‫وكان أكرب أسباب سعادهتا يتحقق حني تعود يف اليوم التايل لشقة الدور الثالث‪،‬‬
‫فتجد أشياءها التي غريهتا ثابتة مل يعرتض عليها سامح‪ ،‬بل تسمع من احلاجة نبيلة‬
‫أنه أثنى عليها وعىل ذوقها‪ ،‬فقد كانت ال تستطيع أن تفعل ذلك يف بيتها من دون أن‬
‫خترب زوجها وتنال موافقته‪ ،‬ويوم أن جربت أن تفعل ذلك نالت لوما وتقريعا واهتاما‬
‫بأهنا أمرأة فاضية‪ ،‬وأهنا تسببت يف خلخلة األثاث بتحريكه‪ ،‬وخدشته أثناء نقله‪،‬‬
‫كانت ال تستطيع اخلروج عن النص يف سيناريو حياهتا‪ ،‬وكان زوجها خمرجا‬
‫ديكتاتورا يرغمها عىل لعب دورها بالطريقة التي يراها مناسبة إلنجاح عرض احلياة‬
‫التي حتياها وال تشعرها‪.‬‬
‫أما ما أثار تعجب «راوية» وخجلها حني كانت تتجاذب أطراف احلديث مع‬
‫احلاجة ليىل وكانا يتكلامن عن معاناة سامح مع ابنه من يوم موت زوجته منى‪،‬‬
‫وكيف أن «زياد» مفتقد ألمه‪ ،‬كام أن سامح مفتقد لزوجته‪ ،‬وكيف أن احلياة يف البيت‬
‫انطفأت هبجتها مع انطفاء شمعة عمر والدة زياد لبنى‪ ،‬فقالت هلا «راوية» بعفوية‬
‫ودون قصد منها‪:‬‬
‫ وليه ما ختليش سامح ابنك يتجوز علشان ينسى لبنى واحلي أبقى من امليت؟‬‫وقتها ابتسمت احلاجة ليىل‪ ،‬وردت عىل «راوية» وفاجأهتا أهنا أم للبنى‪ ،‬الزوجة‬
‫املتوفاة‪ ،‬وليست أما لسامح‪ ،‬ورغم ذلك فإهنا ال متانع أبدا يف زواجه ممن تطمئن عىل‬
‫رعايتها لزياد‪ ،‬فخجلت «راوية»‪ ،‬واعتذرت‪ ،‬ولكن السيدة الطيبة قالت‪:‬‬

‫‪- 33 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ ما تعتذريش يا بنتي‪ ،‬أنت بتتكلمي صح‪ ،‬سامح من حقه يتجوز واحدة تاخد‬‫باهلا منه‪ ،‬وترعى ابنه‪ ،‬وأنا عمري ما هزعل‪ ،‬وال هقف يف طريقه‪ ،‬وبعدين سامح‬
‫مثال للزوج الطيب الكريم‪ ،‬عمره ما زعل بنتي‪ ،‬وال قاهلا حاجة ضايقتها‪ ،‬ده كان‬
‫حتى بيساعدها يف عاميل األكل‪ ،‬وشغل البيت ملا يكون إجازة يف البيت‪ ،‬عمره ما‬
‫قاهلا حاجة ضايقتها‪ ،‬وال عمرها اشتكت منه‪ ،‬عارفة؟ دول كانوا جمانني‪ ،‬مقضينها‬
‫سفر وفسح‪ ،‬كل إجازة له ياخدها ويسافروا ألي بلد‪.‬‬
‫وأخرجت من درج الكومود صورا لسامح ولبنى تبض باحلياة واملرح واحلب‪،‬‬
‫فرسحت «راوية» وختيلت نفسها مكان لبنى التي تركت هذه احلياة التي متثل حلام‬
‫من أحالم «راوية» ورحلت‪ ،‬كيف تسمح للموت أن خيطفها من حياة كتلك احلياة؟‬
‫وكيف يرتك املوت تعساء كراوية وخيتطف السعداء كلبنى والدة زياد وزوجة‬
‫سامح؟‬
‫وأكملت احلاجة ليىل كالمها وكأهنا تؤجج حطب التمني يف قلب املسكينة‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ كان بيفسحها وبيدلعها‪ ،‬ورغم إن عمرها قصري لكنها عاشت معاه اليل ستات‬‫كتري ال عاشته وال هتعيشه مع أزواجها يف سنني طويلة‪.‬‬
‫فردت «راوية» بحرسة‪:‬‬
‫ معاكي حق‪ ،‬العمر مش باأليام والسنني‪.‬‬‫‪- 34 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫فضحكت احلاجة ليىل وقالت وهي تربت عىل كتفها‪:‬‬
‫ علشان كده سامح ده ابني‪ ،‬وأنا نفيس أطمن عليه مع بنت احلالل اليل‬‫تستاهله‪ ،‬وعمري ما هزعل لو اجتوز‪ ،‬ما تلوميش نفسك يا بنتي عىل كلمة حق‬
‫قولتيها‪ ،‬هقوم أعملك شاي معايا‪.‬‬
‫ومضت احلاجة ليىل للمطبخ‪ ،‬وتركت «راوية» مع صور سامح ولبنى‪،‬‬
‫فتفحصتهم «راوية» من جديد‪ ،‬وهي تتأمل ضحكتهم‪ ،‬ودون تفسري واضح مدت‬
‫«راوية» يدها وخبأت صورة أعجبتها للزوجني السعيدين يف طيات مالبسها‪،‬‬
‫وعادت هبا لبيتها‪ ،‬ووضعتها أمامها‪ ،‬ووضعت يدهيا عىل خدهيا سارحة يف سيناريو‬
‫الصورة‪ ،‬ويف حوارها الذي يقوله عينا بطليها سامح ولبنى‪.‬‬
‫وشيئا فشيئا تعلقت «راوية» باحلاجة ليىل‪ ،‬حتى أهنا رأت فيها مثاال لألم التي‬
‫أحبت أن تكون أمها‪ ،‬فهي امرأة بشوشة‪ ،‬متفهمة‪ ،‬حمبة للدنيا‪ ،‬رغم حرماهنا من‬
‫ابنتها‪ ،‬غري أهنا تسمعها‪ ،‬وتعطيها املساحة لتقول رأهيا‪ ،‬وتعرتض وترفض وتعرب عام‬
‫تريد أن تقوله دون لوم أو إساءة‪ ،‬وقد كانت «راوية» تكره اللوم‪ ،‬وتتعود عىل‬
‫اإلساءة‪ ،‬وكانت والدهتا امرأة صارمة‪ ،‬جاءت الدنيا فقط لتلومها وتيسء إليها‪،‬‬
‫وتتهمها بكل ما ليس فيها‪ ،‬ثم متوت وتدعها ألحزاهنا وحدها‪.‬‬
‫ويوم وآخر وتوقفت «راوية» عن توزيع خياهلا عىل شقق ونوافذ اجلريان‪ ،‬وبقي‬
‫خياهلا معلقا بنافذة وحيدة‪ ،‬وبشقة واحدة فقط هي شقة الدور الثالت‪.‬‬
