أحببت السراب - 4
وذقت مرارته على كبر ووعي وإدراك..كدمعة
يتيمة تنتظر أي فرصة لتنهمر ،لتبكي،
وتصرخ ،حتى تغسل داخلها من األحزان...
بقيت وحدي أتأمل الجدران المحترقة المتآكلة
كقلبي تماما ،ال يميز بينهما أي شيء ،فقلبي
المكلوم ،كبناء متهتك محترق من الداخل ،يبدو
من الخارج كبيت ومن داخله كقبر!
147
مضت فترة كبيرة ،تحيا الروح بداخلي مأسورة،
تبكي في صمت ،وتئن في صمت ،وتشكو في
صمت ..حتى أصبحت ال أعرف من اللغات
غيره ،وال أتقن من التواصل سواه ،الصمت هو
اإلجابة الهاربة عن كل ما ال نستطيع اإلجابة
عنه ،وما ال تمكننا أنفسنا من البوح به...
وبعد ذلك أخبرتني صديقة بأن أحدهم يرغب في
الزواج بي ،أصابتني الدهشة فعلى حد ما نما
إلي معرفتي المتواضعة أن األشباح ال يمكنها
االهتداء إلى المشاعر ،وال تعرف السعادة ،وال
تميز الشقاء ،فقط تحيا بصمت ،وهذا ما كنت
أفعله بإتقان ،ألحت علي في مطلبه كثيرا ،وفي
كل مرة كنت أقابل عرضها بالرفض ،حتى
سبب هللا من اللقاء ما شاء ،والتقيته قدرا
148
بالمشفى إثر تعرضي لحالة إغماء ،و َج ّمل هللا
قدري بالزواج منه؛ فقد كان أكثر مثالية من
الصورة التي يتمناها الجميع ،إال تلك العقبة التي
كانت بمثابة اختبار بالنسبة إلي....
كانت أزمة حياتي الوحيدة تكمن في والدة
زوجي حسام ،الوالدة التي ترى في اختيار
ولدها زوجا وفق رغبته ،عصيان علني،
وخروج عن مقدسات الطاعة الواجبة ،وبدال من
أن تحاول تقبل الحق والتعايش مع الحقيقة،
كانت تلقي بكل أنواع اللوم على عاتقي ،لم
تترك أمرا لم تعنفني عليه ،ولوما لم تصدره
لي ،لقد سخرت بكل ما أوتيت من قوة ،حتى
أنها كانت تسخر من كوني يتيمة!
149
وتتهمني بأنني نذير شؤم قد سلبت والداي
حياتهما!
وهل يالم المرء على قدره ،ومالم يملك من
أمره؟!!
هل يختار ابتالءه ،ويستعذب اختباره؟!
ورغم كل ما نرى ونسمع من رزايا هنا
وهنالك في اآلونة األخيرة ،إال أنها ال تناهض
معشار أم زوجي ،فقد كانت اختباري األشق
على االطالق...
اضطررت إلى تحملها ،واالستماع إلى إساءتها
بصورة يومية ،أثناء ذهابي للعمل ،حتى في
أوقات إجازتي لم تكن لتدخر تلك اإلهانات ليوم
آخر ،بل كانت تصعد إلى منزلي وتوجهها على
مرأى ومسمع من زوجي ،الذي لم يقو على
150
مجابهتها طويال؛ فمع الوقت أصبحت تطاله هو
اآلخر ،وضاق بها ذرعا ،حتى بلغ األمر
بالنهاية إلى إصابته بمرض مزمن.
أصبحنا نجتنب لقاءها ونتجاهل الكثير من
كلماتها ،حتى باغتنا كابوس من نوع آخر ،لقد
تزوج األخ األصغر لزوجي ،بعروس من
اختيار الوالدة ،وفق مقاديرها ومعاييرها
الكاملة-على حد اعتقادها...-
لطالما عقدت بيننا مقارنات كان العامل األول
فيها هو اإلجحاف والظلم ،فمهما أحسنت إليها
كانت تعده إساءة ،وتأوله على غير وجهه،
وتلبسه غير ثوبه ،وتعلل لألخرى مهما فعلت،
وكل ما فعلت هو الصواب ،وال صواب في
غيرها فعلها أبدا!!
151
حينها راودنا التفكير في بناء بيت جديد،
والهروب من سجن تلك المعاناة؛ فزوجي
المريض لم تعد حالته تسعه تحمل المزيد من
اآلالم ،وتقدمت حالته المرضية كثيرا ،ال سيما
وقد رزقت الجارة بتوأم ،وأصبحت الحماة تنحر
قلبي في كل حين ،وتعيرني بتأخر رزقي في
األوالد ،وتعاتب زوجي بأن هذا هو جزاء
عصيان أمرها...
وبالفعل عقدنا العزم على بناء منزل بعيد عن
كل تلك اإلساءات ،فحتى لو كان صغيرا،
فاتساع الرضا والقناعة قادر على أن يحوي
الدنيا بأكملها..
وحرصا منا على سرعة االنتقال ،اقترضنا
مبلغا كبيرا من بعض المحسنين الذي لم يتردد
152
في مساعدتنا عندما علم بحجم تلك المأساة التي
نخوضها في صمت تام...
ثم كانت بعض تلك اللطائف التي يهبها هللا من
يشاء من عباده ،لقد اكتشفت أنني أحمل بين
أحشائي روحا أخرى ،وومضة من السعادة
تسري الكثير من األلم الذي خيم على زواجنا
منذ بدايته...
لم يكن العالم بأسره ليحمل قدر السعادة التي
نعمنا في تلك األيام ،كنت أردد بداخلي ،لقد
مضى كل شيء ،وانقضت كل مشكالتي،
سيكون لنا بيت جديد ،وروح جديدة تغسل عن
قلوبنا أدران الماضي ،وتسلي عنها آالم
الحاضر ،وترفع عنها أحزان المستقبل..
153
ولكن عندما منحنا هللا سببا للسعادة والحياة ،أذن
باختبارنا بامتحان جديد ،من نوع منفرد ،فقد
كانت الصدمة هذه المرة ،تصعب على
االستيعاب ،ثقيلة ككل أيامي من بعدها ،مباغتة
كطير سلب جناحيه في جو السماء...
لطالما كنت أبغض صوت سيارة االسعاف،
فهو الصوت الذي كان يظلل كل مأساة في
حياتي .موت أبي بين النيران ..النوبة القلبية
التي أهلكت أمي ،واليوم قد جاءت لتسرمد على
حياتي بأكملها..
أكتب إليكم اآلن ولست في وعي كامل فقد
انقطع عاملي وتوقف بالكامل عند تلك
اللحظات ،وكأن الروح تنتزع مني انتزاعا
154
بطيئا ،فأموت موتات صغيرة ،في احتضار ال
ينتهي أبدا...
لم يستطع المسعفون أن يدركوا زوجي في
الوقت المناسب ،فقد قضت إرادته سبحانه
بانقضاء معاناته ،وبداية معاناتي الحقة،
واختباري من جديد على شاطئ اليتم المقفر،
ليس كطفلة هذه المرة ،ولكن كأم وأب لطفلة
تحسبها إحدى نفحات الفردوس ،يكفيني ابتسامة
واحدة ،ألشعر أنني لست من سكان األرض
مطلقا...
ولكنها األيام التي تمر لتزيدنا قوة أو ضعفا،
وتمنحنا أمال ،وتسلب منا أضعافه ،تلقننا دروسا
لم نكن لنستوعبها مطلقا سوى بتلك الصور
المؤلمة...
