أحببت السراب - 4

‫وذقت مرارته على كبر ووعي وإدراك‪..‬كدمعة‬
‫يتيمة تنتظر أي فرصة لتنهمر‪ ،‬لتبكي‪،‬‬
‫وتصرخ‪ ،‬حتى تغسل داخلها من األحزان‪...‬‬
‫بقيت وحدي أتأمل الجدران المحترقة المتآكلة‬
‫كقلبي تماما‪ ،‬ال يميز بينهما أي شيء‪ ،‬فقلبي‬
‫المكلوم‪ ،‬كبناء متهتك محترق من الداخل‪ ،‬يبدو‬
‫من الخارج كبيت ومن داخله كقبر!‬

‫‪147‬‬

‫مضت فترة كبيرة‪ ،‬تحيا الروح بداخلي مأسورة‪،‬‬
‫تبكي في صمت‪ ،‬وتئن في صمت‪ ،‬وتشكو في‬
‫صمت‪ ..‬حتى أصبحت ال أعرف من اللغات‬
‫غيره‪ ،‬وال أتقن من التواصل سواه‪ ،‬الصمت هو‬
‫اإلجابة الهاربة عن كل ما ال نستطيع اإلجابة‬
‫عنه‪ ،‬وما ال تمكننا أنفسنا من البوح به‪...‬‬
‫وبعد ذلك أخبرتني صديقة بأن أحدهم يرغب في‬
‫الزواج بي‪ ،‬أصابتني الدهشة فعلى حد ما نما‬
‫إلي معرفتي المتواضعة أن األشباح ال يمكنها‬
‫االهتداء إلى المشاعر‪ ،‬وال تعرف السعادة‪ ،‬وال‬
‫تميز الشقاء‪ ،‬فقط تحيا بصمت‪ ،‬وهذا ما كنت‬
‫أفعله بإتقان‪ ،‬ألحت علي في مطلبه كثيرا‪ ،‬وفي‬
‫كل مرة كنت أقابل عرضها بالرفض‪ ،‬حتى‬
‫سبب هللا من اللقاء ما شاء‪ ،‬والتقيته قدرا‬
‫‪148‬‬

‫بالمشفى إثر تعرضي لحالة إغماء‪ ،‬و َج ّمل هللا‬
‫قدري بالزواج منه؛ فقد كان أكثر مثالية من‬
‫الصورة التي يتمناها الجميع‪ ،‬إال تلك العقبة التي‬
‫كانت بمثابة اختبار بالنسبة إلي‪....‬‬
‫كانت أزمة حياتي الوحيدة تكمن في والدة‬
‫زوجي حسام‪ ،‬الوالدة التي ترى في اختيار‬
‫ولدها زوجا وفق رغبته‪ ،‬عصيان علني‪،‬‬
‫وخروج عن مقدسات الطاعة الواجبة‪ ،‬وبدال من‬
‫أن تحاول تقبل الحق والتعايش مع الحقيقة‪،‬‬
‫كانت تلقي بكل أنواع اللوم على عاتقي‪ ،‬لم‬
‫تترك أمرا لم تعنفني عليه‪ ،‬ولوما لم تصدره‬
‫لي‪ ،‬لقد سخرت بكل ما أوتيت من قوة‪ ،‬حتى‬
‫أنها كانت تسخر من كوني يتيمة!‬

‫‪149‬‬

‫وتتهمني بأنني نذير شؤم قد سلبت والداي‬
‫حياتهما!‬
‫وهل يالم المرء على قدره‪ ،‬ومالم يملك من‬
‫أمره؟!!‬
‫هل يختار ابتالءه‪ ،‬ويستعذب اختباره؟!‬
‫ورغم كل ما نرى ونسمع من رزايا هنا‬
‫وهنالك في اآلونة األخيرة‪ ،‬إال أنها ال تناهض‬
‫معشار أم زوجي‪ ،‬فقد كانت اختباري األشق‬
‫على االطالق‪...‬‬
‫اضطررت إلى تحملها‪ ،‬واالستماع إلى إساءتها‬
‫بصورة يومية‪ ،‬أثناء ذهابي للعمل‪ ،‬حتى في‬
‫أوقات إجازتي لم تكن لتدخر تلك اإلهانات ليوم‬
‫آخر‪ ،‬بل كانت تصعد إلى منزلي وتوجهها على‬
‫مرأى ومسمع من زوجي‪ ،‬الذي لم يقو على‬
‫‪150‬‬

‫مجابهتها طويال؛ فمع الوقت أصبحت تطاله هو‬
‫اآلخر‪ ،‬وضاق بها ذرعا‪ ،‬حتى بلغ األمر‬
‫بالنهاية إلى إصابته بمرض مزمن‪.‬‬
‫أصبحنا نجتنب لقاءها ونتجاهل الكثير من‬
‫كلماتها‪ ،‬حتى باغتنا كابوس من نوع آخر‪ ،‬لقد‬
‫تزوج األخ األصغر لزوجي‪ ،‬بعروس من‬
‫اختيار الوالدة‪ ،‬وفق مقاديرها ومعاييرها‬
‫الكاملة‪-‬على حد اعتقادها‪...-‬‬
‫لطالما عقدت بيننا مقارنات كان العامل األول‬
‫فيها هو اإلجحاف والظلم‪ ،‬فمهما أحسنت إليها‬
‫كانت تعده إساءة‪ ،‬وتأوله على غير وجهه‪،‬‬
‫وتلبسه غير ثوبه‪ ،‬وتعلل لألخرى مهما فعلت‪،‬‬
‫وكل ما فعلت هو الصواب‪ ،‬وال صواب في‬
‫غيرها فعلها أبدا!!‬
‫‪151‬‬