‫‪- 35 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫كانت تذهب للحاجة ليىل بعد انرصاف أوالدها ملدارسهم‪ ،‬وزوجها لعمله‪،‬‬
‫وتعود بيتها قبل عودة أوالدها من مدارسهم‪ ،‬عدا أيام اإلجازات‪ ،‬فتبقى بجانب‬
‫أوالدها‪ ،‬وتقوم بواجبها نحو الكل بال أي تقصري‪.‬‬
‫حتى جاء يوم تعب فيه زياد تعبا شديدا‪ ،‬وذهب به والده مرسعا إىل األطباء‬
‫فجرا‪ ،‬وعاد بشنطة مليئة بالدواء‪ ،‬وكان يوما من أيام اإلجازة التي ال تذهب «راوية»‬
‫فيها للحاجة ليىل‪ ،‬فاتصلت احلاجة ليىل براوية لتسأهلا عن نوع األكل الذي تقدمه‬
‫للصغري‪ ،‬وختربها بمرضه‪ ،‬فحزنت «راوية» حزنا شديدا‪ ،‬وطلبت من زوجها أن‬
‫تذهب لتطل عىل الصغري؛ ألهنا قد تعرفت بجدته‪ ،‬وتريد أن تساعدها يف متريض‬
‫الصغري‪ ،‬فنظر هلا نظرة غاضبة قوية‪ ،‬ودفعها يف كتفها بقوة‪ ،‬وهنرها زوجها عالء عىل‬
‫طلبها املفاجئ غري املعتاد‪ ،‬هذا وقال هلا‪:‬‬
‫ وأنا مايل باحلاجة زفت‪ ،‬وحفيدها هباب‪ ،‬أنت دورك يف البيت تراعيني أنا‬‫وعيالك وبس‪ ،‬هو أنت هتشتغيل ممرضة عىل آخر الزمن‪.‬‬
‫فرتددت «راوية» وقالت‪:‬‬
‫ نص ساعة وهرجع عىل طول‪.‬‬‫فصاح فيها غاضبا‪:‬‬
‫ وال نص وال ربع‪ ،‬ملا أنزل الشغل ابقي غوري يف ستني داهية تاخدك‬‫وتاخدها‪ ،‬إنام طول ما أنا يف البيت تفضيل جنبي وحتت رجيل تشويف طلبايت‪،‬‬
‫‪- 36 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وروحي دلوقتي اعملييل شاي‪ ،‬واعميل لنا حبة بسكوت وال شوية قرص نفطر‬
‫بيهم‪ ،‬وال نحبس بيهم جنب الشاي‪.‬‬
‫ومضت «راوية» من أمامه غاضبة‪ ،‬وصنعت له ما يريد وهي تنتفض قلقا عىل‬
‫الصغري‪ ،‬وقضت الليل ساهرة تطل من وراء النوافذ لتتبني األمر‪ ،‬وتسرتق السمع‪،‬‬
‫فتسمع بكاءه الذي يمزق قلبها‪ ،‬وما أن طلع الصبح وبعث احلياة يف الدنيا من جديد‬
‫حتى طارت «راوية» عىل احلاجة ليىل التي كانت منهكة القوى متاما بسبب سهرها‬
‫بجانب الصغري‪ ،‬وأبوه أيضا ذهب لعمله وهو مل ينم ولو لساعة واحدة‪ ،‬فأخذته‬
‫«رواية» منها وقالت هلا‪:‬‬
‫ ادخيل نامي شوية يا ماما ليىل وأنا هاخده يف حضني وهبقى أحاول أخليه ينام‪،‬‬‫ما تقلقيش‪.‬‬
‫فمضت احلاجة ليىل حلجرهتا وتركت زياد لراوية التي احتضنته بحنان وحب‬
‫صادق‪ ،‬وهنهنته وربتت عىل ظهره بحنان‪ ،‬وغنت له حتى نام‪ ،‬فأخذته لفراشه عىل‬
‫أطراف أصابعها‪ ،‬ونامت بجواره لتتأكد من نعاسه‪ ،‬وظلت حتملق فيه وتتأمله حتى‬
‫غلبها النوم هي األخرى ومل تدر بنفسها‪ ،‬وغابت يف غياهب جب النوم‪.‬‬
‫وأقبل سامح عائدا من عمله مبكرا؛ لالطمئنان عىل صحة ابنه‪ ،‬ونيل قسط من‬
‫النوم‪ ،‬وفتح باب البيت فوجد هدوءا يف البيت برشه باخلري‪ ،‬فتسحب عىل أطراف‬
‫أصابعه ودخل لغرفة ابنه النائم؛ ليكشف الغطاء عن جبينه ويقبله‪ ،‬فلمست أنفاسه‬
‫الدافئة وجنتي «راوية» التي كان يظنها جدته‪ ،‬ففتحت عينيها التي تالقت بنظرات‬
‫‪- 37 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫عيني سامح‪ ،‬فتسمر كل منهام مكانه‪ ،‬واعتذر سامح لرواية‪ ،‬وارتبكت «راوية»‬
‫وذهبت مرسعة إىل بيتها‪ ،‬ال تدري ماذا حل هبا‪ ،‬فقد كانت مشاعر «راوية» مشاعر‬
‫بكر عذراء رغم أعوام زواجها االثني عرش‪ ،‬ورغم إنجاهبا هليثم ومنى ولدهيا‪ ،‬ونور‬
‫عينيها‪ ،‬ورغم زوج ال يكف عن مبارشهتا بطريقته اآلمرة الناهية األنانية‪.‬‬
‫عادت «راوية» تنتفض وقد رسى يف جسدها تيار خدر ال تعرف له سببا‪ ،‬شعور‬
‫مغمور بالسعادة واألمل‪ ،‬واخلوف وتأنيب الضمري‪ ،‬ووضعت «راوية» يدها عىل‬
‫وجنتيها امللتهبتني بأنفاس سامح‪ ،‬ومضت للنافذة تطل منها‪ ،‬فوجدت سامح يف‬
‫رشفة حجرته يطل من نافذته عليها‪ ،‬ويبتسم هلا‪ ،‬فلم تدر بنفسها إال وهي تغلق‬
‫النافذة يف وجهه وتنتفض‪.‬‬
‫ودخلت مطبخها لتجهز طعام أوالدها‪ ،‬وعاد الصغار من مدرستهم بصخبهم‬
‫وصياحهم‪ ،‬وهي ال تسمع وال ترى وال تشعر إال بتوهج وجنتيها‪ ،‬وبريق المع يف‬
‫عينيها‪ ،‬وشيئا آخر يرسي يف أوصاهلا ال تعرف له وصفا أو سببا‪ ،‬ومل تدر إال وابنتها‬
‫تنادهيا عىل آثار دخان يتصاعد من آنية الطعام إثر احرتاق اللحم الذي كانت جتهزه‬
‫غداء ألوالدها‪.‬‬
‫وانتبهت لنفسها وحلق صغارها عليها‪ ،‬وصنعت هلم نوعا آخر من الطعام وهي‬
‫ما زالت سارحة شاردة حتاول أن تسيطر عىل نفسها‪ ،‬وعىل مشاعرها‪ ،‬وال تستطيع‬
‫أن تفرس كيف ألنفاس سامح التي المست وجنتيها لربع ثانية من الوقت تفعل هبا‬

