أحبك ولكن - 7
ممكن تسيبني أنا أكمل التحقيق لو سمحت؟ دي مش طريقة شغل. وأنت بقى اليل هتعلمني شغيل يا آرس باشا؟واشتبكا معا يف مشادة كالمية تدخل فيها صديقهم الثالث أمحد؛ ليفضها وجيذهبم
بعيدا عن التخشيبة ومن فيها ،فخرج آرس غاضبا ،وهدد طارق أن يصعد األمر لو مل
يتوقف طارق عن طريقته تلك ،فقال له طارق:
حتى ولو طريقتي دي خلتهم يتكلموا ويقولوا مني اليل حرضهم عىل كدهواليل وراهم؟ وراهم مجعية حقوقية مشبوهة اسمها «حقي».
انتبه آرس لالسم وقال:
وأنت ناوي تعمل معاهم إيه يا طارق دلوقتي؟ هكتب حمرض بأقواهلم وأحوهلم للنيابة حتقق يف مجعية «حقي» دي ملا نشوفحكاياهتا هي األخرى ،جتهم كرس حقهم كلهم ،قرفونا يف عيشتنا ،ال عارفني
ناخد أجازة وال قادرين نعيش زي الناس ،حاجة تقرف.
فقال أمحد:
- 167 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أسيبكم بقى تقرفوا براحتكم ،وتكتبوا حمرضكم ،وتنفخوا مساجينكم،وأروح أنا البني حبيبي آرس ،حبيب قلبي أقعد جنبه شوية أحسن واحشني
موت ،وزماين وحشته أنا كامن.
يا ابني أنت من ساعة ما خلفت بقيت تزوغ كتري ،وما عدناش بنشوف وشكإال شبح يف القسم ،هو أنت شغال معانا وال شغال دادة للواد وأمه؟ وال
ظروفك إيه بالظبط؟
اعذرين يا آرس ،الواد ابني جه بعد سنني عذاب ،ومش مصدق إنه بقى حقيقةقدامي ،والزم كل شوية أطل يف وشه علشان أتاكد.
فضحك آرس وقال :خالص روح اتاكد ،بس انجز ،مش هنقيض احلياة كلها
تأكيد يا أبو آرس.
فقال هلم طارق:
وطبعا أنت متكيف وسعيد إنه سمى الواد عىل اسمك ،علشان كده بتغطيعليه ،لكن أنا نايبني من وراكم أنتم االتنني إيه غري واحد عاميل فيها مالك
الرمحة ،األم تريز ،ومش سايبني أشوف شغيل من غري خناق وزعيق كل شوية،
والتاين بعد ما خلف بقى الدادة أمحد دودي ،وسايب شغل القسم كله عىل
دماغي وقاعديل جنب الواد وأمه.
- 168 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وضحك الثالثة معا ،وأهنى آرس نوبته يف عمله ،وعاد لبيته ،فوجد ألف رسالة
من منة تعتذر فيها ،وتؤكد له صدق معلوماته التي قاهلا عن مجعيتها املزعومة ،وتعده
بالتوقف عن نشاط اجلمعية وتركها يف أقرب وقت ،فدخل معها يف الشات ،وهنأها
عىل قرارها ،وأخذ رقم تليفوهنا ،وقىض الليل حيادثها ،وكالمها سعيد حملق فوق
سامء الدنيا ،وأول ما فعله يف الغد أن مر عليها ،وركبت معه يف سيارته ،وانطلقا معا
بعيدا عن زحام القاهرة إىل إحدى قرى العني السخنة الساحرة بعد أن استأذن
صديقه أبو آرس كام يلقبه أن يغطي مكانه لليوم فقط.
وأخذها من يدها حيث اجلبل حيتضن البحر يف أمجل بقعة ساحرة عىل خريطة
مرص املحروسة يف مدينة السويس اجلميلة الباسلة ،وقىض يوما مجيال معها أمام
البحر ،وتناوال السمك السوييس واجلمربي اجلامبو ،وأطال عىل املكان الرائع ،وظال
يتجاذبان أطراف حديث عام حتى أوشكت الشمس عىل الغروب ،فأخذها من
يدها وخلعا حذاءهيام؛ لتقبل قدمامها رمال الشاطئ ،ومياه أمواج البحر يف ليلة شتاء
دافئة ساحرة ،ومد آرس يده ،ووضعها عىل كتف منة حبيبته ،واحتضنها بقلبه ويديه
وعينيه ،وقال هلا كلمته التي مل خترج ألنثى قبلها ،وهو ينظر يف عينيها اجلريئة التي
أرسته من أول نظرة ،وهو اآلرس لقلوب الفتيات ،قاهلا هبمس أذاب يف صوته كل
شوق سنينه الضائعة قبلها يف البحث عنها ،ضمها من كتفيها ،وقال هلا:
-بحبك يا منة.
- 169 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فلم ترتدد منة ،وبادلته الكلمة الساحرة التي خترتق القلوب ،واآلذان ،واألرواح
أيضا ،وتشجع آرس ،وأخذ قراره املؤجل ألعوام طويلة مرت من عمره الشاب
الفتي ،وطالبها بالزواج ،فأنزلت منة يده من عىل كتفها ،واجتهت بعينيها بعيدا عن
البحر ،حتى استقرت يف قلب اليابسة ،ومضت وجلست عىل صخرة من صخور
الشاطئ ،فمىض نحوها آرس متعجبا ،من تغري حاهلا املفاجئ ،وما أن تقدم منها
وأمسك يدها من جديد حتى سحبت يدها من بني يديه وقالت:
اعذرين يا آرس؛ ألين ال أستطيع قبول طلبك ،فبيني وبينك عهد ودم .فصمت آرس ،وأخذ ينظر يف عينها متعجبا مستفرسا ،باحثا عن إجابة لسؤال سأله
بعينيه ،فأجابت سؤاله الذي مل يسأله:
ألين بيني وبينك دم فادي زمييل وحبيبي ،سقط قدامي اليوم املشهود لهبالغضب ،كان يوم مجعة ،وخرجنا مع بعض نطالب بعيش وكرامة ألهلنا ،وحرية
لبلدنا ،مكناش نقصد شغب أو تدمري ،كل قصدنا كان إننا نعرب عن غضبنا من سوء
األوضاع ،ونمثل أهلنا اليل ضهرهم انحنى من الفساد وسوء احلال.
واسرتسلت منة يف الكالم وقالت:
كان فادي شاب بسيط مكافح ،لكنه كان متفائل متحمس ،شايف دايام بكرةأحىل ،حبيبت فيه شجاعته وابتسامته ،كان بيشع هبجة وطاقة ونور يف قلوب كل اليل
يعرفوه ،وىف كل مكان يروحوا ،اتعلمت منه كل حاجة حلوة؛ ألن كنت وحيدة يف
- 170 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وسط أهل مشغولني دايام عني ،أب حياته شغله وسفره وعالقاته النسائية ،رغم
بساطة حاله ،وأم سابتني وأنا صغرية يف حضن جدة سجنها املرض يف رسيرها من
زمان ،واجتوزت وشافت حياهتا بعيد عني ونسيتني ،لكني كنت طموحة ،وعمري
ما استسلمت لوحديت ولظرويف ،وبقيت أشتغل يف أجازة الصيف ويف الشتا كامن
بعد الدراسة ،علشان أصنع لنفيس حيايت وأستقل ماديا بنفيس ،وما أحتاجش حلد،
واتعرفت عليه ،كنا بنشتغل جرسونات يف كافترييا كبرية ،وكنا بنقسم البقشيش بيننا،
حبيته وحبني ،كان بيهاديني كل مناسبة صورة لعقد أملاظ كان هيجبهويل لو كان
معاه متنه ،أو صورة عربية فخمة ويقول يل أصلها حمجوزة يف امليناء ملا أدبر متن
مجركها هتكون عندك عىل طول ،أو فيال فخمة كبرية بس األرض عليها مشاكل ملا
تتحل هيبنيها ليا.
ومسحت دموعها الغزيرة وهي تكمل قصة وعدها لفادي بكاء ،وقالت:
كان حبيبي ،وصاحبي ،وأهيل ،عمري ما اتصورت إن قلبي يدق حلد بعدهأبدا ،علمني ازاي أصرب وأجاهد يف سبيل حتقيق حلمي ،وكان شايف إننا يف يوم
هنحقق كل أحالمنا بإيدينا ،حلد يوم اجلمعة الغاضب اليل أنت وأنا عارفينه كويس،
فات عليا فادي ،وأرص إين أكون معاه ،وإن صوتنا حيضن بعضه يف وسط مجوع
الشباب الغاضب اليل مننا وزينا ،ونعلن للدنيا كلها إننا خرجنا ندور عىل حلمنا،
وعمرنا ما هنرجع من غريه ،وخرجت معاه وإيدي يف إيده ،وكان خايف عليا،
كانت إيده حاضنة إيدي ،وصوابعه شابكة صوابعي ،وفضلنا ماشيني هنتف وهنتف
- 171 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ونرج األرض من حتتنا ،حلد ما جاتله رصاصة الغدر يف صدره ،وقع قدامي ،لكنه ما
سبش إيده من إيديا ،وفضلت صوابعه شابكة يف صوابعي حلد ما دمه سال بني
إيديا ،ووطيت عليه أهزه علشان يقوم يقف عىل رجله من جديد ،ابتسم يف ويش
وقايل اوعي تستسلمي ،احللم قريب ،أنا شايفه قدامي ،وعاهدين أكمل مشوار
حلمه ،وعاهدته إين آخد بتاره.
فرد آرس متأثرا من حديثها ،ومتسائال:
تاخدي بتاره من مني يا منة؟ مني وال من بدلتي املريي؟ منكم كلكم ،كنتم ماليني امليدان بسالحكم املريي ،هبمجيتكم وغطرستكم،واحد منكم أو أكرت كان السبب يف ضياع فادي ،وميت فادي زيه راحوا علشان
تفضلوا انتو يف مكانكم ،تسمح تقول يل أحط إيدي يف إيدك ازاي بعد ما إيدي
سال عليها دم فادي منك ومن اليل زيك؟
وفقدت أعصاهبا ،وأخذت هتتف هبسترييا وبعصبية ،وهي تبكي وتتذكر أحداث
روايتها احلزينة:
داخلية بلطجية ..داخلية بلطجية ..داخلية بلطجية.وترددها كثريا ،حتى ضاع صوهتا وسط عاصفة دموعها ،وسقطت عىل ركبتيها
فوق رمال الشاطئ ،تبكي وهتتز تشنجا وأملا ،وهي حتاول رصف ذكرياهتا املروعة يف
ذلك اليوم الغاضب العاصف ،فاحتضنها آرس ،وثبت رأسها صوب قلبه؛ لتهدأ من
- 172 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ثورهتا ،فبكت وبكت كام مل تبك من قبل ،وأفاقت من غيبوبتها ،حينها وجدا الظالم
قد حل ،والشاطئ خاليا متاما سوى منهام ومن عتمة الليل حني هبط وغطامها بغطاء
خميف ،وكان اجلزء السعيد من لقائهام قد انقىض عىل غري رجعة ،وعاد هبا آرس وكل
منهام سارح يف ملكوت حياته ،وعاد كل منهام إىل عامله ،وذهب آرس يف الصباح إىل
عمله ،ورسح دقائق ثم نظر نحو طارق وقال له:
هو أنت كنت يف امليادين يف أيام ثورة الشباب إياها واملليونيات اليل قلبتالدنيا دي يا طارق؟
رد طارق بثقة وقال:
طبعا ،امال مني اليل رجع األمن والنظام؟ ما هو علشان كده حرقولناالسجون وطاردونا باملولوتوف.