‫حينها راودنا التفكير في بناء بيت جديد‪،‬‬
‫والهروب من سجن تلك المعاناة؛ فزوجي‬
‫المريض لم تعد حالته تسعه تحمل المزيد من‬
‫اآلالم‪ ،‬وتقدمت حالته المرضية كثيرا‪ ،‬ال سيما‬
‫وقد رزقت الجارة بتوأم‪ ،‬وأصبحت الحماة تنحر‬
‫قلبي في كل حين‪ ،‬وتعيرني بتأخر رزقي في‬
‫األوالد‪ ،‬وتعاتب زوجي بأن هذا هو جزاء‬
‫عصيان أمرها‪...‬‬
‫وبالفعل عقدنا العزم على بناء منزل بعيد عن‬
‫كل تلك اإلساءات‪ ،‬فحتى لو كان صغيرا‪،‬‬
‫فاتساع الرضا والقناعة قادر على أن يحوي‬
‫الدنيا بأكملها‪..‬‬
‫وحرصا منا على سرعة االنتقال‪ ،‬اقترضنا‬
‫مبلغا كبيرا من بعض المحسنين الذي لم يتردد‬
‫‪152‬‬

‫في مساعدتنا عندما علم بحجم تلك المأساة التي‬
‫نخوضها في صمت تام‪...‬‬

‫ثم كانت بعض تلك اللطائف التي يهبها هللا من‬
‫يشاء من عباده‪ ،‬لقد اكتشفت أنني أحمل بين‬
‫أحشائي روحا أخرى‪ ،‬وومضة من السعادة‬
‫تسري الكثير من األلم الذي خيم على زواجنا‬
‫منذ بدايته‪...‬‬
‫لم يكن العالم بأسره ليحمل قدر السعادة التي‬
‫نعمنا في تلك األيام‪ ،‬كنت أردد بداخلي‪ ،‬لقد‬
‫مضى كل شيء‪ ،‬وانقضت كل مشكالتي‪،‬‬
‫سيكون لنا بيت جديد‪ ،‬وروح جديدة تغسل عن‬
‫قلوبنا أدران الماضي‪ ،‬وتسلي عنها آالم‬
‫الحاضر‪ ،‬وترفع عنها أحزان المستقبل‪..‬‬
‫‪153‬‬

‫ولكن عندما منحنا هللا سببا للسعادة والحياة‪ ،‬أذن‬
‫باختبارنا بامتحان جديد‪ ،‬من نوع منفرد‪ ،‬فقد‬
‫كانت الصدمة هذه المرة‪ ،‬تصعب على‬
‫االستيعاب‪ ،‬ثقيلة ككل أيامي من بعدها‪ ،‬مباغتة‬
‫كطير سلب جناحيه في جو السماء‪...‬‬
‫لطالما كنت أبغض صوت سيارة االسعاف‪،‬‬
‫فهو الصوت الذي كان يظلل كل مأساة في‬
‫حياتي‪ .‬موت أبي بين النيران‪ ..‬النوبة القلبية‬
‫التي أهلكت أمي‪ ،‬واليوم قد جاءت لتسرمد على‬
‫حياتي بأكملها‪..‬‬
‫أكتب إليكم اآلن ولست في وعي كامل فقد‬
‫انقطع عاملي وتوقف بالكامل عند تلك‬
‫اللحظات‪ ،‬وكأن الروح تنتزع مني انتزاعا‬
‫‪154‬‬

‫بطيئا‪ ،‬فأموت موتات صغيرة‪ ،‬في احتضار ال‬
‫ينتهي أبدا‪...‬‬
‫لم يستطع المسعفون أن يدركوا زوجي في‬
‫الوقت المناسب‪ ،‬فقد قضت إرادته سبحانه‬
‫بانقضاء معاناته‪ ،‬وبداية معاناتي الحقة‪،‬‬
‫واختباري من جديد على شاطئ اليتم المقفر‪،‬‬
‫ليس كطفلة هذه المرة‪ ،‬ولكن كأم وأب لطفلة‬
‫تحسبها إحدى نفحات الفردوس‪ ،‬يكفيني ابتسامة‬
‫واحدة‪ ،‬ألشعر أنني لست من سكان األرض‬
‫مطلقا‪...‬‬
‫ولكنها األيام التي تمر لتزيدنا قوة أو ضعفا‪،‬‬
‫وتمنحنا أمال‪ ،‬وتسلب منا أضعافه‪ ،‬تلقننا دروسا‬
‫لم نكن لنستوعبها مطلقا سوى بتلك الصور‬
‫المؤلمة‪...‬‬
‫‪155‬‬

