
‫(لقد غنّينا قبل عام يف زواجه‪ ،‬كانت فتاة مجيلة هلا أنف طويل‪،‬‬
‫ملاذا طلقها؟)‪.‬‬

‫تدس أنفها الطويل يف شؤونه‬
‫(ربام بسبب أنفها‪ ،‬يقال إهنا ّ‬
‫اخلاصة‪ .‬هو حيب النساء)‪.‬‬
‫(مؤكّد أنه سيتزوج قريبا‪ ،‬ال يستطيع العيش وحيدا‪ ،‬لدهيم بيت‬
‫‪35‬‬

‫كبري‪ ،‬وليس لديه أطفال‪ .‬حسب قوله جيب أن تكون هناك امرأة‬
‫ما‪ ،‬جتلس يف الفناء ّ‬
‫لتمشط شعرها الطويل‪ ،‬وتقطف أوراق نبات‬
‫امللوخية‪ ،‬وتتذ ّمر دون توقف لكي تكون هناك حياة يف البيت)‪.‬‬
‫بدأ املغني يردد مقاطع أغنيته اجلديدة‪ ،‬ربام استعدادا حلفل‬
‫الزواج املرتقب‪:‬‬
‫حبيبي كان أمجل كثريا‬

‫حني رأيت صورته يف الواتساب!‬

‫يقرر زير النساء هذا الزواج؟ ال يوجد‬
‫(وكيف سنعيش حتى ّ‬
‫دقيق يف هذا البيت!)‪.‬‬
‫قال عازف األورغ‪( :‬سوف تفرج غدا!)‪.‬‬
‫(وملاذا ال تفرج اليوم؟)‪.‬‬

‫(حيتاج الفرج لبعض العمل لكي يتحرك قليال)‪.‬‬

‫(وماذا سنفعل‪ ،‬هل نطوف يف األسواق ونقول للناس لدينا‬
‫يتزوج هذا‬
‫عرض جيد‪ ،‬سنحيي حفلت َْي بسعر حفلة واحدة ملن ّ‬
‫الصيف!)‪.‬‬
‫(الناس فقراء جدا‪ ،‬جمرد أن تبقى عىل قيد احلياة اآلن هو إنجاز‬
‫عظيم‪ .‬ال يفكر أحد يف الزواج‪ ،‬إن كنت أجد صعوبة يف تأمني‬
‫اخلبز يل‪ ،‬كيف سأفكر يف إنجاب أطفال؟)‪.‬‬
‫(تعودنا أن حيرض بعض من يعملون يف اخلارج يف فرتة الصيف‬
‫ّ‬
‫للزواج‪ ،‬أين ذهب اجلميع؟!)‪.‬‬
‫‪36‬‬

‫(وهل توقف أهل احلكومة أيضا عن الزواج‪ ،‬لدهيم كثري من‬
‫املال!)‪.‬‬
‫يفضلون إحضار مطرب معروف من‬
‫(مل يتو ّقفوا لكنهم ّ‬
‫املدينة!لكي يتحدث الناس عن العرس طويال جيب أن يكون‬
‫املغني معروفا)‪.‬‬
‫(لكنني أيضا كتبت اليوم أغنية جديدة‪ ،‬ربام جتعلني مشهورا‪،‬‬
‫يتبادل الناس صوري يف مواقع التواصل‪:‬‬
‫حبيبي كان أمجل كثريا‬

‫حني رأيته يف الواتساب‪.‬‬

‫فكّر عازف األورغ برسعة وبدأ يردد حلنا رسيعا اكتشفه يف‬
‫ذاكرته‪.‬‬
‫(لدي فكرة؛ ما رأيك أن نذهب لنغني يف السوق اليوم؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫سيكون ذلك جيدا‪ .‬ربام حني يشعر الناس ببعض البهجة وينسون‬
‫مشاكل حياهتم الكثرية‪ ،‬ربام سيفكر أحدهم يف الزواج‪ ،‬حني يكون‬
‫اإلنسان سعيدا سيفكر يف احلب!)‪.‬‬

‫(لكننا جيب يف هذه احلالة أن نغني جمانا مدى احلياة‪ ،‬ألننا‬
‫لو توقفنا حلظة واحدة سيتذكر الناس مشاكل حياهتم ويعودون‬
‫للحزن مرة أخرى)‪.‬‬

‫(البعض حني يشعر بالفرح يستمر لديه ذلك الشعور بعض‬
‫الوقت حتى وإن كان غارقا يف التعاسة!)‪.‬‬
‫(لنفرتض ّ‬
‫أن ذلك صحيح‪ ،‬وأن أحدهم شعر بالسعادة‪ ،‬رغم‬
‫‪37‬‬

‫تعاسته‪ ،‬وفكر يف احلب والزواج‪ ،‬من أين سيدفع لنا أجر احلفل‪،‬‬
‫إن كان يملك فقط رصيدا من احلب والفرح‪ ،‬لكنه ال يملك أوراقا‬
‫مالية؟!)‪.‬‬

‫فكر عازف األورغ قليال وقال‪( :‬سيساعده الناس‪ ،‬بإمكانه أن‬
‫يستدين!ما دام يستدين ليأكل‪ ،‬بإمكانه أن يستدين ليحب‪ ،‬احلب‬
‫قيمة سامية تبقى عىل مر السنني)‪.‬‬

‫(ال أستطيع االحتفاظ بقيم سامية كثرية لفرتة طويلة حني‬
‫أكون جائعا!)‪.‬‬
‫(لكن ليس باخلبز وحده حييا اإلنسان!)‪.‬‬

‫(أعرف ذلك‪ ،‬اخلبز وحده ليس كافيا‪ ،‬جيب أن يكون هناك‬
‫قليل من اللحم أحيانا‪ ،‬وبعض حساء اخلرضاوات‪ .‬بعض النساء‬
‫ماهرات‪ ،‬يستطعن عمل حساء من أي يشء‪ ،‬حتى من أوراق‬
‫الشجر)‪.‬‬
‫(أقصد أن غذاء الروح هو األهم من الغذاء العادي!)‪.‬‬

‫(الكالم سهل‪ ،‬هل تناولت طعاما اليوم؟)‪.‬‬

‫(نعم أرسل أخي من اخلارج ماال ألمي‪ ،‬فطبخت لنا حلم‬
‫الدجاج مع األرز!)‪.‬‬

‫(بإمكانك إذن أن تتحدث عن غذاء الروح‪ ،‬ما دمت ال تشعر‬
‫باجلوع مثيل!يف املرة القادمة حني تطبخ أمك الدجاج باألرز جيب‬
‫أن تتذكر أن رفيقك املغني يتضور جوعا حتى قاع روحه‪ .‬الشمس‬
‫رائعة ورائحة زهور الليمون والربتقال مجيلة والقمر رائع حني‬
‫‪38‬‬