فقال له آرس:
عىل كده استعملت سالحك. طبعا ،الظروف دي ما ينفعش فيها غري السالح «توقع الزعام يفر األتباع»،نظرية معروفة يف علم النفس اسمها فرق تسود.
انفجر آرس فيه غاضبا ،وهتجم عليه رضبا وسبا ولعنا ،وقال:
أنت السبب ،أنت واليل زيك مكاهنم مش هنا.فتدخل أمحد:
- 173 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
إيه يف إيه يا آرس؟ مش كده عيب اليل أنت بتعمله ده ،معلش يا طارق ،حقك عليا،آرس أعصابه تعبانة اليومني دول والزم ياخد أجازة ،وأنا مهسك خدمة مكانه.
فقال طارق غاضبا:
أعصابه تعبانة عىل نفسه ،خالص أنا ما عدتش طايقه ،واملرة دي مش هتعديعىل خري ،وهرفع األمر ألعىل القيادات ،وترك القسم وخرج غاضبا.
واهنار آرس عىل كرسيه ،ووضع رأسه بني كفيه ،فهدأه أمحد وقال:
ليه بس كده يا آرس؟ أنا هروح أحلقه قبل ما املوضوع يكرب.وتركه وأرسع خلف طارق ليهدأه ،وترجاه وتوسل إليه أن يعدل عن قراره،
وأن يسامح آرس فيام فعل ،وأخذ يلح عليه حتى عدل عن موقفه إكرام ا ألمحد،
عىل أن يتعهد له أمحد بأال يتعرض له آرس ثانية أو يعرتض طريقه وإال نفخه.
فضحك أمحد وقال:
ال طبعا يا طارق ،هو أنا أرىض أشوف آرس بلونة بردو؟ ما هتدى علينا شوية ياعم املنفاخ.
فضحك طارق من كالمه ،فاحتضنه أمحد وقال:
احنا زمال واخوات ،ومصارين البطن بتتعارك يا أخي.وعاد أمحد وطارق للقسم ،فوجد آرس قد غادره عائدا لبيته بعد أن طاف بالعربة
كل شوارع مرص ،يتفحص وجوه الناس ،ويتساءل بينه وبني نفسه:
- 174 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ترى يف أي صورة يراه الناس؟ وما الذى خيبئون له يف قلوهبم؟ وكام فادي راحضحية طارق وأمثاله؟
وعاد لبيته ،وأخذ حيادث منة ،وهي تبكي وراء شاشتها ،وال ترد عىل أي من
كالمه ،وقىض الليل يقنعها أن معها نصف احلقيقة ،والنصف اآلخر خيال ،وأن
وعدها لفادي ال يمنعها من أن ترتبط به ،وأنه ومثله كثريون بريئون متاما من دم
فادي ،وأنه ليس عدوا هلا ،وال لغريها ،وال بد من وجود األمن لتستتب احلياة،
وتستطيع هي أن تكمل دراستها ومتارس حياهتا ،ولواله ولوال غريه النقلبت احلياة
جحيام ،والدولة لغابة ،وذكرها بحادثة التحرش التي نجاها منها ،وبالرسقات التي
تلت مجع املليونيات الشهرية ،وأن للبلد عدوا أكرب هو من جعل منهم أعداء يقفون
يف مواجهة بعضهم ،وذكرها بجمعيتها التي يتم متويلها من اخلارج ،وتساءل:
ملاذا يتم متويل مجعية وطنية من اخلارج؟وفتحت أخريا الشات ،وقالت:
آرس ،أرجوك ما تضغطش عىل أعصايب أكرت من كده ،أنا خالص مش قادرةأقاومك ،مش قادرة أرفضك ،مش قادرة أحرر تفكريى من احتاللك له ،مش
قادرة ،مش قادرة.
وبكت كثريا ،فانتهز آرس الفرصة وقال:
- 175 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
علشان عارفة إن معايا حق ،وإن أنا كل كالمي صح ،وإين بحبك وأنتبتحبيني ،وأوعدك عمري ما هسيبك تاين ،وهحميكي يا منة من كل يشء،
وهقاوم معاكي كل فساد وجهل وختلف ،أنت برباجمك اليل هتعمليها ملا
تتخرجي ،وأنا بسلطتي اليل هستعملها خلدمة الناس ،والزم قويت وقوتك
وعقيل وعقلك وحبي وحبك نواجه بيه عدونا احلقيقي ،وإيدينا يف ايدين بعض،
موافقة يا منتي؟
فردت برسعة وبدون تردد:
موافقة يا آرس قلبي وعقيل.وخرج آرس من غرفته مهلال ينادي أمه وأخته ،ويزف هلم خرب استسالمه وقبوله
أن يدخل قفص الزوجية ،وأنه وجد من حترك قلبه وعقله ،ومحل أمه ومحل أخته
ودار هبام يضحك ،ويشاركهم فرحته ،فقالت له أخته:
املهم هي مني؟ ويا ترى تستاهل أخويا وال أل؟فردت أمه:
مش مهم يا أماين ،املهم هو رايض ومبسوط ،وده عندي بالدنيا.ودعت له بالفرح والسعادة والذرية الصاحلة ،وأمن آرس عىل كالم أمه قائال:
-نص دستة يا أمي ،أنا عاوز نص دستة عيال.
- 176 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ومل يستطع آرس أن خيفي األمر عىل صديقه وزميله أمحد ،فقاد عربته واجته نحو
القسم ليبرش أمحد بقراره ،بعد عزوفه عن الزواج أعواما وأعواما ،ويشاركه فرحته،
ويصالح طارق عام بدر منه ،كان يف حالة تصالح وتسامح مع الدنيا كلها ،وذهب
للقسم ،فقابل طارق واعتذر له ،وسأله عن أمحد صديقهم ،فوجده قد خرج يف
كمني من الكامئن التي تعودوا أن يقيموها عىل طول الطرق للسيطرة عىل الوضع
والتأكد من استتباب األمن ،ونظر آرس لطارق وقال:
شكلك لسه زعالن مني.فأشاح طارق بوجهه بعيدا عنه ،فضحك آرس مداعبا طارق وقال :
عارف لو ما ضحكتش دلوقتي هعمل فيك إيه؟ هنفخك.فضحكا معا ،وجاءهتم إشارة رسيعة أن الكمني الذي كان يقف فيه أمحد قد
تعرض هلجوم إرهايب ،وأطلق عليه وابل من الرصاص ،فأرسع آرس وطارق واجتها
نحو الكمني ،فوجودا أمحد يف حالة بني املوت واحلياة ،وما أن رآمها حتى أمسك
بيدي آرس ،فسالت دماؤه عىل يد آرس وقال وهو حيترض:
آرس الصغري أمانة بني إيديك يا صاحبي ،خد بالك منه ،وقول له أبوك ماتبطل ،وبوسهويل يا آرس ،وخد بتار أبوه ،عاوزه يعيش يف بلده مطمن وآمن.
ولفظ أمحد أنفاسه األخرية بني يدي آرس ،ورصخ آرس من قلبه حزنا عىل صديقه
الطيب ،وانكرس قلبه ،وذبلت بذره فرحته يف صدره ،وتصدى للموقف بشجاعة،
- 177 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وتقدم جنازة صديقه ،وأخذ عزاءه ،وقلب الدنيا رأسا عىل عقب بحثا عن اجلناة،
وأمسكوا بعض املشتبه هبم ،والذي كان عىل رأس القائمة فيهم بعض من نشطاء
مجعية «حقي» ومجعيات أخرى مثلها ،فشعر آرس بشعور منة وبغضها وحقدها،
والتمس هلا العذر فيام كانت تفعله معه من صد ورفض ،صعب أن تقطع وعدا وال
تفكر ليل هنار يف تنفيذه ،واألخذ بثأر عزيز لك سقط أمامك وطوقك بعهد كتبت
حروفه بدمائه ،ومتنى أمحد لو أمسك رشاشا آليا وثقب به كل صدور أعضاء اجلمعية
اجلاين منهم والذي مل يقرتف إثام يف حياته منهم أيضا.
وتذكر حبيبته منة ،وعاد لينبهها ويطمئن أهنا استقالت من مجعية اخلراب
واإلرهاب ،فاتصل هبا فلم جتب ،ففتح الالب توب وجلس ليبثها حزنه ،ويشكو هلا
لوعته ،وحرقة قلبه عىل أعز أصدقائه ،ولكن شيئا انتفض داخله ،وجعله يفتح
صفحتها التي هكرها ويقرأ حمادثتها التي أجرهتا ،فوجد حمادثة مجاعية كانت أحيانا
قبل معرفتها بآرس تشرتك فيها مع أعضاء مجعيتها املزعومة ،وكانوا يزفون خرب
اغتيال صديقه أمحد هو وجمموعة من اجلنود ،مع تعليق أهنم أخريا وبعد كل
حماوالت املالحقة الفاشلة انتقموا لفادي صديقهم ،وأن البقية قادمة ،ورغم أن منة
مل تكن تشرتك يف ذلك الشات ،فقد كانت مشغولة بمرض جدهتا املفاجئ ،وكانت
يف تلك اللحظة بالذات تبكي يف حضن جدهتا التي حتترض.
ومل تكن منة تدري بالدنيا وما عليها ،إال أن آرس اعتربها مذنبة مثلهم ،وأن بقاءها
عىل صلتها باجلامعة وعدم استقالتها من أمانتها دليل إدانة واضح عىل تورطها معهم
- 178 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
يف نظره ،وعاد بالذاكرة للخلف ،وتذكر أحاديثها التي تقطر غال ،وبوستاهتا التي
متتلئ كراهية ،رغم أن منة كانت قد تركت اجلمعية بالفعل ،ولكن مرض جدهتا
منعها من إكامل إجراءات استقالتها من أمانة اجلمعية ،وما جعلها تبقى عىل الشات
اجلامعي حتى تستطيع التواصل مع أصدقائها وإقناعهم برضورة تغيري مسارهم كام
فعلت هي بعد أن تصاحلت مع الدنيا عىل يد آرس.
فأسند آرس رأسه للحائط بعد أن دارت به األرض ،وحاول أن جيمع قواه ،وتذكر
آخر كلامت صديقه له ،ووعده معه ،ومل يدر بنفسه إال وهو يدق الباب عىل منة التي
فتحت له متهللة الوجه لرتمتي يف حضنه ،ويواسيها يف موت جدهتا التي كانت كل
عائلتها ،وهي ال تدري بربكان غضبه ،فتقدم آرس منها بنظرات شيطانية تتطاير من
عينيه ،فيها كل ألسنة اجلحيم ،وفحيح األبالسة التي سكنت عقله وقلبه يف تلك
اللحظة ،وصفعها عىل وجهها عدة صفعات أدمت أنفها وفمها الصغري ،وأغلقت
عينيها اجلميلة من التورم واالنتفاخ الذي تال صفعاته الوحشية ،وجذهبا من شعرها
بقوة لينظر يف وجهها الربئ اجلميل الذي ضاعت معامله من أثر لطمه هلا بكل قوته.