‫فبعد وفاة زوجي طالب صاحب الدين بنقوده‪،‬‬
‫وأمهلني كثيرا‪ ،‬لكنني لم أقدر على مزاولة‬
‫عملي في تلك األثناء لتفرغي لرعاية الصغيرة‪،‬‬
‫ولم أكن ألقوى على تركها برفقة أحدهم‪ ،‬فبعد‬
‫وفاة زوجي أصبحت ال أملك من العالمين‬
‫سواها‪ ،‬هي قوتي ومالذي‪ ،‬وسكني ومأمني‬
‫وحصني الوحيد في وجه الخطوب المحدقة‪..‬‬
‫اعتذرت منه كثيرا‪ ،‬ووقعت عقدا جديدا باسمي‪،‬‬
‫واتفقت على تحمل الدين بمفردي‪ ،‬وكنت في‬
‫حيرة ما بين الدين والصغيرة التي تحتاج هي‬
‫األخرى إلى النفقات‪ ،‬وعندها أشارت علي‬
‫بعض الزميالت بإعطاء دروس تقوية في اللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬في الواقع راقتني الفكرة كثيرا؛ لن‬
‫أضطر إلى مغادرة المنزل‪ ،‬كما أنني سأتمكن‬
‫‪156‬‬

‫من قضاء ديني‪ ،‬وبالفعل بدأت األمر‬
‫بمجموعات صغيرة‪ ،‬ومع تقدمي وازدياد‬
‫خبرتي زادت األعداد وأتم هللا علي أمري‬
‫وقضيت ديني‪ ،‬وأخذت أفكر في مغادرة البيت‬
‫واالنتقال إلى منزلنا الجديد الذي لم يكن مهيأ‬
‫بالكامل‪ ،‬لكنه وعلى كل حال أفضل بكثير من‬
‫هذا السجن الكبير‪...‬‬
‫ترددت في األمر لفترة‪ ،‬لكن ما حدث عندها حدا‬
‫بي نحو ترك المنزل بأثاثه حتى دون التفات إلى‬
‫رجعة أبدا؛ فقد اكتشفت سلفتي _ مصادفة_‬
‫بزواج زوجها‪ ،‬وجاءت تتهمني بأنني غريمتها‪،‬‬
‫وهل يعقل؟!‬
‫لقد دفنت قلبي إلى جوار زوجي‪ ،‬وأغلقت تلك‬
‫المنطقة المخصصة للحب‪ ،‬بعد أن ورايته الثرى‬
‫‪157‬‬

‫مباشرة‪ ،‬لقد كان زواجنا على قصر مدته‪،‬‬
‫يساوي أعمارا كاملة‪ ،‬ولن أستبدل مكانه أيا كان‬
‫أبدا‪ ،‬رحت أشرح لها في هدوء‪ ،‬ولكنها‬
‫اضطرتني إلى طردها من المنزل بالختام‪ ،‬ثم‬
‫حملت نفسي وصغيرتي‪ ،‬وخرجنا نطارد الهموم‬
‫بمفردنا في الخارج‪...‬‬
‫عدت إلى مزاولة عملي بالمدرسة صباحا‪ ،‬وبعد‬
‫الدوام إلى التدريس بالمنزل‪ ،‬حتى استقر أمر‬
‫بيتنا‪ ،‬وأصبح كقصر يمأله السكينة والراحة‪،‬‬
‫ومضت بنا األيام‪ ،‬ونسيت أمر أهل زوجي‬
‫مطلقا‪ ،‬حتى كانت أحد الليالي المطيرة في وقت‬
‫متأخر جدا‪ ،‬فإذا بإحداهن تطرق الباب‪ ،‬ترددت‬
‫كثيرا قبل أن أجيبها لكنني كنت أشعر بداخلي‬
‫أن هذا الصوت يبدو مألوفا‪ ،‬وأين عساي سمعته‬
‫‪158‬‬

‫قبال‪ ،‬نعم إنه من ظننتم بالضبط‪ ،‬لقد كانت‬
‫ووالدة زوجي‪ ،‬كانت تبكي وترتجف فزعا‪،‬‬
‫وتتمتم بكلمات غير مفهومة‪ ،‬أدخلتها على‬
‫الفور‪ ،‬وأعطيتها مالبس‪ ،‬وبينما كنت أعد لها‬
‫الشاي‪ ،‬استيقظت صغيرتي إثر الجلبة‬
‫واألصوات‪ ،‬وعندما هممت بتقديمها‪ ،‬قاطعتني‬
‫بتعريف نفسها أنها "عابرة سبيل"‪ ،‬أذهلتني‬
‫إجابتها كثيرا‪ ،‬ولكن ليس كذهولي من انكسارها‬
‫وحالة الوهن التي كانت تعاني‪ ،‬شعرت مني‬
‫بتساؤلي عن سبب الزيارة غريبة الموعد‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬اليوم هو يوم الحقيقة‪ ،‬ويوم الحق المبين‪،‬‬
‫لقد ظلمتك مرتين‪ ،‬يوم عيرتك باليتم‪ ،‬ويوم كنت‬
‫سببا في يتم ابنتك هي األخرى‪..‬‬

