أحبك ولكن - 2
وكان أكرب أسباب سعادهتا يتحقق حني تعود يف اليوم التايل لشقة الدور الثالث،
فتجد أشياءها التي غريهتا ثابتة مل يعرتض عليها سامح ،بل تسمع من احلاجة نبيلة
أنه أثنى عليها وعىل ذوقها ،فقد كانت ال تستطيع أن تفعل ذلك يف بيتها من دون أن
خترب زوجها وتنال موافقته ،ويوم أن جربت أن تفعل ذلك نالت لوما وتقريعا واهتاما
بأهنا أمرأة فاضية ،وأهنا تسببت يف خلخلة األثاث بتحريكه ،وخدشته أثناء نقله،
كانت ال تستطيع اخلروج عن النص يف سيناريو حياهتا ،وكان زوجها خمرجا
ديكتاتورا يرغمها عىل لعب دورها بالطريقة التي يراها مناسبة إلنجاح عرض احلياة
التي حتياها وال تشعرها.
أما ما أثار تعجب «راوية» وخجلها حني كانت تتجاذب أطراف احلديث مع
احلاجة ليىل وكانا يتكلامن عن معاناة سامح مع ابنه من يوم موت زوجته منى،
وكيف أن «زياد» مفتقد ألمه ،كام أن سامح مفتقد لزوجته ،وكيف أن احلياة يف البيت
انطفأت هبجتها مع انطفاء شمعة عمر والدة زياد لبنى ،فقالت هلا «راوية» بعفوية
ودون قصد منها:
وليه ما ختليش سامح ابنك يتجوز علشان ينسى لبنى واحلي أبقى من امليت؟وقتها ابتسمت احلاجة ليىل ،وردت عىل «راوية» وفاجأهتا أهنا أم للبنى ،الزوجة
املتوفاة ،وليست أما لسامح ،ورغم ذلك فإهنا ال متانع أبدا يف زواجه ممن تطمئن عىل
رعايتها لزياد ،فخجلت «راوية» ،واعتذرت ،ولكن السيدة الطيبة قالت:
- 33 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ما تعتذريش يا بنتي ،أنت بتتكلمي صح ،سامح من حقه يتجوز واحدة تاخدباهلا منه ،وترعى ابنه ،وأنا عمري ما هزعل ،وال هقف يف طريقه ،وبعدين سامح
مثال للزوج الطيب الكريم ،عمره ما زعل بنتي ،وال قاهلا حاجة ضايقتها ،ده كان
حتى بيساعدها يف عاميل األكل ،وشغل البيت ملا يكون إجازة يف البيت ،عمره ما
قاهلا حاجة ضايقتها ،وال عمرها اشتكت منه ،عارفة؟ دول كانوا جمانني ،مقضينها
سفر وفسح ،كل إجازة له ياخدها ويسافروا ألي بلد.
وأخرجت من درج الكومود صورا لسامح ولبنى تبض باحلياة واملرح واحلب،
فرسحت «راوية» وختيلت نفسها مكان لبنى التي تركت هذه احلياة التي متثل حلام
من أحالم «راوية» ورحلت ،كيف تسمح للموت أن خيطفها من حياة كتلك احلياة؟
وكيف يرتك املوت تعساء كراوية وخيتطف السعداء كلبنى والدة زياد وزوجة
سامح؟
وأكملت احلاجة ليىل كالمها وكأهنا تؤجج حطب التمني يف قلب املسكينة
وقالت:
كان بيفسحها وبيدلعها ،ورغم إن عمرها قصري لكنها عاشت معاه اليل ستاتكتري ال عاشته وال هتعيشه مع أزواجها يف سنني طويلة.
فردت «راوية» بحرسة:
معاكي حق ،العمر مش باأليام والسنني.- 34 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فضحكت احلاجة ليىل وقالت وهي تربت عىل كتفها:
علشان كده سامح ده ابني ،وأنا نفيس أطمن عليه مع بنت احلالل اليلتستاهله ،وعمري ما هزعل لو اجتوز ،ما تلوميش نفسك يا بنتي عىل كلمة حق
قولتيها ،هقوم أعملك شاي معايا.
ومضت احلاجة ليىل للمطبخ ،وتركت «راوية» مع صور سامح ولبنى،
فتفحصتهم «راوية» من جديد ،وهي تتأمل ضحكتهم ،ودون تفسري واضح مدت
«راوية» يدها وخبأت صورة أعجبتها للزوجني السعيدين يف طيات مالبسها،
وعادت هبا لبيتها ،ووضعتها أمامها ،ووضعت يدهيا عىل خدهيا سارحة يف سيناريو
الصورة ،ويف حوارها الذي يقوله عينا بطليها سامح ولبنى.
وشيئا فشيئا تعلقت «راوية» باحلاجة ليىل ،حتى أهنا رأت فيها مثاال لألم التي
أحبت أن تكون أمها ،فهي امرأة بشوشة ،متفهمة ،حمبة للدنيا ،رغم حرماهنا من
ابنتها ،غري أهنا تسمعها ،وتعطيها املساحة لتقول رأهيا ،وتعرتض وترفض وتعرب عام
تريد أن تقوله دون لوم أو إساءة ،وقد كانت «راوية» تكره اللوم ،وتتعود عىل
اإلساءة ،وكانت والدهتا امرأة صارمة ،جاءت الدنيا فقط لتلومها وتيسء إليها،
وتتهمها بكل ما ليس فيها ،ثم متوت وتدعها ألحزاهنا وحدها.
ويوم وآخر وتوقفت «راوية» عن توزيع خياهلا عىل شقق ونوافذ اجلريان ،وبقي
خياهلا معلقا بنافذة وحيدة ،وبشقة واحدة فقط هي شقة الدور الثالت.
- 35 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كانت تذهب للحاجة ليىل بعد انرصاف أوالدها ملدارسهم ،وزوجها لعمله،
وتعود بيتها قبل عودة أوالدها من مدارسهم ،عدا أيام اإلجازات ،فتبقى بجانب
أوالدها ،وتقوم بواجبها نحو الكل بال أي تقصري.
حتى جاء يوم تعب فيه زياد تعبا شديدا ،وذهب به والده مرسعا إىل األطباء
فجرا ،وعاد بشنطة مليئة بالدواء ،وكان يوما من أيام اإلجازة التي ال تذهب «راوية»
فيها للحاجة ليىل ،فاتصلت احلاجة ليىل براوية لتسأهلا عن نوع األكل الذي تقدمه
للصغري ،وختربها بمرضه ،فحزنت «راوية» حزنا شديدا ،وطلبت من زوجها أن
تذهب لتطل عىل الصغري؛ ألهنا قد تعرفت بجدته ،وتريد أن تساعدها يف متريض
الصغري ،فنظر هلا نظرة غاضبة قوية ،ودفعها يف كتفها بقوة ،وهنرها زوجها عالء عىل
طلبها املفاجئ غري املعتاد ،هذا وقال هلا:
وأنا مايل باحلاجة زفت ،وحفيدها هباب ،أنت دورك يف البيت تراعيني أناوعيالك وبس ،هو أنت هتشتغيل ممرضة عىل آخر الزمن.
فرتددت «راوية» وقالت:
نص ساعة وهرجع عىل طول.فصاح فيها غاضبا:
وال نص وال ربع ،ملا أنزل الشغل ابقي غوري يف ستني داهية تاخدكوتاخدها ،إنام طول ما أنا يف البيت تفضيل جنبي وحتت رجيل تشويف طلبايت،
- 36 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وروحي دلوقتي اعملييل شاي ،واعميل لنا حبة بسكوت وال شوية قرص نفطر
بيهم ،وال نحبس بيهم جنب الشاي.
ومضت «راوية» من أمامه غاضبة ،وصنعت له ما يريد وهي تنتفض قلقا عىل
الصغري ،وقضت الليل ساهرة تطل من وراء النوافذ لتتبني األمر ،وتسرتق السمع،
فتسمع بكاءه الذي يمزق قلبها ،وما أن طلع الصبح وبعث احلياة يف الدنيا من جديد
حتى طارت «راوية» عىل احلاجة ليىل التي كانت منهكة القوى متاما بسبب سهرها
بجانب الصغري ،وأبوه أيضا ذهب لعمله وهو مل ينم ولو لساعة واحدة ،فأخذته
«رواية» منها وقالت هلا:
ادخيل نامي شوية يا ماما ليىل وأنا هاخده يف حضني وهبقى أحاول أخليه ينام،ما تقلقيش.
فمضت احلاجة ليىل حلجرهتا وتركت زياد لراوية التي احتضنته بحنان وحب
صادق ،وهنهنته وربتت عىل ظهره بحنان ،وغنت له حتى نام ،فأخذته لفراشه عىل
أطراف أصابعها ،ونامت بجواره لتتأكد من نعاسه ،وظلت حتملق فيه وتتأمله حتى
غلبها النوم هي األخرى ومل تدر بنفسها ،وغابت يف غياهب جب النوم.
وأقبل سامح عائدا من عمله مبكرا؛ لالطمئنان عىل صحة ابنه ،ونيل قسط من
النوم ،وفتح باب البيت فوجد هدوءا يف البيت برشه باخلري ،فتسحب عىل أطراف
أصابعه ودخل لغرفة ابنه النائم؛ ليكشف الغطاء عن جبينه ويقبله ،فلمست أنفاسه
الدافئة وجنتي «راوية» التي كان يظنها جدته ،ففتحت عينيها التي تالقت بنظرات
- 37 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عيني سامح ،فتسمر كل منهام مكانه ،واعتذر سامح لرواية ،وارتبكت «راوية»
وذهبت مرسعة إىل بيتها ،ال تدري ماذا حل هبا ،فقد كانت مشاعر «راوية» مشاعر
بكر عذراء رغم أعوام زواجها االثني عرش ،ورغم إنجاهبا هليثم ومنى ولدهيا ،ونور
عينيها ،ورغم زوج ال يكف عن مبارشهتا بطريقته اآلمرة الناهية األنانية.
عادت «راوية» تنتفض وقد رسى يف جسدها تيار خدر ال تعرف له سببا ،شعور
مغمور بالسعادة واألمل ،واخلوف وتأنيب الضمري ،ووضعت «راوية» يدها عىل
وجنتيها امللتهبتني بأنفاس سامح ،ومضت للنافذة تطل منها ،فوجدت سامح يف
رشفة حجرته يطل من نافذته عليها ،ويبتسم هلا ،فلم تدر بنفسها إال وهي تغلق
النافذة يف وجهه وتنتفض.
ودخلت مطبخها لتجهز طعام أوالدها ،وعاد الصغار من مدرستهم بصخبهم
وصياحهم ،وهي ال تسمع وال ترى وال تشعر إال بتوهج وجنتيها ،وبريق المع يف
عينيها ،وشيئا آخر يرسي يف أوصاهلا ال تعرف له وصفا أو سببا ،ومل تدر إال وابنتها
تنادهيا عىل آثار دخان يتصاعد من آنية الطعام إثر احرتاق اللحم الذي كانت جتهزه
غداء ألوالدها.