‫‪- 38 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫كل هذا‪ ،‬وكيف مل تستطع اثنا عرش عاما قضتها تقاسم فيها عالء زوجها وسادة‬
‫واحدة‪ ،‬وغطاء واحدا ومل تشعر به كرجل أبدا؟‬
‫واستغفرت رهبا‪ ،‬وأقبلت تصيل وتصيل وتصيل طالبة الرمحة والعفو من خالقها‬
‫عىل شعور ليس هلا حيلة فيه‪ ،‬حتى عاد عالء زوجها مزجمرا كعادته‪ ،‬طالبا للطعام‪،‬‬
‫فأحرضته له وأطعمته‪ ،‬وجهزت له باراشوته البفتة‪ ،‬وهي تتطلع يف وجهه سامهة‬
‫سارحة يف ملكوت غري امللكوت‪ ،‬فصاح فيها عالء‪:‬‬
‫ مالك يا ولية؟ هتصوريني وال إيه؟ مالك بتبحلقي يف خلقتي كده ليه؟‬‫ثم ذهب خياله للمسار الغلط‪ ،‬ودعاها لتتبعه إىل غرفتهام‪ ،‬فيتحفها برؤيته بطاقمه‬
‫البفتة‪ ،‬ويف تلك الليلة حاولت «راوية» جاهدة أن تشعر به‪ ،‬أو تشعر بأي يشء بال‬
‫جدوى‪ ،‬حتى أعتقها ونام معتقدا بأنه قام بواجبه نحوها‪ ،‬وختيل نفسه وقتها قيرصا‬
‫رومانيا‪ ،‬عائدا لروما مظفرا بالنرص بعد أن سيطر عىل مترد‪ ،‬وكبح مجاح جيوش‬
‫األرض كلها‪ ،‬وأخضعها لسلطته‪.‬‬
‫ونام وظلت «راوية» ساهرة‪ ،‬وقامت واختلست النظر من خلف نافذهتا‪،‬‬
‫فلمحت سامح يدخن سيجارة يف رشفة غرفة نومه‪ ،‬وظنت «راوية» أنه مل يكن يراها‬
‫رغم أنه كان يسلط عينيه عىل بلكونتها‪ ،‬وأهنا وحدها هي التي تراه بوضوح‪،‬‬
‫وتعرتهيا فرحة غريبة كلام رفع عينيه نحو شباكها‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وطلع الصبح عىل يوم مكرر آخر من أيامها املكررة الرتيبة اململة‪ ،‬فقامت رواية‬
‫وأنجزت أشياءها‪ ،‬وذهبت للحاجة ليىل لتطمئن عىل زياد‪ ،‬وما أن دقت الباب حتى‬
‫فتح هلا سامح بنفسه‪ ،‬بشحمه وحلمه‪ ،‬وابتسامته ونظرة عينيه‪ ،‬فارتبكت «راوية»‬
‫ودخلت تنادي احلاجة ليىل‪ ،‬فأغلق سامح الباب واجته نحوها‪ ،‬وقال هلا‪:‬‬
‫ ماما ليىل مش هنا‪ ،‬أخدت زياد وسافرت‪ ،‬وهتيجي بكرة‪ ،‬عندها واجب يف‬‫القاهرة الزم تعمله النهارده‪.‬‬
‫فتسمرت «راوية» يف مكاهنا من املفاجأة‪ ،‬ثم اجتهت نحو الباب معتذرة‪ ،‬مغادرة‪،‬‬
‫فجذهبا سامح من يدها وقال‪:‬‬
‫ من فضلك اديني الفرصة أعتذر لك وأشكرك و‪..‬‬‫فجذبت يدها من بني يديه مرتبكة مبعثرة وقالت‪:‬‬
‫ من فضلك يا أستاذ سامح‪ ،‬لو سمحت ما يصحش كده‪.‬‬‫ أنا آسف‪ ،‬أنا ما أقصدش أبدا‪ ،‬املوضوع وما فيه إين خايف تكوين أخديت عني‬‫فكرة وحشة‪ ،‬وعاوز بس أوضحلك األمور‪.‬‬
‫ األمور واضحة‪ ،‬وبعدين يعني فكرة وحشة وال حلوة‪ ،‬هو احنا أصحاب‬‫علشان توضحيل وأوضحلك؟ املوضوع خلص خالص‪ ،‬واحنا مفيش بنا حاجة‬
‫أصال تستدعي الكالم ده‪.‬‬
‫فتجرأ سامح وقال‪:‬‬
‫‪- 40 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ أل يف بيننا‪ ،‬وأنا حاسس بيكي وأنت حاسة بيا‪ ،‬وأنا طول الليل سهران بفكر‬‫فيكي‪ ،‬وأنت كامن‪ ،‬أنا كنت شايفك من ورا الشباك سهرانة وبتفكري فيا‪ ،‬احنا بيننا‬
‫انجذاب سحري ملناش حيلة فيه‪ ،‬ومش قادرين نقاومه يا «راوية»‪ ،‬اسمك «راوية»‬
‫وأنت فعال «راوية»‪ ،‬عنيكي كتاب مفتوح ليل يقدر يقرا‪ ،‬ورواية ليل نفسه يعيش وأنا‬
‫قريتك يا «راوية»‪.‬‬
‫وسقطت «راوية» عىل أقرب كريس‪ ،‬واهنارت من شدة البكاء‪ ،‬فلم تكن تعرف‬
‫أن أحدا يف هذا الكون يكرتث حلاهلا‪ ،‬أو هيمه أمرها‪ ،‬أو أن أحدا يشعر هبا‪ ،‬أو يفهم‬
‫شعورها‪ ،‬ووضعت يدهيا عىل عينيها وأخذت تتحدث من خلف يدهيا ودموعها‬
‫املتساقطة كشالالت نياجرا‪:‬‬
‫ أنا زوجة وأم‪ ،‬والكالم ده ميصحش تقوله‪ ،‬وال يصح إين أسمعه يا سامح‪.‬‬‫فركع عىل ركبتيه أمام كرسيها اجلالسة عليه‪ ،‬وأمسك يدهيا‪ ،‬وأزاهلام من عىل‬
‫وجهها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ قدامك فرصة للحب والفرح‪ ،‬وأنا فرصتك يا راوية‪.‬‬‫واستجمعت رواية شجاعتها التي خانتها‪ ،‬وعقلها الذي أمخدته مشاعرها‪،‬‬
‫ودفعته بقوة أسقطته عىل ظهره‪ ،‬وذهبت مرسعة تتحصن يف بيتها‪ ،‬وتنتفض‬
‫وتستغفر‪ ،‬وتصيل هلل أن يبعد عنها الشيطان الذي سكن أمامها‪ ،‬واحتل حياهتا‬
‫الفارغة املكررة‪ ،‬املوزعة عىل رشفات اجلريان‪ ،‬وحقدت «راوية» عىل زوجها‪،‬‬
‫‪- 41 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫واشتعل قلبها كرها له‪ ،‬ولكن ليس له وحده‪ ،‬كرهت أباها وإخوهتا‪ ،‬وأهل الكرة‬
‫األرضية كلها ما عدا ابنيها‪ ،‬كانا كشعلة نور يف آخر طرقات الظالم الذي تعيش‬