فرفعت عينيها يف عينيه وهي تتساءل يف براءة وجراءة:
ليه يا آرس؟ ليه؟ ده أنت غريتيل نظريت ،وعرفتني طريقي ،ورجعتيل ثقتي يفالدنيا من حواليا ،ده أنت خرجتني من قبو االنتقام وظالم الكره بشمس احلب،
ورحابة األمل واحلياة ،ليه يا آرس؟
فجذهبا من شعرها ماسحا هبا بالط درجات السلم وهو يصيح:
- 179 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عايزة تعريف ليه؟ علشان أنت اتسببتي يف يتم طفل بريء ،أبوه داخ سبع سننيعلشان جييبه للدنيا ،ويسيبه فيها لوحده يتيم ،علشان «أنا دلوقتي اليل بيني
وبينك عهد ودم وتار»؛ ألن اليل زيكم ما يعرفوش حيبوا ،وما ينفعش يتعاملوا
غري بمعاملة طارق ،علشان أنا كنت غلطان ،وأنت عرفتيني الصح اليل هعمله
معاكي دلوقتي.
ومل يبال آرس بكل موبايالت الشارع واجلريان التي تصوره وهو يعتدي عىل منة
بالرضب ،وأنه سيبقى أياما وليايل سرية ومواال عىل صفحات الفيسبوك ،ومثاال
لبلطجة الداخلية عىل املواطنني يف مقاهي التوك شوز ،بعد أن حتول آرس لنسخة
أسوأ من طارق ،وبعد أن كفرت منة بكل ما آمنت به عىل يد آرس ،وتأكدت متاما أنه
كغريه ،وحيش بربري ،مهام ارتدى من ثوب براءة مصطنعة ،ففي حلظة واحدة يظهر
الوحش القابع بداخله كغريه ،وأحيل آرس ،الضابط الكفء إىل التحقيق ،بعد
فضيحته عىل الفضائيات ،واحتلت صفعاته ساعات وساعات من برامج
الفضائيات ،واهتمت منة بالتورط يف أمر االغتيال ،بعد تتبع رسائلها وأحاديثها التي
غريهتا متاما بعد معرفتها بآرس ،وقبل تركها للجمعية عىل يد آرس ،وتغري نظرهتا من
حبه هلا وخوفه عليها ،ومن كالمه املقنع وقوة حجته الدامغة التي أقنعتها ،وحتولت
لبطلة ،ليس بفضل أعامهلا ،فلم يكن يدري عنها أحد شيئا ،ولكن بفضل يوتيوبات
رضب آرس هلا التي استخدمتها مجاعة ثانية وثالثة وخامسة للتنديد بالنظام ،وسوء
املعاملة ،وأصبحوا يقفون رافعني يافطات تطالب باحلرية ملنة ،بطلة الشباب ،بعد أن
- 180 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
تغريت منة ،وتغري آرس ،وحتول بينهام احلب الكبري لكره كبري؛ لتستمر مغالطات
املفاهيم ،وتعقيدات قضية حب الوطن الربيء متاما مما ينسب له ،فلو نطق الوطن
لثار عىل اجلميع وحاسبهم عىل كل اجلرائم التي ترتكب باسم حب الوطن ،والوطن
شعب حيب وطنه ،والشعب لكي حيب وطنه ال بد وأن حيب بعضه.
** متت **
- 181 -
القصة الرابعة
أربعة أيام يف اجلنة
مقدمة
كان الرائع إحسان عبد القدوس يف إحدى رواياته يقول :إن يف حياة كل منا وهم
كبري اسمه احلب األول .غري أن هذا الوهم كان هو احلقيقة الكامنة يف قلوب
البعض منا ،وكان بالنسبة هلم هو احلب األول واألخري أيضا ،فبعض القلوب ال
تنبض إال مرة واحدة ،وال تدق دقاهتا املرتعشة الراقصة إال مرة واحدة ،وبطال تلك
القصة أحبا بعضهام حبا من هذا النوع الذي ال يعد ومها ،ولكنه يقني ،جيعلك تسبح
بني أمواج السحاب ،وتقبل خد القمر ،وتطوف باجلنة ،بل وتعيش فيها ولو ألربعة
أيام فقط.
- 185 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أربعة أيام يف اجلنة
عادت لغرفتها متعبة من جراء يوم شاق عسري ،وما أن أضاءت نور حجرهتا حتى
الحظت فوىض أثارت تعجبها ،لكنها مل تتوقف عندها كثريا ،فقد بقي يومان عىل
انقضاء إجازة نصف العام ،وبدء الصف الثاين للدراسة يف اجلامعات ،ومن بينهم
كليتها كلية الطب.
مل تكن أمرية الشبكي تعيش بمفردها يف املدينة اجلامعية ،كانت تقاسمها الغرفة
زميلتها التي ختتلف عنها يف الشكل واملضمون مروة ،وملا كانت ظروفها ال تسمح هلا
بأن ترتك املدينة اجلامعية وتسافر ألهله ا؛ ألن والدها وباقي أرسهتا يعيشون يف دولة
بعيدة ،فكانت تقيض العام الدرايس كله يف سكن مدينتها اجلامعية ،ويف اإلجازة
تلحق بأرسهتا ،ويف بادئ األمر ظنت أمرية أن مروة صديقتها ربام عادت ،وأثارت
تلك الفوىض يف الغرفة ،لذلك مل هتتم ،ونامت عىل فراشها بمالبسها وزينتها ،حتى
أهنا مل تكلف نفسها غلق األنوار من فرط التعب ،وسقطت يف بئر نوم سحيق ال
تدري بالدنيا من حوهلا.
- 186 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
مل تكن أمرية تؤمن باحلب ،ومل تقرأ يف حياهتا عدا كتبها العلمية ،أي رواية
غرامية ،وكانت أمرية واسعة الطموح ،تنظر للحياة نظرة عملية أحادية ،وعاملها
حدود مكتبها ،وفلسفتها قدرهتا عىل النجاح ،وكانت تقفز عاما وراء عام صوب
قمة هرم طموحها ،وتفوق كل سنة كان بالنسبة هلا حافزا لتفوق أكرب وأكرب يف السنة
التي تليها ،ثم التي تليها .
وكثري ا ما ضحكت من صديقتها التي كانت حتب كل عام ،وترتبط يف كل
مصيف ،وتقابل كل عريس يقدمه هلا األهل واألقارب ،وكانت أمرية عكس
زميلتها متام ا ،فقد كانت كافرة باحلب ،ساخرة من قصصه ،متحفزة لكل كلمة
رقيقة من رجل .
ونامت أمرية بعد يوم شاق وطويل ،فقد قضت كل إجازهتا ال خترج من غرفتها
أسبوعا كامال ،وفوقهم يومان وهي ال تغادر الغرفة ،حتى أصاهبا امللل ،وقتلها
الضجر ،فقررت أن تقيض يومها كله خارج املدينة اجلامعية ،وصنعت لنفسها
«بروجرام» ال بأس به ،ذهبت للسينام ،وشاهدت فيلام للخيال العلمي ،ثم جتولت يف
أرجاء مول جتاري تعبث باملالبس ،وتتسكع أمام الفتارين ،ثم تناولت طعاما من
الوجبات الرسيعة ،حتى ملت وتعبت ،وما أن فكرت يف العودة حتى هطل املطر
وبغزارة ،فأوقف قطار احلياة النابضة باحلركة والضجر من حوهلا.
- 187 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ومل جتد أمرية ما تستقله لتعود أدراجها ،فبقيت ترتعش وختتبئ خلف واجهات
املحالت ،حتى استطاعت أخريا أن تقنع تاكيس أن يقلها للمدينة مقابل كل ما يف
جيبها ،وعادت منهكة ،وتكورت يف فراشها ،وأسدلت غطاءها عليها ،وغابت يف
نوم عميق مل تفق منه إال عىل حلمها الذي يتكرر كل ليلة ،والتي فشلت مروة زميلتها
وكل زمالئها يف تفسريه ،ونالت منهم بسببه دعابات سمجة ،وتعليقات ال حتبها.
رأت أمرية يف حلمها أهنا متد يدها لرجل أوشك أن يسقط يف بئر خميف ،وما أن
ملست يده حتى جذهبا لتسقط معه يف بئر بال قعر ،وترصخ ويضيع رصاخها يف
سقوط طويل بال ارتطام ،فصحت من نومها تلتقط أنفاسها وتستغفر وتتعوذ من
الشيطان ،واكتشفت أمرية اهنا مل تغري ثياهبا ،أو تغلق أبواب رشفتها ،فقامت تفرك
عينيها ،ورشبت لرتطب حلقها اجلاف من حلمها الغريب ،ثم اجتهت صوب رشفتها
لتغلقها ،وما أن مدت يدها لتغلق باب رشفتها حتى سمعت أنات مكتومة ،فاجتهت
صوب الصوت ،وما أن دققت النظر حتى محلقت بعينني خائفتني ،وتسمرت
قدماها يف األرض.
كان أحدهم قابعا يف الظالم ،وقد تكور عىل نفسه ،يكتم أمله ،فتقدمت منه،
وأطالت النظر نحوه غري مصدقة ما تراه ،وقبل أن ترصخ قام من مكانه وأشهر يف
وجهها سالحا أبيض ،وقال هلا:
- 188 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
اسكتي خالص وإال قتلتك.ثم دفعها لداخل الغرفة ودخل وراءها ،وأغلق خلفه الرشفة ،وأغلق األنوار
كلها ،وصاح فيها وقال:
مفيش داعي للرصاخ ،كلها ساعة وال اتنني وتقل احلركة يف الشارع وأرجعزي ما جيت ،ومالوش الزمة الرصاخ ،وأظنك عاقلة.
فهزت رأسها باملوافقة ،وجلست عىل فراشها صامتة ،وجلس الرجل عىل
الفراش املواجه هلا صامتا أيضا ،فأخذت تتفحصه بعينيها رغم أن الظالم كان حالكا
يف الغرفة ،لكنها الحظت أنه يربط ذراعه برباط شعرها ،ربام هو من أحدث الفوىض
يف غرفتها ،وهو يبحث عن يشء جيرب به جراح كتفه ،فنظر هلا بغضب وقال:
أنت بتبيص عىل إيه؟فلم ترد ،وظلت صامتة ،فأعاد سؤاله بنربة أشد ،وقال هلا:
أنا ما بفكرش أأذيكي ،فام ختلينيش أغري رأيي ،وخليكى عاقلة ،علشان ماتعمليش حاجة تندمي عليها بقية عمرك ،وخليكي مطيعة؛ ألين ما بحبش اليل
ما بيسمعش كالمي ،وبالش تعريف أنا بعمل فيهم إيه.