155
فبعد وفاة زوجي طالب صاحب الدين بنقوده،
وأمهلني كثيرا ،لكنني لم أقدر على مزاولة
عملي في تلك األثناء لتفرغي لرعاية الصغيرة،
ولم أكن ألقوى على تركها برفقة أحدهم ،فبعد
وفاة زوجي أصبحت ال أملك من العالمين
سواها ،هي قوتي ومالذي ،وسكني ومأمني
وحصني الوحيد في وجه الخطوب المحدقة..
اعتذرت منه كثيرا ،ووقعت عقدا جديدا باسمي،
واتفقت على تحمل الدين بمفردي ،وكنت في
حيرة ما بين الدين والصغيرة التي تحتاج هي
األخرى إلى النفقات ،وعندها أشارت علي
بعض الزميالت بإعطاء دروس تقوية في اللغة
الفرنسية ،في الواقع راقتني الفكرة كثيرا؛ لن
أضطر إلى مغادرة المنزل ،كما أنني سأتمكن
156
من قضاء ديني ،وبالفعل بدأت األمر
بمجموعات صغيرة ،ومع تقدمي وازدياد
خبرتي زادت األعداد وأتم هللا علي أمري
وقضيت ديني ،وأخذت أفكر في مغادرة البيت
واالنتقال إلى منزلنا الجديد الذي لم يكن مهيأ
بالكامل ،لكنه وعلى كل حال أفضل بكثير من
هذا السجن الكبير...
ترددت في األمر لفترة ،لكن ما حدث عندها حدا
بي نحو ترك المنزل بأثاثه حتى دون التفات إلى
رجعة أبدا؛ فقد اكتشفت سلفتي _ مصادفة_
بزواج زوجها ،وجاءت تتهمني بأنني غريمتها،
وهل يعقل؟!
لقد دفنت قلبي إلى جوار زوجي ،وأغلقت تلك
المنطقة المخصصة للحب ،بعد أن ورايته الثرى
157
مباشرة ،لقد كان زواجنا على قصر مدته،
يساوي أعمارا كاملة ،ولن أستبدل مكانه أيا كان
أبدا ،رحت أشرح لها في هدوء ،ولكنها
اضطرتني إلى طردها من المنزل بالختام ،ثم
حملت نفسي وصغيرتي ،وخرجنا نطارد الهموم
بمفردنا في الخارج...
عدت إلى مزاولة عملي بالمدرسة صباحا ،وبعد
الدوام إلى التدريس بالمنزل ،حتى استقر أمر
بيتنا ،وأصبح كقصر يمأله السكينة والراحة،
ومضت بنا األيام ،ونسيت أمر أهل زوجي
مطلقا ،حتى كانت أحد الليالي المطيرة في وقت
متأخر جدا ،فإذا بإحداهن تطرق الباب ،ترددت
كثيرا قبل أن أجيبها لكنني كنت أشعر بداخلي
أن هذا الصوت يبدو مألوفا ،وأين عساي سمعته
158
قبال ،نعم إنه من ظننتم بالضبط ،لقد كانت
ووالدة زوجي ،كانت تبكي وترتجف فزعا،
وتتمتم بكلمات غير مفهومة ،أدخلتها على
الفور ،وأعطيتها مالبس ،وبينما كنت أعد لها
الشاي ،استيقظت صغيرتي إثر الجلبة
واألصوات ،وعندما هممت بتقديمها ،قاطعتني
بتعريف نفسها أنها "عابرة سبيل" ،أذهلتني
إجابتها كثيرا ،ولكن ليس كذهولي من انكسارها
وحالة الوهن التي كانت تعاني ،شعرت مني
بتساؤلي عن سبب الزيارة غريبة الموعد،
فقالت :اليوم هو يوم الحقيقة ،ويوم الحق المبين،
لقد ظلمتك مرتين ،يوم عيرتك باليتم ،ويوم كنت
سببا في يتم ابنتك هي األخرى..
159
عندها لم أتمالك نفسي ،وبكيت كطفلة فقدت
أمها التي يأست في عودتها ،هرعت إلى
غرفتي ،وجلبت األوراق الخاصة بتصريح دفن
زوجي ،ألتفاجأ ألول مرة ،أنه توفي بغيبوبة
سكر ،كلمات من الوالدة الحانقة ،أو باألحرى
طعنات كانت كفيلة بأن تكون سببا في نهاية
حياة ولدها ،وهل يبلغ بأحدهم حبه لنفسه ألن
يقتل بعض روحه!
أعدت كل شيء لمكانه ،وأخذتني نوبة بكاء،
وعادت بي إلى تلك اللحظات التي سعيت كثيرا
إلى تخطيها ،وأجبتها بعد طول انتظار :أما حقي
فحسبي فيه هللا ،وأما يتم ابنتي فلك سؤالها عندما
يحن وقته المناسب ،تركت لها المكان ،وسكنت
روحي إلى جوار صغيرتي...
160
وكانت المرة األخيرة التي أراها فيها بين عالم
األحياء ،لم نلتقي بعدها مطلقا...
أما عن السلفة التي اتهمتني زورا ،فقد آل أمرها
إلى مشفى األمراض العقلية ،لقد فقدت كال
ولديها في حادث سير ،ولم تعد تهتدي إلى سبيل
يجمعها بزوجها الذي تزوجها رغما عنه ،كما
قد اتضح ،فريثما وسنحت له الفرصة فر هاربا
إلى غير رجعة ،لكنني أسامحها فلم تكن سوى
ضحية في لعبة حب النفس والسلطة والنفوذ
التي حاكتها حماتي ،وسطرتها بمداد حقدها
وغيظها...
وبعد سنوات من السير في دروب االختبار ،من
هللا علي من فضله ،وتخرجت ابنتي لتصبح
طبيبة ماهرة ،واليوم يركض من حولي أطفالها
161
الصغار كفراشات حول زهور البستان ،إنهم
كقطرات الندى التي تشفي كل ندوب قلبي
السالفة ،وتلك الضحكات التي ثبت بعالمي
ترياق السعادة...
وكل ما كان وأسوأ منه ال يعادل تلك اللحظات
أبدا ،وال يعادله كل هموم الدنيا ،فاللهم لك الحمد
على الجبر ،وعلى منحك الصبر ،والتوفيق في
االختبار...
فمهما اشتد بك األمر ،اصبر وصابر وجاهد،
ألنه "من يتق ويصبر فإن هللا ال يضيع أجر
المحسنين"
★★★
162
سك
ِ -١٠ختَامه ِم ْ
تبدأ فصول هذه الحكاية منذ ثمانية أعوام
مضت ،دائما أردد بداخلي أنه لم يعد هناك ما
يدعو إلى تذكرها ،ولتكن كبطلها األول ذرة
غبار ضئيلة في مهب ريح الذكريات التي ال
تبقي وال تذر!
الذكريات التي ت ُ َعنتُنا ،وتحرقنا ،أو تهبنا نسيم
البقاء ،ورحيق المقاومة .لكل منا كتلة أشواك
يحملها في صدره دائما يطلق عليها الذكريات،
وتختلف استجابته لدى استحضارها ،وحتى ال
أطيل عليكم ،تبدأ قصتي في سنتي الجامعية
الثالثة ،طالبة مجتهدة تحمل قدرا عاليا من
163
الصبر واإلرادة ،وكان لدي من العزيمة ما
يطوق القمم الرواسي ،وكعادتي لم أكن أترك
صغيرة وال كبيرة في مجال دراستي إال وسألت
عنها حتى سبرت أغوارها تماما.