‫فيها‪ ،‬فمسحت دموعها‪ ،‬وقامت لتصيل وحترض هلام طعامهام‪ ،‬فدق جرس التليفون‪،‬‬
‫ورفعت السامعة بعد أن ضبطت نربة صوهتا فوجدته هو‪ ،‬سامح عىل اخلط اآلخر‪،‬‬
‫ومل يقل هلا كالما كثريا‪ ،‬وإنام تنهد وقال هلا كلمة واحدة‪ ،‬قال هلا‪:‬‬
‫ أحبك‪.‬‬‫وكانت الكلمة الوحيدة‪ ،‬كالرضبة القاضية التي قضت عليها متاما‪ ،‬وأسقطت‬
‫مقاومتها أرضا بلمس أكتاف احلنني للحب واحلياة‪ ،‬فلم تستطع إغالق اخلط‪ ،‬ومل‬
‫تستطع كذلك الرد‪ ،‬فأكمل كالمه بنفس طريقته وقال‪:‬‬
‫ أحتاجك وحتتاجيني‪ ،‬يبقى ليه الكرب والتعنت؟ وليه نعذب نفسنا يا راوية؟‬‫ أنت عاوز مني إيه بالظبط؟‬‫ عاوزك أنت يا راوية‪.‬‬‫فأسقطت السامعة‪ ،‬وأغلقت اخلط يف وجهه‪ ،‬واستمدت قوهتا من جديد بوصول‬
‫أوالدها للبيت‪ ،‬فتشاغلت هبم وبطلباهتم‪ ،‬وتعلمت أن تغلق كل النوافذ حتى حتمي‬
‫نفسها من التطلع إىل الشقة التي يف الدور الثالث‪.‬‬
‫ويف اليوم التايل قررت أيضا أال تفتح النوافذ‪ ،‬وخرجت بعد خروج أوالدها‬
‫وزوجها تطوف األسواق‪ ،‬وانتقت أصعب أنواع الطعام‪ ،‬وعادت لتعده حتى‬
‫‪- 42 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫يستغرق كل وقتها‪ ،‬فال تفكر يف التطلع للنوافذ‪ ،‬ورفعت سامعة اهلاتف حتى ال‬
‫يستطيع سامح الوصول إليها‪ ،‬فقد كانت يف معركة كربى تقاوم فيها نفسها قبل أي‬
‫يشء‪ ،‬وعاد زوجها قبل موعده بساعات‪ ،‬وانفجر فيها معاتبا وقال‪:‬‬
‫ ممكن أعرف رافعة سامعة التليفون ليه؟ ده اسمه إمهال‪ ،‬ساعتني بحاول‬‫أكلمك والتليفون مشغول؟ ووضع السامعة بعصبية‪.‬‬
‫ أصيل كنت بعمل لكم األكل واألصناف كتري زي ما أنت شايف‪ ،‬فام خدتش‬‫بايل إن السامعة مرفوعة‪.‬‬
‫ ومني قالك تعميل أصناف كتري؟ وبعدين إيه اليل رفع السامعة كده؟‬‫ أكيد وأنا بنضفها رفعتها ونسيت أرجعها مكاهنا‪ ،‬معلش‪.‬‬‫فرد بعصبية‪:‬‬
‫ تعريف ده اسمه إيه؟ ده اسمه الترصف بغباء‪.‬‬‫فأطالت النظر له‪ ،‬وهو حيارضها ويصيح فيها‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫ معاك حق‪ ،‬اليل أنا بعمله ده اسمه فعال غباء‪.‬‬‫فمىض أمامها وقال‪:‬‬
‫ اعميل حسابك‪ ،‬خالص كلها شهر وال اتنني بالكتري وهننقل يف الشقة‬‫اجلديدة‪ ،‬أنا خالص اتفقت عليها‪ ،‬ومضيت العقد كامن‪.‬‬
‫‪- 43 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫فرصخت فيه ألول مرة يف حياهتا هبسترييا‪:‬‬
‫ مش هتنقل من هنا‪ ،‬ومش هروح يف أي حتة تانية‪ ،‬وبطل تعاملني عىل إين‬‫شنطة يف إيدك‪ ،‬أنا بني آدمة وليا رأي وشعور وإحساس والزم تفهم ده‪.‬‬
‫فتطلع فيها بنظرته القاسية اجلامدة وقال‪:‬‬
‫ طب يا بني آدمة يا اليل عندك شعور‪ ،‬وعندك رأي كامن‪ ،‬أحب آخد رأيك ما‬‫بني إنك هتدي وتسمعي الكالم وتيجي معايا البيت اجلديد أنا ووالدك‪ ،‬وما بني‬
‫إنك ترفيض‪ ،‬وساعتها هتبقي ما تلزمينيش‪ ،‬وهجيب اليل أحسن وأمجل منك مليون‬
‫مرة‪ ،‬عروسة جديدة يف البيت اجلديد‪.‬‬
‫فردت بعصبية‪:‬‬
‫ أحسن‪ ،‬أنا خالص مش قادرة أعيش معاك بالطريقة وباألسلوب ده‪ ،‬سيبني‬‫أنا ووالدي نعيش هنا‪ ،‬وروح أنت والعروسة اجلديدة اليل أحسن مني مليون مرة‪،‬‬
‫عيشوا واهتنوا يف بيتك اجلديد‪.‬‬
‫فنظر هلا من طرف عينيه وقال‪:‬‬
‫ غريبة‪ ،‬ده أنت مستبيعة قوي‪ ،‬مكنتش أعرف إنك كده‪ ،‬عموما علشان تبقي‬‫عارفة‪ ،‬والدي مش هيفارقوين‪ ،‬غوري أنت يف ستني داهية‪ ،‬لكن الوالد هيفضلوا‬
‫معايا‪ ،‬وهودهيم البلد عند أمي تربيهم‪ ،‬ومش هتشوفيهم تاين‪ ،‬علشان تعريف‬
‫تستبيعي يا ست «راوية» يا اليل عندك رأي وشعور‪.‬‬
‫‪- 44 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وتركها ومىض لغرفته‪ ،‬ومحل حقيبة هبا مالبسه وبراشوتاته وعاد‪ ،‬وقال هلا‪:‬‬
‫ أنا مسافر يومني مأمورية شغل مستعجلة‪ ،‬وهسيبك تفكري وهتدي شوية‬‫علشان تعريف ختتاري ما بني بيتك اجلديد وجوزك ووالدك وما بني إنك ترجعي‬
‫ألهلك لوحدك‪ ،‬وتنيس إن ليكي والد خالص‪ ،‬أصل أنت ملكيش يف الطيب‬
‫نصيب‪.‬‬
‫ودخل للمطبخ هبدوء بعد أن سقطت أمامه منهارة‪ ،‬وجلب بعض األطعمة التي‬
‫نضجت‪ ،‬والتي كانت تتشاغل هبا عن أحزاهنا معه وأخذ يتناول طعامه كأن شيئا مل‬
‫يكن‪ ،‬وفتح التالجة ورشب‪ ،‬وقرش إصبعا من موز وأكله دفعة واحدة‪ ،‬وجتشأ ومحل‬
‫حقيبته ومىض دون أن يلتفت هلا‪ ،‬وهي هامدة صامتة سارحة يف ملكوت ما بعد‬
‫املوت التي حتيا فيه‪.‬‬
‫ومع صوت غلق عالء للباب‪ ،‬ويف نفس اللحظة طلبها سامح عىل التليفون‪،‬‬