‫ييضء الفناء‪ ،‬كلها أشياء مجيلة لكنها ال تصلح لألكل‪ ،‬لقد شبعت‬
‫روحي حتى خفت أن أتقيأ من ختمة روحي!لكن بطني ال يزال‬
‫فارغا وال زلت جائعا!)‪.‬‬

‫قال عازف األورغ‪( :‬سنذهب لنغني يف السوق‪ ،‬وحني يشعر‬
‫الناس بالسعادة سنجد ماال يكفي لرشاء يشء يؤكل!)‪.‬‬
‫قال املغني‪( :‬وهل ستسمح لنا احلكومة أن نغني ونجعل الناس‬
‫سعداء؟)‪.‬‬
‫(احلكومة ستكسب‪ ،‬حني يشعر الناس بالسعادة لن يفكر‬
‫أحدهم يف الثورة!)‪.‬‬
‫(بالعكس حني ينسى الناس مشاكلهم اليومية‪ ،‬التي تشغلهم‬
‫طوال الوقت سيكون لدهيم وقت ليفكروا يف من تسبب يف‬
‫مشاكلهم وأحزاهنم اليومية‪ ،‬سيتذكرون حريتهم املفقودة!)‪.‬‬

‫وهكذا حتا َمل املغني عىل جسده املرهق بسبب اجلوع وخرج‬
‫جتمع‬
‫مع العازف الذي محل معه آلة األكورديون‪ .‬يف السوق ّ‬
‫حوهلام بعض األطفال وبعض العطاىل‪ .‬وقف البعض يراقبوهنم‬
‫من عىل البعد ومها يغنيان يف الساحة الصغرية يف مدخل السوق‪.‬‬
‫ارجتل املغني عدة مقاطع وأحلان ألغنيته التي تدين خداع العوملة‬
‫وغنّاها برسعة‪:‬‬
‫حبيبي كان أمجل كثريا‬

‫حني رأيت صورته يف الواتساب‬
‫لكنني حني التقيته يف السوق‬

‫‪39‬‬

‫كان يبدو أكرب قليال‬

‫واألسوأ أن رجله اليرسى‬
‫كانت من األخشاب!‬

‫الرجل اليرسى من اخلشب‪ ،‬لكن كلمة‬
‫كان يكفي أن يقول إن ِّ‬
‫أخشاب كانت تعطي وقعا مشاهبا لكلمة واتساب‪.‬‬

‫وقف املارة يرقبون مظاهرة الغناء السوقي من عىل البعد‪ .‬ربام‬
‫كانوا خيشون أن يطالبهم املغني بدفع ثمن البهجة إن أظهروا أي‬
‫تعاطف مع العرض املرجتل‪ ،‬لذلك لبثوا يرقبون العرض يف طرب‬
‫صامت‪ .‬وجد البعض أن باإلمكان الشعور بالبهجة والسالم‬
‫من الداخل‪ ،‬دون أن يضطر اإلنسان إىل إظهار هبجته بالرقص‪.‬‬
‫الرقص يف مثل هذا املكان سيثري الغبار وربام تعتقد احلكومة إذا‬
‫ارتفع الغبار يف املكان‪ ،‬أن هناك مظاهرة بسبب غالء املعيشة‪ ،‬وقد‬
‫يعتقلون بعض الناس بتهمة االبتهاج دون سبب واضح‪.‬‬
‫لك ْن شيئا فشيئا بدأ الناس يقرتبون‪ ،‬لقد لعبت حرارة األداء‬
‫دورا كبريا‪ .‬تقدم الناس‪ ،‬ورسعان ما قام صبي باخلطوة األوىل‬
‫حني ابتدر الرقص‪ ،‬نظر إليه الناس بدهشة كأنه يقوم بعمل غريب‬
‫رغم أهنم كانوا يو ّدون عمل األمر نفسه‪ ،‬ثم ضاقت احللقة أكثر‬
‫وتقدَّ م صبية آخرون للرقص‪ ،‬ثم فجأة انخرط اجلميع يف الرقص‪.‬‬
‫حتى الباعة تركوا بضاعتهم املغشوشة أرضا وانخرطوا يف الرقص‪،‬‬
‫حتى بائع اللحم اخلائف أن ُي ْقدم أحدهم عىل رسقة قطعة حلم‪ ،‬أو‬
‫يعج هبا املكان قطعة عظم‪،‬‬
‫أن خيطف أحد الكالب الضالة التي ّ‬
‫ترك كل يشء وانخرط يف الرقص‪ .‬ويف محى الطرب‪ ،‬محل بعض‬
‫‪40‬‬

‫املارة املغني والعازف فوق أعناقهم‪ .‬شعر املغني وعازفه بالسعادة‬
‫ّ‬
‫بسبب التجاوب الذي مل يتوقعاه‪ .‬لكن املغني كان ال يزال يشعر‬
‫باجلوع الشديد حتى إن صوته أصبح جافا جدا بسبب اجلوع‬
‫والغبار‪.‬‬
‫لكن أحدا مل يكرتث لتغري صوته‪ ،‬كان الناس مجيعا يشعرون‬
‫بالبهجة وبشعور لذيذ أهنم تركوا أحزاهنم اليومية خارج مدار هذه‬
‫البهجة املجانية املرجتلة‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫ممنوع الـموت يوم زواج العم بابكر‬

‫أخريا أهيا السادة سينتهي انتظار قريتنا الطويل‪ :‬سنحتفل بزواج‬
‫العم بابكر‪ ،‬النائب السابق يف اجلمعية التأسيسية‪ .‬سيكون زواجا‬
‫تارخييا‪ ،‬ليس فقط ألن معظم من هرموا يف محى انتظار حضور هذه‬
‫اللحظة العظيمة‪ ،‬انتقلوا إ ّما إىل الدار اآلخرة أو إىل النسيان‪ ،‬بل‬
‫ّ‬
‫ألن جمرد إعالن الزواج كان يمثل حلظة انتصار يتيمة عىل عدد من‬
‫الكوارث الوطنية التي حالت طوال سنوات دون إمتام الزواج‪.‬‬