‫‪159‬‬

‫عندها لم أتمالك نفسي‪ ،‬وبكيت كطفلة فقدت‬
‫أمها التي يأست في عودتها‪ ،‬هرعت إلى‬
‫غرفتي‪ ،‬وجلبت األوراق الخاصة بتصريح دفن‬
‫زوجي‪ ،‬ألتفاجأ ألول مرة‪ ،‬أنه توفي بغيبوبة‬
‫سكر‪ ،‬كلمات من الوالدة الحانقة‪ ،‬أو باألحرى‬
‫طعنات كانت كفيلة بأن تكون سببا في نهاية‬
‫حياة ولدها‪ ،‬وهل يبلغ بأحدهم حبه لنفسه ألن‬
‫يقتل بعض روحه!‬
‫أعدت كل شيء لمكانه‪ ،‬وأخذتني نوبة بكاء‪،‬‬
‫وعادت بي إلى تلك اللحظات التي سعيت كثيرا‬
‫إلى تخطيها‪ ،‬وأجبتها بعد طول انتظار‪ :‬أما حقي‬
‫فحسبي فيه هللا‪ ،‬وأما يتم ابنتي فلك سؤالها عندما‬
‫يحن وقته المناسب‪ ،‬تركت لها المكان‪ ،‬وسكنت‬
‫روحي إلى جوار صغيرتي‪...‬‬
‫‪160‬‬

‫وكانت المرة األخيرة التي أراها فيها بين عالم‬
‫األحياء‪ ،‬لم نلتقي بعدها مطلقا‪...‬‬
‫أما عن السلفة التي اتهمتني زورا‪ ،‬فقد آل أمرها‬
‫إلى مشفى األمراض العقلية‪ ،‬لقد فقدت كال‬
‫ولديها في حادث سير‪ ،‬ولم تعد تهتدي إلى سبيل‬
‫يجمعها بزوجها الذي تزوجها رغما عنه‪ ،‬كما‬
‫قد اتضح‪ ،‬فريثما وسنحت له الفرصة فر هاربا‬
‫إلى غير رجعة‪ ،‬لكنني أسامحها فلم تكن سوى‬
‫ضحية في لعبة حب النفس والسلطة والنفوذ‬
‫التي حاكتها حماتي‪ ،‬وسطرتها بمداد حقدها‬
‫وغيظها‪...‬‬
‫وبعد سنوات من السير في دروب االختبار‪ ،‬من‬
‫هللا علي من فضله‪ ،‬وتخرجت ابنتي لتصبح‬
‫طبيبة ماهرة‪ ،‬واليوم يركض من حولي أطفالها‬
‫‪161‬‬

‫الصغار كفراشات حول زهور البستان‪ ،‬إنهم‬
‫كقطرات الندى التي تشفي كل ندوب قلبي‬
‫السالفة‪ ،‬وتلك الضحكات التي ثبت بعالمي‬
‫ترياق السعادة‪...‬‬
‫وكل ما كان وأسوأ منه ال يعادل تلك اللحظات‬
‫أبدا‪ ،‬وال يعادله كل هموم الدنيا‪ ،‬فاللهم لك الحمد‬
‫على الجبر‪ ،‬وعلى منحك الصبر‪ ،‬والتوفيق في‬
‫االختبار‪...‬‬

‫فمهما اشتد بك األمر‪ ،‬اصبر وصابر وجاهد‪،‬‬
‫ألنه "من يتق ويصبر فإن هللا ال يضيع أجر‬
‫المحسنين"‬
‫★★★‬
‫‪162‬‬

‫سك‬
‫‪ِ -١٠‬ختَامه ِم ْ‬
‫تبدأ فصول هذه الحكاية منذ ثمانية أعوام‬
‫مضت‪ ،‬دائما أردد بداخلي أنه لم يعد هناك ما‬
‫يدعو إلى تذكرها‪ ،‬ولتكن كبطلها األول ذرة‬
‫غبار ضئيلة في مهب ريح الذكريات التي ال‬
‫تبقي وال تذر!‬
‫الذكريات التي ت ُ َعنتُنا‪ ،‬وتحرقنا‪ ،‬أو تهبنا نسيم‬
‫البقاء‪ ،‬ورحيق المقاومة‪ .‬لكل منا كتلة أشواك‬
‫يحملها في صدره دائما يطلق عليها الذكريات‪،‬‬
‫وتختلف استجابته لدى استحضارها‪ ،‬وحتى ال‬
‫أطيل عليكم‪ ،‬تبدأ قصتي في سنتي الجامعية‬
‫الثالثة‪ ،‬طالبة مجتهدة تحمل قدرا عاليا من‬
‫‪163‬‬