‫واستيقظ أوالدها عىل صوت غلق الباب بقوة بعد خروج عالء‪ ،‬وصوت التليفون‪،‬‬
‫وأرسعوا إليها‪ ،‬وارمتوا يف أحضاهنا‪ ،‬فتمزعت «راوية» ما بني باب الرمحة الذي‬
‫أغلقه عالء يف وجهها لتوه‪ ،‬وبني رنني احلب الذي يأتيها عرب أثري صوت سامح مع‬
‫رنني التليفون‪ ،‬وبني أحضان ولدهيا‪ ،‬وقرة عينها‪ ،‬وإكسري احلياة التي جيعلها تصرب‬
‫وحتتمل‪ ،‬فأخذت ولدهيا يف أحضاهنا وبكت‪ ،‬والتليفون ال يكف عن الرنني‪ ،‬وكأنه‬
‫اخللفية املوسيقية هلذا املشهد املأسوي‪ ،‬وظل سامح يعيد املحاولة غري يائس‪ ،‬فقامت‬
‫«راوية» وأمرت أوالدها بارتداء مالبسهم‪ ،‬وأخذهتم يف نزهة طويلة‪ ،‬اشرتت هلم‬
‫‪- 45 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫فيها احللوى‪ ،‬وطافت هبم ومعهم مدينة املالهي‪ ،‬وركبت معهم معظم األلعاب‪،‬‬
‫واستمتعت بصوت ضحكاهتم املجلجلة‪ ،‬وأحضاهنم الدافئة أثناء خوفهم من بعض‬
‫األلعاب‪ ،‬وعادت هبم يف آخر الليل وهم سعداء يرقصون حوهلا‪ ،‬ويغنون‪ ،‬وجهزت‬
‫هلم عشاءهم وأدخلتهم غرفتهم وقبلتهم ليناموا‪ .‬وبدت «راوية» وكأهنا تكفر عن‬
‫خطأ جسيم ارتكبته يف حقهم حني راودهتا نفسها ولو للحظات قليلة أن تقبل عرض‬
‫زوجها السخي جدا بأن حتظى بحريتها يف ممارسة حياهتا بالطريقة التي تتمناها‪.‬‬
‫ومن جديد رن جرس التليفون‪ ،‬ففزعت «راوية»‪ ،‬وخافت أن ترد عليه‪ ،‬خافت‬
‫من ضعفها‪ ،‬وقلة حيلتها‪ ،‬خافت من خوفها‪ ،‬ولكنها اضطرت آخر األمر أن جتيب‬
‫كي ال توقظ ولدهيا بعد أن ناما‪ ،‬وكان الطالب عىل اخلط اآلخر سامح‪ ،‬ومل يعطها‬
‫الفرصة لغلق اخلط‪ ،‬وبدأ أول كالمه هلا بإعالن حبه‪ ،‬وقال بحزم وقوة‪:‬‬
‫ بحبك يا رواية‪ ،‬أرجوك ما تقفليش اخلط‪ ،‬واسمعيني لآلخر‪ ،‬لو سمحت أنا‬‫رجل ناضج مش شاب مراهق‪ ،‬وأنا فعال بحبك من ساعة ما وقعت عيني عليكي‪،‬‬
‫شئ اكرب منى بيشدين ليكي‪ ،‬ومش قادر أقاومه‪ ،‬أنا حاسس انى مسئول عنك عن‬
‫سعادتك ان دروى هو انى ارجع لك ابتسامتك الغايبة حاسس إنك حاجة بتاعتي‬
‫أنا‪ ،‬وملكي أنا بس مش ملك حلد غريى ‪.‬‬
‫فأجابت «راوية» بعصبية‪:‬‬
‫ أنا ملك نفيس‪ ،‬وملك والدي‪ ،‬أنا مش بتاعة حد‪ ،‬ارمحوين بقى وسيبوين‬‫يف حايل‪.‬‬
‫‪- 46 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وأكملت وكأهنا تذكرت شيئا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ طب ما أنت كنت بتحب لبنى مراتك‪ ،‬وتالقيك كنت بتقوهلا كده باردو‪،‬‬‫ودلوقتي نسيتها‪ ،‬وبتحب غريها‪ ،‬وبكرة حتب غريها وغريي‪ ،‬أنتم كلكم كده‬
‫خملوقات أنانية‪ ،‬مبتعرفوش حتبوا أصال‪.‬‬
‫ أيوة أنا كنت بحب مرايت‪ ،‬وعمري ما هنساها‪ ،‬بس أنا من حقي إين أعيش‪،‬‬‫وأحب تاين زي ما أنت من حقك حتبي وتعييش ‪.‬‬
‫ أنا عايشة ومبسوطة‪ ،‬ومن فضلك سيبني يف حايل لو سمحت‪.‬‬‫فاج أ ها سامح ب آ خر سهم يف جراب حربه الرشسة ؛ الخضاع القلعة‬
‫احلصينة وقا ل‪:‬‬
‫ أنت ست ميتة‪ ،‬واقفة بتتفرجي عىل احلياة من ورا الشبابيك‪ ،‬أنا متابعك‬‫وشايفك‪ ،‬وعايش معاكي وحاسس بيكي‪ ،‬أنت واقفة عىل شط احلياة تتابعي الناس‬
‫اليل عايشة حواليكي وأنت ميتة‪ ،‬اطلبي الطالق يا راوية‪ ،‬حقك تنهي تعاستك‬
‫بإيدك‪ ،‬وتنزيل بحر احلياة وحتبي وتتحبي‪.‬‬
‫فلم جتيب «راوية»‪ ،‬وصمتت متاما‪ ،‬فقد أجلمتها كلامته بلجام من نار‪ ،‬وتأكدت‬
‫من كالمه أنه يفكر فيها‪ ،‬ويتابعها‪ ،‬وليس جمرد شخص يستغل ضعفها‪ ،‬ويراودها‬
‫عن نفسها‪ ،‬وأغلقت اخلط‪ ،‬وذهبت إىل غرفتها‪ ،‬وقضت الليل جالسة يف الظالم‬
‫تعيد عرض رشيط حياهتا كله‪.‬‬
‫‪- 47 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وطلع الصبح وهي مل تذق النوم ولو لساعة‪ ،‬وأيقظت أوالدها ليذهبوا ملدرستهم‬
‫وتبقى وحيدة تدور يف غرف بيتها ال تعرف ماذا تفعل‪ ،‬وماذا تريد‪ ،‬ونظرت‬
‫للتليفون‪ ،‬وانتظرت أن يرن رناته التي ختافها‪ ،‬لكنه بقي صامتا هامدا كقلبها‬
‫الضعيف الذي أهنكته حرب طويلة من التمني‪ ،‬والتطلع ألبسط حقوقه يف احلب‬
‫واحلياة‪ ،‬واطل الليل عليها وهي عىل حاهلا منتظرة رنات التليفون‪ ،‬ولكنه أيضا مل‬
‫يرن‪ ،‬وطلع الصبح لليوم التايل‪ ،‬وهي تنظر للتليفون‪ ،‬وتنتظر رنة احلياة‪ ،‬ولكنها مل‬
‫تدب فيه‪ ،‬وبقي صامتا‪ ،‬صامدا‪ ،‬هامدا‪ ،‬ال يرن كام لو كان يعاندها كباقي أحداث‬