‫اجلو يبدو رائعا‪ ،‬ال توجد إشارات أعاصري أو هبوب‪ ،‬هنر النيل‬
‫يبدو هادئا ال خطط لديه لفيضان مفاجئ ُيغرق اجلزر والبيوت‬
‫ويؤ ّدي لتأجيل زواج العم بابكر مثلام حدث قبل عرش سنوات‪.‬‬
‫الناس مجيعا َيبدون يف صحة جيدة بفضل الضوابط اجلديدة التي‬
‫طبقناها بالكشف عىل كل مسافر حيرض إىل القرية بواسطة طبيب‬
‫متطوع‪ ،‬لضامن عدم وجود أية إصابة بالكولريا تؤ ّدي لوفيات‬
‫ّ‬
‫مفاجئة تؤ ّدي لتأجيل الزواج مثلام حدث عدة مرات طوال‬
‫األعوام املاضية‪.‬‬
‫تأكّدنا من عمل جلنة البعوض املنوط هبا جتفيف الربك‬

‫‪42‬‬

‫واملستنقعات التي خ ّلفها فيضان النيل‪ ،‬والتأكد أنه ال يوجد‬
‫بعوض ناقل للمالريا يف القرية‪ ،‬لتجنب مالريا وبائية تؤ ّدي‬
‫لتأجيل الزواج مثلام حدث يف العام املايض‪ .‬كان عمل اللجنة متقنا‬
‫لدرجة أننا اكتشفنا أهنم قد ج ّففوا هنر النيل نفسه يف بعض املناطق‬
‫يعج بمختلف‬
‫التي يتحول فيها بحذاء غابة السنط‪ ،‬إىل مستنقع ّ‬
‫احلرشات الوطنية الطائرة والزاحفة‪.‬‬

‫يف العام املايض ُأصيب شقيق العروس بمالريا خبيثة‪ ،‬جعلته‬
‫يدّ عي النبوة بصورة غري متوقعة‪ ،‬فقد اعتىل أعىل شجرة نخيل‬
‫يف القرية ليخطب يف الناس ويدعوهم إىل دينه اجلديد‪ ،‬واعدا‬
‫باحلصول عىل دعم ساموي للقضاء عىل األوبئة املهمة الثالثة‪:‬‬
‫اجلوع والكولريا واجلنجويد‪ .‬بعد تقديم موعظته األوىل‪ ،‬بقى‬
‫ساكنا مثل طائر حيضن البيض يف عشه‪ ،‬دون أن يكرتث ألي من‬
‫املصائب الدنيوية يف األسفل‪ ،‬والتي كانت جديرة باهتامم أي نبي‬
‫مسئول‪ ،‬حيث رجال الرشطة الشعبية يطاردون الباعة املتجولني‪،‬‬
‫وحيث األرامل الالئي كن حيملن عريضة يقدّ منها يف كل مناسبة‬
‫يف القرية تطالب بإعادة أزواجهن املفقودين يف خمتلف احلروب‬
‫جتمع أشخاص كانوا حيملون عريضة يطالبون فيها‬
‫األهلية‪ .‬كام ّ‬
‫برضورة إضافة حزب احلكومة واجلراد إىل قائمة األوبئة الوطنية‪.‬‬
‫كان برناجمه إصالحيا يقوم عىل استعادة كل املال العام املرسوق‬
‫وحتقيق عدالة أرضية بني مجيع املواطنني‪ .‬أعلن أحد احلضور أنه‬
‫من املحزن ّ‬
‫أن الشخص الوحيد يف القرية الذي يقول كالما عاقال‪،‬‬
‫قد فقد عقله‪ .‬لسوء احلظ مل يتمكّن من تنفيذ برناجمه فقد كان‬
‫جنونه مؤقتا‪ ،‬قد تُس ّبب املالريا جنونا مؤقتا لكن الدواء املستخدم‬
‫‪43‬‬

‫لعالجها يس ّبب أحيانا جنونا دائام‪ ،‬ويف كل األحوال مل يتس ّن له‬
‫تبليغ دعوته‪ .‬حني ا ّدعى أنه نبي يف البداية مل يكرتث له أحد‪ ،‬لكنه‬
‫حني بدأ يتحدث عن الفساد واستغالل السلطة وجرائم احلرب‪،‬‬
‫هرع رجال األمن واستخدموا سالمل املطافئ إلنزاله من علياء‬
‫جنته وأخذوه معهم‪ ،‬لقد سبق هلم اعتقال رجل ألقى قصيدة‬
‫شعرية يف احتفال مدريس منتقدا النظام‪ ،‬كام اعتقلوا ضابطا سابقا‬
‫يف اجليش حتدّ ث يوم السوق عن اجلرائم التي ترتكبها ميلشيات‬
‫جرار زراعي بتهمة‬
‫مدرسا ومزارعا وسائق ّ‬
‫النظام‪ ،‬واعتقلوا مرة ّ‬
‫ٍ‬
‫معاد للدولة‪ ،‬لكن تلك كانت املرة األوىل التي‬
‫قيادهتم لنشاط‬
‫يعتقلون فيها نبيا‪.‬‬
‫حني عاد مرة أخرى إىل القرية بعد عدة أشهر من االعتقال‪،‬‬
‫بدا مثل شخص آخر مل يفقد الرغبة فقط يف تغيري العامل بل يف تغيري‬
‫قيص يف املسيد بمالبسه املتسخة‪،‬‬
‫حتى مالبسه‪ ،‬انزوى يف ركن ّ‬
‫تعرض له‬
‫املعطونة بالعرق والطني وبقايا دماء التعذيب الذي ّ‬
‫يف معتقالت األمن‪ ،‬كان يرفع األذان أحيانا ويكتفي بمراقبة‬
‫الداخلني واخلارجني من املكان يف معظم األحيان‪.‬‬

‫حني انترش خرب نبي النخلة يف القرى املجاورة هرع الناس‬
‫الستثامر املعجزة‪ ،‬جاء املرىض يبحثون عن أدوية منخفضة التكلفة‬
‫بسبب ارتفاع سعر الدواء‪ ،‬وجاءت نسوة فاهت ّن قطار الزواج‪ ،‬بحثا‬
‫عن معجزة قطارات اللحظة األخرية‪ ،‬وجاء رجل كان قد ُطرد من‬
‫اجليش قبل سنوات طالبا دعام لتدبري انقالب ال ُيبقي وال يذر‪ ،‬غزا‬
‫رجال الرشطة املكان بأعداد كبرية‪ ،‬كنا نظ ّن أهنم جاءوا ملنع انتشار‬
‫‪44‬‬

‫الفوىض لكننا اكتشفنا أهنم جاءوا ملصادرة بضائع الباعة الذين مل‬
‫حيصلوا عىل ترخيص للبيع يف ساحة نبي النخلة‪.‬‬