وفي أحد األيام أحالني أستاذ المادة على معيد له
صيته في القسم ،إنه دكتور زياد ،لم أتردد في
الذهاب ومتابعة شغف التعلم بداخلي ،أثار
فضولي انتباهه ،وأبدى إعجابه بما سألته عليه،
شكرته على وقته ثم انصرفت في طريقي،
وكأن شيئا لم يكن ..مرت أيام قالئل ،وتعرض
أستاذ المادة لوعكة صحية ،منعته الحضور لمدة
أسبوعين تقريبا ،توارد فيهما زياد على قاعة
المحاضرات الخاصة بنا ،وقام بتأدية دوره على
الوجه األكمل ،وبالطبع كما توقعتم ،زادت
164
أسئلتي التي استجلبت اهتمامه ،ثم انقطعت بيننا
الصالت تماما حتى حلت اختبارات نهاية العام،
كنت أراه بصفة شبه يومية ،لكن لم تجمعنا
محادثات أبدا.
وبعد ظهور النتيجة ،صدمت بقرار والدي،
الذي قرر تزويجي ،مدعيا بأن هذا الشخص ال
يمكن رفضه مطلقا ،وأنني حينما أراه سأوافق
على الفور ،أذهلتني ثقة والدي في موافقتي،
وجعلتها تحديا خبأته بين نفسي ،لكن وبكل أسف
انهزمت في ذلك التحدي ،فقد كان المتقدم
لخطبتي هو ،نعم إنه زياد أو كما كان يلقب
دكتور زياد .كان هذا اللقب هو جل ما يملكه من
حطام الدنيا ،مجرد كلمة صغيرة ال يدري عن
كنهها شيئا ،أما عن أي ميزة أخرى فال توجد
165
هناك ،كقصر مزين منقوش خارجا ،خاو على
عروشه من الداخل! وماذا يعني كونك معلما،
وحامال لرسالة ،أتذكر كل معلم ومعلمة تعاقبوا
يوما على تدريسي ،فال أتذكر من المعلومات إال
القليل النادر ،ولكن ما يحيا بداخلي حقا هو تلك
المبادئ والقيم التي أرسوها على مدار سنوات
عمري التي مضت.
على أية حال عقدنا خطبتنا ،وتوطدت عالقتنا
سريعا ،أمضينا أغلب أوقاتنا في المناقشات
العلمية ،وفي كل مرة يزداد إعجابي برصيده
العلمي ،وقدرته على التحليل والمناقشة ،وهنا
بدأت ارسم صورا بداخلي لحياتي المستقبلية
بألوانها الزاهية ،وأوقتها السعيدة المؤنسة ،حتى
أرسل إلي زياد في أحد األيام رسالة مفادها"
166
أنت تعوقين نجاحي ،ليذهب كل منا في وجهته،
والشبكة أجرة لك على األوقات السعيدة،
والذكريات الماضية" ،توقف قلبي عن النبض
للحظاتُ ،
غصت أنفاسي بصدري ،لم تعد رئتي
تعي الفارق بين شهيق وزفير ،تجمد الوقت،
وتدفق البرد بأطرافي ،ثم تذكرت مزاح زياد
الثقيل ،وكيف أنه كاد يرديني رعبا غير مرة؛
فاطمئن قلبي ،والتقت بعضا من أنفاسي الهاربة،
ثم جلست وقررت أن أرد له الصاع صاعين،
فأرسلت له رسالة تقول" لك هذا" ،ثم أمضيت
يومي بين المذاكرة وإعداد بحث علي تسليمه
بنهاية األسبوع ولم أبد اهتماما لما حدث...
في الصباح التالي ،لم ألتق بزياد مطلقا ،ولشدة
انشغالي لم أس َع لذلك حتى ،مضى يومي
167
الدراسي برتابته المعهودة ،وعدت إلى المنزل
ال تحملني قدماي تعبا ،فخلدت إلى النوم على
الفور ،ولم أستطع الذهاب إلى الجامعة في
الصباح التالي لفرط إجهادي.
ملكتني الدهشة لعدم اتصاله ،وسؤاله على
حالي ،انتابني خوف شديد أن يكون أخذ أمر
مزحتي على محمل الجد ،بدأ الرعب يتملكني
شيئا فشيئا حتى هاتفته بالنهاية...
خمسون اتصاال ،نعم وبال إجابة ،فسلكت درب
الرسائل النصية التي لم تلقَ إجابة هي األخرى،
حتى هتف في أذناي من تردد" الهاتف المطلوب
مغلق أو غير متاح ،يمكنك إرسال رسالة
صوتية"
168
نعم ،مغلق أو غير متاح ،لكنه ليس هاتفا وإنما
قلبه المغلق وغير المتاح اآلن ،ربما كان يُغَير
في بعض مقاديره بحسب ما يزن قاطنيه
بالدرهم والدينار ،فلطالما كال زياد أحبائه
كالمطففين!
وكالعادة تعللت له بألف عذر ،ومع أول إشراقة
للشمس ،انتفضت مهرولة نحو الجامعة ،كان
بالقرب من المدخل مباشرة ،يجلس بصحبة فتاة
ال أعرفها ،توحي طلتها ولباسها بالثراء
الفاحش ،أسرعت نحوهما ،فانتبه زياد لقدومي،
أراد أن يقطع علي االقتراب أكثر فقاسمني
المسافة حتى كنا على بعد متر تقريبا من
مجلسهما السالف ،قابلته بابتسامة مردفة :كدت
تقتلني بمزاحك الثقيل ،لو مت بنوبة قلبية ،فاعلم
169
بأنك السبب ،فإذا بوجهه منقبض ،عابس ،نظر
بحدة نحوي مباشرة وأردف :ال أدري ما الذي
لم تفهمي في كالمي ،لقد كان أوضح من شمس
األفق ،لكنني على نفس حالتي من المزاح ،يكفي
اآلن ،أعلن هزيمتي ،لك شرف الفوز ،ولي
شرف المحاولة ،فزاد من حدته ورفع نبرة
صوته قائال :نعم لك شرف المحاولة ،هل
تصدقين نفسك حقا ،أنا معيد ،وقريبا سأصبح
أستاذا جامعيا ،وال أريد أن تكون زوجتي ابنة
سائق التاكسي ،هنا فقط أدركت أن األمر ليس
مزحة ،ليس هناك من يَقدر على تحمل مزحة
سخيفة كهذه .ابنة سائق التاكسي كانت بمثابة
صعفة دامية لقلبي ،الذي يسكنه أبي ،ويطوف
بين جنباته ،شعرت باألرض تدور من تحتي،
170
تختنق أنفاسي ،ويتباطأ النبض بلقبي ،حاولت
ابتالع اهانتي ومغادرة المكان ،فتجمدت
أجزائي ،واستسلمت عيناي إلى سبات ،ولم
أسمع شيئا بعدها إال صوت بكاء أمي
واسترجاعها بالمشفى.
هل مت اآلن؟!! وهذا هو نعي والداي ،ونحيب
أختي ،وتأبين رفاقي؟! ،أم هذا كابوس،
سأستيقظ منه بعد قليل لتأتي أمي على إثر
صراخي من غرفتها؟! ،ما الذي يجري؟ وما
هذه األصوات المتداخلة؟ طنين ،وصوت يشبه
إنذار ما ،صوت بكاء عالي ،ونحيب مبكي.