وأشهر سالحه يف وجهها من جديد ،فقالت له:
- 189 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أنا طالبة طب ،ويف الصف اخلامس ،وممكن أساعدك. قلت لك اسكتي ،وسيبيني يف حايل ،علشان أنا كامن أسيبك يف حالك.وقبل أن جتيب ،سمعت دقات عىل باب غرفتها ،فقام الشاب وقرب السالح من
رقبتها ،وقال:
هقتلك لو نطقتي.فقال الصوت من خارج الغرفة ،وكان ملرشفة الدور يف دار رعاية الفتيات التي
تسكنها أمرية:
أمرية حبيبتي ،ما تفتحيش الشباك واقفيل بابك كويس عليكي ،يف جمرم هربانوالرشطة حذرتنا منه ،فخذي حذرك يا حبيبتي.
فأجابت أمرية:
ما ختافيش عليا ،أنا بخري ،وهنام حاال ،تصبحي عىل خري.ثم التفتت أمرية صوب اللص ،وقالت:
يكون يف علمك إين ما بخافش ،وهتديداتك دي وال هتز شعرة يف رايس ،معالعلم بإين من النوع التاين اليل أنت ما بتحبوش ،ال أنا مطيعة وال بعرف آخد
أوامر من حد.
- 190 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ونزعت يده من عىل رقبتها وهي تقول:
أظن بقى كفاية كده هتديد واستفزاز ،أنا معترباك ضيف هيقيض يف غرفتيساعة وال اتنني ،وأنا جمربة عىل استضافته ،فحاول حتسن اجللوس علشان أحسن
أنا كامن الضيافة.
وظلت أمرية وضيف الليل الذي هبط عليها فجأة صامتني ساعة من الوقت أو
أكثر من ساعة ،وكان كل منهام متحفزا لآلخر ،ناظرا نحوه بخوف وحتد يف نفس
الوقت ،وكان اللص يضع يدا عىل جرحه ،ويكتم أمله ،واليد األخرى شاهر هبا
السالح يف وجه أمرية ،ثم بدأ ينتفض من األمل ،ورويدا رويدا بدأ يسقط أمامها عىل
الفراش مغشيا عليه ،ولكنه كان يقاوم يف إرصار ومكابرة ،وقبل أن يغيب عن وعيه
متاما صاح فيها بصوت أرص أن يكون فيه يشء من القوة:
لو فكريت يف عمل أي يشء صدقيني هتندمي طول حياتك. أنت يف حالة خطرة جدا ،ما تسمحلكش بالتهديد ،وممكن متوت وأنت بتهددبالقتل ،فخليني أساعدك.
فرد عليها وهو حياول مجع احلروف بصعوبة بالغة وبصوت ختونه فيه أحباله
الصوتية:
- 191 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
اخريس بقولك وإال قتلتك.وقبل أن يكمل حروف كلمته األخرية سقط مغشيا عليه ،وسقط السالح من
يده ،فقامت أمرية عىل الفور تتفقد جرحه ،فوجدت جرحه غائرا ،وحالته يف منتهى
السوء ،فلم تفكر كثريا؛ حيث قامت وجذبت قميصه من عىل كتفه برسعة ،وأخذت
تطهر له اجلرح ،وتضمده بعد أن أنارت أباجورهتا وصوبتها نحو جرحه ،حتى
تستطيع رؤية اجلرح بوضوح ،وحتى ال تشعل األنوار ،فتشعر هبا مرشفة الدار وتدق
باهبا لتسأهلا عن رس سهرها غري املعتاد ،أو لتطلب أن تتسامر معها ،فلم يكن يف الدار
غري عدد قليل من الطالبات البعيدون أهلهن.
وأخذت أمرية تتسحب عىل قدميها ،وتدور حول نفسها يف رسعة ودقة؛ لتسعف
هذا اللص العنيد ،ثم نزلت جتري عىل صيدلية من النوع الذي يفتح أبوابه ليال،
كخدمة ليلية لتشرتي احتياجات احلالة الطارئة تلك من مضادات حيوية،
ومضادات التهاب ،وكريامت طبية ،وشاش وقطن ،وقضت الليل تعمل حتى غلبها
النوم ،فنامت جالسة يف مكاهنا ،وحني طلع الصبح ،وربت شعاع الفجر عىل كتفها،
وعاكستها أضواء شمس الصباح الصاعدة عىل عرش السامء ،حتى انتبهت لنفسها،
فقامت ونزلت ملطعم الدار ،وعادت بصينية حمملة بالفطور واللبن والعسل واخلبز،
- 192 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وما أن فتحت الباب حتى أفاق اللص من جديد ،وقام مرتنحا بضعف يبحث عن
سالحه من جديد؛ ليعيد كرة التهديد والوعيد ،فنظرت نحوه أمرية وقالت:
احلركة ممنوعة ،جرحك خطر.فصاح فيها بغضب:
اخريس ،مالكيش دعوة بيا وبجرحي.فأشاحت أمرية بيدهيا نحوه وقالت:
أنت فعال جمرم عدواين مثري للشفقة.تلفت اللص حوله وأخذ يبحث عن سالحه ويصيح بوهن وضعف:
هاقتلك.فمدت يدها نحوه بكوب من اللبن وقالت:
دلوقتي الزم ترشب ده؛ ألنك نزفت كتري من دمك ،الزم تعوض اليل فقدته.فتذمر ،وحاول أن يقوم ،فرفعت أمرية السالح صوب رقبته وقالت:
- 193 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أنت من غري سالحك ما تساويش حاجة ،وكفاياك محاقة ومكابرة وعدوانية،هتعمل اليل أقولك عليه وإال هضطر لطلب النجدة ،اصل أنا مش عاوزة قتيل
يف أوضتي.
وصاحت فيه بقوة وحزم:
ارشب اللبن يال وبرسعة.فمد يديه ورشب احلليب ،فصنعت له ساندوتش من اخلبز املحشو بالعسل
والزبدة وقالت:
وده كامن.فأخذه منها دون أن يبدي اعرتاضا ،وأكله صامتا ،وقامت أمرية ،ومجعت
أغراضها وقالت:
ودلوقتي أستأذن جنابك لو معندكش مانع سيادتك ،علشان عندي ندوةعلمية مهمة ما أقدرش أفوهتا ،ساعة وال ساعتني وهرجع ،تكون نمت فيهم،
علشان تفوق وحترمني من رشف زيارتك برسعة؛ ألين اختنقت.
فلم جيبها ،وظل صامتا متكورا يف مكانه ،فاقرتبت منه وقالت:
- 194 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عىل فكرة لو عاوزة أبلغ عنك كنت عملتها وأنت غايب عن الوعي ،ودلوقتياسمح يل سموك علشان اتأخرت.
وجذبت من حتته الغطاء وأسدلته عليه ،وأغلقت ستائر الغرفة ومضت ،بعد أن
تركته غارقا يف حريته وشكوكه منها وفيها ،وعادت أمرية فوجدته ما زال نائام ال
يدري بالدنيا من حوله ،وما أن أضاءت الغرفة حتى رفع يده السليمة أمام عينيه
حتى ال يزعجه الضوء ،وتذمر وبدأ يصيح فيها من جديد ،فمدت له يدها
بصينية الطعام ،وعليها طعام صحي ساخن وقالت:
دلوقتي جه معاد الغدا ،الزم تاكل علشان تاخد الدوا بتاعك يف معاده،خادمتك املطيعة جيبالك األكل ،يا ريت تتكرم وتقوم تاكل وختلصني.
وأنا مش عاوز أكل. ما هو أنت الزم تعرف إين أنا دلوقتي اليل بأمر ،وأنت اليل الزم تطيع،وغصب عنك ،وأنا كامن ما بحبش الناس اليل مش مطيعة ،وسبق وفهمت
سيادتك إنك من غري سالحك ماتساويش ،والزم تعرف إين مش بعمل معاك
كده تعاطفا وال شفقة ،أنا بعمل كده علشان أنا دكتورة ،ما بستحملش أشوف
- 195 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كلب وال قطة وال حتى فار جتارب بيتأمل ،وثانيا ألين سبق وفهمتك بردو إين
مش عاوزة قتيل يف أوضتي.
فأنزل يده من عىل عينيه ونظر يف عينيها نظرة تشع غضبا واعرتاضا ،فردت أمرية
نظراته الغاضبة املعرتضة بمثلها ،وهي ما زالت ممسكة بصينية الطعام ،ولكن ما أن
أنزل يديه وظهرت مالحمه بوضوح أمامها وزادت عيناه العسليتان العميقتان توهجا
حتت الضوء حتى سقطت أمرية يف عمق عينيه دون أن تدري ماذا دهاها ،وما الذي
أمل هبا يف دقائق معدودات.
كانت نظراته الغاضبة سهام سحر وقوة اخرتقتها منذ أن وعت ملالحمه ،حتى أهنا
كادت أن تسقط الصينية من يدها ،وتزامحت الكلامت واألفكار واملشاعر داخل
قلبها املغلق عىل طموحها ودراستها ،وصمتت وامجة ال تنطق فمد يديه وسحب
الصينية من بني يدهيا وقال هلا:
ما اتعودتش أعمل حاجة أنا مش عاوزها ،ثم وضع الصينية برسعة وخفةوجذب أمرية من شعرها ولفها أمامه حتى كان ظهرها مالصق لصدره ،وأحكم
وضع ذراعه عىل رقبتها خينقها ،وسمعت صوته الصادر من خلفها بفمه
املالصق ألذهنا يقول هلا:
- 196 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
مجيلك ده ما يدكيش احلق يف إهانتي ،واليل ما تعرفيهوش إين ما بيأثرش معاياسالح ،وأنا بسالح وبدون سالح بعمل اليل أنا عاوزه ،يف أي وقت عاوزه،
فهمتي وال الزم جتريب؟
ودفعها بعيدا ،فوقعت عىل وجهها ،قامت وأصلحت ثياهبا وشعرها وقالت:
فعال أفعال لصوص وجمرمني ،جمرم زيك الزم أعرف إنه ما يأثرش فيهمعروف ،هستنى إيه من واحد زيك غري عدوانية وعنف ومهجية؟
أخرج اللص من جيبه سجائره ووالعته ،وأشعل سيجارته ،واعتدل يف جلسته وقال:
اسمك إيه يا آنسة؟ أنت مالك؟ أنا آسف ،ما تزعليش مني ،أنت اليل استفزتيني يا آنسة. أنا كامن اليل أنقذت حياتك ،وقضيت الليل أمرضك ،ونزلت يف نص الليلأجيبلك الدوا.
آسف يا آنستي ،وصدقيني مش هنسى معروفك ده ،ويف يوم من األيامهردهولك.
- 197 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أشكرك ،رد مجييل اليل أنا عاوزاه إنك تتكرم وتنهي حصارك بقى ،ومتيشوتسيبني يف حايل.
مهيش ،ولكن اوعديني إنك تنيس مالحمي وشكيل ،وكأنك ما شوفتينيش.فرسحت أمرية قليال يف مالحمه اجلريئة احلادة الوسامة ،وقالت وهي كاذبة طبعا:
أنا ما بحتفظش باملالمح يف خميلتي أكثر من ثالث دقائق ،ثم إين ما دققتشالنظر يف وشك ،أنا كنت مشغولة بجرحك وختفيف أملك.