‫بدأت الفرقة املوسيقية العزف منذ ثالثة أيام لطرد أية احتامالت‬
‫للموت طبقا لشائعة أن املوت ال يقرتب أبدا من املناطق الغارقة‬
‫يف الفرح وضجيج املوسيقى‪ ،‬ولتجنّب تكرار واقعة وفاة عازف‬
‫األكورديون الوحيد‪ ،‬الذي استُجلب يف املرة السابقة من قريته‪،‬‬
‫وأثناء حضورة بحامره إىل القرية رضبت احلامر صاعقة استوائية‬
‫أ ّدت إىل وفاة احلامر والعازف فورا‪ ،‬واحرتاق األكورديون‪ُ ،‬فأ ِّجل‬
‫الزواج احرتاما لذكرى العازف‪ ،‬وذكرى احلامر الذي كان محارا‬
‫شهريا بقوته اخلارقة وفحولته الوطنية املفرطة وبأنه أب غري‬
‫رشعي لكل أبنائه من احلمري يف املنطقة‪.‬‬
‫ع ّلقت اللجنة يافطة قامشية يف مدخل القرية عىل أعىل شجرة‬
‫سيسبان‪ ،‬ويافطة أخرى فوق كثبان الرمال التي تشكل احلدود‬
‫َ‬
‫الرشقية للقرية‪ ،‬مكتوب عىل اليافطة‪ :‬ممنوع املوت أو استخدام‬
‫وسائل التواصل االجتامعي بني اليافطتني!‪.‬‬

‫كان ذلك قرارا اختذته اللجنة ملنع تداول أية أخبار أو مفاجآت‬
‫تؤ ّدي لتأجيل احلفل‪ ،‬عىل أن يرسي القرار منذ حلظة صدوره وحتى‬
‫تعي طرد مجيع‬
‫هناية حفل الزواج فجر اليوم التايل‪ .‬ولتنفيذ القرار ّ‬
‫األشخاص األكثر تأهيال للموت من القرية واستضافتهم يف قرية‬
‫جماورة يف منزل هجره أصحابه منذ سنوات‪.‬‬
‫جاء العم بابكر إىل مكان االحتفال مستندا عىل كتف وزيره‬
‫مرصا عىل عدم إجراء أي تعديل وزاري‪ ،‬واستخدام‬
‫األول‪ ،‬كان ّ‬
‫‪45‬‬

‫نفس الوزير الذي اختاره يف املرة األوىل حني ُأ ِّجل الزواج قبل‬
‫سنوات بسبب اعتقال العم بابكر بعد وقوع االنقالب العسكري‬
‫الذي أطاح بالنظام الديمقراطي ومجعيته التأسيسية التي كان‬
‫العم بابكر نائبا فيها‪ .‬شاخ الوزير األول نفسه حتى أنه استند عىل‬
‫كتف أحد أصدقائه كان قد شاخ أيضا فاستند هو أيضا عىل كتف‬
‫شخص آخر‪ ،‬حتى بدا املشهد مثل مظاهرة للمسنّني ضد استئناف‬
‫الفرح املتأخر‪.‬‬
‫أخريا جلس العريس بجانب عروسه‪ ،‬كانت العروس قد‬
‫بذلت جهدا جتميليا مضنيا للحفاظ عىل جزء من بريق سحر‬
‫ابتسامتها القديمة قبل وقوع االنقالب اإلنقاذي‪ .‬بينام احتفظ‬
‫العريس من مالحمه القديمة فقط بشارب ضخم حرص عىل صبغه‬
‫باللون األسود إلضفاء مسحة شبابية ّ‬
‫متأخرة عىل مظهره‪ ،‬رغم أن‬
‫حذره من خماطر صبغة الشعر ّ‬
‫الوزير ّ‬
‫مذكرا له بقصة العريس الذي‬
‫نيس شاربه املصبوغ يف محى الزفاف‪ ،‬ففارق احلياة قبل هناية احلفل‬
‫حني أقدم عىل مترير لسانه فوق الشارب املسموم‪ ،‬بسبب االرتباك‬
‫واخلوف من احلياة اجلديدة بعد العيش وحيدا طوال سنوات من‬
‫احلرمان!‪.‬‬
‫فجأة سمعنا صوت طلقات رصاص!يا للكارثة!ال بد أهنم‬
‫رجال اجليش جاءوا بحثا عن الشباب إلرساهلم إىل احلرب!أو‬
‫مهريب البرش!أمرنا باستئناف الفرح رغم‬
‫اجلنجويد يطاردون بعض ّ‬
‫تزايد صوت إطالق الرصاص يف اخلارج‪ .‬رفعنا صوت مكربات‬
‫الصوت حتى جتاوزنا املدى املسموح به بسبب القرار احلكومي‬
‫‪46‬‬

‫اخلاص بحظر الفرح بعد منتصف الليل!(بسبب انشغال الناس‬
‫بمصاعب املعيشة كان الفرح نادرا أيضا خالل النهار)‪ .‬حلسن‬
‫احلظ كان العريس ووزراؤه ونواب وزرائه ومساعدوه يعانون‬
‫مجيعا من ضعف السمع‪ ،‬فلم يسمعوا صوت إطالق الرصاص‬
‫يف اخلارج‪.‬‬

‫تقدمت جلنة الزفاف يف شكل حلقة حول العريس ووزرائه‪،‬‬
‫وباهلتاف والتصفيق صنعنا جدارا صوتيا حول املكان‪ ،‬بينام كان‬
‫العريس املرتبك بسبب الضجيج وقيظ األجساد‪ ،‬يدور رافعا‬
‫املرتاصة‪ ،‬وكأنه يريد فتح‬
‫يتفحص األجساد‬
‫ّ‬
‫سيفه داخل احللقة‪ّ ،‬‬
‫ثغرة يف اجلدار البرشي من حوله ليلوذ بالفرار‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫الـح ّب والفودكا‬
‫ُ‬

‫يوسكا جاء من اليابان‪ ،‬جاء لدراسة ف ّن تدريب كرة القدم‪،‬‬
‫هو العب يف إحدى الفرق الصغرية‪ ،‬ويريد أن يصبح مدربا لكرة‬
‫القدم‪ ،‬مل أكن أعرف أن الكرة حتتاج إىل قراءة‪ ،‬بل قليل من املوهبة‬
‫وبعض (الفهلوة)‪ .‬قال له فورال؛ صديقنا الرتكي الذي يرتدي‬
‫مالبس أنيقة مثل نجوم السينام‪ ،‬أثناء مترين لتحسني مهارات‬
‫استخدام اللغة‪ :‬هل تريد أن تصبح العب كرة مشهور؟‬
‫أزاح يوسكا ساندوتش البريغر من فمه متجاهال حتذير‬
‫املدرسة بعدم األكل أثناء درس اللغة وقال‪ :‬نعم أريد أن أكون‬
‫ّ‬
‫مشهورا مثل رونالدو أو زين الدين زيدان‪.‬‬