‫الصبر واإلرادة‪ ،‬وكان لدي من العزيمة ما‬
‫يطوق القمم الرواسي‪ ،‬وكعادتي لم أكن أترك‬
‫صغيرة وال كبيرة في مجال دراستي إال وسألت‬
‫عنها حتى سبرت أغوارها تماما‪.‬‬
‫وفي أحد األيام أحالني أستاذ المادة على معيد له‬
‫صيته في القسم‪ ،‬إنه دكتور زياد‪ ،‬لم أتردد في‬
‫الذهاب ومتابعة شغف التعلم بداخلي‪ ،‬أثار‬
‫فضولي انتباهه‪ ،‬وأبدى إعجابه بما سألته عليه‪،‬‬
‫شكرته على وقته ثم انصرفت في طريقي‪،‬‬
‫وكأن شيئا لم يكن‪ ..‬مرت أيام قالئل‪ ،‬وتعرض‬
‫أستاذ المادة لوعكة صحية‪ ،‬منعته الحضور لمدة‬
‫أسبوعين تقريبا‪ ،‬توارد فيهما زياد على قاعة‬
‫المحاضرات الخاصة بنا‪ ،‬وقام بتأدية دوره على‬
‫الوجه األكمل‪ ،‬وبالطبع كما توقعتم‪ ،‬زادت‬
‫‪164‬‬

‫أسئلتي التي استجلبت اهتمامه‪ ،‬ثم انقطعت بيننا‬
‫الصالت تماما حتى حلت اختبارات نهاية العام‪،‬‬
‫كنت أراه بصفة شبه يومية‪ ،‬لكن لم تجمعنا‬
‫محادثات أبدا‪.‬‬
‫وبعد ظهور النتيجة‪ ،‬صدمت بقرار والدي‪،‬‬
‫الذي قرر تزويجي‪ ،‬مدعيا بأن هذا الشخص ال‬
‫يمكن رفضه مطلقا‪ ،‬وأنني حينما أراه سأوافق‬
‫على الفور‪ ،‬أذهلتني ثقة والدي في موافقتي‪،‬‬
‫وجعلتها تحديا خبأته بين نفسي‪ ،‬لكن وبكل أسف‬
‫انهزمت في ذلك التحدي‪ ،‬فقد كان المتقدم‬
‫لخطبتي هو‪ ،‬نعم إنه زياد أو كما كان يلقب‬
‫دكتور زياد‪ .‬كان هذا اللقب هو جل ما يملكه من‬
‫حطام الدنيا‪ ،‬مجرد كلمة صغيرة ال يدري عن‬
‫كنهها شيئا‪ ،‬أما عن أي ميزة أخرى فال توجد‬
‫‪165‬‬

‫هناك‪ ،‬كقصر مزين منقوش خارجا‪ ،‬خاو على‬
‫عروشه من الداخل! وماذا يعني كونك معلما‪،‬‬
‫وحامال لرسالة‪ ،‬أتذكر كل معلم ومعلمة تعاقبوا‬
‫يوما على تدريسي‪ ،‬فال أتذكر من المعلومات إال‬
‫القليل النادر‪ ،‬ولكن ما يحيا بداخلي حقا هو تلك‬
‫المبادئ والقيم التي أرسوها على مدار سنوات‬
‫عمري التي مضت‪.‬‬
‫على أية حال عقدنا خطبتنا‪ ،‬وتوطدت عالقتنا‬
‫سريعا‪ ،‬أمضينا أغلب أوقاتنا في المناقشات‬
‫العلمية‪ ،‬وفي كل مرة يزداد إعجابي برصيده‬
‫العلمي‪ ،‬وقدرته على التحليل والمناقشة‪ ،‬وهنا‬
‫بدأت ارسم صورا بداخلي لحياتي المستقبلية‬
‫بألوانها الزاهية‪ ،‬وأوقتها السعيدة المؤنسة‪ ،‬حتى‬
‫أرسل إلي زياد في أحد األيام رسالة مفادها"‬
‫‪166‬‬

‫أنت تعوقين نجاحي‪ ،‬ليذهب كل منا في وجهته‪،‬‬
‫والشبكة أجرة لك على األوقات السعيدة‪،‬‬
‫والذكريات الماضية"‪ ،‬توقف قلبي عن النبض‬
‫للحظات‪ُ ،‬‬
‫غصت أنفاسي بصدري‪ ،‬لم تعد رئتي‬
‫تعي الفارق بين شهيق وزفير‪ ،‬تجمد الوقت‪،‬‬
‫وتدفق البرد بأطرافي‪ ،‬ثم تذكرت مزاح زياد‬
‫الثقيل‪ ،‬وكيف أنه كاد يرديني رعبا غير مرة؛‬
‫فاطمئن قلبي‪ ،‬والتقت بعضا من أنفاسي الهاربة‪،‬‬
‫ثم جلست وقررت أن أرد له الصاع صاعين‪،‬‬
‫فأرسلت له رسالة تقول" لك هذا"‪ ،‬ثم أمضيت‬
‫يومي بين المذاكرة وإعداد بحث علي تسليمه‬
‫بنهاية األسبوع ولم أبد اهتماما لما حدث‪...‬‬
‫في الصباح التالي‪ ،‬لم ألتق بزياد مطلقا‪ ،‬ولشدة‬
‫انشغالي لم أس َع لذلك حتى‪ ،‬مضى يومي‬
‫‪167‬‬