شعرت برغبة في البكاء ،فلم أستطع ،وبرأي لم
يخلق شعور بعد يضاهي العجز عن البكاء في
أحوج ما تكون إليه ،كأنما النيران تغلي بداخلك،
171
تذبح روحك بنصل مسموم ،تتجمد أجزائك
كأنما شلت .الدمع المتحير هو أقسى ما قد يبتلى
به المرء ويعذب ،يخنقه شيئا فشيئا حتى يتركه
كاألحياء الموتى ،وإن شئت لك القول ،الموتى
األحياء ،فمن مات قلبه هو من يستحق اللقب
عن جدارة!
أخذتني موجة الضوضاء تلك لفترة ال أعلمها،
ثم تواردت قصاصة اإلهانة التي وجهت إلي،
فانتفضت يداي ،وشعرت برغبة شديدة في
السعال ،ارتفع ظهري صعودا وهبوطا عن
السرير ،نظرت بذعر لما يجري ،وللمكان الذي
يضمني ،بعد لحظات وجيزة من حالة
االضطراب تلك ،دخل طبيب إلى غرفتي حاول
تهدئتي ،حاولت جاهدة تجميع كلمات أتحدث بها
172
فلم أجد ،لكن الحظ حالفني بشيء آخر ،وأخيرا،
فتحت السدود المحكمة بعيني لتأذن بانهمار
دمعي الذي يحرقني من الداخل ،بكيت لفترة
طويلة ،في صمت تام ،أجلس كتمثال على
سريري وتنساب العبرات على وجنتاي ،حتى
سمعت من يهتف باسمي :أستاذة منة ،يمكنك
االنتقال لغرفة عادية ،لم يعد لك حاجة بالعناية
المركزة ،ثم ختم بقوله :سأتابعك باستمرار .لم
أجب بكلمة واحدة ،أخذت أطالع المكان في
صمت ،العناية المركزة؟ الكلمة التي كان يقشر
لها بدني إثر سماعها ،ها أنا اليوم أحد نزالئها،
لم يخطر ببالي ورودها يوما ،لكن ليس كل ما
نعتقده يتحقق ،وما لم نفكر به ال يحدث!
173
أمضيت نحو أسبوعين في المشفى ،بعدها أشار
دكتور أيمن بضرورة خضوعي للعالج النفسي،
أو على األقل استشارة الطبيب ،فالمرض
النفسي هو بمثابة القاتل الصامت ،بل إنه أبشع
بالتأكيد!
حين تموت بمفردك ،دون أن يشعر بك أحد،
حين تقتلك نفسك ،ويهلكك تفكيرك ،فاعلم أنك
في مرحلة خطرة من المرض النفسي ،وبالفعل
استجبت لنصيحة دكتور أيمن ،وذهبت لطبيب
نفسي على الفور ،فأنا أعرف من يكون بنفسي،
وبما يشفيها ،في الواقع ،كلنا نعرف ،لكننا
نتجاهل ،أو نتناسى..
مرت األيام وعدت إلى ذات النقطة التي أحدثت
كل هذه التحوالت بحياتي وعالمي ،رأيت زياد
174
مصادفة برفقة مخطوبته الجديدة ،والتي أسعفني
الوقت للتعرف عليها هذه المرة ،رسمتُ ابتسامة
عريضة ،وتوجهت نحوهما ،ألعرف عن
نفسي ،أنا منة زميلة في الفرقة الرابعة ،وبعد
قليل أجابتني األخرى أهال أنا غادة ابنة دكتور
هشام وخطيبة دكتور زياد ،التفتُ نحو الدكتور
المنشود وسددتُ تهنئة صادقة ،نكس وجهه
أرضا وراح يتصبب وجهه العرق ،كانت تلك
أول ضربة أسددها له ،وبمتابعة نصح أختي
منار ،التي كانت منارا وبحق ،لطالما أضاءت
أحلك الظلم في حياتي ،وأرشدتني إلى أحسن
السبل ،وال أعتقد أن هناك أحسانا قدمه لي
والدي أكثر من منار ،ثم إنهم أطلقوا عليها هذا
175
االسم فيما بعد ،لتكون منارا لحياتي ،ورفيقة
لخطاي..
ال زلت أتذكر كلماتها حتى اآلن" ،اصنعي من
ضعفك قوة ،ومن هزيمتك فوز ،ومن خسارتك
ربح ،اجعليه يتمنى أن يعاوده الزمان بثانية
واحدة من زمان وصالك"..
وبالفعل وجهت كل طاقتي الغاضبة من زياد
نحو المذاكرة واالجتهاد ،وأخيرا َمن هللا علي
بالمعافاة والرضا ،وكلل صبري ،بنجاح ساحق،
حللت في المرتبة األولى على فرقتي ،ونزل
تكليف بضمي إلى هيئة التدريس ،جمعتني
مصادفات عديدة بزياد بحكم الزمالة ،لم أكن له
غير الشقفة على حاله ،وما آلت أموره إليه ،فقد
توفي الدكتور فالن والد زوجته التي كانت
176
تسقيه المر علقما بعدما تبدد أمله بمساعدة والد
زوجته في رسالته ،أمهلوه حتى نهاية العام،
وإال سيلحق بقسم اإلدارة بالكلية ،أما أنا ففي
ختام العام ناقشت رسالتي ،ونلت امتيازا مع
مرتبة الشرف األولى .وبعدها بأيام وجيزة،
أخبرني والدي بأن هناك من يرغب في الزواج
بي ،فأجبته بأنني قد نزعت هذه الفكرة مطلقا
من تفكيري ،ولم أعد اهتم باألمر ،ألح علي
ألدخل لدقائق يسيرة وإن حدث وانزعجت ألي
سبب أخرج مباشرة وال مجال للنقاش بعدها.
أغراني عرض والدي وسخائه ،فقررت
الدخول ،لم أنظر بوجه خاطبي ،جلست في
هدوء ألسمع من يقول" الحمد هلل على المعافاة،
أسعدني أنك وجدت ذاتك أخيرا" ،بحثت لوهلة
177
في خزانة ذكرياتي ،هذا الصوت أعرفه من
قبل ،رفعت بصري قليال ،فإذا به ذلك الطبيب
الشاب في المشفى ،إنه دكتور أيمن ،جلست
قليال ولم أتكلم مطلقا ،لكنني لم أخرج أيضا،
قررت أن أمنح نفسي وقلبي فرصة ،واستجيب
لطوق النجاة الذي ألقي بقدري ،وبالفعل تزوجت
من دكتور أيمن الذي لم أتخيل قدر السعادة التي
أحياها برفقته مطلقا ،وكم الدعم الذي يقدمه لي.
ناقشت رسالة الدكتوراه وحصلت على ذات
التقدير ،وشكرت ببدايتها كل من كان سبب في
استعادة روحي ،وهداية قلبي ،ولم أعد التفت
لزياد الموظف اإلداري ،الذي كان نقطة لتحولي
من النقيض إلى النقيض.
178
ليس في كل فراق نهاية ،ربما كانت البدايات
تكمن في النهايات ونحن ال ندري! ،مهما
تعثرت قم وانهض ،قاوم ،وقاتل من جديد ،وال
تقنع من النهايات سوى بما كان" ختامه مسك".