‫املدرسة‬
‫يف هذه احلالة‪ ،‬قال فورال مستخدما لغة سيئة بحيث أن ّ‬
‫أصلحت له اجلملة سبع مرات بعدد الكلامت التي استعملها يف‬
‫صياغته البائسة‪ :‬جيب إذن أن تبتعد عن النساء! غامزا من طرف‬
‫خفي إىل أنّا صديقة يوسكا األسرتالية اجلميلة‪.‬‬

‫عرفت بعد عدة أشهر أن دوافعه لقول ذلك مل تكن كلها بريئة‪،‬‬
‫ُ‬
‫رشحت يل أنّا ذلك ببساطة أثناء احتفالنا بعيد ميالد يوسكا‪ :‬حاول‬
‫َ‬
‫‪48‬‬

‫حمب‬
‫فورال خطب و ّدها أوال‪ .‬قالت عنه بود‪ :‬إنه فتي وسيم‪ّ ،‬‬
‫للنكتة‪ ،‬أنيق يذكّرها كلام رأته بأحد نجوم السينام‪ .‬لكنه‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫ممل مثل اجلحيم‪ ،‬بعد مخس دقائق من اجللوس معه تكون النكات‬
‫اجلديدة التي حيفظها قد نفدت‪ ،‬تصبح أناقته عادية‪ ،‬وجهه عادي‪،‬‬
‫يت شريتاته عادية‪ ،‬باختصار ال يمكن احتامله أكثر من الساعة‬
‫املخصصة للدرس دون احلصول عىل اسرتاحة!‪.‬‬
‫قلت له بعد ذلك‪ :‬هل أنت جمنون؟‬
‫قال‪ :‬كيف؟‪.‬‬

‫كيف ّ‬
‫حتذره من النساء يف وجود نساء رشقيات معنا يف نفس‬
‫الغرفة (سيدة صومالية وسيدة سودانية وسيدة مغربية)‪ .‬ضحك‬
‫وقال‪ :‬نساؤك الرشقيات كن األكثر ضحكا من كالمي!‪.‬‬
‫كان دوري هو التايل يف التحاور مع يوسكا الختبار املقدرات‬
‫اللغوية‪ ،‬كان يمثل َدور طبيب‪ ،‬وأنا مريض أشكو عدة عاهات‬
‫مستديمة‪ .‬حسبت يف البداية أنه سيعاجلني بالوخز باإلبر‪ ،‬بدا يل‬
‫العالج سيئا‪ ،‬ليس خوفا منه بل بسبب عدم إملامي بمفردات كافية‬
‫من اللغة للتحدث يف مثل هذا األمر الشائك‪.‬‬

‫عيل أن أتصل تليفونيا يف البداية لتحديد موعد ملقابلة الطبيب‪،‬‬
‫ّ‬
‫سري ّد هو نفسه بطريقة ف ّظة ال تشبه طريقة سكرترية طبيب األرسة‪،‬‬
‫سيوضح األمر الحقا‪ :‬مل يسبق له أن مرض أبدا! ليس الفضل‬
‫لليوجا أو التامرين الرياضية أو أسلوب احلياة الياباين القائم عىل‬
‫حب العمل والتقاليد األرسية وقهر النفس‪ ،‬بل‪ ،‬كام سيوضح‬
‫ّ‬
‫‪49‬‬

‫متكسة تتخ ّللها عبارات باهلولندية وإشارات باليابانية‪:‬‬
‫بإنگليزية‬
‫ّ‬
‫بسبب احلب!‪.‬‬
‫صباح اخلري اسمي أمحد‪.‬‬

‫صباح اخلري اسمي أنّا (اختار اسم صديقته كاسم لسكرترية‬
‫الطبيب)‪.‬‬
‫فكّرت يف ما جيب أن أقول‪ ،‬مفروض أن أقول إنني زبون‬
‫للطبيب وأريد عمل موعد معه‪ .‬وجدت تركيب كل هذا الكالم‬
‫صعبا قليال فقلت بدال عن ذلك‪ :‬إنني مريض‪.‬‬
‫ضحك يوسكا أو املمرضة وقال يف الطرف اآلخر من اخلط‪:‬‬
‫لقد فهمت ذلك بمجرد اتصالك‪ ،‬فنحن لسنا ّ‬
‫حمل للجزارة‪ ،‬ال بدّ‬
‫أنك مريض ما دمت اتصلت بنا!‪.‬‬
‫رسي‪( :‬إذن يوجد رباطاب أيضا يف اليابان)‪.‬‬
‫قلت يف ّ‬
‫قلت بلغة غري حكيمة‪ :‬أريد عمل موعد مع الطبيب‪.‬‬

‫املدرسة إىل أن طريقتي الشاعرية يف طلب املوعد تصلح‬
‫ن ّبهتني ّ‬
‫للحب ال لشخص مريض يريد عمل موعد مع طبيب ياباين‪.‬‬
‫ّ‬
‫أعدت السؤال مع هتدّ ج يف الصوت لشخص مريض ال لشخص‬
‫عاشق دون أن أفهم كيف يمكن متييز الفرق!‪.‬‬
‫يبدو أنه يشكو قلة الزبائن كام أرشت له إذ حدّ د يل موعدا عىل‬
‫الفور!‪ ،‬هذه املرة ارتكب هو اخلطأ الشاعري األخري‪ ،‬بدال من أن‬
‫يقول إىل اللقاء قال‪ :‬اجلو رائع اليوم!‪.‬‬
‫‪50‬‬

‫إهنا العبارة التي يستخدمها يوميا ملحاولة التقرب إىل فتيات‬
‫أخريات أثناء رحلته اليومية بالقطار إىل املعهد الذي يدرس فيه‬
‫فنون كرة القدم‪.‬‬
‫عنّفته املدرسة عىل التحية الرقيقة‪ :‬جيدر بسكرتري الطبيب أن‬
‫يكون حمدّ د العبارات ولطيفا يف الوقت نفسه‪ ،‬يمكنه أن يمزح‬
‫قليال مع الزبون لكن ليس عىل اهلاتف يف وقت ربام يكون فيه‬
‫مرىض آخرون يف االنتظار‪.‬‬

‫مل يعاجلني بالوخز باإلبر‪ ،‬بدال من ذلك عاجلني بالوخز‬
‫بالكلامت‪ :‬استقب َلني يف البداية يف العيادة بالعبارات املستخدمة‬
‫خلدمة زبون يف متجر لألدوات الكهربائية‪ :‬كيف أستطيع خدمتك‬
‫يا سيدي؟ عرفت أن العبارة مل تكن صحيحة ّ‬
‫املدرسة‬
‫ألن‬
‫ّ‬
‫ضحكت‪ ،‬أرشت إىل رأيس وقلت‪ :‬أشعر بصداع شديد‪.‬‬
‫قال‪ :‬هل ترشب الفودكا؟‪.‬‬