‫الدراسي برتابته المعهودة‪ ،‬وعدت إلى المنزل‬
‫ال تحملني قدماي تعبا‪ ،‬فخلدت إلى النوم على‬
‫الفور‪ ،‬ولم أستطع الذهاب إلى الجامعة في‬
‫الصباح التالي لفرط إجهادي‪.‬‬
‫ملكتني الدهشة لعدم اتصاله‪ ،‬وسؤاله على‬
‫حالي‪ ،‬انتابني خوف شديد أن يكون أخذ أمر‬
‫مزحتي على محمل الجد‪ ،‬بدأ الرعب يتملكني‬
‫شيئا فشيئا حتى هاتفته بالنهاية‪...‬‬
‫خمسون اتصاال‪ ،‬نعم وبال إجابة‪ ،‬فسلكت درب‬
‫الرسائل النصية التي لم تلقَ إجابة هي األخرى‪،‬‬
‫حتى هتف في أذناي من تردد" الهاتف المطلوب‬
‫مغلق أو غير متاح‪ ،‬يمكنك إرسال رسالة‬
‫صوتية"‬

‫‪168‬‬

‫نعم‪ ،‬مغلق أو غير متاح‪ ،‬لكنه ليس هاتفا وإنما‬
‫قلبه المغلق وغير المتاح اآلن‪ ،‬ربما كان يُغَير‬
‫في بعض مقاديره بحسب ما يزن قاطنيه‬
‫بالدرهم والدينار‪ ،‬فلطالما كال زياد أحبائه‬
‫كالمطففين!‬
‫وكالعادة تعللت له بألف عذر‪ ،‬ومع أول إشراقة‬
‫للشمس‪ ،‬انتفضت مهرولة نحو الجامعة‪ ،‬كان‬
‫بالقرب من المدخل مباشرة‪ ،‬يجلس بصحبة فتاة‬
‫ال أعرفها‪ ،‬توحي طلتها ولباسها بالثراء‬
‫الفاحش‪ ،‬أسرعت نحوهما‪ ،‬فانتبه زياد لقدومي‪،‬‬
‫أراد أن يقطع علي االقتراب أكثر فقاسمني‬
‫المسافة حتى كنا على بعد متر تقريبا من‬
‫مجلسهما السالف‪ ،‬قابلته بابتسامة مردفة‪ :‬كدت‬
‫تقتلني بمزاحك الثقيل‪ ،‬لو مت بنوبة قلبية‪ ،‬فاعلم‬
‫‪169‬‬

‫بأنك السبب‪ ،‬فإذا بوجهه منقبض‪ ،‬عابس‪ ،‬نظر‬
‫بحدة نحوي مباشرة وأردف‪ :‬ال أدري ما الذي‬
‫لم تفهمي في كالمي‪ ،‬لقد كان أوضح من شمس‬
‫األفق‪ ،‬لكنني على نفس حالتي من المزاح‪ ،‬يكفي‬
‫اآلن‪ ،‬أعلن هزيمتي‪ ،‬لك شرف الفوز‪ ،‬ولي‬
‫شرف المحاولة‪ ،‬فزاد من حدته ورفع نبرة‬
‫صوته قائال‪ :‬نعم لك شرف المحاولة‪ ،‬هل‬
‫تصدقين نفسك حقا‪ ،‬أنا معيد‪ ،‬وقريبا سأصبح‬
‫أستاذا جامعيا‪ ،‬وال أريد أن تكون زوجتي ابنة‬
‫سائق التاكسي‪ ،‬هنا فقط أدركت أن األمر ليس‬
‫مزحة‪ ،‬ليس هناك من يَقدر على تحمل مزحة‬
‫سخيفة كهذه‪ .‬ابنة سائق التاكسي كانت بمثابة‬
‫صعفة دامية لقلبي‪ ،‬الذي يسكنه أبي‪ ،‬ويطوف‬
‫بين جنباته‪ ،‬شعرت باألرض تدور من تحتي‪،‬‬
‫‪170‬‬

‫تختنق أنفاسي‪ ،‬ويتباطأ النبض بلقبي‪ ،‬حاولت‬
‫ابتالع اهانتي ومغادرة المكان‪ ،‬فتجمدت‬
‫أجزائي‪ ،‬واستسلمت عيناي إلى سبات‪ ،‬ولم‬
‫أسمع شيئا بعدها إال صوت بكاء أمي‬
‫واسترجاعها بالمشفى‪.‬‬
‫هل مت اآلن؟!! وهذا هو نعي والداي‪ ،‬ونحيب‬
‫أختي‪ ،‬وتأبين رفاقي؟!‪ ،‬أم هذا كابوس‪،‬‬
‫سأستيقظ منه بعد قليل لتأتي أمي على إثر‬
‫صراخي من غرفتها؟!‪ ،‬ما الذي يجري؟ وما‬
‫هذه األصوات المتداخلة؟ طنين‪ ،‬وصوت يشبه‬
‫إنذار ما‪ ،‬صوت بكاء عالي‪ ،‬ونحيب مبكي‪.‬‬
‫شعرت برغبة في البكاء‪ ،‬فلم أستطع‪ ،‬وبرأي لم‬
‫يخلق شعور بعد يضاهي العجز عن البكاء في‬
‫أحوج ما تكون إليه‪ ،‬كأنما النيران تغلي بداخلك‪،‬‬
‫‪171‬‬