وانتبهت لنفسها وحلق صغارها عليها ،وصنعت هلم نوعا آخر من الطعام وهي
ما زالت سارحة شاردة حتاول أن تسيطر عىل نفسها ،وعىل مشاعرها ،وال تستطيع
أن تفرس كيف ألنفاس سامح التي المست وجنتيها لربع ثانية من الوقت تفعل هبا
- 38 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كل هذا ،وكيف مل تستطع اثنا عرش عاما قضتها تقاسم فيها عالء زوجها وسادة
واحدة ،وغطاء واحدا ومل تشعر به كرجل أبدا؟
واستغفرت رهبا ،وأقبلت تصيل وتصيل وتصيل طالبة الرمحة والعفو من خالقها
عىل شعور ليس هلا حيلة فيه ،حتى عاد عالء زوجها مزجمرا كعادته ،طالبا للطعام،
فأحرضته له وأطعمته ،وجهزت له باراشوته البفتة ،وهي تتطلع يف وجهه سامهة
سارحة يف ملكوت غري امللكوت ،فصاح فيها عالء:
مالك يا ولية؟ هتصوريني وال إيه؟ مالك بتبحلقي يف خلقتي كده ليه؟ثم ذهب خياله للمسار الغلط ،ودعاها لتتبعه إىل غرفتهام ،فيتحفها برؤيته بطاقمه
البفتة ،ويف تلك الليلة حاولت «راوية» جاهدة أن تشعر به ،أو تشعر بأي يشء بال
جدوى ،حتى أعتقها ونام معتقدا بأنه قام بواجبه نحوها ،وختيل نفسه وقتها قيرصا
رومانيا ،عائدا لروما مظفرا بالنرص بعد أن سيطر عىل مترد ،وكبح مجاح جيوش
األرض كلها ،وأخضعها لسلطته.
ونام وظلت «راوية» ساهرة ،وقامت واختلست النظر من خلف نافذهتا،
فلمحت سامح يدخن سيجارة يف رشفة غرفة نومه ،وظنت «راوية» أنه مل يكن يراها
رغم أنه كان يسلط عينيه عىل بلكونتها ،وأهنا وحدها هي التي تراه بوضوح،
وتعرتهيا فرحة غريبة كلام رفع عينيه نحو شباكها.
- 39 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وطلع الصبح عىل يوم مكرر آخر من أيامها املكررة الرتيبة اململة ،فقامت رواية
وأنجزت أشياءها ،وذهبت للحاجة ليىل لتطمئن عىل زياد ،وما أن دقت الباب حتى
فتح هلا سامح بنفسه ،بشحمه وحلمه ،وابتسامته ونظرة عينيه ،فارتبكت «راوية»
ودخلت تنادي احلاجة ليىل ،فأغلق سامح الباب واجته نحوها ،وقال هلا:
ماما ليىل مش هنا ،أخدت زياد وسافرت ،وهتيجي بكرة ،عندها واجب يفالقاهرة الزم تعمله النهارده.
فتسمرت «راوية» يف مكاهنا من املفاجأة ،ثم اجتهت نحو الباب معتذرة ،مغادرة،
فجذهبا سامح من يدها وقال:
من فضلك اديني الفرصة أعتذر لك وأشكرك و..فجذبت يدها من بني يديه مرتبكة مبعثرة وقالت:
من فضلك يا أستاذ سامح ،لو سمحت ما يصحش كده. أنا آسف ،أنا ما أقصدش أبدا ،املوضوع وما فيه إين خايف تكوين أخديت عنيفكرة وحشة ،وعاوز بس أوضحلك األمور.
األمور واضحة ،وبعدين يعني فكرة وحشة وال حلوة ،هو احنا أصحابعلشان توضحيل وأوضحلك؟ املوضوع خلص خالص ،واحنا مفيش بنا حاجة
أصال تستدعي الكالم ده.
فتجرأ سامح وقال:
- 40 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أل يف بيننا ،وأنا حاسس بيكي وأنت حاسة بيا ،وأنا طول الليل سهران بفكرفيكي ،وأنت كامن ،أنا كنت شايفك من ورا الشباك سهرانة وبتفكري فيا ،احنا بيننا
انجذاب سحري ملناش حيلة فيه ،ومش قادرين نقاومه يا «راوية» ،اسمك «راوية»
وأنت فعال «راوية» ،عنيكي كتاب مفتوح ليل يقدر يقرا ،ورواية ليل نفسه يعيش وأنا
قريتك يا «راوية».
وسقطت «راوية» عىل أقرب كريس ،واهنارت من شدة البكاء ،فلم تكن تعرف
أن أحدا يف هذا الكون يكرتث حلاهلا ،أو هيمه أمرها ،أو أن أحدا يشعر هبا ،أو يفهم
شعورها ،ووضعت يدهيا عىل عينيها وأخذت تتحدث من خلف يدهيا ودموعها
املتساقطة كشالالت نياجرا:
أنا زوجة وأم ،والكالم ده ميصحش تقوله ،وال يصح إين أسمعه يا سامح.فركع عىل ركبتيه أمام كرسيها اجلالسة عليه ،وأمسك يدهيا ،وأزاهلام من عىل
وجهها ،وقال:
قدامك فرصة للحب والفرح ،وأنا فرصتك يا راوية.واستجمعت رواية شجاعتها التي خانتها ،وعقلها الذي أمخدته مشاعرها،
ودفعته بقوة أسقطته عىل ظهره ،وذهبت مرسعة تتحصن يف بيتها ،وتنتفض
وتستغفر ،وتصيل هلل أن يبعد عنها الشيطان الذي سكن أمامها ،واحتل حياهتا
الفارغة املكررة ،املوزعة عىل رشفات اجلريان ،وحقدت «راوية» عىل زوجها،
- 41 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
واشتعل قلبها كرها له ،ولكن ليس له وحده ،كرهت أباها وإخوهتا ،وأهل الكرة
األرضية كلها ما عدا ابنيها ،كانا كشعلة نور يف آخر طرقات الظالم الذي تعيش
فيها ،فمسحت دموعها ،وقامت لتصيل وحترض هلام طعامهام ،فدق جرس التليفون،
ورفعت السامعة بعد أن ضبطت نربة صوهتا فوجدته هو ،سامح عىل اخلط اآلخر،
ومل يقل هلا كالما كثريا ،وإنام تنهد وقال هلا كلمة واحدة ،قال هلا:
أحبك.وكانت الكلمة الوحيدة ،كالرضبة القاضية التي قضت عليها متاما ،وأسقطت
مقاومتها أرضا بلمس أكتاف احلنني للحب واحلياة ،فلم تستطع إغالق اخلط ،ومل
تستطع كذلك الرد ،فأكمل كالمه بنفس طريقته وقال:
أحتاجك وحتتاجيني ،يبقى ليه الكرب والتعنت؟ وليه نعذب نفسنا يا راوية؟ أنت عاوز مني إيه بالظبط؟ عاوزك أنت يا راوية.فأسقطت السامعة ،وأغلقت اخلط يف وجهه ،واستمدت قوهتا من جديد بوصول
أوالدها للبيت ،فتشاغلت هبم وبطلباهتم ،وتعلمت أن تغلق كل النوافذ حتى حتمي
نفسها من التطلع إىل الشقة التي يف الدور الثالث.
ويف اليوم التايل قررت أيضا أال تفتح النوافذ ،وخرجت بعد خروج أوالدها
وزوجها تطوف األسواق ،وانتقت أصعب أنواع الطعام ،وعادت لتعده حتى
- 42 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
يستغرق كل وقتها ،فال تفكر يف التطلع للنوافذ ،ورفعت سامعة اهلاتف حتى ال
يستطيع سامح الوصول إليها ،فقد كانت يف معركة كربى تقاوم فيها نفسها قبل أي
يشء ،وعاد زوجها قبل موعده بساعات ،وانفجر فيها معاتبا وقال:
ممكن أعرف رافعة سامعة التليفون ليه؟ ده اسمه إمهال ،ساعتني بحاولأكلمك والتليفون مشغول؟ ووضع السامعة بعصبية.
أصيل كنت بعمل لكم األكل واألصناف كتري زي ما أنت شايف ،فام خدتشبايل إن السامعة مرفوعة.
ومني قالك تعميل أصناف كتري؟ وبعدين إيه اليل رفع السامعة كده؟ أكيد وأنا بنضفها رفعتها ونسيت أرجعها مكاهنا ،معلش.فرد بعصبية:
تعريف ده اسمه إيه؟ ده اسمه الترصف بغباء.فأطالت النظر له ،وهو حيارضها ويصيح فيها ،وقالت له:
معاك حق ،اليل أنا بعمله ده اسمه فعال غباء.فمىض أمامها وقال:
اعميل حسابك ،خالص كلها شهر وال اتنني بالكتري وهننقل يف الشقةاجلديدة ،أنا خالص اتفقت عليها ،ومضيت العقد كامن.
- 43 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فرصخت فيه ألول مرة يف حياهتا هبسترييا:
مش هتنقل من هنا ،ومش هروح يف أي حتة تانية ،وبطل تعاملني عىل إينشنطة يف إيدك ،أنا بني آدمة وليا رأي وشعور وإحساس والزم تفهم ده.
فتطلع فيها بنظرته القاسية اجلامدة وقال:
طب يا بني آدمة يا اليل عندك شعور ،وعندك رأي كامن ،أحب آخد رأيك مابني إنك هتدي وتسمعي الكالم وتيجي معايا البيت اجلديد أنا ووالدك ،وما بني
إنك ترفيض ،وساعتها هتبقي ما تلزمينيش ،وهجيب اليل أحسن وأمجل منك مليون
مرة ،عروسة جديدة يف البيت اجلديد.
فردت بعصبية:
أحسن ،أنا خالص مش قادرة أعيش معاك بالطريقة وباألسلوب ده ،سيبنيأنا ووالدي نعيش هنا ،وروح أنت والعروسة اجلديدة اليل أحسن مني مليون مرة،
عيشوا واهتنوا يف بيتك اجلديد.
فنظر هلا من طرف عينيه وقال:
غريبة ،ده أنت مستبيعة قوي ،مكنتش أعرف إنك كده ،عموما علشان تبقيعارفة ،والدي مش هيفارقوين ،غوري أنت يف ستني داهية ،لكن الوالد هيفضلوا
معايا ،وهودهيم البلد عند أمي تربيهم ،ومش هتشوفيهم تاين ،علشان تعريف
تستبيعي يا ست «راوية» يا اليل عندك رأي وشعور.
- 44 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وتركها ومىض لغرفته ،ومحل حقيبة هبا مالبسه وبراشوتاته وعاد ،وقال هلا:
أنا مسافر يومني مأمورية شغل مستعجلة ،وهسيبك تفكري وهتدي شويةعلشان تعريف ختتاري ما بني بيتك اجلديد وجوزك ووالدك وما بني إنك ترجعي
ألهلك لوحدك ،وتنيس إن ليكي والد خالص ،أصل أنت ملكيش يف الطيب
نصيب.
ودخل للمطبخ هبدوء بعد أن سقطت أمامه منهارة ،وجلب بعض األطعمة التي
نضجت ،والتي كانت تتشاغل هبا عن أحزاهنا معه وأخذ يتناول طعامه كأن شيئا مل
يكن ،وفتح التالجة ورشب ،وقرش إصبعا من موز وأكله دفعة واحدة ،وجتشأ ومحل
حقيبته ومىض دون أن يلتفت هلا ،وهي هامدة صامتة سارحة يف ملكوت ما بعد
املوت التي حتيا فيه.