‫قلت‪ :‬ال‪ .‬دون أن أعرف إن كان يصفها كداء أم كدواء‪.‬‬

‫جرب رشاب الفودكا‪ ،‬إهنا مفيدة لعالج آالم البطن‬
‫قال ّ‬
‫درس معه فنون كرة القدم‬
‫واألسنان‪ .‬أوضح أن صديقا إنگليزيا َي ُ‬
‫نصحه برشاب الفودكا لعالج األنفلونزا‪ :‬ع ّلق أمامك عىل احلائط‬
‫معطفا وابدأ يف رشاب الفودكا‪ ،‬حني يصبح املعطف معطفني‪،‬‬
‫ينتهي العالج‪ ،‬تصبح بخري‪.‬‬
‫أوضحت له بأدب شديد أنني ال أعاين من األنفلونزا‪.‬‬

‫نظر يف وجهي وقال‪ :‬ربام ال تعلم‪ .‬ثم وضع قلام كان حيمله يف‬
‫‪51‬‬

‫يده جانبا‪ ،‬وقال‪ :‬ما دمت تعرف مرضك ما حاجتك إىل طبيب‬
‫إذن؟‪.‬‬
‫أرشت له إىل إصابتي بمرض جلدي يف اليد‪ .‬نظر إليه شزر ًا‬
‫وكرر نفس العالج‪ :‬امسح املكان بالفودكا!‪.‬‬

‫أرشت له مستخدما كل طاقتي اللغوية‬
‫لعالج فشله يف عالجي‬
‫ُ‬
‫يف أن يعود إىل مقاعد الدراسة لتل ّقي العلم من جديد إن كان يريد‬
‫أن يصبح طبيبا!‪ ،‬ط ّبق نصيحتي عىل الفور بصورة سيئة حماكيا‬
‫أطباء األرسة يف هولندا‪ ،‬وغالبهم متقدّ مون يف السنذ ومل تُتح هلم‬
‫فرص السامع ببعض األمراض‪ .‬ق ّلب يف كتاب اللغة أمامه قبل أن‬
‫يعلن يل آسفا‪ :‬املرض الذي تشكو منه غري موجود يف الكتاب!‪.‬‬
‫مؤكدا بحزم‪ :‬كل األمراض موجودة يف هذا الكتاب!‪.‬‬

‫نصحني برشاب الشاي واملاء واستخدام دواء باراسيتامول‪.‬‬
‫املجرب الذي يصلح‬
‫تنس الدواء‬
‫وو ّدعني عند الباب قائال‪ :‬ال ّ‬
‫ّ‬
‫جربت احلب؟ وقال‬
‫أيضا للعشاق‪ :‬الفودكا‪ .‬ثم قال يل‪ :‬هل ّ‬
‫جمرب‪ :‬احلب عالج‪ ،‬لكن حني يصبح مرض ًا ال دواء‬
‫بحكمة ّ‬
‫سوى الفودكا!‪.‬‬
‫ال يفرتقان هو وأنّا‪ .‬يبدوان‪ ،‬ومها يعربان دون أن يكرتثا لضجة‬
‫الطلبة يف هبو املدرسة املزدحم بأصناف البرش‪ ،‬كأهنام يطفوان‬
‫خارج الزمن‪ ،‬ترامها يف كل مكان‪ ،‬حول جداول املاء يف احلديقة‬
‫الصغرية القريبة من القرية‪ ،‬يف املركز التجاري يأكالن سندوتشات‬
‫البريغر ويراقبان العامل من خالل شمس مارس الناصعة‪ ،‬ال يمكن‬
‫‪52‬‬

‫تشاجرا مرة واحدة يف حضوري‪ ،‬جاءا‬
‫خت ُّيل العامل دون حبهام‪،‬‬
‫َ‬
‫لزياريت‪ ،‬تركتهام قليال ألعدّ القهوة‪ ،‬وحني عدت كانت أنّا تبكي‬
‫وهو حياول اسرتضاءها بصوت حزين‪ ،‬أحرضت هلام ألوانا وورقا‬
‫لريسام بطاقات الدعوة لعيد ميالده‪ ،‬أنّا جتيد الرسم‪ ،‬جتيد أيضا كام‬
‫تعلمت ذلك من جدهتا التي عاشت‬
‫حكت يل حياكة املالبس‪َ ،‬‬
‫معها يف ضواحي سيدين لسنوات قبل أن متوت جدّ هتا وتنتقل‬
‫هي للعيش يف أوروبا مع أقارب قاموا بتبنّيها‪ .‬صنعت ليوسكا‬
‫امللون وكتبت اسمها واسمه مستخدمة بدال‬
‫قميصا من الصوف ّ‬
‫من احلروف العادية زهورا ملونة‪ ،‬يرتدهيا يوسكا بفخر دون أن‬
‫هيتم بأنه يبدو داخلها أصغر سنا وأقل حكمة‪ .‬وهو يذرع الفناء‬
‫أثناء اسرتاحات التدخني تصحبه كآبة خطواته اليابانية القصرية‪.‬‬
‫تعمل أنّا بعد املدرسة‪ ،‬يذهب هو النتظارها حني خترج من‬
‫مصنع البسكويت الذي تعمل فيه‪ ،‬يذهبان إىل املكتبة العامة‬
‫للدخول إىل االنرتنت أو جيلسان يف مقهي صغري يف املركز‬
‫حتسن اجلو يف الربيع تع ّلام الذهاب يوميا إىل‬
‫التجاري‪ ،‬وحني َّ‬
‫احلديقة العامة القريبة من القرية‪ .‬يذهب معها أحيانا إىل الكنيسة‪،‬‬
‫تذهب هي ّ‬
‫ألن والدها بالتبني هو الذي يقرأ قدّ اس األحد‪،‬‬
‫يستمتعان بعزف البيانو وباألناشيد الدينية‪.‬‬

‫حني جاء الصيف أكمل يوسكا دراسته‪ ،‬سيعود إىل اليابان‪.‬‬
‫ذهبت لوداعه يف حمطة القطار الصغرية‪ ،‬كانا يبكيان‪ ،‬رغم أنه‬
‫مفروض أال يفرتقا طويال‪ ،‬سريسل هلا يوسكا خالل أسابيع دعوة‬
‫لتحرض إىل اليابان‪ .‬وربام تبقي هناك إىل األبد‪ ،‬كام قال يوسكا‪.‬‬
‫‪53‬‬