‫حياهتا‪ ،‬فلم تدر بنفسها إال وهي ترتدي ثياهبا وتغادر بيتها‪ ،‬وتصعد للشقة التي يف‬
‫الدور الثالث‪ ،‬وتدق عليها بقوة وبعنف‪ ،‬وكأهنا ترضب أقدارها‪ ،‬وكأهنا تقتص يف‬
‫باب الشقة لكل ما حدث هلا‪ ،‬ففتح هلا سامح الباب‪ ،‬فارمتت يف حضنه تبكي وتبكي‬
‫وتقول‪:‬‬
‫ أنا إنسانة حمرتمة‪ ،‬أنا عمري ما كنت خاينة يا سامح‪ ،‬أنا عمري ما كنت‬‫خاينة‪ ،‬صدقني‪.‬‬
‫فضمها لصدره بقوة فنامت يف صدره‪ ،‬وأعادت كالمها‪:‬‬
‫ أنا مش خاينة يا سامح‪ ،‬أنا مش خاينة‪ ،‬وأخذت تبكي وتبكي‪ ،‬فرتكها سامح‬‫حتى هدأت متاما‪.‬‬

‫‪- 48 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ثم أجلسها‪ ،‬وقدم هلا كوبا من العصري‪ ،‬تناولته بيدها املرتعشة‪ ،‬ورشبت وهي‬
‫ترتعش وتنتفض بجنون من انفعاهلا وبكائها‪ ،‬وكررت كلمتها للمرة العارشة بعد‬
‫املائة وقالت‪:‬‬
‫ أنا مش خاينة يا سامح‪.‬‬‫فجلس أمامها سامح‪ ،‬وفاجأها برده الغريب عليها‪ ،‬وكأنه كومة من القش عىل‬
‫ظهر بعري بائس‪ ،‬قصمت احلياة ظهره قبل أن يرفعه‪ ،‬ويتطلع نحو الشمس‪ ،‬باحثا‬
‫عن مكان يؤويه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ حلد إمتى يا «راوية»؟ حلد إمتى تفضيل مش خاينة؟‬‫فرفعت برصها نحوه تستفهم عن معنى سؤاله‪ ..‬فأكمل‪:‬‬
‫ أنا عارف إنك مش خاينة‪ ،‬بس هي كل ست خاينة يف الدنيا اتولدت خاينة‬‫علشان تفضيل ست مش خاينة؟ يبقى الزم تطلبي الطالق ونتجوز‪.‬‬
‫فردت بعصبية‪:‬‬
‫ لو مكنتش ظهرت يف حيايت كان زماين عايشة وراضية ؛ ظهورك خلبط حيايت ‪.‬‬‫ أي حياة؟! حياة املوت اليل أنت عايشاها يف بيتك؟ وال حياة الفضول اليل‬‫اخرتعتيها لنفسك يف بيوت جريانك؟ فوقي بقى واحلقي أمجل سنني عمرك قبل ما‬
‫تضيع منك‪ ،‬وأنت بتتفرجي عىل حياة الناس حواليكي ومش عايشة حياتك‪ ،‬أنا ملا‬
‫لبنى ماتت كنت هتجنن‪ ،‬ولقيت نفيس بعمل زيك كده‪ ،‬وبتفرج عىل حياة الناس من‬
‫‪- 49 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ورا شبابيكهم‪ ،‬وبعيش فيها معاهم‪ ،‬وبعدين بقيت أجيب قصص وروايات وأعيش‬
‫حياة أبطاهلا حلد ملا شوفتك‪ ،‬والحظت إنك بتعميل زيي‪ ،‬وبتتابعي حياة الناس من‬
‫ورا شبابيكهم‪ ،‬وحسيت بيكي‪ ،‬وحسيت إين مسئول عنك‪ ،‬مسئول إين أرجعلك‬
‫حياتك‪ ،‬وأنا بدور عىل حيايت‪ ،‬احنا اختلقنا لبعض يا «راوية»‪.‬‬
‫ ووالدي يا سامح؟ أنا ما أقدرش أعيش من غري والدي‪ ،‬وعالء بيهددين إنه‬‫هياخدهم من لو سبته‪ ،‬وهيودهيم ملامته‪ ،‬وممكن ما أشوفهمش تاين‪.‬‬
‫ مستحيل ده حيصل‪ ،‬عمر األب مهام كان جربوته ما حيرم أم من أوالدها‪ ،‬وأنا‬‫أوعدك إين أقف جنبك وأساعدك‪ ،‬بس أنت بردو الزم تساعدي نفسك‪ ،‬متسكك‬
‫بحياة أنت كارهاها علشان والدك‪ ،‬مش يف صالح والدك‪ ،‬ممكن تتعيس نفسك‬
‫وتتعسيهم معاكي‪ ،‬ملا يرتبوا يف بيت كله كره ومشاكل ممكن ما تقدريش تكميل يف‬
‫صورة الزوجة اليل مش خاينة‪ ،‬وتوصميهم بعار يفضل معاهم طول حياهتم‪ ،‬وهو‬
‫ربنا ملا خلقنا ورشع الطالق بني الزوجني اشرتط إن ما يكونش عندهم أطفال‬
‫علشان يطلقوا؟ ربنا ألنه عادل ادالنا حرية إننا نكمل حياتنا بالطريقة اليل تناسبنا من‬
‫غري ما نعصاه‪ ،‬وال نغضبه‪ ،‬فكري يف كالمي‪ ،‬وهتالقي إين عندي حق‪ ،‬وأنا مستني‬
‫منك رد‪ ،‬خدي الوقت اليل أنت عاوزاه يف التفكري‪ ،‬وأوعدك إين مش هأثر عليكي‪،‬‬
‫وال هحاول أتصل بيكي‪ ،‬بس اوعديني يا راوية أنت كامن إنك تفكري‪ ،‬وأيا كان‬
‫قرارك أنا هوافق عليه‪ ،‬وهحرتمه‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وعادت «راوية» لبيتها وكأهنا أزاحت جبال من احلديد عن صدرها‪ ،‬واتفقت‬
‫بينها وبني نفسها أن تفكر يف األمر‪ ،‬وما أن خطت خطوات نحو مطبخها لتعد‬
‫الطعام ألوالدها حتى رن التليفون‪ ،‬فاجتهت نحو تليفوهنا وهي تضحك وتقول‬
‫لنفسها بدالل مل تعهده يف نفسها‪ ،‬كام لو كانت تفض غالف أنوثة فابريكا ما زال‬
‫بتكت صنع اخلالق مل يسبق هلا استعامله من قبل‪:‬‬
‫ أوام يا سامح رجعت يف كالمك واتصلت بيا؟ ما قدرتش تصرب وتنفذ‬‫كالمك؟‬
‫وانفرجت أسارير وجهها‪ ،‬وعلت االبتسامة العريضة شفتيها‪ ،‬وقالت بنعومة‬
‫وصوت راقص من الفرحة وهي تضبط خصلة طائرة من شعرها عىل جبينها‬
‫العاجي املتأجج باحلمرة‪.‬‬
‫ ألووووو‪..‬‬‫ولكن رسعان ما زبلت ابتسامتها‪ ،‬ودقت صدرها بقوة وهي ترصخ‪:‬‬
‫ يا هلوي‪ ،‬اسرت يا رب‪ ،‬أنا جاية حاال‪ ،‬السرت من عندك يا رب‪.‬‬‫ورمت السامعة‪ ،‬وطافت الشقة تبحث عن ثياهبا وهي متوترة مستغفرة‪ ،‬تدعو اهلل‬