ومع صوت غلق عالء للباب ،ويف نفس اللحظة طلبها سامح عىل التليفون،
واستيقظ أوالدها عىل صوت غلق الباب بقوة بعد خروج عالء ،وصوت التليفون،
وأرسعوا إليها ،وارمتوا يف أحضاهنا ،فتمزعت «راوية» ما بني باب الرمحة الذي
أغلقه عالء يف وجهها لتوه ،وبني رنني احلب الذي يأتيها عرب أثري صوت سامح مع
رنني التليفون ،وبني أحضان ولدهيا ،وقرة عينها ،وإكسري احلياة التي جيعلها تصرب
وحتتمل ،فأخذت ولدهيا يف أحضاهنا وبكت ،والتليفون ال يكف عن الرنني ،وكأنه
اخللفية املوسيقية هلذا املشهد املأسوي ،وظل سامح يعيد املحاولة غري يائس ،فقامت
«راوية» وأمرت أوالدها بارتداء مالبسهم ،وأخذهتم يف نزهة طويلة ،اشرتت هلم
- 45 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فيها احللوى ،وطافت هبم ومعهم مدينة املالهي ،وركبت معهم معظم األلعاب،
واستمتعت بصوت ضحكاهتم املجلجلة ،وأحضاهنم الدافئة أثناء خوفهم من بعض
األلعاب ،وعادت هبم يف آخر الليل وهم سعداء يرقصون حوهلا ،ويغنون ،وجهزت
هلم عشاءهم وأدخلتهم غرفتهم وقبلتهم ليناموا .وبدت «راوية» وكأهنا تكفر عن
خطأ جسيم ارتكبته يف حقهم حني راودهتا نفسها ولو للحظات قليلة أن تقبل عرض
زوجها السخي جدا بأن حتظى بحريتها يف ممارسة حياهتا بالطريقة التي تتمناها.
ومن جديد رن جرس التليفون ،ففزعت «راوية» ،وخافت أن ترد عليه ،خافت
من ضعفها ،وقلة حيلتها ،خافت من خوفها ،ولكنها اضطرت آخر األمر أن جتيب
كي ال توقظ ولدهيا بعد أن ناما ،وكان الطالب عىل اخلط اآلخر سامح ،ومل يعطها
الفرصة لغلق اخلط ،وبدأ أول كالمه هلا بإعالن حبه ،وقال بحزم وقوة:
بحبك يا رواية ،أرجوك ما تقفليش اخلط ،واسمعيني لآلخر ،لو سمحت أنارجل ناضج مش شاب مراهق ،وأنا فعال بحبك من ساعة ما وقعت عيني عليكي،
شئ اكرب منى بيشدين ليكي ،ومش قادر أقاومه ،أنا حاسس انى مسئول عنك عن
سعادتك ان دروى هو انى ارجع لك ابتسامتك الغايبة حاسس إنك حاجة بتاعتي
أنا ،وملكي أنا بس مش ملك حلد غريى .
فأجابت «راوية» بعصبية:
أنا ملك نفيس ،وملك والدي ،أنا مش بتاعة حد ،ارمحوين بقى وسيبوينيف حايل.
- 46 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وأكملت وكأهنا تذكرت شيئا ،فقالت:
طب ما أنت كنت بتحب لبنى مراتك ،وتالقيك كنت بتقوهلا كده باردو،ودلوقتي نسيتها ،وبتحب غريها ،وبكرة حتب غريها وغريي ،أنتم كلكم كده
خملوقات أنانية ،مبتعرفوش حتبوا أصال.
أيوة أنا كنت بحب مرايت ،وعمري ما هنساها ،بس أنا من حقي إين أعيش،وأحب تاين زي ما أنت من حقك حتبي وتعييش .
أنا عايشة ومبسوطة ،ومن فضلك سيبني يف حايل لو سمحت.فاج أ ها سامح ب آ خر سهم يف جراب حربه الرشسة ؛ الخضاع القلعة
احلصينة وقا ل:
أنت ست ميتة ،واقفة بتتفرجي عىل احلياة من ورا الشبابيك ،أنا متابعكوشايفك ،وعايش معاكي وحاسس بيكي ،أنت واقفة عىل شط احلياة تتابعي الناس
اليل عايشة حواليكي وأنت ميتة ،اطلبي الطالق يا راوية ،حقك تنهي تعاستك
بإيدك ،وتنزيل بحر احلياة وحتبي وتتحبي.
فلم جتيب «راوية» ،وصمتت متاما ،فقد أجلمتها كلامته بلجام من نار ،وتأكدت
من كالمه أنه يفكر فيها ،ويتابعها ،وليس جمرد شخص يستغل ضعفها ،ويراودها
عن نفسها ،وأغلقت اخلط ،وذهبت إىل غرفتها ،وقضت الليل جالسة يف الظالم
تعيد عرض رشيط حياهتا كله.
- 47 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وطلع الصبح وهي مل تذق النوم ولو لساعة ،وأيقظت أوالدها ليذهبوا ملدرستهم
وتبقى وحيدة تدور يف غرف بيتها ال تعرف ماذا تفعل ،وماذا تريد ،ونظرت
للتليفون ،وانتظرت أن يرن رناته التي ختافها ،لكنه بقي صامتا هامدا كقلبها
الضعيف الذي أهنكته حرب طويلة من التمني ،والتطلع ألبسط حقوقه يف احلب
واحلياة ،واطل الليل عليها وهي عىل حاهلا منتظرة رنات التليفون ،ولكنه أيضا مل
يرن ،وطلع الصبح لليوم التايل ،وهي تنظر للتليفون ،وتنتظر رنة احلياة ،ولكنها مل
تدب فيه ،وبقي صامتا ،صامدا ،هامدا ،ال يرن كام لو كان يعاندها كباقي أحداث
حياهتا ،فلم تدر بنفسها إال وهي ترتدي ثياهبا وتغادر بيتها ،وتصعد للشقة التي يف
الدور الثالث ،وتدق عليها بقوة وبعنف ،وكأهنا ترضب أقدارها ،وكأهنا تقتص يف
باب الشقة لكل ما حدث هلا ،ففتح هلا سامح الباب ،فارمتت يف حضنه تبكي وتبكي
وتقول:
أنا إنسانة حمرتمة ،أنا عمري ما كنت خاينة يا سامح ،أنا عمري ما كنتخاينة ،صدقني.
فضمها لصدره بقوة فنامت يف صدره ،وأعادت كالمها:
أنا مش خاينة يا سامح ،أنا مش خاينة ،وأخذت تبكي وتبكي ،فرتكها سامححتى هدأت متاما.
- 48 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ثم أجلسها ،وقدم هلا كوبا من العصري ،تناولته بيدها املرتعشة ،ورشبت وهي
ترتعش وتنتفض بجنون من انفعاهلا وبكائها ،وكررت كلمتها للمرة العارشة بعد
املائة وقالت:
أنا مش خاينة يا سامح.فجلس أمامها سامح ،وفاجأها برده الغريب عليها ،وكأنه كومة من القش عىل
ظهر بعري بائس ،قصمت احلياة ظهره قبل أن يرفعه ،ويتطلع نحو الشمس ،باحثا
عن مكان يؤويه ،وقال:
حلد إمتى يا «راوية»؟ حلد إمتى تفضيل مش خاينة؟فرفعت برصها نحوه تستفهم عن معنى سؤاله ..فأكمل:
أنا عارف إنك مش خاينة ،بس هي كل ست خاينة يف الدنيا اتولدت خاينةعلشان تفضيل ست مش خاينة؟ يبقى الزم تطلبي الطالق ونتجوز.
فردت بعصبية:
لو مكنتش ظهرت يف حيايت كان زماين عايشة وراضية ؛ ظهورك خلبط حيايت . أي حياة؟! حياة املوت اليل أنت عايشاها يف بيتك؟ وال حياة الفضول اليلاخرتعتيها لنفسك يف بيوت جريانك؟ فوقي بقى واحلقي أمجل سنني عمرك قبل ما
تضيع منك ،وأنت بتتفرجي عىل حياة الناس حواليكي ومش عايشة حياتك ،أنا ملا
لبنى ماتت كنت هتجنن ،ولقيت نفيس بعمل زيك كده ،وبتفرج عىل حياة الناس من
- 49 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ورا شبابيكهم ،وبعيش فيها معاهم ،وبعدين بقيت أجيب قصص وروايات وأعيش
حياة أبطاهلا حلد ملا شوفتك ،والحظت إنك بتعميل زيي ،وبتتابعي حياة الناس من
ورا شبابيكهم ،وحسيت بيكي ،وحسيت إين مسئول عنك ،مسئول إين أرجعلك
حياتك ،وأنا بدور عىل حيايت ،احنا اختلقنا لبعض يا «راوية».
ووالدي يا سامح؟ أنا ما أقدرش أعيش من غري والدي ،وعالء بيهددين إنههياخدهم من لو سبته ،وهيودهيم ملامته ،وممكن ما أشوفهمش تاين.
مستحيل ده حيصل ،عمر األب مهام كان جربوته ما حيرم أم من أوالدها ،وأناأوعدك إين أقف جنبك وأساعدك ،بس أنت بردو الزم تساعدي نفسك ،متسكك
بحياة أنت كارهاها علشان والدك ،مش يف صالح والدك ،ممكن تتعيس نفسك
وتتعسيهم معاكي ،ملا يرتبوا يف بيت كله كره ومشاكل ممكن ما تقدريش تكميل يف
صورة الزوجة اليل مش خاينة ،وتوصميهم بعار يفضل معاهم طول حياهتم ،وهو
ربنا ملا خلقنا ورشع الطالق بني الزوجني اشرتط إن ما يكونش عندهم أطفال
علشان يطلقوا؟ ربنا ألنه عادل ادالنا حرية إننا نكمل حياتنا بالطريقة اليل تناسبنا من
غري ما نعصاه ،وال نغضبه ،فكري يف كالمي ،وهتالقي إين عندي حق ،وأنا مستني
منك رد ،خدي الوقت اليل أنت عاوزاه يف التفكري ،وأوعدك إين مش هأثر عليكي،
وال هحاول أتصل بيكي ،بس اوعديني يا راوية أنت كامن إنك تفكري ،وأيا كان
قرارك أنا هوافق عليه ،وهحرتمه.
- 50 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وعادت «راوية» لبيتها وكأهنا أزاحت جبال من احلديد عن صدرها ،واتفقت
بينها وبني نفسها أن تفكر يف األمر ،وما أن خطت خطوات نحو مطبخها لتعد
الطعام ألوالدها حتى رن التليفون ،فاجتهت نحو تليفوهنا وهي تضحك وتقول
لنفسها بدالل مل تعهده يف نفسها ،كام لو كانت تفض غالف أنوثة فابريكا ما زال
بتكت صنع اخلالق مل يسبق هلا استعامله من قبل:
أوام يا سامح رجعت يف كالمك واتصلت بيا؟ ما قدرتش تصرب وتنفذكالمك؟
وانفرجت أسارير وجهها ،وعلت االبتسامة العريضة شفتيها ،وقالت بنعومة
وصوت راقص من الفرحة وهي تضبط خصلة طائرة من شعرها عىل جبينها
العاجي املتأجج باحلمرة.
ألووووو..ولكن رسعان ما زبلت ابتسامتها ،ودقت صدرها بقوة وهي ترصخ:
يا هلوي ،اسرت يا رب ،أنا جاية حاال ،السرت من عندك يا رب.ورمت السامعة ،وطافت الشقة تبحث عن ثياهبا وهي متوترة مستغفرة ،تدعو اهلل
أن يسرتها بسرته ،فقد كان املتكلم طوارئ مستشفى أبلغوها أن زوجها عندهم يف
حالة خطرية ،وقد تعرض حلادث كبري وهو عائد من سفره عىل الطريق.