‫ُلوح للقطار حتى اختفى من‬
‫كان وداعا حارا وباكيا‪ ،‬وظلت أنّا ت ّ‬
‫أنظارنا‪ ،‬التقيتها بعد أسابيع من سفر يوسكا‪ ،‬وقالت إنه أكمل‬
‫إجراءات الدعوة وستصلها خالل أيام‪ ،‬اختفت أنّا ومل أعد أراها‬
‫فقلت ال بدّ أهنا اآلن يف اليابان‪ ،‬وأن العامل استعاد شكله بمجرد‬
‫أن اجتمع أعذب عاشقني يف العامل‪ .‬بعد أشهر ظهرت أنّا يف القرية‬
‫وبدا عليها حزن وكآبة مل تفصح عن أسباهبا‪ ،‬وحني سألتها عن‬
‫يوسكا قالت إهنا مل تتصل به منذ أشهر ثم و ّدعتني قائلة إهنا ستعود‬
‫إىل أسرتاليا‪.‬‬

‫بعد حوايل العام تل ّقيت منها رسالة عىل الربيد اإللكرتوين‬
‫رشحت فيه ما حصل‪ :‬بدأ يوسكا يف اليابان إجراءات حضورها‬
‫َ‬
‫إىل هناك‪ ،‬وفجأة‪ ،‬فيام كانت تستعد للسفر إليه‪ ،‬تل ّقت منه رسالة‬
‫من سطرين يقول فيها إنه آسف إلهناء عالقته… هبا!‪.‬‬
‫فكّرت بعد شهور‪ :‬ال بدّ أن هذا الطبيب الفاشل استخدم‬
‫عالجه الكالسيكي‪ :‬الفودكا!‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫انقالب يف بوركينا فاسو‬

‫أخرج سليامن التاجر جهاز تلفزيون صغريا يعمل بالبطارية من‬
‫بيته القريب ووضعه يف الباحة أمام املسيد‪.‬‬

‫يف جهاز التلفزيون ظهر رجل يرشح أن سبب الغالء‬
‫واالبتالءات هو ابتعاد الناس عن الدين!‪.‬‬

‫قال سليامن األعرج‪ :‬ابتعدنا مشينا وين؟ ما هو نحن قاعدين‬
‫هسع فوق برش الصالة يف املسيد! يف زمن اإلنقاذ دا بقينا كلنا زي‬
‫ّ‬
‫خليفة املهدي‪ ،‬قاعدين فوق برش الصالة راجني املوت!‪.‬‬
‫وقال حاج سعيد‪ :‬وط ّيب مش قالوا البالء يعم؟ وال ناس‬
‫احلكومة بياخدوا حقن حتصني ضد البالء!‪.‬‬

‫ضحك الطاهر وقال‪ :‬ديل زمان ق ّطعوا فاتورة البالء مع فاتورة‬
‫البرتول!‪.‬‬

‫اقرتب صالح اجلاز حمدّ قا يف التلفزيون وقال‪ :‬الزول دا أعور‪،‬‬
‫مش كدا؟!‬
‫مل يرد أحد عىل صالح يف البداية‪ ،‬ثم قال حاج سعيد‪ :‬الزمن‬
‫‪55‬‬

‫دا يا صالح الناس باجلوع بقت ما شايفة قدّ امها‪ ،‬الناس ماشة‬
‫ساكت‪ ،‬كلهم خارج التغطية زي ما بيقولوا يف التليفونات‪ ،‬لو‬
‫عرفت القدّ امك دا زول وال ما زول ما خ ّليت يش‪ .‬قبل أيام لقيت‬
‫احلنني‪ ،‬بيشاكل يف زول بصوت عايل‪ ،‬ويقول ليه‪( :‬ليه ما ربطت‬
‫احلامر كويس‪ ،‬احلامر رشد ودخل يف برسيم حاج الطيب‪ ،‬وو ّدوه‬
‫الكارة)‪ .‬مايف زول ظاهر‪ ،‬قلت يمكن بيتشاكل مع ولده يكون‬
‫واقف ورا حاجة أنا ما شايفها‪َ ،‬و ِكت بقيت قريب‪ ،‬ما لقيت زول‪،‬‬
‫قلت ليه‪( :‬إنت بتشاكل منو؟)‪ ،‬اختلع وبقى يعاين حواليه وقال يل‪:‬‬
‫هسع)‪ ،‬عاينّا حوالينا ما يف أثر للولد يف األرض‪،‬‬
‫(الولد كان واقف ّ‬
‫لكن لقينا احلامر حايم قريب يف الزراعة! وأثره يف األرض! الظاهر‬
‫شاف احلامر افتكره ولده!‪.‬‬
‫استمعوا قليال إىل حديث الرجل يف التلفزيون‪ ،‬ثم قال حاج‬
‫سعيد‪ :‬ط ّيب اإلنگليز ديل ما مسلمني وبعد دا الدنيا يف زمنهم‬
‫كانت بخريها‪ ،‬وكت الفيضان شال بيت أبوي مشى قدّ م طلب‬
‫أ ّدوه تعويض! وإذا يف مرة دايرة تلد يرضبوا لإلسعاف بالتليفون‬
‫العنده منَف ّلة جيي اإلسعاف يو ّدهيا املستشفى‪ ،‬تولد وتقعد يف‬
‫هسع اإلسعاف لو جا يو ّديك اآلخرة! يدّ وك‬
‫املستشفى جمان‪ّ .‬‬
‫حقنة غلط تروح فيها‪ ،‬ولو أهلك ما دفعوا متن احلقنة الغلط ما‬
‫بريجوا الفيضان‪ ،‬بيجوا َبراهم‬
‫يس ّلموهم جنازتك! هسع ما ْ‬
‫يشيلوا بيتك‪ ،‬يقولوا دايرين نعمل طريق! ولو قدّ مت طلب بدل‬
‫التعويض يقولوا ليك ُمر علينا بعد فرتة‪ ،‬ترجع بعد زمن يقولوا‬
‫ليك مايف طلب باسمك اكتب طلب جديد‪ ،‬ويف النهاية ما بتطلع‬
‫يغرق بيتك بيبنوا ليك سد‪ ،‬وعشان‬
‫منهم بيش‪ .‬ولو ما جا فيضان ّ‬
‫‪56‬‬

‫يعوضوك بيحرقوا النخيل ق ّبال يبنوا السد‪ ،‬ويقولوا ليك بيتك‬
‫ما ّ‬
‫وعوضك عىل اهلل! دي قسمتك!‪.‬‬
‫قديم جالوص َ‬
‫قال سليامن األعرج‪ :‬األوالد الو ّديناهم يقروا اجلامعة عىل‬
‫حسابنا أول ما خلصوا القراية ومسكوا احلكم‪ ،‬باعوا اجلامعة‬
‫ذاهتا! ديل زي أوالد العقرب‪ ،‬أول ما يطلعوا من بطن أمهم‪،‬‬
‫ياكلوها‪ ،‬بعدين ينطلقوا عشان يلدغوا الناس من طرف!‪.‬‬