‫أن يسرتها بسرته‪ ،‬فقد كان املتكلم طوارئ مستشفى أبلغوها أن زوجها عندهم يف‬
‫حالة خطرية‪ ،‬وقد تعرض حلادث كبري وهو عائد من سفره عىل الطريق‪.‬‬

‫‪- 51 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫وسجدت «راوية» هلل تستغفره وتدعوه وترجوه بأن ينجي عالء‪ ،‬وأن يطيل يف‬
‫عمره من أجل أوالده‪ ،‬وطارت «راوية» عىل مكان املستشفى ترتعش خوفا عىل‬
‫زوجها وأب ابنيها‪ ،‬ومل تكن حالته مطمئنة‪ ،‬فقد كان الشاش يعلو وجهه‪ ،‬ويلتف‬
‫نحو خرصه ليهبط مع منحنيات جسده حتى يكتف قدميه‪ ،‬وتقدمت منه «راوية»‬
‫وهو غائب عن الوعي متاما‪ ،‬وأخذت تبكي وتناديه ليفتح عينه وهو ال يسمعها‪ ،‬وال‬
‫يشعر هبا‪ ،‬وال بالدنيا من حوله‪ ،‬وبقيت طوال الليل تدعو له وتستغفر لذنبها‬
‫ولفعلها‪ ،‬وجاءت أمه من البلد لتقاسمها القلق واللوعة التي تعترص قلبها‪ ،‬وكياهنا‬
‫كله‪ ،‬ثم أمرهم الدكتور باالنرصاف‪ ،‬فطلبت من والدته أن تبقى بجوار الصغريين‬
‫وهي ستقيض الليل معه حتى تطمئن عليه‪ ،‬وعادت أمه لرتعى الصغار‪ ،‬وبقيت‬
‫«راوية» بجانب عالء ال حتول عينيها من عليه تطمئن عىل أنفاسه‪ ،‬وتبكي عىل صدره‬
‫وتقرأ القرآن تقربا إىل اهلل ليزيح عنه‪ ،‬ويعيده ألوالده‪ ،‬ورغم خوفها وقلقها‬
‫وجنوهنا‪ ،‬لكنها مل تقل يف أي دعوة من دعواهتا وهي حتدث اهلل عنه أن يشفيه هلا‪ ،‬مل‬
‫تطلب من اهلل يف دعواهتا الكثرية الكسرية رغم رعبها عليه وصدقها يف خوفها من‬
‫فقده أن يعيده اهلل إليها‪ ،‬كانت دائام تطلب من اهلل أن يعيده ألوالده‪ ،‬وكأن كل ما‬
‫يربطها به وكل ما يربطه باحلياة أوالده فقط‪.‬‬
‫ومىض الليل ثقيال طويال‪ ،‬وطلع الصبح عىل عيون «راوية» التي مل تغمض‪،‬‬
‫وعالء عىل نفس حالته‪ ،‬وال جديد يقوله األطباء عنه‪ ،‬ومر يوم وآخر وراوية بجانبه‬

‫‪- 52 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ال ترتكه‪ ،‬وال تفكر أن ترتكه‪ ،‬وتدعو نفس دعوهتا الصادقة له بأن يعيده اهلل ساملا‪،‬‬
‫معاىف ألوالده‪ ،‬ألوالده فقط‪.‬‬
‫وغفلت عيوهنا رغام عنها‪ ،‬فصحت عىل صوته ينادهيا‪ ،‬فلم تتاملك نفسها من‬
‫الفرحة‪ ،‬وأرسعت إليه‪ ،‬ففتح عينيه‪ ،‬ونظر هلا بامتنان وابتسم‪ ،‬وحاول أن يتكلم‪،‬‬
‫فلم تساعده احلروف‪ ،‬أما هي فأرسعت إليه وهي تبكي‪ ،‬وحتمد اهلل عىل سالمته‪،‬‬
‫وتدعو له‪ ،‬وتربت عىل صدره حتى غاب عن الوعي من جديد‪ ،‬وجاءها األطباء‬
‫وطمأنوها أن حالته استقرت‪ ،‬وأنه يستجيب للعالج‪ ،‬وأن الكسور مسألة وقت‬
‫وسيعود ساملا معاىف بإذن اهلل‪ ،‬وطلبت أمه منها أن تعود لبيتها؛ لتأخذ محاما دافئا‬
‫وتسرتيح ثم تعود له من جديد بعد أن تسرتيح قليال‪ ،‬عىل أن تبقى أمه بجانبه حتى‬
‫تعود‪ ،‬فوافقت ألهنا كانت منهكة من التعب‪ ،‬وألهنا اطمأنت عىل حالته من كالم‬
‫األطباء‪ ،‬وعادت «راوية»‪ ،‬وطول الطريق ال ترى غري عالء‪ ،‬وصورة عالء‪ ،‬وال‬
‫تنطق إال دعاء له بالشفاء‪ ،‬والعودة لولديه ساملا‪ ،‬وكان يشء ما داخلها يلجم لساهنا‬
‫فال تكمل دعوهتا بأن يعود هلا هي أيضا‪ ،‬يشء يتمنى له أن يعود للحياة ساملا معاىف‬
‫لبيته وأوالده‪ ،‬ويشء آخر فيها ال يريده هلا‪ ،‬وال يريدها أن تكمل معه‪ ،‬وعادت لبيتها‬
‫متلهفة عىل أوالدها‪ ،‬ودخلت بيتها واحتضنتهم بعينيها وقلبها‪ ،‬فوجدت بيتها نظيفا‬
‫منظام هادئا‪ ،‬ووجدت أوالدها مهندمني نظيفني‪ ،‬فاطمأنت لرعاية جدهتم هلم‪،‬‬
‫وأخذت محامها الدافئ ودخلت حجرهتا لتأخذ قسطا من الراحة‪ ،‬وأول ما فعلته‬

‫‪- 53 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫حني اختلت بنفسها يف حجرهتا أن أغلقت شبابيك اجلحيم؛ لتحجب عنها التطلع‬
‫نحو شقة الدور الثالث‪.‬‬
‫وجلست «راوية» عىل فراشها‪ ،‬واستجمعت رشيط حياهتا‪ ،‬وحدثها شيطان لعني‬
‫حديثا ظلت هتز رأسها لتسقط بذوره من فكرها‪ ،‬حتى ال ينبت أشجارا يف جنة وهم‬
‫حتيا فيها‪ ،‬ولو يف اخليال‪ ،‬وقال هلا شيطاهنا‪:‬‬
‫ وما املانع بعد أن تطمئن عىل صحة عالء أن تطمئن هي األخرى عىل نفسها يف‬‫حياة توفر هلا احلب الذي حرمت منه‪ ،‬واالهتامم الذي منعت منه يف دنياها‪.‬‬
‫فهزت رأسها لتسقط الفكر اللعني الذي ينهش رأسها‪ ،‬فال حياة هلا بعيدا عن‬
‫ولدهيا‪ ،‬ولكنه عاد ووسوس هلا‪:‬‬