- 51 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وسجدت «راوية» هلل تستغفره وتدعوه وترجوه بأن ينجي عالء ،وأن يطيل يف
عمره من أجل أوالده ،وطارت «راوية» عىل مكان املستشفى ترتعش خوفا عىل
زوجها وأب ابنيها ،ومل تكن حالته مطمئنة ،فقد كان الشاش يعلو وجهه ،ويلتف
نحو خرصه ليهبط مع منحنيات جسده حتى يكتف قدميه ،وتقدمت منه «راوية»
وهو غائب عن الوعي متاما ،وأخذت تبكي وتناديه ليفتح عينه وهو ال يسمعها ،وال
يشعر هبا ،وال بالدنيا من حوله ،وبقيت طوال الليل تدعو له وتستغفر لذنبها
ولفعلها ،وجاءت أمه من البلد لتقاسمها القلق واللوعة التي تعترص قلبها ،وكياهنا
كله ،ثم أمرهم الدكتور باالنرصاف ،فطلبت من والدته أن تبقى بجوار الصغريين
وهي ستقيض الليل معه حتى تطمئن عليه ،وعادت أمه لرتعى الصغار ،وبقيت
«راوية» بجانب عالء ال حتول عينيها من عليه تطمئن عىل أنفاسه ،وتبكي عىل صدره
وتقرأ القرآن تقربا إىل اهلل ليزيح عنه ،ويعيده ألوالده ،ورغم خوفها وقلقها
وجنوهنا ،لكنها مل تقل يف أي دعوة من دعواهتا وهي حتدث اهلل عنه أن يشفيه هلا ،مل
تطلب من اهلل يف دعواهتا الكثرية الكسرية رغم رعبها عليه وصدقها يف خوفها من
فقده أن يعيده اهلل إليها ،كانت دائام تطلب من اهلل أن يعيده ألوالده ،وكأن كل ما
يربطها به وكل ما يربطه باحلياة أوالده فقط.
ومىض الليل ثقيال طويال ،وطلع الصبح عىل عيون «راوية» التي مل تغمض،
وعالء عىل نفس حالته ،وال جديد يقوله األطباء عنه ،ومر يوم وآخر وراوية بجانبه
- 52 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ال ترتكه ،وال تفكر أن ترتكه ،وتدعو نفس دعوهتا الصادقة له بأن يعيده اهلل ساملا،
معاىف ألوالده ،ألوالده فقط.
وغفلت عيوهنا رغام عنها ،فصحت عىل صوته ينادهيا ،فلم تتاملك نفسها من
الفرحة ،وأرسعت إليه ،ففتح عينيه ،ونظر هلا بامتنان وابتسم ،وحاول أن يتكلم،
فلم تساعده احلروف ،أما هي فأرسعت إليه وهي تبكي ،وحتمد اهلل عىل سالمته،
وتدعو له ،وتربت عىل صدره حتى غاب عن الوعي من جديد ،وجاءها األطباء
وطمأنوها أن حالته استقرت ،وأنه يستجيب للعالج ،وأن الكسور مسألة وقت
وسيعود ساملا معاىف بإذن اهلل ،وطلبت أمه منها أن تعود لبيتها؛ لتأخذ محاما دافئا
وتسرتيح ثم تعود له من جديد بعد أن تسرتيح قليال ،عىل أن تبقى أمه بجانبه حتى
تعود ،فوافقت ألهنا كانت منهكة من التعب ،وألهنا اطمأنت عىل حالته من كالم
األطباء ،وعادت «راوية» ،وطول الطريق ال ترى غري عالء ،وصورة عالء ،وال
تنطق إال دعاء له بالشفاء ،والعودة لولديه ساملا ،وكان يشء ما داخلها يلجم لساهنا
فال تكمل دعوهتا بأن يعود هلا هي أيضا ،يشء يتمنى له أن يعود للحياة ساملا معاىف
لبيته وأوالده ،ويشء آخر فيها ال يريده هلا ،وال يريدها أن تكمل معه ،وعادت لبيتها
متلهفة عىل أوالدها ،ودخلت بيتها واحتضنتهم بعينيها وقلبها ،فوجدت بيتها نظيفا
منظام هادئا ،ووجدت أوالدها مهندمني نظيفني ،فاطمأنت لرعاية جدهتم هلم،
وأخذت محامها الدافئ ودخلت حجرهتا لتأخذ قسطا من الراحة ،وأول ما فعلته
- 53 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
حني اختلت بنفسها يف حجرهتا أن أغلقت شبابيك اجلحيم؛ لتحجب عنها التطلع
نحو شقة الدور الثالث.
وجلست «راوية» عىل فراشها ،واستجمعت رشيط حياهتا ،وحدثها شيطان لعني
حديثا ظلت هتز رأسها لتسقط بذوره من فكرها ،حتى ال ينبت أشجارا يف جنة وهم
حتيا فيها ،ولو يف اخليال ،وقال هلا شيطاهنا:
وما املانع بعد أن تطمئن عىل صحة عالء أن تطمئن هي األخرى عىل نفسها يفحياة توفر هلا احلب الذي حرمت منه ،واالهتامم الذي منعت منه يف دنياها.
فهزت رأسها لتسقط الفكر اللعني الذي ينهش رأسها ،فال حياة هلا بعيدا عن
ولدهيا ،ولكنه عاد ووسوس هلا:
وما املانع لو استطاعت رؤيتهام واالطمئنان عليهام مع جدة ترعامها وحتافظعليهام ،خاصة أن األوالد الذين يضحي آباؤهم وأمهاتم يف سبيل سعادهتم حني
يكربون ينشغلون بحياهتم ،ويعيشون يف عاملهم بعيدا ،ويرتكون آباءهم وأمهاهتم
ليكملوا وحدهم طريق تعاستهم ،وما املانع أن حتب وتعيش؟
وغلب «راوية» نوم التعب ،فسقطت مغشيا عليها ،ونامت وحلمت بنفسها مع
سامح يف كل أوضاع الصور املجنونة التي تبض صخبا وحبا وحياة ،تلك التي رأهتا
يف بيته مع زوجته املتوفاة ،والتي أطلعتها عليها احلاجة ليىل ،كانت تضحك بجنون،
وكان سامح يف احللم أوسم وأرق مما هو يف احلقيقة ،وكانت سعادهتا ال توصف
- 54 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
حتى أهنا كانت مبتسمة أثناء نومها ،إىل أن صحت عىل صياح ابنيها وشجارمها معا،
فتقلبت يف فراشها ،ووضعت الوسادة عىل رأسها حتى ال تستيقظ من حلمها
اجلميل ،ولكن شجارمها عال صوته أكثر وأكثر ،فلم تستطع أن تكمل نومها،
وقامت غاضبة ،وما أن فتحت باب حجرهتا حتى رأت ابنها هيثم يصفع أخته عىل
وجهها ،ويأمرها أن تسمع لكالمه؛ ألنه أخوها الذكر وهي األنثى التي ال تناقش،
وإنام تطيع أو تصفع عىل وجهها إن عصت كالم الذكور من أهلها ،فانزعجت
« راوية» ،وقامت جتري نحوه كاملجنونة ،وقالت بعصبية وهستريية وهى هتزه
بعنف وغضب وقوه بعد ان تبدل صوهتا وتغريت مالمح االم الطيبة احلنونه
وهى تنظر لولدها:
أنت مني قالك الكالم ده يا زفت أنت؟ وازاي تعمل كده يف أختك؟فخاطبها بثقة وغطرسة ذكورية كاذبة:
تيتا قالتيل كده.فاحتضنت ابنتها بحنان وقالت:
ستك كالمها غلط ،واوعى متد إيدك عىل أختك مرة تانية ،أنت فاهم؟ أنا ماعلمتكش كده ،والزم تسمع كالمي أنا.
فبكت ابنتها حنان وهي تقول:
- 55 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
طول الوقت تيتا تقول هليثم كده ،أنت الراجل ،وأنت الكبري ،وهي بنت،والزم تتعود تسمع كالمك ،هيثم كان متغري خالص يا ماما وعاجبه الكالم.
وليه ما قولتليش يا حنان؟ كنت رضبتهولك وعرفته ازاي يعامل أخته؟ علشان أنت ما كنتيش معانا ،وكنت خايفة ما ترجعيش.واهنارت ابنتها يف البكاء ،فضمتها «راوية» وقالت هلا وهى ىف واقع االمر حتدث
نفسها أيضا:
أنا هنا جنبك يا حبيبتي ،وعمرى ما هسيبك ،وال هسيب حد يضايقك ويقللمنك ،حتى لو كان أخوكي أو جدتك.
وفاقت «راوية» من أحالمها متاما ،واحتضنت ابنتها التي طرقت أسياخ احلديد
الساخنة يف قلب «راوية» وقالت:
أنا فجأة لقيت نفيس لوحدي من غريك ومن غري بابا ،وبقيت أبص عىل كلشبابيك أصحايب اليل ساكنني حواليا أالقيهم جنب أهاليهم بيتغدوا مع بعض،
وبيضحكوا مع بعض ،كنت أزعل وأختيل نفيس مكاهنم.
فهزهتا «راوية» بعنف وهو تقول:
أنت عندك حياة ،وعندك ماما ،وبابا جنبك ومعاكي وبيحبوكي ،اوعي تبيصعىل شبابيك جريانك ،فامهة؟ مالكيش دعوة بشبابيك اجلريان ،أنت سامعة؟ عييش
حياتك ،وافتحي كتبك ولعبك ،واوعي أشوفك واقفة يف شباك أو يف بالكونة تبيص
- 56 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عىل حياة حد ،الزم تعييش حياتك أنت ،ومن هنا ورايح الشبابيك دي هتفضل
مقفولة ،أنتم سامعني؟ هتفضل مقفولة ،مفيش شبابيك هتتفتح بعد النهارده،
مفيــش شبابيك ...
واهنارت وسقطت «راوية» عىل ركبتيها ،وبكت بكاء منعها من تكملة حروف
كالمها ،وبكت هبسترييا ،واحتضنت ابنيها بحنان بعد أن أخذت قرارها ،وفاقت
من أوهامها ،وتعلمت أن تغلق نوافذ وأبواب قلبها للريح ربام تسرتيح.
وعادت «راوية» لزوجها ،ومعها ابناها بعد أن قررت وحزمت أمرها عىل أن
حبها األول واألخري واألهم هو ابناها ،وأهنا لن تسامح نفسها أبدا إن تركت ابنتها
قرة عينها تعاين ما عانته هي يف بيتها حتى وصلت لبيت عالء ،وأال ترتكها للحياة
من خلف النوافذ ،وأن قدرها أن تكمل املعاناة صامتة صابرة ما دام التغيري سيصنع
من منى ابنتها حبيبة قلبها «راوية» جديدة.