‫تذبح روحك بنصل مسموم‪ ،‬تتجمد أجزائك‬
‫كأنما شلت‪ .‬الدمع المتحير هو أقسى ما قد يبتلى‬
‫به المرء ويعذب‪ ،‬يخنقه شيئا فشيئا حتى يتركه‬
‫كاألحياء الموتى‪ ،‬وإن شئت لك القول‪ ،‬الموتى‬
‫األحياء‪ ،‬فمن مات قلبه هو من يستحق اللقب‬
‫عن جدارة!‬
‫أخذتني موجة الضوضاء تلك لفترة ال أعلمها‪،‬‬
‫ثم تواردت قصاصة اإلهانة التي وجهت إلي‪،‬‬
‫فانتفضت يداي‪ ،‬وشعرت برغبة شديدة في‬
‫السعال‪ ،‬ارتفع ظهري صعودا وهبوطا عن‬
‫السرير‪ ،‬نظرت بذعر لما يجري‪ ،‬وللمكان الذي‬
‫يضمني‪ ،‬بعد لحظات وجيزة من حالة‬
‫االضطراب تلك‪ ،‬دخل طبيب إلى غرفتي حاول‬
‫تهدئتي‪ ،‬حاولت جاهدة تجميع كلمات أتحدث بها‬
‫‪172‬‬

‫فلم أجد‪ ،‬لكن الحظ حالفني بشيء آخر‪ ،‬وأخيرا‪،‬‬
‫فتحت السدود المحكمة بعيني لتأذن بانهمار‬
‫دمعي الذي يحرقني من الداخل‪ ،‬بكيت لفترة‬
‫طويلة‪ ،‬في صمت تام‪ ،‬أجلس كتمثال على‬
‫سريري وتنساب العبرات على وجنتاي‪ ،‬حتى‬
‫سمعت من يهتف باسمي‪ :‬أستاذة منة‪ ،‬يمكنك‬
‫االنتقال لغرفة عادية‪ ،‬لم يعد لك حاجة بالعناية‬
‫المركزة‪ ،‬ثم ختم بقوله‪ :‬سأتابعك باستمرار‪ .‬لم‬
‫أجب بكلمة واحدة‪ ،‬أخذت أطالع المكان في‬
‫صمت‪ ،‬العناية المركزة؟ الكلمة التي كان يقشر‬
‫لها بدني إثر سماعها‪ ،‬ها أنا اليوم أحد نزالئها‪،‬‬
‫لم يخطر ببالي ورودها يوما‪ ،‬لكن ليس كل ما‬
‫نعتقده يتحقق‪ ،‬وما لم نفكر به ال يحدث!‬

‫‪173‬‬

‫أمضيت نحو أسبوعين في المشفى‪ ،‬بعدها أشار‬
‫دكتور أيمن بضرورة خضوعي للعالج النفسي‪،‬‬
‫أو على األقل استشارة الطبيب‪ ،‬فالمرض‬
‫النفسي هو بمثابة القاتل الصامت‪ ،‬بل إنه أبشع‬
‫بالتأكيد!‬
‫حين تموت بمفردك‪ ،‬دون أن يشعر بك أحد‪،‬‬
‫حين تقتلك نفسك‪ ،‬ويهلكك تفكيرك‪ ،‬فاعلم أنك‬
‫في مرحلة خطرة من المرض النفسي‪ ،‬وبالفعل‬
‫استجبت لنصيحة دكتور أيمن‪ ،‬وذهبت لطبيب‬
‫نفسي على الفور‪ ،‬فأنا أعرف من يكون بنفسي‪،‬‬
‫وبما يشفيها‪ ،‬في الواقع‪ ،‬كلنا نعرف‪ ،‬لكننا‬
‫نتجاهل‪ ،‬أو نتناسى‪..‬‬
‫مرت األيام وعدت إلى ذات النقطة التي أحدثت‬
‫كل هذه التحوالت بحياتي وعالمي‪ ،‬رأيت زياد‬
‫‪174‬‬

‫مصادفة برفقة مخطوبته الجديدة‪ ،‬والتي أسعفني‬
‫الوقت للتعرف عليها هذه المرة‪ ،‬رسمتُ ابتسامة‬
‫عريضة‪ ،‬وتوجهت نحوهما‪ ،‬ألعرف عن‬
‫نفسي‪ ،‬أنا منة زميلة في الفرقة الرابعة‪ ،‬وبعد‬
‫قليل أجابتني األخرى أهال أنا غادة ابنة دكتور‬
‫هشام وخطيبة دكتور زياد‪ ،‬التفتُ نحو الدكتور‬
‫المنشود وسددتُ تهنئة صادقة‪ ،‬نكس وجهه‬
‫أرضا وراح يتصبب وجهه العرق‪ ،‬كانت تلك‬
‫أول ضربة أسددها له‪ ،‬وبمتابعة نصح أختي‬
‫منار‪ ،‬التي كانت منارا وبحق‪ ،‬لطالما أضاءت‬
‫أحلك الظلم في حياتي‪ ،‬وأرشدتني إلى أحسن‬
‫السبل‪ ،‬وال أعتقد أن هناك أحسانا قدمه لي‬
‫والدي أكثر من منار‪ ،‬ثم إنهم أطلقوا عليها هذا‬