‫ وما املانع لو استطاعت رؤيتهام واالطمئنان عليهام مع جدة ترعامها وحتافظ‬‫عليهام‪ ،‬خاصة أن األوالد الذين يضحي آباؤهم وأمهاتم يف سبيل سعادهتم حني‬
‫يكربون ينشغلون بحياهتم‪ ،‬ويعيشون يف عاملهم بعيدا‪ ،‬ويرتكون آباءهم وأمهاهتم‬
‫ليكملوا وحدهم طريق تعاستهم‪ ،‬وما املانع أن حتب وتعيش؟‬
‫وغلب «راوية» نوم التعب‪ ،‬فسقطت مغشيا عليها‪ ،‬ونامت وحلمت بنفسها مع‬
‫سامح يف كل أوضاع الصور املجنونة التي تبض صخبا وحبا وحياة‪ ،‬تلك التي رأهتا‬
‫يف بيته مع زوجته املتوفاة‪ ،‬والتي أطلعتها عليها احلاجة ليىل‪ ،‬كانت تضحك بجنون‪،‬‬
‫وكان سامح يف احللم أوسم وأرق مما هو يف احلقيقة‪ ،‬وكانت سعادهتا ال توصف‬
‫‪- 54 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫حتى أهنا كانت مبتسمة أثناء نومها‪ ،‬إىل أن صحت عىل صياح ابنيها وشجارمها معا‪،‬‬
‫فتقلبت يف فراشها‪ ،‬ووضعت الوسادة عىل رأسها حتى ال تستيقظ من حلمها‬
‫اجلميل‪ ،‬ولكن شجارمها عال صوته أكثر وأكثر‪ ،‬فلم تستطع أن تكمل نومها‪،‬‬
‫وقامت غاضبة‪ ،‬وما أن فتحت باب حجرهتا حتى رأت ابنها هيثم يصفع أخته عىل‬
‫وجهها‪ ،‬ويأمرها أن تسمع لكالمه؛ ألنه أخوها الذكر وهي األنثى التي ال تناقش‪،‬‬
‫وإنام تطيع أو تصفع عىل وجهها إن عصت كالم الذكور من أهلها‪ ،‬فانزعجت‬
‫« راوية»‪ ،‬وقامت جتري نحوه كاملجنونة‪ ،‬وقالت بعصبية وهستريية وهى هتزه‬
‫بعنف وغضب وقوه بعد ان تبدل صوهتا وتغريت مالمح االم الطيبة احلنونه‬
‫وهى تنظر لولدها‪:‬‬
‫ أنت مني قالك الكالم ده يا زفت أنت؟ وازاي تعمل كده يف أختك؟‬‫فخاطبها بثقة وغطرسة ذكورية كاذبة‪:‬‬
‫ تيتا قالتيل كده‪.‬‬‫فاحتضنت ابنتها بحنان وقالت‪:‬‬
‫ ستك كالمها غلط‪ ،‬واوعى متد إيدك عىل أختك مرة تانية‪ ،‬أنت فاهم؟ أنا ما‬‫علمتكش كده‪ ،‬والزم تسمع كالمي أنا‪.‬‬
‫فبكت ابنتها حنان وهي تقول‪:‬‬

‫‪- 55 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫ طول الوقت تيتا تقول هليثم كده‪ ،‬أنت الراجل‪ ،‬وأنت الكبري‪ ،‬وهي بنت‪،‬‬‫والزم تتعود تسمع كالمك‪ ،‬هيثم كان متغري خالص يا ماما وعاجبه الكالم‪.‬‬
‫ وليه ما قولتليش يا حنان؟ كنت رضبتهولك وعرفته ازاي يعامل أخته؟‬‫ علشان أنت ما كنتيش معانا‪ ،‬وكنت خايفة ما ترجعيش‪.‬‬‫واهنارت ابنتها يف البكاء‪ ،‬فضمتها «راوية» وقالت هلا وهى ىف واقع االمر حتدث‬
‫نفسها أيضا‪:‬‬
‫ أنا هنا جنبك يا حبيبتي‪ ،‬وعمرى ما هسيبك‪ ،‬وال هسيب حد يضايقك ويقلل‬‫منك‪ ،‬حتى لو كان أخوكي أو جدتك‪.‬‬
‫وفاقت «راوية» من أحالمها متاما‪ ،‬واحتضنت ابنتها التي طرقت أسياخ احلديد‬
‫الساخنة يف قلب «راوية» وقالت‪:‬‬
‫ أنا فجأة لقيت نفيس لوحدي من غريك ومن غري بابا‪ ،‬وبقيت أبص عىل كل‬‫شبابيك أصحايب اليل ساكنني حواليا أالقيهم جنب أهاليهم بيتغدوا مع بعض‪،‬‬
‫وبيضحكوا مع بعض‪ ،‬كنت أزعل وأختيل نفيس مكاهنم‪.‬‬
‫فهزهتا «راوية» بعنف وهو تقول‪:‬‬
‫ أنت عندك حياة‪ ،‬وعندك ماما‪ ،‬وبابا جنبك ومعاكي وبيحبوكي‪ ،‬اوعي تبيص‬‫عىل شبابيك جريانك‪ ،‬فامهة؟ مالكيش دعوة بشبابيك اجلريان‪ ،‬أنت سامعة؟ عييش‬
‫حياتك‪ ،‬وافتحي كتبك ولعبك‪ ،‬واوعي أشوفك واقفة يف شباك أو يف بالكونة تبيص‬
‫‪- 56 -‬‬

‫أحبك ولكن‪ ..‬غادة العليمي‬
‫عىل حياة حد‪ ،‬الزم تعييش حياتك أنت‪ ،‬ومن هنا ورايح الشبابيك دي هتفضل‬
‫مقفولة‪ ،‬أنتم سامعني؟ هتفضل مقفولة‪ ،‬مفيش شبابيك هتتفتح بعد النهارده‪،‬‬
‫مفيــش شبابيك ‪...‬‬
‫واهنارت وسقطت «راوية» عىل ركبتيها‪ ،‬وبكت بكاء منعها من تكملة حروف‬
‫كالمها‪ ،‬وبكت هبسترييا‪ ،‬واحتضنت ابنيها بحنان بعد أن أخذت قرارها‪ ،‬وفاقت‬
‫من أوهامها‪ ،‬وتعلمت أن تغلق نوافذ وأبواب قلبها للريح ربام تسرتيح‪.‬‬
‫وعادت «راوية» لزوجها‪ ،‬ومعها ابناها بعد أن قررت وحزمت أمرها عىل أن‬
‫حبها األول واألخري واألهم هو ابناها‪ ،‬وأهنا لن تسامح نفسها أبدا إن تركت ابنتها‬
‫قرة عينها تعاين ما عانته هي يف بيتها حتى وصلت لبيت عالء‪ ،‬وأال ترتكها للحياة‬
‫من خلف النوافذ‪ ،‬وأن قدرها أن تكمل املعاناة صامتة صابرة ما دام التغيري سيصنع‬
‫من منى ابنتها حبيبة قلبها «راوية» جديدة‪.‬‬
‫ودخلت «راوية» عىل زوجها‪ ،‬فابتسم وكأن رؤيتهم أعادت الصحة واحلياة يف‬
‫أوصاله من جديد‪ ،‬واحتضن ابنيه وأخذ يطمئنهم عىل حالته وعىل عودته معهم قريبا‬
‫لبيتهم‪ ،‬وقىض وقتا يمأل عينيه بصورهتام الربيئة اجلميلة‪ ،‬ويتطلع نحو «راوية» بنظرة‬