ودخلت «راوية» عىل زوجها ،فابتسم وكأن رؤيتهم أعادت الصحة واحلياة يف
أوصاله من جديد ،واحتضن ابنيه وأخذ يطمئنهم عىل حالته وعىل عودته معهم قريبا
لبيتهم ،وقىض وقتا يمأل عينيه بصورهتام الربيئة اجلميلة ،ويتطلع نحو «راوية» بنظرة
فتجد أشياءها التي غريهتا ثابتة مل يعرتض عليها سامح ،بل تسمع من احلاجة نبيلة
أنه أثنى عليها وعىل ذوقها ،فقد كانت ال تستطيع أن تفعل ذلك يف بيتها من دون أن
خترب زوجها وتنال موافقته ،ويوم أن جربت أن تفعل ذلك نالت لوما وتقريعا واهتاما
بأهنا أمرأة فاضية ،وأهنا تسببت يف خلخلة األثاث بتحريكه ،وخدشته أثناء نقله،
كانت ال تستطيع اخلروج عن النص يف سيناريو حياهتا ،وكان زوجها خمرجا
ديكتاتورا يرغمها عىل لعب دورها بالطريقة التي يراها مناسبة إلنجاح عرض احلياة
التي حتياها وال تشعرها.
أما ما أثار تعجب «راوية» وخجلها حني كانت تتجاذب أطراف احلديث مع
احلاجة ليىل وكانا يتكلامن عن معاناة سامح مع ابنه من يوم موت زوجته منى،
وكيف أن «زياد» مفتقد ألمه ،كام أن سامح مفتقد لزوجته ،وكيف أن احلياة يف البيت
انطفأت هبجتها مع انطفاء شمعة عمر والدة زياد لبنى ،فقالت هلا «راوية» بعفوية
ودون قصد منها:
وليه ما ختليش سامح ابنك يتجوز علشان ينسى لبنى واحلي أبقى من امليت؟وقتها ابتسمت احلاجة ليىل ،وردت عىل «راوية» وفاجأهتا أهنا أم للبنى ،الزوجة
املتوفاة ،وليست أما لسامح ،ورغم ذلك فإهنا ال متانع أبدا يف زواجه ممن تطمئن عىل
رعايتها لزياد ،فخجلت «راوية» ،واعتذرت ،ولكن السيدة الطيبة قالت:
- 33 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ما تعتذريش يا بنتي ،أنت بتتكلمي صح ،سامح من حقه يتجوز واحدة تاخدباهلا منه ،وترعى ابنه ،وأنا عمري ما هزعل ،وال هقف يف طريقه ،وبعدين سامح
مثال للزوج الطيب الكريم ،عمره ما زعل بنتي ،وال قاهلا حاجة ضايقتها ،ده كان
حتى بيساعدها يف عاميل األكل ،وشغل البيت ملا يكون إجازة يف البيت ،عمره ما
قاهلا حاجة ضايقتها ،وال عمرها اشتكت منه ،عارفة؟ دول كانوا جمانني ،مقضينها
سفر وفسح ،كل إجازة له ياخدها ويسافروا ألي بلد.
وأخرجت من درج الكومود صورا لسامح ولبنى تبض باحلياة واملرح واحلب،
فرسحت «راوية» وختيلت نفسها مكان لبنى التي تركت هذه احلياة التي متثل حلام
من أحالم «راوية» ورحلت ،كيف تسمح للموت أن خيطفها من حياة كتلك احلياة؟
وكيف يرتك املوت تعساء كراوية وخيتطف السعداء كلبنى والدة زياد وزوجة
سامح؟
وأكملت احلاجة ليىل كالمها وكأهنا تؤجج حطب التمني يف قلب املسكينة
وقالت:
كان بيفسحها وبيدلعها ،ورغم إن عمرها قصري لكنها عاشت معاه اليل ستاتكتري ال عاشته وال هتعيشه مع أزواجها يف سنني طويلة.
فردت «راوية» بحرسة:
معاكي حق ،العمر مش باأليام والسنني.- 34 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فضحكت احلاجة ليىل وقالت وهي تربت عىل كتفها:
علشان كده سامح ده ابني ،وأنا نفيس أطمن عليه مع بنت احلالل اليلتستاهله ،وعمري ما هزعل لو اجتوز ،ما تلوميش نفسك يا بنتي عىل كلمة حق
قولتيها ،هقوم أعملك شاي معايا.
ومضت احلاجة ليىل للمطبخ ،وتركت «راوية» مع صور سامح ولبنى،
فتفحصتهم «راوية» من جديد ،وهي تتأمل ضحكتهم ،ودون تفسري واضح مدت
«راوية» يدها وخبأت صورة أعجبتها للزوجني السعيدين يف طيات مالبسها،
وعادت هبا لبيتها ،ووضعتها أمامها ،ووضعت يدهيا عىل خدهيا سارحة يف سيناريو
الصورة ،ويف حوارها الذي يقوله عينا بطليها سامح ولبنى.
وشيئا فشيئا تعلقت «راوية» باحلاجة ليىل ،حتى أهنا رأت فيها مثاال لألم التي
أحبت أن تكون أمها ،فهي امرأة بشوشة ،متفهمة ،حمبة للدنيا ،رغم حرماهنا من
ابنتها ،غري أهنا تسمعها ،وتعطيها املساحة لتقول رأهيا ،وتعرتض وترفض وتعرب عام
تريد أن تقوله دون لوم أو إساءة ،وقد كانت «راوية» تكره اللوم ،وتتعود عىل
اإلساءة ،وكانت والدهتا امرأة صارمة ،جاءت الدنيا فقط لتلومها وتيسء إليها،
وتتهمها بكل ما ليس فيها ،ثم متوت وتدعها ألحزاهنا وحدها.
ويوم وآخر وتوقفت «راوية» عن توزيع خياهلا عىل شقق ونوافذ اجلريان ،وبقي
خياهلا معلقا بنافذة وحيدة ،وبشقة واحدة فقط هي شقة الدور الثالت.
- 35 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كانت تذهب للحاجة ليىل بعد انرصاف أوالدها ملدارسهم ،وزوجها لعمله،
وتعود بيتها قبل عودة أوالدها من مدارسهم ،عدا أيام اإلجازات ،فتبقى بجانب
أوالدها ،وتقوم بواجبها نحو الكل بال أي تقصري.
حتى جاء يوم تعب فيه زياد تعبا شديدا ،وذهب به والده مرسعا إىل األطباء
فجرا ،وعاد بشنطة مليئة بالدواء ،وكان يوما من أيام اإلجازة التي ال تذهب «راوية»
فيها للحاجة ليىل ،فاتصلت احلاجة ليىل براوية لتسأهلا عن نوع األكل الذي تقدمه
للصغري ،وختربها بمرضه ،فحزنت «راوية» حزنا شديدا ،وطلبت من زوجها أن
تذهب لتطل عىل الصغري؛ ألهنا قد تعرفت بجدته ،وتريد أن تساعدها يف متريض
الصغري ،فنظر هلا نظرة غاضبة قوية ،ودفعها يف كتفها بقوة ،وهنرها زوجها عالء عىل
طلبها املفاجئ غري املعتاد ،هذا وقال هلا:
وأنا مايل باحلاجة زفت ،وحفيدها هباب ،أنت دورك يف البيت تراعيني أناوعيالك وبس ،هو أنت هتشتغيل ممرضة عىل آخر الزمن.
فرتددت «راوية» وقالت:
نص ساعة وهرجع عىل طول.فصاح فيها غاضبا:
وال نص وال ربع ،ملا أنزل الشغل ابقي غوري يف ستني داهية تاخدكوتاخدها ،إنام طول ما أنا يف البيت تفضيل جنبي وحتت رجيل تشويف طلبايت،
- 36 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وروحي دلوقتي اعملييل شاي ،واعميل لنا حبة بسكوت وال شوية قرص نفطر
بيهم ،وال نحبس بيهم جنب الشاي.
ومضت «راوية» من أمامه غاضبة ،وصنعت له ما يريد وهي تنتفض قلقا عىل
الصغري ،وقضت الليل ساهرة تطل من وراء النوافذ لتتبني األمر ،وتسرتق السمع،
فتسمع بكاءه الذي يمزق قلبها ،وما أن طلع الصبح وبعث احلياة يف الدنيا من جديد
حتى طارت «راوية» عىل احلاجة ليىل التي كانت منهكة القوى متاما بسبب سهرها
بجانب الصغري ،وأبوه أيضا ذهب لعمله وهو مل ينم ولو لساعة واحدة ،فأخذته
«رواية» منها وقالت هلا:
ادخيل نامي شوية يا ماما ليىل وأنا هاخده يف حضني وهبقى أحاول أخليه ينام،ما تقلقيش.
فمضت احلاجة ليىل حلجرهتا وتركت زياد لراوية التي احتضنته بحنان وحب
صادق ،وهنهنته وربتت عىل ظهره بحنان ،وغنت له حتى نام ،فأخذته لفراشه عىل
أطراف أصابعها ،ونامت بجواره لتتأكد من نعاسه ،وظلت حتملق فيه وتتأمله حتى
غلبها النوم هي األخرى ومل تدر بنفسها ،وغابت يف غياهب جب النوم.
وأقبل سامح عائدا من عمله مبكرا؛ لالطمئنان عىل صحة ابنه ،ونيل قسط من
النوم ،وفتح باب البيت فوجد هدوءا يف البيت برشه باخلري ،فتسحب عىل أطراف
أصابعه ودخل لغرفة ابنه النائم؛ ليكشف الغطاء عن جبينه ويقبله ،فلمست أنفاسه
الدافئة وجنتي «راوية» التي كان يظنها جدته ،ففتحت عينيها التي تالقت بنظرات
- 37 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عيني سامح ،فتسمر كل منهام مكانه ،واعتذر سامح لرواية ،وارتبكت «راوية»
وذهبت مرسعة إىل بيتها ،ال تدري ماذا حل هبا ،فقد كانت مشاعر «راوية» مشاعر
بكر عذراء رغم أعوام زواجها االثني عرش ،ورغم إنجاهبا هليثم ومنى ولدهيا ،ونور
عينيها ،ورغم زوج ال يكف عن مبارشهتا بطريقته اآلمرة الناهية األنانية.
عادت «راوية» تنتفض وقد رسى يف جسدها تيار خدر ال تعرف له سببا ،شعور
مغمور بالسعادة واألمل ،واخلوف وتأنيب الضمري ،ووضعت «راوية» يدها عىل
وجنتيها امللتهبتني بأنفاس سامح ،ومضت للنافذة تطل منها ،فوجدت سامح يف
رشفة حجرته يطل من نافذته عليها ،ويبتسم هلا ،فلم تدر بنفسها إال وهي تغلق
النافذة يف وجهه وتنتفض.
ودخلت مطبخها لتجهز طعام أوالدها ،وعاد الصغار من مدرستهم بصخبهم
وصياحهم ،وهي ال تسمع وال ترى وال تشعر إال بتوهج وجنتيها ،وبريق المع يف
عينيها ،وشيئا آخر يرسي يف أوصاهلا ال تعرف له وصفا أو سببا ،ومل تدر إال وابنتها
تنادهيا عىل آثار دخان يتصاعد من آنية الطعام إثر احرتاق اللحم الذي كانت جتهزه
غداء ألوالدها.