★★★
تمت بحمد هللا
٢٠٢٠/١٠/٣١
179
يتيمة تنتظر أي فرصة لتنهمر ،لتبكي،
وتصرخ ،حتى تغسل داخلها من األحزان...
بقيت وحدي أتأمل الجدران المحترقة المتآكلة
كقلبي تماما ،ال يميز بينهما أي شيء ،فقلبي
المكلوم ،كبناء متهتك محترق من الداخل ،يبدو
من الخارج كبيت ومن داخله كقبر!
147
مضت فترة كبيرة ،تحيا الروح بداخلي مأسورة،
تبكي في صمت ،وتئن في صمت ،وتشكو في
صمت ..حتى أصبحت ال أعرف من اللغات
غيره ،وال أتقن من التواصل سواه ،الصمت هو
اإلجابة الهاربة عن كل ما ال نستطيع اإلجابة
عنه ،وما ال تمكننا أنفسنا من البوح به...
وبعد ذلك أخبرتني صديقة بأن أحدهم يرغب في
الزواج بي ،أصابتني الدهشة فعلى حد ما نما
إلي معرفتي المتواضعة أن األشباح ال يمكنها
االهتداء إلى المشاعر ،وال تعرف السعادة ،وال
تميز الشقاء ،فقط تحيا بصمت ،وهذا ما كنت
أفعله بإتقان ،ألحت علي في مطلبه كثيرا ،وفي
كل مرة كنت أقابل عرضها بالرفض ،حتى
سبب هللا من اللقاء ما شاء ،والتقيته قدرا
148
بالمشفى إثر تعرضي لحالة إغماء ،و َج ّمل هللا
قدري بالزواج منه؛ فقد كان أكثر مثالية من
الصورة التي يتمناها الجميع ،إال تلك العقبة التي
كانت بمثابة اختبار بالنسبة إلي....
كانت أزمة حياتي الوحيدة تكمن في والدة
زوجي حسام ،الوالدة التي ترى في اختيار
ولدها زوجا وفق رغبته ،عصيان علني،
وخروج عن مقدسات الطاعة الواجبة ،وبدال من
أن تحاول تقبل الحق والتعايش مع الحقيقة،
كانت تلقي بكل أنواع اللوم على عاتقي ،لم
تترك أمرا لم تعنفني عليه ،ولوما لم تصدره
لي ،لقد سخرت بكل ما أوتيت من قوة ،حتى
أنها كانت تسخر من كوني يتيمة!
149
وتتهمني بأنني نذير شؤم قد سلبت والداي
حياتهما!
وهل يالم المرء على قدره ،ومالم يملك من
أمره؟!!
هل يختار ابتالءه ،ويستعذب اختباره؟!
ورغم كل ما نرى ونسمع من رزايا هنا
وهنالك في اآلونة األخيرة ،إال أنها ال تناهض
معشار أم زوجي ،فقد كانت اختباري األشق
على االطالق...
اضطررت إلى تحملها ،واالستماع إلى إساءتها
بصورة يومية ،أثناء ذهابي للعمل ،حتى في
أوقات إجازتي لم تكن لتدخر تلك اإلهانات ليوم
آخر ،بل كانت تصعد إلى منزلي وتوجهها على
مرأى ومسمع من زوجي ،الذي لم يقو على
150
مجابهتها طويال؛ فمع الوقت أصبحت تطاله هو
اآلخر ،وضاق بها ذرعا ،حتى بلغ األمر
بالنهاية إلى إصابته بمرض مزمن.
أصبحنا نجتنب لقاءها ونتجاهل الكثير من
كلماتها ،حتى باغتنا كابوس من نوع آخر ،لقد
تزوج األخ األصغر لزوجي ،بعروس من
اختيار الوالدة ،وفق مقاديرها ومعاييرها
الكاملة-على حد اعتقادها...-
لطالما عقدت بيننا مقارنات كان العامل األول
فيها هو اإلجحاف والظلم ،فمهما أحسنت إليها
كانت تعده إساءة ،وتأوله على غير وجهه،
وتلبسه غير ثوبه ،وتعلل لألخرى مهما فعلت،
وكل ما فعلت هو الصواب ،وال صواب في
غيرها فعلها أبدا!!
151
حينها راودنا التفكير في بناء بيت جديد،
والهروب من سجن تلك المعاناة؛ فزوجي
المريض لم تعد حالته تسعه تحمل المزيد من
اآلالم ،وتقدمت حالته المرضية كثيرا ،ال سيما
وقد رزقت الجارة بتوأم ،وأصبحت الحماة تنحر
قلبي في كل حين ،وتعيرني بتأخر رزقي في
األوالد ،وتعاتب زوجي بأن هذا هو جزاء
عصيان أمرها...
وبالفعل عقدنا العزم على بناء منزل بعيد عن
كل تلك اإلساءات ،فحتى لو كان صغيرا،
فاتساع الرضا والقناعة قادر على أن يحوي
الدنيا بأكملها..
وحرصا منا على سرعة االنتقال ،اقترضنا
مبلغا كبيرا من بعض المحسنين الذي لم يتردد
152
في مساعدتنا عندما علم بحجم تلك المأساة التي
نخوضها في صمت تام...
ثم كانت بعض تلك اللطائف التي يهبها هللا من
يشاء من عباده ،لقد اكتشفت أنني أحمل بين
أحشائي روحا أخرى ،وومضة من السعادة
تسري الكثير من األلم الذي خيم على زواجنا
منذ بدايته...
لم يكن العالم بأسره ليحمل قدر السعادة التي
نعمنا في تلك األيام ،كنت أردد بداخلي ،لقد
مضى كل شيء ،وانقضت كل مشكالتي،
سيكون لنا بيت جديد ،وروح جديدة تغسل عن
قلوبنا أدران الماضي ،وتسلي عنها آالم
الحاضر ،وترفع عنها أحزان المستقبل..
153
ولكن عندما منحنا هللا سببا للسعادة والحياة ،أذن
باختبارنا بامتحان جديد ،من نوع منفرد ،فقد
كانت الصدمة هذه المرة ،تصعب على
االستيعاب ،ثقيلة ككل أيامي من بعدها ،مباغتة
كطير سلب جناحيه في جو السماء...
لطالما كنت أبغض صوت سيارة االسعاف،
فهو الصوت الذي كان يظلل كل مأساة في
حياتي .موت أبي بين النيران ..النوبة القلبية
التي أهلكت أمي ،واليوم قد جاءت لتسرمد على
حياتي بأكملها..
أكتب إليكم اآلن ولست في وعي كامل فقد
انقطع عاملي وتوقف بالكامل عند تلك
اللحظات ،وكأن الروح تنتزع مني انتزاعا
154
بطيئا ،فأموت موتات صغيرة ،في احتضار ال
ينتهي أبدا...
لم يستطع المسعفون أن يدركوا زوجي في
الوقت المناسب ،فقد قضت إرادته سبحانه
بانقضاء معاناته ،وبداية معاناتي الحقة،
واختباري من جديد على شاطئ اليتم المقفر،
ليس كطفلة هذه المرة ،ولكن كأم وأب لطفلة
تحسبها إحدى نفحات الفردوس ،يكفيني ابتسامة
واحدة ،ألشعر أنني لست من سكان األرض
مطلقا...
ولكنها األيام التي تمر لتزيدنا قوة أو ضعفا،
وتمنحنا أمال ،وتسلب منا أضعافه ،تلقننا دروسا
لم نكن لنستوعبها مطلقا سوى بتلك الصور
المؤلمة...