اعتذر هلا للمرة الثالثة ،ثم قال:
بعيدا عن التخشيبة ومن فيها ،فخرج آرس غاضبا ،وهدد طارق أن يصعد األمر لو مل
يتوقف طارق عن طريقته تلك ،فقال له طارق:
حتى ولو طريقتي دي خلتهم يتكلموا ويقولوا مني اليل حرضهم عىل كدهواليل وراهم؟ وراهم مجعية حقوقية مشبوهة اسمها «حقي».
انتبه آرس لالسم وقال:
وأنت ناوي تعمل معاهم إيه يا طارق دلوقتي؟ هكتب حمرض بأقواهلم وأحوهلم للنيابة حتقق يف مجعية «حقي» دي ملا نشوفحكاياهتا هي األخرى ،جتهم كرس حقهم كلهم ،قرفونا يف عيشتنا ،ال عارفني
ناخد أجازة وال قادرين نعيش زي الناس ،حاجة تقرف.
فقال أمحد:
- 167 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أسيبكم بقى تقرفوا براحتكم ،وتكتبوا حمرضكم ،وتنفخوا مساجينكم،وأروح أنا البني حبيبي آرس ،حبيب قلبي أقعد جنبه شوية أحسن واحشني
موت ،وزماين وحشته أنا كامن.
يا ابني أنت من ساعة ما خلفت بقيت تزوغ كتري ،وما عدناش بنشوف وشكإال شبح يف القسم ،هو أنت شغال معانا وال شغال دادة للواد وأمه؟ وال
ظروفك إيه بالظبط؟
اعذرين يا آرس ،الواد ابني جه بعد سنني عذاب ،ومش مصدق إنه بقى حقيقةقدامي ،والزم كل شوية أطل يف وشه علشان أتاكد.
فضحك آرس وقال :خالص روح اتاكد ،بس انجز ،مش هنقيض احلياة كلها
تأكيد يا أبو آرس.
فقال هلم طارق:
وطبعا أنت متكيف وسعيد إنه سمى الواد عىل اسمك ،علشان كده بتغطيعليه ،لكن أنا نايبني من وراكم أنتم االتنني إيه غري واحد عاميل فيها مالك
الرمحة ،األم تريز ،ومش سايبني أشوف شغيل من غري خناق وزعيق كل شوية،
والتاين بعد ما خلف بقى الدادة أمحد دودي ،وسايب شغل القسم كله عىل
دماغي وقاعديل جنب الواد وأمه.
- 168 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وضحك الثالثة معا ،وأهنى آرس نوبته يف عمله ،وعاد لبيته ،فوجد ألف رسالة
من منة تعتذر فيها ،وتؤكد له صدق معلوماته التي قاهلا عن مجعيتها املزعومة ،وتعده
بالتوقف عن نشاط اجلمعية وتركها يف أقرب وقت ،فدخل معها يف الشات ،وهنأها
عىل قرارها ،وأخذ رقم تليفوهنا ،وقىض الليل حيادثها ،وكالمها سعيد حملق فوق
سامء الدنيا ،وأول ما فعله يف الغد أن مر عليها ،وركبت معه يف سيارته ،وانطلقا معا
بعيدا عن زحام القاهرة إىل إحدى قرى العني السخنة الساحرة بعد أن استأذن
صديقه أبو آرس كام يلقبه أن يغطي مكانه لليوم فقط.
وأخذها من يدها حيث اجلبل حيتضن البحر يف أمجل بقعة ساحرة عىل خريطة
مرص املحروسة يف مدينة السويس اجلميلة الباسلة ،وقىض يوما مجيال معها أمام
البحر ،وتناوال السمك السوييس واجلمربي اجلامبو ،وأطال عىل املكان الرائع ،وظال
يتجاذبان أطراف حديث عام حتى أوشكت الشمس عىل الغروب ،فأخذها من
يدها وخلعا حذاءهيام؛ لتقبل قدمامها رمال الشاطئ ،ومياه أمواج البحر يف ليلة شتاء
دافئة ساحرة ،ومد آرس يده ،ووضعها عىل كتف منة حبيبته ،واحتضنها بقلبه ويديه
وعينيه ،وقال هلا كلمته التي مل خترج ألنثى قبلها ،وهو ينظر يف عينيها اجلريئة التي
أرسته من أول نظرة ،وهو اآلرس لقلوب الفتيات ،قاهلا هبمس أذاب يف صوته كل
شوق سنينه الضائعة قبلها يف البحث عنها ،ضمها من كتفيها ،وقال هلا:
-بحبك يا منة.
- 169 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فلم ترتدد منة ،وبادلته الكلمة الساحرة التي خترتق القلوب ،واآلذان ،واألرواح
أيضا ،وتشجع آرس ،وأخذ قراره املؤجل ألعوام طويلة مرت من عمره الشاب
الفتي ،وطالبها بالزواج ،فأنزلت منة يده من عىل كتفها ،واجتهت بعينيها بعيدا عن
البحر ،حتى استقرت يف قلب اليابسة ،ومضت وجلست عىل صخرة من صخور
الشاطئ ،فمىض نحوها آرس متعجبا ،من تغري حاهلا املفاجئ ،وما أن تقدم منها
وأمسك يدها من جديد حتى سحبت يدها من بني يديه وقالت:
اعذرين يا آرس؛ ألين ال أستطيع قبول طلبك ،فبيني وبينك عهد ودم .فصمت آرس ،وأخذ ينظر يف عينها متعجبا مستفرسا ،باحثا عن إجابة لسؤال سأله
بعينيه ،فأجابت سؤاله الذي مل يسأله:
ألين بيني وبينك دم فادي زمييل وحبيبي ،سقط قدامي اليوم املشهود لهبالغضب ،كان يوم مجعة ،وخرجنا مع بعض نطالب بعيش وكرامة ألهلنا ،وحرية
لبلدنا ،مكناش نقصد شغب أو تدمري ،كل قصدنا كان إننا نعرب عن غضبنا من سوء
األوضاع ،ونمثل أهلنا اليل ضهرهم انحنى من الفساد وسوء احلال.
واسرتسلت منة يف الكالم وقالت:
كان فادي شاب بسيط مكافح ،لكنه كان متفائل متحمس ،شايف دايام بكرةأحىل ،حبيبت فيه شجاعته وابتسامته ،كان بيشع هبجة وطاقة ونور يف قلوب كل اليل
يعرفوه ،وىف كل مكان يروحوا ،اتعلمت منه كل حاجة حلوة؛ ألن كنت وحيدة يف
- 170 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وسط أهل مشغولني دايام عني ،أب حياته شغله وسفره وعالقاته النسائية ،رغم
بساطة حاله ،وأم سابتني وأنا صغرية يف حضن جدة سجنها املرض يف رسيرها من
زمان ،واجتوزت وشافت حياهتا بعيد عني ونسيتني ،لكني كنت طموحة ،وعمري
ما استسلمت لوحديت ولظرويف ،وبقيت أشتغل يف أجازة الصيف ويف الشتا كامن
بعد الدراسة ،علشان أصنع لنفيس حيايت وأستقل ماديا بنفيس ،وما أحتاجش حلد،
واتعرفت عليه ،كنا بنشتغل جرسونات يف كافترييا كبرية ،وكنا بنقسم البقشيش بيننا،
حبيته وحبني ،كان بيهاديني كل مناسبة صورة لعقد أملاظ كان هيجبهويل لو كان
معاه متنه ،أو صورة عربية فخمة ويقول يل أصلها حمجوزة يف امليناء ملا أدبر متن
مجركها هتكون عندك عىل طول ،أو فيال فخمة كبرية بس األرض عليها مشاكل ملا
تتحل هيبنيها ليا.
ومسحت دموعها الغزيرة وهي تكمل قصة وعدها لفادي بكاء ،وقالت:
كان حبيبي ،وصاحبي ،وأهيل ،عمري ما اتصورت إن قلبي يدق حلد بعدهأبدا ،علمني ازاي أصرب وأجاهد يف سبيل حتقيق حلمي ،وكان شايف إننا يف يوم
هنحقق كل أحالمنا بإيدينا ،حلد يوم اجلمعة الغاضب اليل أنت وأنا عارفينه كويس،
فات عليا فادي ،وأرص إين أكون معاه ،وإن صوتنا حيضن بعضه يف وسط مجوع
الشباب الغاضب اليل مننا وزينا ،ونعلن للدنيا كلها إننا خرجنا ندور عىل حلمنا،
وعمرنا ما هنرجع من غريه ،وخرجت معاه وإيدي يف إيده ،وكان خايف عليا،
كانت إيده حاضنة إيدي ،وصوابعه شابكة صوابعي ،وفضلنا ماشيني هنتف وهنتف
- 171 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ونرج األرض من حتتنا ،حلد ما جاتله رصاصة الغدر يف صدره ،وقع قدامي ،لكنه ما
سبش إيده من إيديا ،وفضلت صوابعه شابكة يف صوابعي حلد ما دمه سال بني
إيديا ،ووطيت عليه أهزه علشان يقوم يقف عىل رجله من جديد ،ابتسم يف ويش
وقايل اوعي تستسلمي ،احللم قريب ،أنا شايفه قدامي ،وعاهدين أكمل مشوار
حلمه ،وعاهدته إين آخد بتاره.
فرد آرس متأثرا من حديثها ،ومتسائال:
تاخدي بتاره من مني يا منة؟ مني وال من بدلتي املريي؟ منكم كلكم ،كنتم ماليني امليدان بسالحكم املريي ،هبمجيتكم وغطرستكم،واحد منكم أو أكرت كان السبب يف ضياع فادي ،وميت فادي زيه راحوا علشان
تفضلوا انتو يف مكانكم ،تسمح تقول يل أحط إيدي يف إيدك ازاي بعد ما إيدي
سال عليها دم فادي منك ومن اليل زيك؟
وفقدت أعصاهبا ،وأخذت هتتف هبسترييا وبعصبية ،وهي تبكي وتتذكر أحداث
روايتها احلزينة:
داخلية بلطجية ..داخلية بلطجية ..داخلية بلطجية.وترددها كثريا ،حتى ضاع صوهتا وسط عاصفة دموعها ،وسقطت عىل ركبتيها
فوق رمال الشاطئ ،تبكي وهتتز تشنجا وأملا ،وهي حتاول رصف ذكرياهتا املروعة يف
ذلك اليوم الغاضب العاصف ،فاحتضنها آرس ،وثبت رأسها صوب قلبه؛ لتهدأ من
- 172 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ثورهتا ،فبكت وبكت كام مل تبك من قبل ،وأفاقت من غيبوبتها ،حينها وجدا الظالم
قد حل ،والشاطئ خاليا متاما سوى منهام ومن عتمة الليل حني هبط وغطامها بغطاء
خميف ،وكان اجلزء السعيد من لقائهام قد انقىض عىل غري رجعة ،وعاد هبا آرس وكل
منهام سارح يف ملكوت حياته ،وعاد كل منهام إىل عامله ،وذهب آرس يف الصباح إىل
عمله ،ورسح دقائق ثم نظر نحو طارق وقال له:
هو أنت كنت يف امليادين يف أيام ثورة الشباب إياها واملليونيات اليل قلبتالدنيا دي يا طارق؟
رد طارق بثقة وقال:
طبعا ،امال مني اليل رجع األمن والنظام؟ ما هو علشان كده حرقولناالسجون وطاردونا باملولوتوف.