وانتبهت لنفسها وحلق صغارها عليها ،وصنعت هلم نوعا آخر من الطعام وهي
ما زالت سارحة شاردة حتاول أن تسيطر عىل نفسها ،وعىل مشاعرها ،وال تستطيع
أن تفرس كيف ألنفاس سامح التي المست وجنتيها لربع ثانية من الوقت تفعل هبا
- 38 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
كل هذا ،وكيف مل تستطع اثنا عرش عاما قضتها تقاسم فيها عالء زوجها وسادة
واحدة ،وغطاء واحدا ومل تشعر به كرجل أبدا؟
واستغفرت رهبا ،وأقبلت تصيل وتصيل وتصيل طالبة الرمحة والعفو من خالقها
عىل شعور ليس هلا حيلة فيه ،حتى عاد عالء زوجها مزجمرا كعادته ،طالبا للطعام،
فأحرضته له وأطعمته ،وجهزت له باراشوته البفتة ،وهي تتطلع يف وجهه سامهة
سارحة يف ملكوت غري امللكوت ،فصاح فيها عالء:
مالك يا ولية؟ هتصوريني وال إيه؟ مالك بتبحلقي يف خلقتي كده ليه؟ثم ذهب خياله للمسار الغلط ،ودعاها لتتبعه إىل غرفتهام ،فيتحفها برؤيته بطاقمه
البفتة ،ويف تلك الليلة حاولت «راوية» جاهدة أن تشعر به ،أو تشعر بأي يشء بال
جدوى ،حتى أعتقها ونام معتقدا بأنه قام بواجبه نحوها ،وختيل نفسه وقتها قيرصا
رومانيا ،عائدا لروما مظفرا بالنرص بعد أن سيطر عىل مترد ،وكبح مجاح جيوش
األرض كلها ،وأخضعها لسلطته.
ونام وظلت «راوية» ساهرة ،وقامت واختلست النظر من خلف نافذهتا،
فلمحت سامح يدخن سيجارة يف رشفة غرفة نومه ،وظنت «راوية» أنه مل يكن يراها
رغم أنه كان يسلط عينيه عىل بلكونتها ،وأهنا وحدها هي التي تراه بوضوح،
وتعرتهيا فرحة غريبة كلام رفع عينيه نحو شباكها.
- 39 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وطلع الصبح عىل يوم مكرر آخر من أيامها املكررة الرتيبة اململة ،فقامت رواية
وأنجزت أشياءها ،وذهبت للحاجة ليىل لتطمئن عىل زياد ،وما أن دقت الباب حتى
فتح هلا سامح بنفسه ،بشحمه وحلمه ،وابتسامته ونظرة عينيه ،فارتبكت «راوية»
ودخلت تنادي احلاجة ليىل ،فأغلق سامح الباب واجته نحوها ،وقال هلا:
ماما ليىل مش هنا ،أخدت زياد وسافرت ،وهتيجي بكرة ،عندها واجب يفالقاهرة الزم تعمله النهارده.
فتسمرت «راوية» يف مكاهنا من املفاجأة ،ثم اجتهت نحو الباب معتذرة ،مغادرة،
فجذهبا سامح من يدها وقال:
من فضلك اديني الفرصة أعتذر لك وأشكرك و..فجذبت يدها من بني يديه مرتبكة مبعثرة وقالت:
من فضلك يا أستاذ سامح ،لو سمحت ما يصحش كده. أنا آسف ،أنا ما أقصدش أبدا ،املوضوع وما فيه إين خايف تكوين أخديت عنيفكرة وحشة ،وعاوز بس أوضحلك األمور.
األمور واضحة ،وبعدين يعني فكرة وحشة وال حلوة ،هو احنا أصحابعلشان توضحيل وأوضحلك؟ املوضوع خلص خالص ،واحنا مفيش بنا حاجة
أصال تستدعي الكالم ده.
فتجرأ سامح وقال:
- 40 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
أل يف بيننا ،وأنا حاسس بيكي وأنت حاسة بيا ،وأنا طول الليل سهران بفكرفيكي ،وأنت كامن ،أنا كنت شايفك من ورا الشباك سهرانة وبتفكري فيا ،احنا بيننا
انجذاب سحري ملناش حيلة فيه ،ومش قادرين نقاومه يا «راوية» ،اسمك «راوية»
وأنت فعال «راوية» ،عنيكي كتاب مفتوح ليل يقدر يقرا ،ورواية ليل نفسه يعيش وأنا
قريتك يا «راوية».
وسقطت «راوية» عىل أقرب كريس ،واهنارت من شدة البكاء ،فلم تكن تعرف
أن أحدا يف هذا الكون يكرتث حلاهلا ،أو هيمه أمرها ،أو أن أحدا يشعر هبا ،أو يفهم
شعورها ،ووضعت يدهيا عىل عينيها وأخذت تتحدث من خلف يدهيا ودموعها
املتساقطة كشالالت نياجرا:
أنا زوجة وأم ،والكالم ده ميصحش تقوله ،وال يصح إين أسمعه يا سامح.فركع عىل ركبتيه أمام كرسيها اجلالسة عليه ،وأمسك يدهيا ،وأزاهلام من عىل
وجهها ،وقال:
قدامك فرصة للحب والفرح ،وأنا فرصتك يا راوية.واستجمعت رواية شجاعتها التي خانتها ،وعقلها الذي أمخدته مشاعرها،
ودفعته بقوة أسقطته عىل ظهره ،وذهبت مرسعة تتحصن يف بيتها ،وتنتفض
وتستغفر ،وتصيل هلل أن يبعد عنها الشيطان الذي سكن أمامها ،واحتل حياهتا
الفارغة املكررة ،املوزعة عىل رشفات اجلريان ،وحقدت «راوية» عىل زوجها،
- 41 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
واشتعل قلبها كرها له ،ولكن ليس له وحده ،كرهت أباها وإخوهتا ،وأهل الكرة
األرضية كلها ما عدا ابنيها ،كانا كشعلة نور يف آخر طرقات الظالم الذي تعيش
فيها ،فمسحت دموعها ،وقامت لتصيل وحترض هلام طعامهام ،فدق جرس التليفون،
ورفعت السامعة بعد أن ضبطت نربة صوهتا فوجدته هو ،سامح عىل اخلط اآلخر،
ومل يقل هلا كالما كثريا ،وإنام تنهد وقال هلا كلمة واحدة ،قال هلا:
أحبك.وكانت الكلمة الوحيدة ،كالرضبة القاضية التي قضت عليها متاما ،وأسقطت
مقاومتها أرضا بلمس أكتاف احلنني للحب واحلياة ،فلم تستطع إغالق اخلط ،ومل
تستطع كذلك الرد ،فأكمل كالمه بنفس طريقته وقال:
أحتاجك وحتتاجيني ،يبقى ليه الكرب والتعنت؟ وليه نعذب نفسنا يا راوية؟ أنت عاوز مني إيه بالظبط؟ عاوزك أنت يا راوية.فأسقطت السامعة ،وأغلقت اخلط يف وجهه ،واستمدت قوهتا من جديد بوصول
أوالدها للبيت ،فتشاغلت هبم وبطلباهتم ،وتعلمت أن تغلق كل النوافذ حتى حتمي
نفسها من التطلع إىل الشقة التي يف الدور الثالث.
ويف اليوم التايل قررت أيضا أال تفتح النوافذ ،وخرجت بعد خروج أوالدها
وزوجها تطوف األسواق ،وانتقت أصعب أنواع الطعام ،وعادت لتعده حتى
- 42 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
يستغرق كل وقتها ،فال تفكر يف التطلع للنوافذ ،ورفعت سامعة اهلاتف حتى ال
يستطيع سامح الوصول إليها ،فقد كانت يف معركة كربى تقاوم فيها نفسها قبل أي
يشء ،وعاد زوجها قبل موعده بساعات ،وانفجر فيها معاتبا وقال:
ممكن أعرف رافعة سامعة التليفون ليه؟ ده اسمه إمهال ،ساعتني بحاولأكلمك والتليفون مشغول؟ ووضع السامعة بعصبية.
أصيل كنت بعمل لكم األكل واألصناف كتري زي ما أنت شايف ،فام خدتشبايل إن السامعة مرفوعة.
ومني قالك تعميل أصناف كتري؟ وبعدين إيه اليل رفع السامعة كده؟ أكيد وأنا بنضفها رفعتها ونسيت أرجعها مكاهنا ،معلش.فرد بعصبية:
تعريف ده اسمه إيه؟ ده اسمه الترصف بغباء.فأطالت النظر له ،وهو حيارضها ويصيح فيها ،وقالت له:
معاك حق ،اليل أنا بعمله ده اسمه فعال غباء.فمىض أمامها وقال:
اعميل حسابك ،خالص كلها شهر وال اتنني بالكتري وهننقل يف الشقةاجلديدة ،أنا خالص اتفقت عليها ،ومضيت العقد كامن.
- 43 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فرصخت فيه ألول مرة يف حياهتا هبسترييا:
مش هتنقل من هنا ،ومش هروح يف أي حتة تانية ،وبطل تعاملني عىل إينشنطة يف إيدك ،أنا بني آدمة وليا رأي وشعور وإحساس والزم تفهم ده.
فتطلع فيها بنظرته القاسية اجلامدة وقال:
طب يا بني آدمة يا اليل عندك شعور ،وعندك رأي كامن ،أحب آخد رأيك مابني إنك هتدي وتسمعي الكالم وتيجي معايا البيت اجلديد أنا ووالدك ،وما بني
إنك ترفيض ،وساعتها هتبقي ما تلزمينيش ،وهجيب اليل أحسن وأمجل منك مليون
مرة ،عروسة جديدة يف البيت اجلديد.
فردت بعصبية:
أحسن ،أنا خالص مش قادرة أعيش معاك بالطريقة وباألسلوب ده ،سيبنيأنا ووالدي نعيش هنا ،وروح أنت والعروسة اجلديدة اليل أحسن مني مليون مرة،
عيشوا واهتنوا يف بيتك اجلديد.
فنظر هلا من طرف عينيه وقال:
غريبة ،ده أنت مستبيعة قوي ،مكنتش أعرف إنك كده ،عموما علشان تبقيعارفة ،والدي مش هيفارقوين ،غوري أنت يف ستني داهية ،لكن الوالد هيفضلوا
معايا ،وهودهيم البلد عند أمي تربيهم ،ومش هتشوفيهم تاين ،علشان تعريف
تستبيعي يا ست «راوية» يا اليل عندك رأي وشعور.
- 44 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وتركها ومىض لغرفته ،ومحل حقيبة هبا مالبسه وبراشوتاته وعاد ،وقال هلا:
أنا مسافر يومني مأمورية شغل مستعجلة ،وهسيبك تفكري وهتدي شويةعلشان تعريف ختتاري ما بني بيتك اجلديد وجوزك ووالدك وما بني إنك ترجعي
ألهلك لوحدك ،وتنيس إن ليكي والد خالص ،أصل أنت ملكيش يف الطيب
نصيب.
ودخل للمطبخ هبدوء بعد أن سقطت أمامه منهارة ،وجلب بعض األطعمة التي
نضجت ،والتي كانت تتشاغل هبا عن أحزاهنا معه وأخذ يتناول طعامه كأن شيئا مل
يكن ،وفتح التالجة ورشب ،وقرش إصبعا من موز وأكله دفعة واحدة ،وجتشأ ومحل
حقيبته ومىض دون أن يلتفت هلا ،وهي هامدة صامتة سارحة يف ملكوت ما بعد
املوت التي حتيا فيه.