155
فبعد وفاة زوجي طالب صاحب الدين بنقوده،
وأمهلني كثيرا ،لكنني لم أقدر على مزاولة
عملي في تلك األثناء لتفرغي لرعاية الصغيرة،
ولم أكن ألقوى على تركها برفقة أحدهم ،فبعد
وفاة زوجي أصبحت ال أملك من العالمين
سواها ،هي قوتي ومالذي ،وسكني ومأمني
وحصني الوحيد في وجه الخطوب المحدقة..
اعتذرت منه كثيرا ،ووقعت عقدا جديدا باسمي،
واتفقت على تحمل الدين بمفردي ،وكنت في
حيرة ما بين الدين والصغيرة التي تحتاج هي
األخرى إلى النفقات ،وعندها أشارت علي
بعض الزميالت بإعطاء دروس تقوية في اللغة
الفرنسية ،في الواقع راقتني الفكرة كثيرا؛ لن
أضطر إلى مغادرة المنزل ،كما أنني سأتمكن
156
من قضاء ديني ،وبالفعل بدأت األمر
بمجموعات صغيرة ،ومع تقدمي وازدياد
خبرتي زادت األعداد وأتم هللا علي أمري
وقضيت ديني ،وأخذت أفكر في مغادرة البيت
واالنتقال إلى منزلنا الجديد الذي لم يكن مهيأ
بالكامل ،لكنه وعلى كل حال أفضل بكثير من
هذا السجن الكبير...
ترددت في األمر لفترة ،لكن ما حدث عندها حدا
بي نحو ترك المنزل بأثاثه حتى دون التفات إلى
رجعة أبدا؛ فقد اكتشفت سلفتي _ مصادفة_
بزواج زوجها ،وجاءت تتهمني بأنني غريمتها،
وهل يعقل؟!
لقد دفنت قلبي إلى جوار زوجي ،وأغلقت تلك
المنطقة المخصصة للحب ،بعد أن ورايته الثرى
157
مباشرة ،لقد كان زواجنا على قصر مدته،
يساوي أعمارا كاملة ،ولن أستبدل مكانه أيا كان
أبدا ،رحت أشرح لها في هدوء ،ولكنها
اضطرتني إلى طردها من المنزل بالختام ،ثم
حملت نفسي وصغيرتي ،وخرجنا نطارد الهموم
بمفردنا في الخارج...
عدت إلى مزاولة عملي بالمدرسة صباحا ،وبعد
الدوام إلى التدريس بالمنزل ،حتى استقر أمر
بيتنا ،وأصبح كقصر يمأله السكينة والراحة،
ومضت بنا األيام ،ونسيت أمر أهل زوجي
مطلقا ،حتى كانت أحد الليالي المطيرة في وقت
متأخر جدا ،فإذا بإحداهن تطرق الباب ،ترددت
كثيرا قبل أن أجيبها لكنني كنت أشعر بداخلي
أن هذا الصوت يبدو مألوفا ،وأين عساي سمعته
158
قبال ،نعم إنه من ظننتم بالضبط ،لقد كانت
ووالدة زوجي ،كانت تبكي وترتجف فزعا،
وتتمتم بكلمات غير مفهومة ،أدخلتها على
الفور ،وأعطيتها مالبس ،وبينما كنت أعد لها
الشاي ،استيقظت صغيرتي إثر الجلبة
واألصوات ،وعندما هممت بتقديمها ،قاطعتني
بتعريف نفسها أنها "عابرة سبيل" ،أذهلتني
إجابتها كثيرا ،ولكن ليس كذهولي من انكسارها
وحالة الوهن التي كانت تعاني ،شعرت مني
بتساؤلي عن سبب الزيارة غريبة الموعد،
فقالت :اليوم هو يوم الحقيقة ،ويوم الحق المبين،
لقد ظلمتك مرتين ،يوم عيرتك باليتم ،ويوم كنت
سببا في يتم ابنتك هي األخرى..
159
عندها لم أتمالك نفسي ،وبكيت كطفلة فقدت
أمها التي يأست في عودتها ،هرعت إلى
غرفتي ،وجلبت األوراق الخاصة بتصريح دفن
زوجي ،ألتفاجأ ألول مرة ،أنه توفي بغيبوبة
سكر ،كلمات من الوالدة الحانقة ،أو باألحرى
طعنات كانت كفيلة بأن تكون سببا في نهاية
حياة ولدها ،وهل يبلغ بأحدهم حبه لنفسه ألن
يقتل بعض روحه!
أعدت كل شيء لمكانه ،وأخذتني نوبة بكاء،
وعادت بي إلى تلك اللحظات التي سعيت كثيرا
إلى تخطيها ،وأجبتها بعد طول انتظار :أما حقي
فحسبي فيه هللا ،وأما يتم ابنتي فلك سؤالها عندما
يحن وقته المناسب ،تركت لها المكان ،وسكنت
روحي إلى جوار صغيرتي...
160
وكانت المرة األخيرة التي أراها فيها بين عالم
األحياء ،لم نلتقي بعدها مطلقا...
أما عن السلفة التي اتهمتني زورا ،فقد آل أمرها
إلى مشفى األمراض العقلية ،لقد فقدت كال
ولديها في حادث سير ،ولم تعد تهتدي إلى سبيل
يجمعها بزوجها الذي تزوجها رغما عنه ،كما
قد اتضح ،فريثما وسنحت له الفرصة فر هاربا
إلى غير رجعة ،لكنني أسامحها فلم تكن سوى
ضحية في لعبة حب النفس والسلطة والنفوذ
التي حاكتها حماتي ،وسطرتها بمداد حقدها
وغيظها...
وبعد سنوات من السير في دروب االختبار ،من
هللا علي من فضله ،وتخرجت ابنتي لتصبح
طبيبة ماهرة ،واليوم يركض من حولي أطفالها
161
الصغار كفراشات حول زهور البستان ،إنهم
كقطرات الندى التي تشفي كل ندوب قلبي
السالفة ،وتلك الضحكات التي ثبت بعالمي
ترياق السعادة...
وكل ما كان وأسوأ منه ال يعادل تلك اللحظات
أبدا ،وال يعادله كل هموم الدنيا ،فاللهم لك الحمد
على الجبر ،وعلى منحك الصبر ،والتوفيق في
االختبار...
فمهما اشتد بك األمر ،اصبر وصابر وجاهد،
ألنه "من يتق ويصبر فإن هللا ال يضيع أجر
المحسنين"
★★★
162
سك
ِ -١٠ختَامه ِم ْ
تبدأ فصول هذه الحكاية منذ ثمانية أعوام
مضت ،دائما أردد بداخلي أنه لم يعد هناك ما
يدعو إلى تذكرها ،ولتكن كبطلها األول ذرة
غبار ضئيلة في مهب ريح الذكريات التي ال
تبقي وال تذر!
الذكريات التي ت ُ َعنتُنا ،وتحرقنا ،أو تهبنا نسيم
البقاء ،ورحيق المقاومة .لكل منا كتلة أشواك
يحملها في صدره دائما يطلق عليها الذكريات،
وتختلف استجابته لدى استحضارها ،وحتى ال
أطيل عليكم ،تبدأ قصتي في سنتي الجامعية
الثالثة ،طالبة مجتهدة تحمل قدرا عاليا من
163
الصبر واإلرادة ،وكان لدي من العزيمة ما
يطوق القمم الرواسي ،وكعادتي لم أكن أترك
صغيرة وال كبيرة في مجال دراستي إال وسألت
عنها حتى سبرت أغوارها تماما.