‫بقت عىل اجلامعة؟ البلد ذاهتا مبيوعة ونحن قاعدين فيها‬
‫بالدين! البحر دا ذاته قالوا مبيوع‪ ،‬خايف نصحى يوم نلقاه خال!‪.‬‬

‫ابتسم الطاهر‪ ،‬أخري ًا خرب سار‪ :‬حسني ود عبد الرسول قالوا‬
‫لقى ليه كتلة دهب كبرية يمكن عرشة وال عرشين كيلو!‪.‬‬
‫ربنا فتحها عليه‪ ،‬زي الكيزان! بس هو جاهبا برضاعه‪ ،‬مشى‬
‫اخلال بحامر ورجع يب بوكس!‪.‬‬

‫خماصمه عشان أبى جيي يزرع معاه‪ ،‬وهو‬
‫قال الطاهر‪ :‬أبوه كان‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫اتزوج فوق أ ّمه وط ّلقها! وكت‬
‫ذاته كان ماخدْ يف خاطره ألن أبوه ّ‬
‫يرجع أ ّمه‪ ،‬قال للولد ما معافيك دنيا وال‬
‫الولد شاك ُله وقال ليه ّ‬
‫آخرة! أها أول ما سمع بخرب الدهب مشى للولد حضنه وقال ليه‪:‬‬
‫عافيت منك الدنيا واآلخرة!‪.‬‬
‫قال سليامن التاجر‪ :‬الولد قبل يومني رضب يل تليفون قال داير‬
‫رسلها مع الولد‪.‬‬
‫رصيد وسكّر وشوية حاجات للبيت‪ ،‬وقال يل‪ّ :‬‬
‫ولدي عبد الرمحن مشى القش‪ ،‬شلت احلاجات ومشيت خبطت‬
‫الباب مايف زول فتح يل‪ ،‬وأنا سامع صوته هو وأبوه يتكلموا‪.‬‬
‫‪57‬‬

‫دفرت الباب وخشيت لقيت حسني راقد بالرسوال وأبوه بارك‬
‫فوقه يد ّلك ليه يف ضهره!‪.‬‬

‫ضحك سليامن األعرج وقال‪ :‬بركات الدهب! سبحان‬
‫مرة واقف جنب‬
‫اهلل! أيام الفلس كانوا كلام يتقابلوا يتشكلوا! ّ‬
‫احلواشة كان ماسك املوية‪ ،‬جا حسني قعد يف‬
‫عبدالرسول يف ّ‬
‫الواطة يمرق ليه شوكة من كراعه‪ ،‬أبوه قال ليه بتعمل يف إيه؟ قال‬
‫ليه‪ :‬بمرق يل يف شوكة‪.‬‬
‫أبوه قال ليه‪ :‬شوكة يف قنّيطتك!‪.‬‬

‫عبد الرسول اتلفت كدا والولد قام عليه بالعكاز وقال ليه‪ :‬ما‬
‫تص ّلح مالفظك ياخينا!‪.‬‬
‫مرة قاعدين معاي يف الدكان‪،‬‬
‫ضحك سليامن التاجر وقال‪ّ :‬‬
‫حسني قال عاوز يسافر العمرة‪ ،‬بعدين يتكلم مع أبوه زي صاحبه‬
‫قال ليه‪ :‬ما تقوم يا عبد الرسول اهلل هيديك بيع حتة الواطة بتاعتك‬
‫دي‪ ،‬أصلك وارثها من أبوك ما داقي فيها حجر دغش! بيعها‬
‫وا ّدينا القروش نسافر بيها! والقروش إن شاء اهلل تلقاها قدّ ام!‪.‬‬

‫عبد الرسول قال ليه‪ :‬أو ّدهيا وين قدّ ام وأنا منيوك هنا! بعدين‬
‫سكت شوية وقال حلسني‪:‬‬
‫عيل الطالق أنا كرهتك!‪.‬‬
‫يا ولدي يف زول بيكره ولده؟‪ّ ،‬‬

‫حسني قال ليه‪ :‬واهلل نفس الشعور يا أبوي!‪.‬‬

‫ضحك حاج سعيد وقال‪ :‬ما حم ّبة إال بعد عداوة! بعد الدهب‬
‫حريجع أم حسني‪ ،‬ويمكن يط ّلق املرة‬
‫ظهر‪ ،‬يظهر عبد الرسول‬
‫ّ‬
‫‪58‬‬

‫اجلديدة! زواجه اجلديد دا كان فلس ساكت!‪.‬‬
‫قال سليامن التاجر‪ :‬فعال! َو ِكت قاعد يد ّلك للولد أنا لقيتهم‬
‫يتونّسوا‪ ،‬وقفت مسافة أسمع كالمهم‪ ،‬حسني يقول يل أبوه‪:‬‬
‫صغي مشيت عليهم يف‬
‫مرة أنا‬
‫ّ‬
‫مرة َف ُقر‪ّ ،‬‬
‫(مرتك اجلديدة دي َ‬
‫َ‬
‫رسلتني أجيب منهم ميزان الشامر‪ ،‬أبوها كان فقري‬
‫البيت‪ ،‬إنت ّ‬
‫يكتب البخرات‪ ،‬لقيتُه قاعد وسط النسوان‪ ،‬واليوم داك عيادته‬
‫كورك فوقي من بعيد‬
‫املحولة عمرانة‪ ،‬فيها نسوان مغرتبات‪َ ،‬‬
‫مرتك دي أكرب مني يف العمر‬
‫وقال يل‪ :‬داير شنو يا ابن الكلب! َ‬
‫جوة البيت طردتني ّبرة وقفلت الباب يف ويش‪.‬‬
‫شوية‪ ،‬جات من ّ‬
‫قت أمي‬
‫من اليوم داك كرهتها وكرهت أبوها‪ ،‬وكامن َو ِكت ط ّل َ‬
‫هسع سيبك من قصة أنا بحبكم‬
‫عرستها كرهتها زيادة‪ّ .‬‬
‫وجيت ّ‬
‫وإنتوا أوالدي الكبار وأ ّمك دي أنا بتفاءل بيها! يف زول يتفاءل يب‬
‫وترجع‬
‫زول يميش يطلقو؟ لو داير ليك قريشات‪ ،‬تط ّلق املرة دي‬
‫ّ‬
‫أمي بعدين نتفاهم)‪.‬‬

‫يمسح يف ضهر الولد‪،‬‬