ومع صوت غلق عالء للباب ،ويف نفس اللحظة طلبها سامح عىل التليفون،
واستيقظ أوالدها عىل صوت غلق الباب بقوة بعد خروج عالء ،وصوت التليفون،
وأرسعوا إليها ،وارمتوا يف أحضاهنا ،فتمزعت «راوية» ما بني باب الرمحة الذي
أغلقه عالء يف وجهها لتوه ،وبني رنني احلب الذي يأتيها عرب أثري صوت سامح مع
رنني التليفون ،وبني أحضان ولدهيا ،وقرة عينها ،وإكسري احلياة التي جيعلها تصرب
وحتتمل ،فأخذت ولدهيا يف أحضاهنا وبكت ،والتليفون ال يكف عن الرنني ،وكأنه
اخللفية املوسيقية هلذا املشهد املأسوي ،وظل سامح يعيد املحاولة غري يائس ،فقامت
«راوية» وأمرت أوالدها بارتداء مالبسهم ،وأخذهتم يف نزهة طويلة ،اشرتت هلم
- 45 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
فيها احللوى ،وطافت هبم ومعهم مدينة املالهي ،وركبت معهم معظم األلعاب،
واستمتعت بصوت ضحكاهتم املجلجلة ،وأحضاهنم الدافئة أثناء خوفهم من بعض
األلعاب ،وعادت هبم يف آخر الليل وهم سعداء يرقصون حوهلا ،ويغنون ،وجهزت
هلم عشاءهم وأدخلتهم غرفتهم وقبلتهم ليناموا .وبدت «راوية» وكأهنا تكفر عن
خطأ جسيم ارتكبته يف حقهم حني راودهتا نفسها ولو للحظات قليلة أن تقبل عرض
زوجها السخي جدا بأن حتظى بحريتها يف ممارسة حياهتا بالطريقة التي تتمناها.
ومن جديد رن جرس التليفون ،ففزعت «راوية» ،وخافت أن ترد عليه ،خافت
من ضعفها ،وقلة حيلتها ،خافت من خوفها ،ولكنها اضطرت آخر األمر أن جتيب
كي ال توقظ ولدهيا بعد أن ناما ،وكان الطالب عىل اخلط اآلخر سامح ،ومل يعطها
الفرصة لغلق اخلط ،وبدأ أول كالمه هلا بإعالن حبه ،وقال بحزم وقوة:
بحبك يا رواية ،أرجوك ما تقفليش اخلط ،واسمعيني لآلخر ،لو سمحت أنارجل ناضج مش شاب مراهق ،وأنا فعال بحبك من ساعة ما وقعت عيني عليكي،
شئ اكرب منى بيشدين ليكي ،ومش قادر أقاومه ،أنا حاسس انى مسئول عنك عن
سعادتك ان دروى هو انى ارجع لك ابتسامتك الغايبة حاسس إنك حاجة بتاعتي
أنا ،وملكي أنا بس مش ملك حلد غريى .
فأجابت «راوية» بعصبية:
أنا ملك نفيس ،وملك والدي ،أنا مش بتاعة حد ،ارمحوين بقى وسيبوينيف حايل.
- 46 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وأكملت وكأهنا تذكرت شيئا ،فقالت:
طب ما أنت كنت بتحب لبنى مراتك ،وتالقيك كنت بتقوهلا كده باردو،ودلوقتي نسيتها ،وبتحب غريها ،وبكرة حتب غريها وغريي ،أنتم كلكم كده
خملوقات أنانية ،مبتعرفوش حتبوا أصال.
أيوة أنا كنت بحب مرايت ،وعمري ما هنساها ،بس أنا من حقي إين أعيش،وأحب تاين زي ما أنت من حقك حتبي وتعييش .
أنا عايشة ومبسوطة ،ومن فضلك سيبني يف حايل لو سمحت.فاج أ ها سامح ب آ خر سهم يف جراب حربه الرشسة ؛ الخضاع القلعة
احلصينة وقا ل:
أنت ست ميتة ،واقفة بتتفرجي عىل احلياة من ورا الشبابيك ،أنا متابعكوشايفك ،وعايش معاكي وحاسس بيكي ،أنت واقفة عىل شط احلياة تتابعي الناس
اليل عايشة حواليكي وأنت ميتة ،اطلبي الطالق يا راوية ،حقك تنهي تعاستك
بإيدك ،وتنزيل بحر احلياة وحتبي وتتحبي.
فلم جتيب «راوية» ،وصمتت متاما ،فقد أجلمتها كلامته بلجام من نار ،وتأكدت
من كالمه أنه يفكر فيها ،ويتابعها ،وليس جمرد شخص يستغل ضعفها ،ويراودها
عن نفسها ،وأغلقت اخلط ،وذهبت إىل غرفتها ،وقضت الليل جالسة يف الظالم
تعيد عرض رشيط حياهتا كله.
- 47 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وطلع الصبح وهي مل تذق النوم ولو لساعة ،وأيقظت أوالدها ليذهبوا ملدرستهم
وتبقى وحيدة تدور يف غرف بيتها ال تعرف ماذا تفعل ،وماذا تريد ،ونظرت
للتليفون ،وانتظرت أن يرن رناته التي ختافها ،لكنه بقي صامتا هامدا كقلبها
الضعيف الذي أهنكته حرب طويلة من التمني ،والتطلع ألبسط حقوقه يف احلب
واحلياة ،واطل الليل عليها وهي عىل حاهلا منتظرة رنات التليفون ،ولكنه أيضا مل
يرن ،وطلع الصبح لليوم التايل ،وهي تنظر للتليفون ،وتنتظر رنة احلياة ،ولكنها مل
تدب فيه ،وبقي صامتا ،صامدا ،هامدا ،ال يرن كام لو كان يعاندها كباقي أحداث
حياهتا ،فلم تدر بنفسها إال وهي ترتدي ثياهبا وتغادر بيتها ،وتصعد للشقة التي يف
الدور الثالث ،وتدق عليها بقوة وبعنف ،وكأهنا ترضب أقدارها ،وكأهنا تقتص يف
باب الشقة لكل ما حدث هلا ،ففتح هلا سامح الباب ،فارمتت يف حضنه تبكي وتبكي
وتقول:
أنا إنسانة حمرتمة ،أنا عمري ما كنت خاينة يا سامح ،أنا عمري ما كنتخاينة ،صدقني.
فضمها لصدره بقوة فنامت يف صدره ،وأعادت كالمها:
أنا مش خاينة يا سامح ،أنا مش خاينة ،وأخذت تبكي وتبكي ،فرتكها سامححتى هدأت متاما.
- 48 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ثم أجلسها ،وقدم هلا كوبا من العصري ،تناولته بيدها املرتعشة ،ورشبت وهي
ترتعش وتنتفض بجنون من انفعاهلا وبكائها ،وكررت كلمتها للمرة العارشة بعد
املائة وقالت:
أنا مش خاينة يا سامح.فجلس أمامها سامح ،وفاجأها برده الغريب عليها ،وكأنه كومة من القش عىل
ظهر بعري بائس ،قصمت احلياة ظهره قبل أن يرفعه ،ويتطلع نحو الشمس ،باحثا
عن مكان يؤويه ،وقال:
حلد إمتى يا «راوية»؟ حلد إمتى تفضيل مش خاينة؟فرفعت برصها نحوه تستفهم عن معنى سؤاله ..فأكمل:
أنا عارف إنك مش خاينة ،بس هي كل ست خاينة يف الدنيا اتولدت خاينةعلشان تفضيل ست مش خاينة؟ يبقى الزم تطلبي الطالق ونتجوز.
فردت بعصبية:
لو مكنتش ظهرت يف حيايت كان زماين عايشة وراضية ؛ ظهورك خلبط حيايت . أي حياة؟! حياة املوت اليل أنت عايشاها يف بيتك؟ وال حياة الفضول اليلاخرتعتيها لنفسك يف بيوت جريانك؟ فوقي بقى واحلقي أمجل سنني عمرك قبل ما
تضيع منك ،وأنت بتتفرجي عىل حياة الناس حواليكي ومش عايشة حياتك ،أنا ملا
لبنى ماتت كنت هتجنن ،ولقيت نفيس بعمل زيك كده ،وبتفرج عىل حياة الناس من
- 49 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ورا شبابيكهم ،وبعيش فيها معاهم ،وبعدين بقيت أجيب قصص وروايات وأعيش
حياة أبطاهلا حلد ملا شوفتك ،والحظت إنك بتعميل زيي ،وبتتابعي حياة الناس من
ورا شبابيكهم ،وحسيت بيكي ،وحسيت إين مسئول عنك ،مسئول إين أرجعلك
حياتك ،وأنا بدور عىل حيايت ،احنا اختلقنا لبعض يا «راوية».
ووالدي يا سامح؟ أنا ما أقدرش أعيش من غري والدي ،وعالء بيهددين إنههياخدهم من لو سبته ،وهيودهيم ملامته ،وممكن ما أشوفهمش تاين.
مستحيل ده حيصل ،عمر األب مهام كان جربوته ما حيرم أم من أوالدها ،وأناأوعدك إين أقف جنبك وأساعدك ،بس أنت بردو الزم تساعدي نفسك ،متسكك
بحياة أنت كارهاها علشان والدك ،مش يف صالح والدك ،ممكن تتعيس نفسك
وتتعسيهم معاكي ،ملا يرتبوا يف بيت كله كره ومشاكل ممكن ما تقدريش تكميل يف
صورة الزوجة اليل مش خاينة ،وتوصميهم بعار يفضل معاهم طول حياهتم ،وهو
ربنا ملا خلقنا ورشع الطالق بني الزوجني اشرتط إن ما يكونش عندهم أطفال
علشان يطلقوا؟ ربنا ألنه عادل ادالنا حرية إننا نكمل حياتنا بالطريقة اليل تناسبنا من
غري ما نعصاه ،وال نغضبه ،فكري يف كالمي ،وهتالقي إين عندي حق ،وأنا مستني
منك رد ،خدي الوقت اليل أنت عاوزاه يف التفكري ،وأوعدك إين مش هأثر عليكي،
وال هحاول أتصل بيكي ،بس اوعديني يا راوية أنت كامن إنك تفكري ،وأيا كان
قرارك أنا هوافق عليه ،وهحرتمه.
- 50 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وعادت «راوية» لبيتها وكأهنا أزاحت جبال من احلديد عن صدرها ،واتفقت
بينها وبني نفسها أن تفكر يف األمر ،وما أن خطت خطوات نحو مطبخها لتعد
الطعام ألوالدها حتى رن التليفون ،فاجتهت نحو تليفوهنا وهي تضحك وتقول
لنفسها بدالل مل تعهده يف نفسها ،كام لو كانت تفض غالف أنوثة فابريكا ما زال
بتكت صنع اخلالق مل يسبق هلا استعامله من قبل:
أوام يا سامح رجعت يف كالمك واتصلت بيا؟ ما قدرتش تصرب وتنفذكالمك؟
وانفرجت أسارير وجهها ،وعلت االبتسامة العريضة شفتيها ،وقالت بنعومة
وصوت راقص من الفرحة وهي تضبط خصلة طائرة من شعرها عىل جبينها
العاجي املتأجج باحلمرة.
ألووووو..ولكن رسعان ما زبلت ابتسامتها ،ودقت صدرها بقوة وهي ترصخ:
يا هلوي ،اسرت يا رب ،أنا جاية حاال ،السرت من عندك يا رب.ورمت السامعة ،وطافت الشقة تبحث عن ثياهبا وهي متوترة مستغفرة ،تدعو اهلل
أن يسرتها بسرته ،فقد كان املتكلم طوارئ مستشفى أبلغوها أن زوجها عندهم يف
حالة خطرية ،وقد تعرض حلادث كبري وهو عائد من سفره عىل الطريق.