وفي أحد األيام أحالني أستاذ المادة على معيد له
صيته في القسم ،إنه دكتور زياد ،لم أتردد في
الذهاب ومتابعة شغف التعلم بداخلي ،أثار
فضولي انتباهه ،وأبدى إعجابه بما سألته عليه،
شكرته على وقته ثم انصرفت في طريقي،
وكأن شيئا لم يكن ..مرت أيام قالئل ،وتعرض
أستاذ المادة لوعكة صحية ،منعته الحضور لمدة
أسبوعين تقريبا ،توارد فيهما زياد على قاعة
المحاضرات الخاصة بنا ،وقام بتأدية دوره على
الوجه األكمل ،وبالطبع كما توقعتم ،زادت
164
أسئلتي التي استجلبت اهتمامه ،ثم انقطعت بيننا
الصالت تماما حتى حلت اختبارات نهاية العام،
كنت أراه بصفة شبه يومية ،لكن لم تجمعنا
محادثات أبدا.
وبعد ظهور النتيجة ،صدمت بقرار والدي،
الذي قرر تزويجي ،مدعيا بأن هذا الشخص ال
يمكن رفضه مطلقا ،وأنني حينما أراه سأوافق
على الفور ،أذهلتني ثقة والدي في موافقتي،
وجعلتها تحديا خبأته بين نفسي ،لكن وبكل أسف
انهزمت في ذلك التحدي ،فقد كان المتقدم
لخطبتي هو ،نعم إنه زياد أو كما كان يلقب
دكتور زياد .كان هذا اللقب هو جل ما يملكه من
حطام الدنيا ،مجرد كلمة صغيرة ال يدري عن
كنهها شيئا ،أما عن أي ميزة أخرى فال توجد
165
هناك ،كقصر مزين منقوش خارجا ،خاو على
عروشه من الداخل! وماذا يعني كونك معلما،
وحامال لرسالة ،أتذكر كل معلم ومعلمة تعاقبوا
يوما على تدريسي ،فال أتذكر من المعلومات إال
القليل النادر ،ولكن ما يحيا بداخلي حقا هو تلك
المبادئ والقيم التي أرسوها على مدار سنوات
عمري التي مضت.
على أية حال عقدنا خطبتنا ،وتوطدت عالقتنا
سريعا ،أمضينا أغلب أوقاتنا في المناقشات
العلمية ،وفي كل مرة يزداد إعجابي برصيده
العلمي ،وقدرته على التحليل والمناقشة ،وهنا
بدأت ارسم صورا بداخلي لحياتي المستقبلية
بألوانها الزاهية ،وأوقتها السعيدة المؤنسة ،حتى
أرسل إلي زياد في أحد األيام رسالة مفادها"
166
أنت تعوقين نجاحي ،ليذهب كل منا في وجهته،
والشبكة أجرة لك على األوقات السعيدة،
والذكريات الماضية" ،توقف قلبي عن النبض
للحظاتُ ،
غصت أنفاسي بصدري ،لم تعد رئتي
تعي الفارق بين شهيق وزفير ،تجمد الوقت،
وتدفق البرد بأطرافي ،ثم تذكرت مزاح زياد
الثقيل ،وكيف أنه كاد يرديني رعبا غير مرة؛
فاطمئن قلبي ،والتقت بعضا من أنفاسي الهاربة،
ثم جلست وقررت أن أرد له الصاع صاعين،
فأرسلت له رسالة تقول" لك هذا" ،ثم أمضيت
يومي بين المذاكرة وإعداد بحث علي تسليمه
بنهاية األسبوع ولم أبد اهتماما لما حدث...
في الصباح التالي ،لم ألتق بزياد مطلقا ،ولشدة
انشغالي لم أس َع لذلك حتى ،مضى يومي
167
الدراسي برتابته المعهودة ،وعدت إلى المنزل
ال تحملني قدماي تعبا ،فخلدت إلى النوم على
الفور ،ولم أستطع الذهاب إلى الجامعة في
الصباح التالي لفرط إجهادي.
ملكتني الدهشة لعدم اتصاله ،وسؤاله على
حالي ،انتابني خوف شديد أن يكون أخذ أمر
مزحتي على محمل الجد ،بدأ الرعب يتملكني
شيئا فشيئا حتى هاتفته بالنهاية...
خمسون اتصاال ،نعم وبال إجابة ،فسلكت درب
الرسائل النصية التي لم تلقَ إجابة هي األخرى،
حتى هتف في أذناي من تردد" الهاتف المطلوب
مغلق أو غير متاح ،يمكنك إرسال رسالة
صوتية"
168
نعم ،مغلق أو غير متاح ،لكنه ليس هاتفا وإنما
قلبه المغلق وغير المتاح اآلن ،ربما كان يُغَير
في بعض مقاديره بحسب ما يزن قاطنيه
بالدرهم والدينار ،فلطالما كال زياد أحبائه
كالمطففين!
وكالعادة تعللت له بألف عذر ،ومع أول إشراقة
للشمس ،انتفضت مهرولة نحو الجامعة ،كان
بالقرب من المدخل مباشرة ،يجلس بصحبة فتاة
ال أعرفها ،توحي طلتها ولباسها بالثراء
الفاحش ،أسرعت نحوهما ،فانتبه زياد لقدومي،
أراد أن يقطع علي االقتراب أكثر فقاسمني
المسافة حتى كنا على بعد متر تقريبا من
مجلسهما السالف ،قابلته بابتسامة مردفة :كدت
تقتلني بمزاحك الثقيل ،لو مت بنوبة قلبية ،فاعلم
169
بأنك السبب ،فإذا بوجهه منقبض ،عابس ،نظر
بحدة نحوي مباشرة وأردف :ال أدري ما الذي
لم تفهمي في كالمي ،لقد كان أوضح من شمس
األفق ،لكنني على نفس حالتي من المزاح ،يكفي
اآلن ،أعلن هزيمتي ،لك شرف الفوز ،ولي
شرف المحاولة ،فزاد من حدته ورفع نبرة
صوته قائال :نعم لك شرف المحاولة ،هل
تصدقين نفسك حقا ،أنا معيد ،وقريبا سأصبح
أستاذا جامعيا ،وال أريد أن تكون زوجتي ابنة
سائق التاكسي ،هنا فقط أدركت أن األمر ليس
مزحة ،ليس هناك من يَقدر على تحمل مزحة
سخيفة كهذه .ابنة سائق التاكسي كانت بمثابة
صعفة دامية لقلبي ،الذي يسكنه أبي ،ويطوف
بين جنباته ،شعرت باألرض تدور من تحتي،
170
تختنق أنفاسي ،ويتباطأ النبض بلقبي ،حاولت
ابتالع اهانتي ومغادرة المكان ،فتجمدت
أجزائي ،واستسلمت عيناي إلى سبات ،ولم
أسمع شيئا بعدها إال صوت بكاء أمي
واسترجاعها بالمشفى.
هل مت اآلن؟!! وهذا هو نعي والداي ،ونحيب
أختي ،وتأبين رفاقي؟! ،أم هذا كابوس،
سأستيقظ منه بعد قليل لتأتي أمي على إثر
صراخي من غرفتها؟! ،ما الذي يجري؟ وما
هذه األصوات المتداخلة؟ طنين ،وصوت يشبه
إنذار ما ،صوت بكاء عالي ،ونحيب مبكي.