فقال له آرس:
عىل كده استعملت سالحك. طبعا ،الظروف دي ما ينفعش فيها غري السالح «توقع الزعام يفر األتباع»،نظرية معروفة يف علم النفس اسمها فرق تسود.
انفجر آرس فيه غاضبا ،وهتجم عليه رضبا وسبا ولعنا ،وقال:
أنت السبب ،أنت واليل زيك مكاهنم مش هنا.فتدخل أمحد:
- 173 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
إيه يف إيه يا آرس؟ مش كده عيب اليل أنت بتعمله ده ،معلش يا طارق ،حقك عليا،آرس أعصابه تعبانة اليومني دول والزم ياخد أجازة ،وأنا مهسك خدمة مكانه.
فقال طارق غاضبا:
أعصابه تعبانة عىل نفسه ،خالص أنا ما عدتش طايقه ،واملرة دي مش هتعديعىل خري ،وهرفع األمر ألعىل القيادات ،وترك القسم وخرج غاضبا.
واهنار آرس عىل كرسيه ،ووضع رأسه بني كفيه ،فهدأه أمحد وقال:
ليه بس كده يا آرس؟ أنا هروح أحلقه قبل ما املوضوع يكرب.وتركه وأرسع خلف طارق ليهدأه ،وترجاه وتوسل إليه أن يعدل عن قراره،
وأن يسامح آرس فيام فعل ،وأخذ يلح عليه حتى عدل عن موقفه إكرام ا ألمحد،
عىل أن يتعهد له أمحد بأال يتعرض له آرس ثانية أو يعرتض طريقه وإال نفخه.
فضحك أمحد وقال:
ال طبعا يا طارق ،هو أنا أرىض أشوف آرس بلونة بردو؟ ما هتدى علينا شوية ياعم املنفاخ.
فضحك طارق من كالمه ،فاحتضنه أمحد وقال:
احنا زمال واخوات ،ومصارين البطن بتتعارك يا أخي.وعاد أمحد وطارق للقسم ،فوجد آرس قد غادره عائدا لبيته بعد أن طاف بالعربة
كل شوارع مرص ،يتفحص وجوه الناس ،ويتساءل بينه وبني نفسه:
- 174 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ترى يف أي صورة يراه الناس؟ وما الذى خيبئون له يف قلوهبم؟ وكام فادي راحضحية طارق وأمثاله؟
وعاد لبيته ،وأخذ حيادث منة ،وهي تبكي وراء شاشتها ،وال ترد عىل أي من
كالمه ،وقىض الليل يقنعها أن معها نصف احلقيقة ،والنصف اآلخر خيال ،وأن
وعدها لفادي ال يمنعها من أن ترتبط به ،وأنه ومثله كثريون بريئون متاما من دم
فادي ،وأنه ليس عدوا هلا ،وال لغريها ،وال بد من وجود األمن لتستتب احلياة،
وتستطيع هي أن تكمل دراستها ومتارس حياهتا ،ولواله ولوال غريه النقلبت احلياة
جحيام ،والدولة لغابة ،وذكرها بحادثة التحرش التي نجاها منها ،وبالرسقات التي
تلت مجع املليونيات الشهرية ،وأن للبلد عدوا أكرب هو من جعل منهم أعداء يقفون
يف مواجهة بعضهم ،وذكرها بجمعيتها التي يتم متويلها من اخلارج ،وتساءل:
ملاذا يتم متويل مجعية وطنية من اخلارج؟وفتحت أخريا الشات ،وقالت:
آرس ،أرجوك ما تضغطش عىل أعصايب أكرت من كده ،أنا خالص مش قادرةأقاومك ،مش قادرة أرفضك ،مش قادرة أحرر تفكريى من احتاللك له ،مش
قادرة ،مش قادرة.
وبكت كثريا ،فانتهز آرس الفرصة وقال:
- 175 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
علشان عارفة إن معايا حق ،وإن أنا كل كالمي صح ،وإين بحبك وأنتبتحبيني ،وأوعدك عمري ما هسيبك تاين ،وهحميكي يا منة من كل يشء،
وهقاوم معاكي كل فساد وجهل وختلف ،أنت برباجمك اليل هتعمليها ملا
تتخرجي ،وأنا بسلطتي اليل هستعملها خلدمة الناس ،والزم قويت وقوتك
وعقيل وعقلك وحبي وحبك نواجه بيه عدونا احلقيقي ،وإيدينا يف ايدين بعض،
موافقة يا منتي؟
فردت برسعة وبدون تردد:
موافقة يا آرس قلبي وعقيل.وخرج آرس من غرفته مهلال ينادي أمه وأخته ،ويزف هلم خرب استسالمه وقبوله
أن يدخل قفص الزوجية ،وأنه وجد من حترك قلبه وعقله ،ومحل أمه ومحل أخته
ودار هبام يضحك ،ويشاركهم فرحته ،فقالت له أخته:
املهم هي مني؟ ويا ترى تستاهل أخويا وال أل؟فردت أمه:
مش مهم يا أماين ،املهم هو رايض ومبسوط ،وده عندي بالدنيا.ودعت له بالفرح والسعادة والذرية الصاحلة ،وأمن آرس عىل كالم أمه قائال:
-نص دستة يا أمي ،أنا عاوز نص دستة عيال.
- 176 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ومل يستطع آرس أن خيفي األمر عىل صديقه وزميله أمحد ،فقاد عربته واجته نحو
القسم ليبرش أمحد بقراره ،بعد عزوفه عن الزواج أعواما وأعواما ،ويشاركه فرحته،
ويصالح طارق عام بدر منه ،كان يف حالة تصالح وتسامح مع الدنيا كلها ،وذهب
للقسم ،فقابل طارق واعتذر له ،وسأله عن أمحد صديقهم ،فوجده قد خرج يف
كمني من الكامئن التي تعودوا أن يقيموها عىل طول الطرق للسيطرة عىل الوضع
والتأكد من استتباب األمن ،ونظر آرس لطارق وقال:
شكلك لسه زعالن مني.فأشاح طارق بوجهه بعيدا عنه ،فضحك آرس مداعبا طارق وقال :
عارف لو ما ضحكتش دلوقتي هعمل فيك إيه؟ هنفخك.فضحكا معا ،وجاءهتم إشارة رسيعة أن الكمني الذي كان يقف فيه أمحد قد
تعرض هلجوم إرهايب ،وأطلق عليه وابل من الرصاص ،فأرسع آرس وطارق واجتها
نحو الكمني ،فوجودا أمحد يف حالة بني املوت واحلياة ،وما أن رآمها حتى أمسك
بيدي آرس ،فسالت دماؤه عىل يد آرس وقال وهو حيترض:
آرس الصغري أمانة بني إيديك يا صاحبي ،خد بالك منه ،وقول له أبوك ماتبطل ،وبوسهويل يا آرس ،وخد بتار أبوه ،عاوزه يعيش يف بلده مطمن وآمن.
ولفظ أمحد أنفاسه األخرية بني يدي آرس ،ورصخ آرس من قلبه حزنا عىل صديقه
الطيب ،وانكرس قلبه ،وذبلت بذره فرحته يف صدره ،وتصدى للموقف بشجاعة،
- 177 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وتقدم جنازة صديقه ،وأخذ عزاءه ،وقلب الدنيا رأسا عىل عقب بحثا عن اجلناة،
وأمسكوا بعض املشتبه هبم ،والذي كان عىل رأس القائمة فيهم بعض من نشطاء
مجعية «حقي» ومجعيات أخرى مثلها ،فشعر آرس بشعور منة وبغضها وحقدها،
والتمس هلا العذر فيام كانت تفعله معه من صد ورفض ،صعب أن تقطع وعدا وال
تفكر ليل هنار يف تنفيذه ،واألخذ بثأر عزيز لك سقط أمامك وطوقك بعهد كتبت
حروفه بدمائه ،ومتنى أمحد لو أمسك رشاشا آليا وثقب به كل صدور أعضاء اجلمعية
اجلاين منهم والذي مل يقرتف إثام يف حياته منهم أيضا.
وتذكر حبيبته منة ،وعاد لينبهها ويطمئن أهنا استقالت من مجعية اخلراب
واإلرهاب ،فاتصل هبا فلم جتب ،ففتح الالب توب وجلس ليبثها حزنه ،ويشكو هلا
لوعته ،وحرقة قلبه عىل أعز أصدقائه ،ولكن شيئا انتفض داخله ،وجعله يفتح
صفحتها التي هكرها ويقرأ حمادثتها التي أجرهتا ،فوجد حمادثة مجاعية كانت أحيانا
قبل معرفتها بآرس تشرتك فيها مع أعضاء مجعيتها املزعومة ،وكانوا يزفون خرب
اغتيال صديقه أمحد هو وجمموعة من اجلنود ،مع تعليق أهنم أخريا وبعد كل
حماوالت املالحقة الفاشلة انتقموا لفادي صديقهم ،وأن البقية قادمة ،ورغم أن منة
مل تكن تشرتك يف ذلك الشات ،فقد كانت مشغولة بمرض جدهتا املفاجئ ،وكانت
يف تلك اللحظة بالذات تبكي يف حضن جدهتا التي حتترض.
ومل تكن منة تدري بالدنيا وما عليها ،إال أن آرس اعتربها مذنبة مثلهم ،وأن بقاءها
عىل صلتها باجلامعة وعدم استقالتها من أمانتها دليل إدانة واضح عىل تورطها معهم
- 178 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
يف نظره ،وعاد بالذاكرة للخلف ،وتذكر أحاديثها التي تقطر غال ،وبوستاهتا التي
متتلئ كراهية ،رغم أن منة كانت قد تركت اجلمعية بالفعل ،ولكن مرض جدهتا
منعها من إكامل إجراءات استقالتها من أمانة اجلمعية ،وما جعلها تبقى عىل الشات
اجلامعي حتى تستطيع التواصل مع أصدقائها وإقناعهم برضورة تغيري مسارهم كام
فعلت هي بعد أن تصاحلت مع الدنيا عىل يد آرس.
فأسند آرس رأسه للحائط بعد أن دارت به األرض ،وحاول أن جيمع قواه ،وتذكر
آخر كلامت صديقه له ،ووعده معه ،ومل يدر بنفسه إال وهو يدق الباب عىل منة التي
فتحت له متهللة الوجه لرتمتي يف حضنه ،ويواسيها يف موت جدهتا التي كانت كل
عائلتها ،وهي ال تدري بربكان غضبه ،فتقدم آرس منها بنظرات شيطانية تتطاير من
عينيه ،فيها كل ألسنة اجلحيم ،وفحيح األبالسة التي سكنت عقله وقلبه يف تلك
اللحظة ،وصفعها عىل وجهها عدة صفعات أدمت أنفها وفمها الصغري ،وأغلقت
عينيها اجلميلة من التورم واالنتفاخ الذي تال صفعاته الوحشية ،وجذهبا من شعرها
بقوة لينظر يف وجهها الربئ اجلميل الذي ضاعت معامله من أثر لطمه هلا بكل قوته.