- 51 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
وسجدت «راوية» هلل تستغفره وتدعوه وترجوه بأن ينجي عالء ،وأن يطيل يف
عمره من أجل أوالده ،وطارت «راوية» عىل مكان املستشفى ترتعش خوفا عىل
زوجها وأب ابنيها ،ومل تكن حالته مطمئنة ،فقد كان الشاش يعلو وجهه ،ويلتف
نحو خرصه ليهبط مع منحنيات جسده حتى يكتف قدميه ،وتقدمت منه «راوية»
وهو غائب عن الوعي متاما ،وأخذت تبكي وتناديه ليفتح عينه وهو ال يسمعها ،وال
يشعر هبا ،وال بالدنيا من حوله ،وبقيت طوال الليل تدعو له وتستغفر لذنبها
ولفعلها ،وجاءت أمه من البلد لتقاسمها القلق واللوعة التي تعترص قلبها ،وكياهنا
كله ،ثم أمرهم الدكتور باالنرصاف ،فطلبت من والدته أن تبقى بجوار الصغريين
وهي ستقيض الليل معه حتى تطمئن عليه ،وعادت أمه لرتعى الصغار ،وبقيت
«راوية» بجانب عالء ال حتول عينيها من عليه تطمئن عىل أنفاسه ،وتبكي عىل صدره
وتقرأ القرآن تقربا إىل اهلل ليزيح عنه ،ويعيده ألوالده ،ورغم خوفها وقلقها
وجنوهنا ،لكنها مل تقل يف أي دعوة من دعواهتا وهي حتدث اهلل عنه أن يشفيه هلا ،مل
تطلب من اهلل يف دعواهتا الكثرية الكسرية رغم رعبها عليه وصدقها يف خوفها من
فقده أن يعيده اهلل إليها ،كانت دائام تطلب من اهلل أن يعيده ألوالده ،وكأن كل ما
يربطها به وكل ما يربطه باحلياة أوالده فقط.
ومىض الليل ثقيال طويال ،وطلع الصبح عىل عيون «راوية» التي مل تغمض،
وعالء عىل نفس حالته ،وال جديد يقوله األطباء عنه ،ومر يوم وآخر وراوية بجانبه
- 52 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
ال ترتكه ،وال تفكر أن ترتكه ،وتدعو نفس دعوهتا الصادقة له بأن يعيده اهلل ساملا،
معاىف ألوالده ،ألوالده فقط.
وغفلت عيوهنا رغام عنها ،فصحت عىل صوته ينادهيا ،فلم تتاملك نفسها من
الفرحة ،وأرسعت إليه ،ففتح عينيه ،ونظر هلا بامتنان وابتسم ،وحاول أن يتكلم،
فلم تساعده احلروف ،أما هي فأرسعت إليه وهي تبكي ،وحتمد اهلل عىل سالمته،
وتدعو له ،وتربت عىل صدره حتى غاب عن الوعي من جديد ،وجاءها األطباء
وطمأنوها أن حالته استقرت ،وأنه يستجيب للعالج ،وأن الكسور مسألة وقت
وسيعود ساملا معاىف بإذن اهلل ،وطلبت أمه منها أن تعود لبيتها؛ لتأخذ محاما دافئا
وتسرتيح ثم تعود له من جديد بعد أن تسرتيح قليال ،عىل أن تبقى أمه بجانبه حتى
تعود ،فوافقت ألهنا كانت منهكة من التعب ،وألهنا اطمأنت عىل حالته من كالم
األطباء ،وعادت «راوية» ،وطول الطريق ال ترى غري عالء ،وصورة عالء ،وال
تنطق إال دعاء له بالشفاء ،والعودة لولديه ساملا ،وكان يشء ما داخلها يلجم لساهنا
فال تكمل دعوهتا بأن يعود هلا هي أيضا ،يشء يتمنى له أن يعود للحياة ساملا معاىف
لبيته وأوالده ،ويشء آخر فيها ال يريده هلا ،وال يريدها أن تكمل معه ،وعادت لبيتها
متلهفة عىل أوالدها ،ودخلت بيتها واحتضنتهم بعينيها وقلبها ،فوجدت بيتها نظيفا
منظام هادئا ،ووجدت أوالدها مهندمني نظيفني ،فاطمأنت لرعاية جدهتم هلم،
وأخذت محامها الدافئ ودخلت حجرهتا لتأخذ قسطا من الراحة ،وأول ما فعلته
- 53 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
حني اختلت بنفسها يف حجرهتا أن أغلقت شبابيك اجلحيم؛ لتحجب عنها التطلع
نحو شقة الدور الثالث.
وجلست «راوية» عىل فراشها ،واستجمعت رشيط حياهتا ،وحدثها شيطان لعني
حديثا ظلت هتز رأسها لتسقط بذوره من فكرها ،حتى ال ينبت أشجارا يف جنة وهم
حتيا فيها ،ولو يف اخليال ،وقال هلا شيطاهنا:
وما املانع بعد أن تطمئن عىل صحة عالء أن تطمئن هي األخرى عىل نفسها يفحياة توفر هلا احلب الذي حرمت منه ،واالهتامم الذي منعت منه يف دنياها.
فهزت رأسها لتسقط الفكر اللعني الذي ينهش رأسها ،فال حياة هلا بعيدا عن
ولدهيا ،ولكنه عاد ووسوس هلا:
وما املانع لو استطاعت رؤيتهام واالطمئنان عليهام مع جدة ترعامها وحتافظعليهام ،خاصة أن األوالد الذين يضحي آباؤهم وأمهاتم يف سبيل سعادهتم حني
يكربون ينشغلون بحياهتم ،ويعيشون يف عاملهم بعيدا ،ويرتكون آباءهم وأمهاهتم
ليكملوا وحدهم طريق تعاستهم ،وما املانع أن حتب وتعيش؟
وغلب «راوية» نوم التعب ،فسقطت مغشيا عليها ،ونامت وحلمت بنفسها مع
سامح يف كل أوضاع الصور املجنونة التي تبض صخبا وحبا وحياة ،تلك التي رأهتا
يف بيته مع زوجته املتوفاة ،والتي أطلعتها عليها احلاجة ليىل ،كانت تضحك بجنون،
وكان سامح يف احللم أوسم وأرق مما هو يف احلقيقة ،وكانت سعادهتا ال توصف
- 54 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
حتى أهنا كانت مبتسمة أثناء نومها ،إىل أن صحت عىل صياح ابنيها وشجارمها معا،
فتقلبت يف فراشها ،ووضعت الوسادة عىل رأسها حتى ال تستيقظ من حلمها
اجلميل ،ولكن شجارمها عال صوته أكثر وأكثر ،فلم تستطع أن تكمل نومها،
وقامت غاضبة ،وما أن فتحت باب حجرهتا حتى رأت ابنها هيثم يصفع أخته عىل
وجهها ،ويأمرها أن تسمع لكالمه؛ ألنه أخوها الذكر وهي األنثى التي ال تناقش،
وإنام تطيع أو تصفع عىل وجهها إن عصت كالم الذكور من أهلها ،فانزعجت
« راوية» ،وقامت جتري نحوه كاملجنونة ،وقالت بعصبية وهستريية وهى هتزه
بعنف وغضب وقوه بعد ان تبدل صوهتا وتغريت مالمح االم الطيبة احلنونه
وهى تنظر لولدها:
أنت مني قالك الكالم ده يا زفت أنت؟ وازاي تعمل كده يف أختك؟فخاطبها بثقة وغطرسة ذكورية كاذبة:
تيتا قالتيل كده.فاحتضنت ابنتها بحنان وقالت:
ستك كالمها غلط ،واوعى متد إيدك عىل أختك مرة تانية ،أنت فاهم؟ أنا ماعلمتكش كده ،والزم تسمع كالمي أنا.
فبكت ابنتها حنان وهي تقول:
- 55 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
طول الوقت تيتا تقول هليثم كده ،أنت الراجل ،وأنت الكبري ،وهي بنت،والزم تتعود تسمع كالمك ،هيثم كان متغري خالص يا ماما وعاجبه الكالم.
وليه ما قولتليش يا حنان؟ كنت رضبتهولك وعرفته ازاي يعامل أخته؟ علشان أنت ما كنتيش معانا ،وكنت خايفة ما ترجعيش.واهنارت ابنتها يف البكاء ،فضمتها «راوية» وقالت هلا وهى ىف واقع االمر حتدث
نفسها أيضا:
أنا هنا جنبك يا حبيبتي ،وعمرى ما هسيبك ،وال هسيب حد يضايقك ويقللمنك ،حتى لو كان أخوكي أو جدتك.
وفاقت «راوية» من أحالمها متاما ،واحتضنت ابنتها التي طرقت أسياخ احلديد
الساخنة يف قلب «راوية» وقالت:
أنا فجأة لقيت نفيس لوحدي من غريك ومن غري بابا ،وبقيت أبص عىل كلشبابيك أصحايب اليل ساكنني حواليا أالقيهم جنب أهاليهم بيتغدوا مع بعض،
وبيضحكوا مع بعض ،كنت أزعل وأختيل نفيس مكاهنم.
فهزهتا «راوية» بعنف وهو تقول:
أنت عندك حياة ،وعندك ماما ،وبابا جنبك ومعاكي وبيحبوكي ،اوعي تبيصعىل شبابيك جريانك ،فامهة؟ مالكيش دعوة بشبابيك اجلريان ،أنت سامعة؟ عييش
حياتك ،وافتحي كتبك ولعبك ،واوعي أشوفك واقفة يف شباك أو يف بالكونة تبيص
- 56 -
أحبك ولكن ..غادة العليمي
عىل حياة حد ،الزم تعييش حياتك أنت ،ومن هنا ورايح الشبابيك دي هتفضل
مقفولة ،أنتم سامعني؟ هتفضل مقفولة ،مفيش شبابيك هتتفتح بعد النهارده،
مفيــش شبابيك ...
واهنارت وسقطت «راوية» عىل ركبتيها ،وبكت بكاء منعها من تكملة حروف
كالمها ،وبكت هبسترييا ،واحتضنت ابنيها بحنان بعد أن أخذت قرارها ،وفاقت
من أوهامها ،وتعلمت أن تغلق نوافذ وأبواب قلبها للريح ربام تسرتيح.
وعادت «راوية» لزوجها ،ومعها ابناها بعد أن قررت وحزمت أمرها عىل أن
حبها األول واألخري واألهم هو ابناها ،وأهنا لن تسامح نفسها أبدا إن تركت ابنتها
قرة عينها تعاين ما عانته هي يف بيتها حتى وصلت لبيت عالء ،وأال ترتكها للحياة
من خلف النوافذ ،وأن قدرها أن تكمل املعاناة صامتة صابرة ما دام التغيري سيصنع
من منى ابنتها حبيبة قلبها «راوية» جديدة.
ودخلت «راوية» عىل زوجها ،فابتسم وكأن رؤيتهم أعادت الصحة واحلياة يف
أوصاله من جديد ،واحتضن ابنيه وأخذ يطمئنهم عىل حالته وعىل عودته معهم قريبا
لبيتهم ،وقىض وقتا يمأل عينيه بصورهتام الربيئة اجلميلة ،ويتطلع نحو «راوية» بنظرة