شعرت برغبة في البكاء ،فلم أستطع ،وبرأي لم
يخلق شعور بعد يضاهي العجز عن البكاء في
أحوج ما تكون إليه ،كأنما النيران تغلي بداخلك،
171
تذبح روحك بنصل مسموم ،تتجمد أجزائك
كأنما شلت .الدمع المتحير هو أقسى ما قد يبتلى
به المرء ويعذب ،يخنقه شيئا فشيئا حتى يتركه
كاألحياء الموتى ،وإن شئت لك القول ،الموتى
األحياء ،فمن مات قلبه هو من يستحق اللقب
عن جدارة!
أخذتني موجة الضوضاء تلك لفترة ال أعلمها،
ثم تواردت قصاصة اإلهانة التي وجهت إلي،
فانتفضت يداي ،وشعرت برغبة شديدة في
السعال ،ارتفع ظهري صعودا وهبوطا عن
السرير ،نظرت بذعر لما يجري ،وللمكان الذي
يضمني ،بعد لحظات وجيزة من حالة
االضطراب تلك ،دخل طبيب إلى غرفتي حاول
تهدئتي ،حاولت جاهدة تجميع كلمات أتحدث بها
172
فلم أجد ،لكن الحظ حالفني بشيء آخر ،وأخيرا،
فتحت السدود المحكمة بعيني لتأذن بانهمار
دمعي الذي يحرقني من الداخل ،بكيت لفترة
طويلة ،في صمت تام ،أجلس كتمثال على
سريري وتنساب العبرات على وجنتاي ،حتى
سمعت من يهتف باسمي :أستاذة منة ،يمكنك
االنتقال لغرفة عادية ،لم يعد لك حاجة بالعناية
المركزة ،ثم ختم بقوله :سأتابعك باستمرار .لم
أجب بكلمة واحدة ،أخذت أطالع المكان في
صمت ،العناية المركزة؟ الكلمة التي كان يقشر
لها بدني إثر سماعها ،ها أنا اليوم أحد نزالئها،
لم يخطر ببالي ورودها يوما ،لكن ليس كل ما
نعتقده يتحقق ،وما لم نفكر به ال يحدث!
173
أمضيت نحو أسبوعين في المشفى ،بعدها أشار
دكتور أيمن بضرورة خضوعي للعالج النفسي،
أو على األقل استشارة الطبيب ،فالمرض
النفسي هو بمثابة القاتل الصامت ،بل إنه أبشع
بالتأكيد!
حين تموت بمفردك ،دون أن يشعر بك أحد،
حين تقتلك نفسك ،ويهلكك تفكيرك ،فاعلم أنك
في مرحلة خطرة من المرض النفسي ،وبالفعل
استجبت لنصيحة دكتور أيمن ،وذهبت لطبيب
نفسي على الفور ،فأنا أعرف من يكون بنفسي،
وبما يشفيها ،في الواقع ،كلنا نعرف ،لكننا
نتجاهل ،أو نتناسى..
مرت األيام وعدت إلى ذات النقطة التي أحدثت
كل هذه التحوالت بحياتي وعالمي ،رأيت زياد
174
مصادفة برفقة مخطوبته الجديدة ،والتي أسعفني
الوقت للتعرف عليها هذه المرة ،رسمتُ ابتسامة
عريضة ،وتوجهت نحوهما ،ألعرف عن
نفسي ،أنا منة زميلة في الفرقة الرابعة ،وبعد
قليل أجابتني األخرى أهال أنا غادة ابنة دكتور
هشام وخطيبة دكتور زياد ،التفتُ نحو الدكتور
المنشود وسددتُ تهنئة صادقة ،نكس وجهه
أرضا وراح يتصبب وجهه العرق ،كانت تلك
أول ضربة أسددها له ،وبمتابعة نصح أختي
منار ،التي كانت منارا وبحق ،لطالما أضاءت
أحلك الظلم في حياتي ،وأرشدتني إلى أحسن
السبل ،وال أعتقد أن هناك أحسانا قدمه لي
والدي أكثر من منار ،ثم إنهم أطلقوا عليها هذا
175
االسم فيما بعد ،لتكون منارا لحياتي ،ورفيقة
لخطاي..
ال زلت أتذكر كلماتها حتى اآلن" ،اصنعي من
ضعفك قوة ،ومن هزيمتك فوز ،ومن خسارتك
ربح ،اجعليه يتمنى أن يعاوده الزمان بثانية
واحدة من زمان وصالك"..
وبالفعل وجهت كل طاقتي الغاضبة من زياد
نحو المذاكرة واالجتهاد ،وأخيرا َمن هللا علي
بالمعافاة والرضا ،وكلل صبري ،بنجاح ساحق،
حللت في المرتبة األولى على فرقتي ،ونزل
تكليف بضمي إلى هيئة التدريس ،جمعتني
مصادفات عديدة بزياد بحكم الزمالة ،لم أكن له
غير الشقفة على حاله ،وما آلت أموره إليه ،فقد
توفي الدكتور فالن والد زوجته التي كانت
176
تسقيه المر علقما بعدما تبدد أمله بمساعدة والد
زوجته في رسالته ،أمهلوه حتى نهاية العام،
وإال سيلحق بقسم اإلدارة بالكلية ،أما أنا ففي
ختام العام ناقشت رسالتي ،ونلت امتيازا مع
مرتبة الشرف األولى .وبعدها بأيام وجيزة،
أخبرني والدي بأن هناك من يرغب في الزواج
بي ،فأجبته بأنني قد نزعت هذه الفكرة مطلقا
من تفكيري ،ولم أعد اهتم باألمر ،ألح علي
ألدخل لدقائق يسيرة وإن حدث وانزعجت ألي
سبب أخرج مباشرة وال مجال للنقاش بعدها.
أغراني عرض والدي وسخائه ،فقررت
الدخول ،لم أنظر بوجه خاطبي ،جلست في
هدوء ألسمع من يقول" الحمد هلل على المعافاة،
أسعدني أنك وجدت ذاتك أخيرا" ،بحثت لوهلة
177
في خزانة ذكرياتي ،هذا الصوت أعرفه من
قبل ،رفعت بصري قليال ،فإذا به ذلك الطبيب
الشاب في المشفى ،إنه دكتور أيمن ،جلست
قليال ولم أتكلم مطلقا ،لكنني لم أخرج أيضا،
قررت أن أمنح نفسي وقلبي فرصة ،واستجيب
لطوق النجاة الذي ألقي بقدري ،وبالفعل تزوجت
من دكتور أيمن الذي لم أتخيل قدر السعادة التي
أحياها برفقته مطلقا ،وكم الدعم الذي يقدمه لي.
ناقشت رسالة الدكتوراه وحصلت على ذات
التقدير ،وشكرت ببدايتها كل من كان سبب في
استعادة روحي ،وهداية قلبي ،ولم أعد التفت
لزياد الموظف اإلداري ،الذي كان نقطة لتحولي
من النقيض إلى النقيض.
178
ليس في كل فراق نهاية ،ربما كانت البدايات
تكمن في النهايات ونحن ال ندري! ،مهما
تعثرت قم وانهض ،قاوم ،وقاتل من جديد ،وال
تقنع من النهايات سوى بما كان" ختامه مسك".
★★★
تمت بحمد هللا
٢٠٢٠/١٠/٣١
179