فرفعت عينيها يف عينيه وهي تتساءل يف براءة وجراءة:
ليه يا آرس؟ ليه؟ ده أنت غريتيل نظريت ،وعرفتني طريقي ،ورجعتيل ثقتي يفالدنيا من حواليا ،ده أنت خرجتني من قبو االنتقام وظالم الكره بشمس احلب،
ورحابة األمل واحلياة ،ليه يا آرس؟
فجذهبا من شعرها ماسحا هبا بالط درجات السلم وهو يصيح:
- 179 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عايزة تعريف ليه؟ علشان أنت اتسببتي يف يتم طفل بريء ،أبوه داخ سبع سننيعلشان جييبه للدنيا ،ويسيبه فيها لوحده يتيم ،علشان «أنا دلوقتي اليل بيني
وبينك عهد ودم وتار»؛ ألن اليل زيكم ما يعرفوش حيبوا ،وما ينفعش يتعاملوا
غري بمعاملة طارق ،علشان أنا كنت غلطان ،وأنت عرفتيني الصح اليل هعمله
معاكي دلوقتي.
ومل يبال آرس بكل موبايالت الشارع واجلريان التي تصوره وهو يعتدي عىل منة
بالرضب ،وأنه سيبقى أياما وليايل سرية ومواال عىل صفحات الفيسبوك ،ومثاال
لبلطجة الداخلية عىل املواطنني يف مقاهي التوك شوز ،بعد أن حتول آرس لنسخة
أسوأ من طارق ،وبعد أن كفرت منة بكل ما آمنت به عىل يد آرس ،وتأكدت متاما أنه
كغريه ،وحيش بربري ،مهام ارتدى من ثوب براءة مصطنعة ،ففي حلظة واحدة يظهر
الوحش القابع بداخله كغريه ،وأحيل آرس ،الضابط الكفء إىل التحقيق ،بعد
فضيحته عىل الفضائيات ،واحتلت صفعاته ساعات وساعات من برامج
الفضائيات ،واهتمت منة بالتورط يف أمر االغتيال ،بعد تتبع رسائلها وأحاديثها التي
غريهتا متاما بعد معرفتها بآرس ،وقبل تركها للجمعية عىل يد آرس ،وتغري نظرهتا من
حبه هلا وخوفه عليها ،ومن كالمه املقنع وقوة حجته الدامغة التي أقنعتها ،وحتولت
لبطلة ،ليس بفضل أعامهلا ،فلم يكن يدري عنها أحد شيئا ،ولكن بفضل يوتيوبات
رضب آرس هلا التي استخدمتها مجاعة ثانية وثالثة وخامسة للتنديد بالنظام ،وسوء
املعاملة ،وأصبحوا يقفون رافعني يافطات تطالب باحلرية ملنة ،بطلة الشباب ،بعد أن
- 180 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
تغريت منة ،وتغري آرس ،وحتول بينهام احلب الكبري لكره كبري؛ لتستمر مغالطات
املفاهيم ،وتعقيدات قضية حب الوطن الربيء متاما مما ينسب له ،فلو نطق الوطن
لثار عىل اجلميع وحاسبهم عىل كل اجلرائم التي ترتكب باسم حب الوطن ،والوطن
شعب حيب وطنه ،والشعب لكي حيب وطنه ال بد وأن حيب بعضه.
** متت **
- 181 -
القصة الرابعة
أربعة أيام يف اجلنة
مقدمة
كان الرائع إحسان عبد القدوس يف إحدى رواياته يقول :إن يف حياة كل منا وهم
كبري اسمه احلب األول .غري أن هذا الوهم كان هو احلقيقة الكامنة يف قلوب
البعض منا ،وكان بالنسبة هلم هو احلب األول واألخري أيضا ،فبعض القلوب ال
تنبض إال مرة واحدة ،وال تدق دقاهتا املرتعشة الراقصة إال مرة واحدة ،وبطال تلك
القصة أحبا بعضهام حبا من هذا النوع الذي ال يعد ومها ،ولكنه يقني ،جيعلك تسبح
بني أمواج السحاب ،وتقبل خد القمر ،وتطوف باجلنة ،بل وتعيش فيها ولو ألربعة
أيام فقط.
- 185 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أربعة أيام يف اجلنة
عادت لغرفتها متعبة من جراء يوم شاق عسري ،وما أن أضاءت نور حجرهتا حتى
الحظت فوىض أثارت تعجبها ،لكنها مل تتوقف عندها كثريا ،فقد بقي يومان عىل
انقضاء إجازة نصف العام ،وبدء الصف الثاين للدراسة يف اجلامعات ،ومن بينهم
كليتها كلية الطب.
مل تكن أمرية الشبكي تعيش بمفردها يف املدينة اجلامعية ،كانت تقاسمها الغرفة
زميلتها التي ختتلف عنها يف الشكل واملضمون مروة ،وملا كانت ظروفها ال تسمح هلا
بأن ترتك املدينة اجلامعية وتسافر ألهله ا؛ ألن والدها وباقي أرسهتا يعيشون يف دولة
بعيدة ،فكانت تقيض العام الدرايس كله يف سكن مدينتها اجلامعية ،ويف اإلجازة
تلحق بأرسهتا ،ويف بادئ األمر ظنت أمرية أن مروة صديقتها ربام عادت ،وأثارت
تلك الفوىض يف الغرفة ،لذلك مل هتتم ،ونامت عىل فراشها بمالبسها وزينتها ،حتى
أهنا مل تكلف نفسها غلق األنوار من فرط التعب ،وسقطت يف بئر نوم سحيق ال
تدري بالدنيا من حوهلا.
- 186 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
مل تكن أمرية تؤمن باحلب ،ومل تقرأ يف حياهتا عدا كتبها العلمية ،أي رواية
غرامية ،وكانت أمرية واسعة الطموح ،تنظر للحياة نظرة عملية أحادية ،وعاملها
حدود مكتبها ،وفلسفتها قدرهتا عىل النجاح ،وكانت تقفز عاما وراء عام صوب
قمة هرم طموحها ،وتفوق كل سنة كان بالنسبة هلا حافزا لتفوق أكرب وأكرب يف السنة
التي تليها ،ثم التي تليها .
وكثري ا ما ضحكت من صديقتها التي كانت حتب كل عام ،وترتبط يف كل
مصيف ،وتقابل كل عريس يقدمه هلا األهل واألقارب ،وكانت أمرية عكس
زميلتها متام ا ،فقد كانت كافرة باحلب ،ساخرة من قصصه ،متحفزة لكل كلمة
رقيقة من رجل .
ونامت أمرية بعد يوم شاق وطويل ،فقد قضت كل إجازهتا ال خترج من غرفتها
أسبوعا كامال ،وفوقهم يومان وهي ال تغادر الغرفة ،حتى أصاهبا امللل ،وقتلها
الضجر ،فقررت أن تقيض يومها كله خارج املدينة اجلامعية ،وصنعت لنفسها
«بروجرام» ال بأس به ،ذهبت للسينام ،وشاهدت فيلام للخيال العلمي ،ثم جتولت يف
أرجاء مول جتاري تعبث باملالبس ،وتتسكع أمام الفتارين ،ثم تناولت طعاما من
الوجبات الرسيعة ،حتى ملت وتعبت ،وما أن فكرت يف العودة حتى هطل املطر
وبغزارة ،فأوقف قطار احلياة النابضة باحلركة والضجر من حوهلا.
- 187 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ومل جتد أمرية ما تستقله لتعود أدراجها ،فبقيت ترتعش وختتبئ خلف واجهات
املحالت ،حتى استطاعت أخريا أن تقنع تاكيس أن يقلها للمدينة مقابل كل ما يف
جيبها ،وعادت منهكة ،وتكورت يف فراشها ،وأسدلت غطاءها عليها ،وغابت يف
نوم عميق مل تفق منه إال عىل حلمها الذي يتكرر كل ليلة ،والتي فشلت مروة زميلتها
وكل زمالئها يف تفسريه ،ونالت منهم بسببه دعابات سمجة ،وتعليقات ال حتبها.
رأت أمرية يف حلمها أهنا متد يدها لرجل أوشك أن يسقط يف بئر خميف ،وما أن
ملست يده حتى جذهبا لتسقط معه يف بئر بال قعر ،وترصخ ويضيع رصاخها يف
سقوط طويل بال ارتطام ،فصحت من نومها تلتقط أنفاسها وتستغفر وتتعوذ من
الشيطان ،واكتشفت أمرية اهنا مل تغري ثياهبا ،أو تغلق أبواب رشفتها ،فقامت تفرك
عينيها ،ورشبت لرتطب حلقها اجلاف من حلمها الغريب ،ثم اجتهت صوب رشفتها
لتغلقها ،وما أن مدت يدها لتغلق باب رشفتها حتى سمعت أنات مكتومة ،فاجتهت
صوب الصوت ،وما أن دققت النظر حتى محلقت بعينني خائفتني ،وتسمرت
قدماها يف األرض.
كان أحدهم قابعا يف الظالم ،وقد تكور عىل نفسه ،يكتم أمله ،فتقدمت منه،
وأطالت النظر نحوه غري مصدقة ما تراه ،وقبل أن ترصخ قام من مكانه وأشهر يف
وجهها سالحا أبيض ،وقال هلا:
- 188 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
اسكتي خالص وإال قتلتك.ثم دفعها لداخل الغرفة ودخل وراءها ،وأغلق خلفه الرشفة ،وأغلق األنوار
كلها ،وصاح فيها وقال:
مفيش داعي للرصاخ ،كلها ساعة وال اتنني وتقل احلركة يف الشارع وأرجعزي ما جيت ،ومالوش الزمة الرصاخ ،وأظنك عاقلة.
فهزت رأسها باملوافقة ،وجلست عىل فراشها صامتة ،وجلس الرجل عىل
الفراش املواجه هلا صامتا أيضا ،فأخذت تتفحصه بعينيها رغم أن الظالم كان حالكا
يف الغرفة ،لكنها الحظت أنه يربط ذراعه برباط شعرها ،ربام هو من أحدث الفوىض
يف غرفتها ،وهو يبحث عن يشء جيرب به جراح كتفه ،فنظر هلا بغضب وقال:
أنت بتبيص عىل إيه؟فلم ترد ،وظلت صامتة ،فأعاد سؤاله بنربة أشد ،وقال هلا:
أنا ما بفكرش أأذيكي ،فام ختلينيش أغري رأيي ،وخليكى عاقلة ،علشان ماتعمليش حاجة تندمي عليها بقية عمرك ،وخليكي مطيعة؛ ألين ما بحبش اليل
ما بيسمعش كالمي ،وبالش تعريف أنا بعمل فيهم إيه.