‫‪175‬‬

‫االسم فيما بعد‪ ،‬لتكون منارا لحياتي‪ ،‬ورفيقة‬
‫لخطاي‪..‬‬
‫ال زلت أتذكر كلماتها حتى اآلن‪" ،‬اصنعي من‬
‫ضعفك قوة‪ ،‬ومن هزيمتك فوز‪ ،‬ومن خسارتك‬
‫ربح‪ ،‬اجعليه يتمنى أن يعاوده الزمان بثانية‬
‫واحدة من زمان وصالك"‪..‬‬
‫وبالفعل وجهت كل طاقتي الغاضبة من زياد‬
‫نحو المذاكرة واالجتهاد‪ ،‬وأخيرا َمن هللا علي‬
‫بالمعافاة والرضا‪ ،‬وكلل صبري‪ ،‬بنجاح ساحق‪،‬‬
‫حللت في المرتبة األولى على فرقتي‪ ،‬ونزل‬
‫تكليف بضمي إلى هيئة التدريس‪ ،‬جمعتني‬
‫مصادفات عديدة بزياد بحكم الزمالة‪ ،‬لم أكن له‬
‫غير الشقفة على حاله‪ ،‬وما آلت أموره إليه‪ ،‬فقد‬
‫توفي الدكتور فالن والد زوجته التي كانت‬
‫‪176‬‬

‫تسقيه المر علقما بعدما تبدد أمله بمساعدة والد‬
‫زوجته في رسالته‪ ،‬أمهلوه حتى نهاية العام‪،‬‬
‫وإال سيلحق بقسم اإلدارة بالكلية‪ ،‬أما أنا ففي‬
‫ختام العام ناقشت رسالتي‪ ،‬ونلت امتيازا مع‬
‫مرتبة الشرف األولى‪ .‬وبعدها بأيام وجيزة‪،‬‬
‫أخبرني والدي بأن هناك من يرغب في الزواج‬
‫بي‪ ،‬فأجبته بأنني قد نزعت هذه الفكرة مطلقا‬
‫من تفكيري‪ ،‬ولم أعد اهتم باألمر‪ ،‬ألح علي‬
‫ألدخل لدقائق يسيرة وإن حدث وانزعجت ألي‬
‫سبب أخرج مباشرة وال مجال للنقاش بعدها‪.‬‬
‫أغراني عرض والدي وسخائه‪ ،‬فقررت‬
‫الدخول‪ ،‬لم أنظر بوجه خاطبي‪ ،‬جلست في‬
‫هدوء ألسمع من يقول" الحمد هلل على المعافاة‪،‬‬
‫أسعدني أنك وجدت ذاتك أخيرا"‪ ،‬بحثت لوهلة‬
‫‪177‬‬

‫في خزانة ذكرياتي‪ ،‬هذا الصوت أعرفه من‬
‫قبل‪ ،‬رفعت بصري قليال‪ ،‬فإذا به ذلك الطبيب‬
‫الشاب في المشفى‪ ،‬إنه دكتور أيمن‪ ،‬جلست‬
‫قليال ولم أتكلم مطلقا‪ ،‬لكنني لم أخرج أيضا‪،‬‬
‫قررت أن أمنح نفسي وقلبي فرصة‪ ،‬واستجيب‬
‫لطوق النجاة الذي ألقي بقدري‪ ،‬وبالفعل تزوجت‬
‫من دكتور أيمن الذي لم أتخيل قدر السعادة التي‬
‫أحياها برفقته مطلقا‪ ،‬وكم الدعم الذي يقدمه لي‪.‬‬
‫ناقشت رسالة الدكتوراه وحصلت على ذات‬
‫التقدير‪ ،‬وشكرت ببدايتها كل من كان سبب في‬
‫استعادة روحي‪ ،‬وهداية قلبي‪ ،‬ولم أعد التفت‬
‫لزياد الموظف اإلداري‪ ،‬الذي كان نقطة لتحولي‬
‫من النقيض إلى النقيض‪.‬‬

‫‪178‬‬

‫ليس في كل فراق نهاية‪ ،‬ربما كانت البدايات‬
‫تكمن في النهايات ونحن ال ندري!‪ ،‬مهما‬
‫تعثرت قم وانهض‪ ،‬قاوم‪ ،‬وقاتل من جديد‪ ،‬وال‬
‫تقنع من النهايات سوى بما كان" ختامه مسك"‪.‬‬
‫★★★‬
‫تمت بحمد هللا‬
‫‪٢٠٢٠/١٠/٣١‬‬

‫‪179‬‬