وأشهر سالحه يف وجهها من جديد ،فقالت له:
- 189 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أنا طالبة طب ،ويف الصف اخلامس ،وممكن أساعدك. قلت لك اسكتي ،وسيبيني يف حايل ،علشان أنا كامن أسيبك يف حالك.وقبل أن جتيب ،سمعت دقات عىل باب غرفتها ،فقام الشاب وقرب السالح من
رقبتها ،وقال:
هقتلك لو نطقتي.فقال الصوت من خارج الغرفة ،وكان ملرشفة الدور يف دار رعاية الفتيات التي
تسكنها أمرية:
أمرية حبيبتي ،ما تفتحيش الشباك واقفيل بابك كويس عليكي ،يف جمرم هربانوالرشطة حذرتنا منه ،فخذي حذرك يا حبيبتي.
فأجابت أمرية:
ما ختافيش عليا ،أنا بخري ،وهنام حاال ،تصبحي عىل خري.ثم التفتت أمرية صوب اللص ،وقالت:
يكون يف علمك إين ما بخافش ،وهتديداتك دي وال هتز شعرة يف رايس ،معالعلم بإين من النوع التاين اليل أنت ما بتحبوش ،ال أنا مطيعة وال بعرف آخد
أوامر من حد.
- 190 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ونزعت يده من عىل رقبتها وهي تقول:
أظن بقى كفاية كده هتديد واستفزاز ،أنا معترباك ضيف هيقيض يف غرفتيساعة وال اتنني ،وأنا جمربة عىل استضافته ،فحاول حتسن اجللوس علشان أحسن
أنا كامن الضيافة.
وظلت أمرية وضيف الليل الذي هبط عليها فجأة صامتني ساعة من الوقت أو
أكثر من ساعة ،وكان كل منهام متحفزا لآلخر ،ناظرا نحوه بخوف وحتد يف نفس
الوقت ،وكان اللص يضع يدا عىل جرحه ،ويكتم أمله ،واليد األخرى شاهر هبا
السالح يف وجه أمرية ،ثم بدأ ينتفض من األمل ،ورويدا رويدا بدأ يسقط أمامها عىل
الفراش مغشيا عليه ،ولكنه كان يقاوم يف إرصار ومكابرة ،وقبل أن يغيب عن وعيه
متاما صاح فيها بصوت أرص أن يكون فيه يشء من القوة:
لو فكريت يف عمل أي يشء صدقيني هتندمي طول حياتك. أنت يف حالة خطرة جدا ،ما تسمحلكش بالتهديد ،وممكن متوت وأنت بتهددبالقتل ،فخليني أساعدك.
فرد عليها وهو حياول مجع احلروف بصعوبة بالغة وبصوت ختونه فيه أحباله
الصوتية:
- 191 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
اخريس بقولك وإال قتلتك.وقبل أن يكمل حروف كلمته األخرية سقط مغشيا عليه ،وسقط السالح من
يده ،فقامت أمرية عىل الفور تتفقد جرحه ،فوجدت جرحه غائرا ،وحالته يف منتهى
السوء ،فلم تفكر كثريا؛ حيث قامت وجذبت قميصه من عىل كتفه برسعة ،وأخذت
تطهر له اجلرح ،وتضمده بعد أن أنارت أباجورهتا وصوبتها نحو جرحه ،حتى
تستطيع رؤية اجلرح بوضوح ،وحتى ال تشعل األنوار ،فتشعر هبا مرشفة الدار وتدق
باهبا لتسأهلا عن رس سهرها غري املعتاد ،أو لتطلب أن تتسامر معها ،فلم يكن يف الدار
غري عدد قليل من الطالبات البعيدون أهلهن.
وأخذت أمرية تتسحب عىل قدميها ،وتدور حول نفسها يف رسعة ودقة؛ لتسعف
هذا اللص العنيد ،ثم نزلت جتري عىل صيدلية من النوع الذي يفتح أبوابه ليال،
كخدمة ليلية لتشرتي احتياجات احلالة الطارئة تلك من مضادات حيوية،
ومضادات التهاب ،وكريامت طبية ،وشاش وقطن ،وقضت الليل تعمل حتى غلبها
النوم ،فنامت جالسة يف مكاهنا ،وحني طلع الصبح ،وربت شعاع الفجر عىل كتفها،
وعاكستها أضواء شمس الصباح الصاعدة عىل عرش السامء ،حتى انتبهت لنفسها،
فقامت ونزلت ملطعم الدار ،وعادت بصينية حمملة بالفطور واللبن والعسل واخلبز،
- 192 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وما أن فتحت الباب حتى أفاق اللص من جديد ،وقام مرتنحا بضعف يبحث عن
سالحه من جديد؛ ليعيد كرة التهديد والوعيد ،فنظرت نحوه أمرية وقالت:
احلركة ممنوعة ،جرحك خطر.فصاح فيها بغضب:
اخريس ،مالكيش دعوة بيا وبجرحي.فأشاحت أمرية بيدهيا نحوه وقالت:
أنت فعال جمرم عدواين مثري للشفقة.تلفت اللص حوله وأخذ يبحث عن سالحه ويصيح بوهن وضعف:
هاقتلك.فمدت يدها نحوه بكوب من اللبن وقالت:
دلوقتي الزم ترشب ده؛ ألنك نزفت كتري من دمك ،الزم تعوض اليل فقدته.فتذمر ،وحاول أن يقوم ،فرفعت أمرية السالح صوب رقبته وقالت:
- 193 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أنت من غري سالحك ما تساويش حاجة ،وكفاياك محاقة ومكابرة وعدوانية،هتعمل اليل أقولك عليه وإال هضطر لطلب النجدة ،اصل أنا مش عاوزة قتيل
يف أوضتي.
وصاحت فيه بقوة وحزم:
ارشب اللبن يال وبرسعة.فمد يديه ورشب احلليب ،فصنعت له ساندوتش من اخلبز املحشو بالعسل
والزبدة وقالت:
وده كامن.فأخذه منها دون أن يبدي اعرتاضا ،وأكله صامتا ،وقامت أمرية ،ومجعت
أغراضها وقالت:
ودلوقتي أستأذن جنابك لو معندكش مانع سيادتك ،علشان عندي ندوةعلمية مهمة ما أقدرش أفوهتا ،ساعة وال ساعتني وهرجع ،تكون نمت فيهم،
علشان تفوق وحترمني من رشف زيارتك برسعة؛ ألين اختنقت.
فلم جيبها ،وظل صامتا متكورا يف مكانه ،فاقرتبت منه وقالت:
- 194 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عىل فكرة لو عاوزة أبلغ عنك كنت عملتها وأنت غايب عن الوعي ،ودلوقتياسمح يل سموك علشان اتأخرت.
وجذبت من حتته الغطاء وأسدلته عليه ،وأغلقت ستائر الغرفة ومضت ،بعد أن
تركته غارقا يف حريته وشكوكه منها وفيها ،وعادت أمرية فوجدته ما زال نائام ال
يدري بالدنيا من حوله ،وما أن أضاءت الغرفة حتى رفع يده السليمة أمام عينيه
حتى ال يزعجه الضوء ،وتذمر وبدأ يصيح فيها من جديد ،فمدت له يدها
بصينية الطعام ،وعليها طعام صحي ساخن وقالت:
دلوقتي جه معاد الغدا ،الزم تاكل علشان تاخد الدوا بتاعك يف معاده،خادمتك املطيعة جيبالك األكل ،يا ريت تتكرم وتقوم تاكل وختلصني.
وأنا مش عاوز أكل. ما هو أنت الزم تعرف إين أنا دلوقتي اليل بأمر ،وأنت اليل الزم تطيع،وغصب عنك ،وأنا كامن ما بحبش الناس اليل مش مطيعة ،وسبق وفهمت
سيادتك إنك من غري سالحك ماتساويش ،والزم تعرف إين مش بعمل معاك
كده تعاطفا وال شفقة ،أنا بعمل كده علشان أنا دكتورة ،ما بستحملش أشوف
- 195 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كلب وال قطة وال حتى فار جتارب بيتأمل ،وثانيا ألين سبق وفهمتك بردو إين
مش عاوزة قتيل يف أوضتي.
فأنزل يده من عىل عينيه ونظر يف عينيها نظرة تشع غضبا واعرتاضا ،فردت أمرية
نظراته الغاضبة املعرتضة بمثلها ،وهي ما زالت ممسكة بصينية الطعام ،ولكن ما أن
أنزل يديه وظهرت مالحمه بوضوح أمامها وزادت عيناه العسليتان العميقتان توهجا
حتت الضوء حتى سقطت أمرية يف عمق عينيه دون أن تدري ماذا دهاها ،وما الذي
أمل هبا يف دقائق معدودات.
كانت نظراته الغاضبة سهام سحر وقوة اخرتقتها منذ أن وعت ملالحمه ،حتى أهنا
كادت أن تسقط الصينية من يدها ،وتزامحت الكلامت واألفكار واملشاعر داخل
قلبها املغلق عىل طموحها ودراستها ،وصمتت وامجة ال تنطق فمد يديه وسحب
الصينية من بني يدهيا وقال هلا:
ما اتعودتش أعمل حاجة أنا مش عاوزها ،ثم وضع الصينية برسعة وخفةوجذب أمرية من شعرها ولفها أمامه حتى كان ظهرها مالصق لصدره ،وأحكم
وضع ذراعه عىل رقبتها خينقها ،وسمعت صوته الصادر من خلفها بفمه
املالصق ألذهنا يقول هلا:
- 196 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
مجيلك ده ما يدكيش احلق يف إهانتي ،واليل ما تعرفيهوش إين ما بيأثرش معاياسالح ،وأنا بسالح وبدون سالح بعمل اليل أنا عاوزه ،يف أي وقت عاوزه،
فهمتي وال الزم جتريب؟
ودفعها بعيدا ،فوقعت عىل وجهها ،قامت وأصلحت ثياهبا وشعرها وقالت:
فعال أفعال لصوص وجمرمني ،جمرم زيك الزم أعرف إنه ما يأثرش فيهمعروف ،هستنى إيه من واحد زيك غري عدوانية وعنف ومهجية؟
أخرج اللص من جيبه سجائره ووالعته ،وأشعل سيجارته ،واعتدل يف جلسته وقال:
اسمك إيه يا آنسة؟ أنت مالك؟ أنا آسف ،ما تزعليش مني ،أنت اليل استفزتيني يا آنسة. أنا كامن اليل أنقذت حياتك ،وقضيت الليل أمرضك ،ونزلت يف نص الليلأجيبلك الدوا.
آسف يا آنستي ،وصدقيني مش هنسى معروفك ده ،ويف يوم من األيامهردهولك.
- 197 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أشكرك ،رد مجييل اليل أنا عاوزاه إنك تتكرم وتنهي حصارك بقى ،ومتيشوتسيبني يف حايل.
مهيش ،ولكن اوعديني إنك تنيس مالحمي وشكيل ،وكأنك ما شوفتينيش.فرسحت أمرية قليال يف مالحمه اجلريئة احلادة الوسامة ،وقالت وهي كاذبة طبعا:
أنا ما بحتفظش باملالمح يف خميلتي أكثر من ثالث دقائق ،ثم إين ما دققتشالنظر يف وشك ،أنا كنت مشغولة بجرحك وختفيف أملك.
اعتذر هلا للمرة الثالثة ،ثم قال: