أحببت السراب - 3
عدت إلى بيت أبي ،الذي عايشت فيه كل آالمي
السابقة ،ليتني عدته بذات النفس التي قد
خرجت ،ولكن هيهات ،فالعناء في األسر أفظع
وأدهى منه في الحرية!
شعرت أن كل مخاوفي تطاردني ،وتستل سيفها
نحوي .كل ألم راح يلوح بسكينه المسموم في
وجهي .كل خذالن يشهر رمحه أمام ناظري.
كل كسر يعتصر فؤادي الصغير ،الذي لم يعد
يقوى على الدفاع أو التصدي!!
99
ذهبت إلى الطبيب الذي اعرفه تماما ،كما
أعرف اآلالم التي تغزوني ،ولم أعد احتمل
المزيد منها .ذهبت طواعية إلى سجن اخترته
بكامل قواي العقلية ،كنت أراه مالذي الوحيد..
100
أكتب إليكم اآلن من داخل غرفة بيضاء
موحشة .فضاء واسع ،ال يقطنه سوى شبح
ذكرياتي الدامية ،يتوسطه سرير دقيق ،تقبع
عليه ذات النفس المهلهلة المؤرقة الذابلة..
أكتب إليكم وال أعلم ما إذا كان سيقرأ أحدهم ما
خطت يمناي ،لكنني مرتاحة إلى كتابته على أية
حال ،واإلفضاء بما في نفسي إليكم .ربما
وجدت بكم من يؤازرني ولو حتى بتالقي
مخيلته وعقله مع ما خضتُه من معارك ..أو
دعوات صادقة بتفريج كربتي..
أو ربما لن يقرأه أحد ،لكنه سيظل شاهدا على
وقيعة قلبي الذي كنت السبب األول في عناءه،
ودرب معاناته التي ال تزول...
★★★
101
-٧أَ ْي َن ال َمفَ ّر
أعلم أننا قد تخطينا زمن الجاهلية منذ زمن
بعيد .لكن البعض مازال يحيا بين أطاللها
بتفكيره ،ويعتنق الكثير من معتقداتها الفانية
بمقاديره ،ليس كمن عبد األصنام ،وعاقر
الخمر ،وأدمن المقامرة ،بل كان عقله صنما
أصما في حد ذاته .العقل الذي يزين صاحبه أو
يرديه هالكا وخيبة وندم.
تلك هي األصنام الفكرية ،والمعتقدات الجائرة
التي كانت ومازالت تحكم عقول الكثيرين حتى
اآلن ،وآسف من داخلي حقا حين أُذب ُح يوميا
بسيف االعتقاد الجائر الذي يرى في إنجاب
102
البنات أعظم داهية قد يصاب بها أحدهم في
حياته....
نعم وبكل أسف ،لقد ولدت ألب يحيا ما بين"
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب" ،ولدت
ألب ظل وجهه مسودا ..لم يمر على قلبه يوما"
وإذا الموءودة سئلت"
دائما ما كان يردد من ابتلي من البنات ،لكنه ال
يذكر ختام الحديث أبدا ،يتوقف عند قوله ابتلي،
ويتعامل معها على أنها أفظع بالء ،ينظر نحونا
مرددا :أنتم بالء ،أعظم مصيبة قد أصابتني بعد
الزواج بوالدتكم!
كثيرا ما كنت أشعر بأن ذلك "الوأد" قد يكون
أيسر ألما من الوأد كل ثانية على ظهر هذه
األرض .الموت لمرة واحدة أقل عذابا من
103
الموت في كل مرة أنظر فيها بوجه أبي .مفارقة
الحياة أقل معاناة من موت في ثوب حياة مهترئة
تعيسة...
بدأت رحلتي في المعاناة يوم والدتي ،بعد أن
خرجت الطبيبة تزف بشرى والدتي بخير ألبي
ووالدته ،فلم يتقبل حقيقة األمر ،كأن الحقيقة
كانت مؤلمة كثيرا بالنسبة إليه .إلى حد قد بلغ
عدم تصديقها أو استيعابها حتى ،كأن موتي
وعدم سالمتي في ذلك اليوم كان أقل ألما
بالنسبة إليه ،خرج أبي من المشفى ،ولم يرغب
في تسجيلي باسمه ،جاهدت أمي كثيرا معه حتى
تقنعه بذلك ،ويتقبل في نهاية األمر أنه قد رزق
بفتاة.
104
اللعنة التي حلت عليه ولم يستطع التخلص منها
على حد قوله عدة مرات...
يحضرني كثيرا كم المرات التي استيقظت على
بكاء أمي ونحيبها ليال،
لم تجرم بما يستحق الندم ،ولم تقترف أي ذنب،
سوى خطيئة واحدة ال يمكن أن تغتفر في نظر
مجتمع بائس لم يتجاوز أعتاب الجاهلية
األولى...
أحيانا شعرت أنني مريضة نوعا ما ،ألنني
منبوذة بين أفراد عائلة أبي ،ورحت أفكر
بداخلي ربما أنني مصابة بمرض معد ،أو علة
ال تزول ..هل سأموت عند مرحلة ما من هذا
المرض؟ ،وإذا كان األمر بهذا السوء فال لوم
105
عليهم إذا؛ فالجميع يسعى إلنقاذ حياته،
والمحافظة عليها..
لكنني كبرت ألعرف أنني لم أصب بعلة قط.
إنها لعنة األنوثة ،نوع من األسقام يظل مرافقا
طوال الحياة ،إنها لعنة ال تزول بالنسبة لمجتمع
مريض بسرطان الذكورة المقيت ،يرتوي من
ماءه اآلسن الكدر...
مجتمع يحكم عليك بالوفاة قبل أن تتم والدتك
حتى ،مجتمع ترسخ بداخله" إنها شجرة خبيثة
ما لها من قرار"
الولد سر أبيه ،وسنده ،يحمل اسمه ،لكن الفتاة
ستتزوج وتلتحق ببيت زوجها يوما ما ،إال بال
فائدة تذكر ،وهذا في اعتقاد من ال يعدها ضررا
في حد ذاتها...
106
ومرت األيام ،وحان أوان التحاقي بمدرسة ما،
وبالرغم من كوني ابنة الست أعوام ،إال أنني
كنت على وعي كاف ،ألرى سچين أبي الملتهبة
ع ّرضت
تلفح أمي كلما ذكرت األمر أمامه ،أو َ
باألمر ..حتى استوى األمر على ذهابي
للمدرسة مقابل أال يدفع أبي جنيها واحدا على
دراستي ..إنه لن يجني منها أي ربح ،فلم يغامر
في أمواج الخسارة بماله النفيس ،الذي يثمن
لوريثه وحامي شرفه وجنابه..
وبالفعل ذهبت للدراسة ،وكانت كل شغفي..
أمضيت جل أوقاتي أردد الحروف ،وأتغنى
باألرقام .أعمل كمعلمة لطالب في مخيلتي،
أصبحت عالمي الخاص الذي كان يضخ أمال
107
بين عروقي ،وبريقا بعيني ،حتى أنهيت الصف
الثالث ،عندها قد بدأت مأساة جديدة بين جدران
محبسنا الصغير ..لقد ولدت فتاة أخرى ألبي،
وكانت الصدمة في تلك المرة أشد وقعا من التي
سبقتها ،على الرغم من أنني قرأت يوما أن
الصدمات يقل تأثيرها إذا تكررت لكن هول
الفاجعة كان أقسى في تلك المرة على كال
والداي ،فأبي أصيب بحالة اكتئاب شديدة ،طرد
على إثرها أمي من المنزل بعد أن سولت له
نفسه أن يضربها ..وبالطبع غادرت معها برفقة
" الصغيرة رغد"
التي لم تكن طفلة في الواقع ،بل كانت مالكا في
صورة بشرية محببة ،لم أنظر لنفسي يوما بذات
العين التي أبصرتها بها ،ربما ألنني لم أحضر
108
مأساتي بوعي كامل ،واختلست النظر عنها بين
مذاكرات أمي ..أو ربما كان أبي يسير وفق
القاعدة التي تقول" أن الخطأ حين يكرر ال
يغتفر" لكنني أرى إجحافا كبيرا في هذه القاعدة،
فالخطأ الذي يكرر ال يعد خطأ من األساس ..ثم
من تلك التي ترغب بتدمير حياتها وتسولها
المودة من الخلق!
حين يأتينا األذى ممن كنا نعتقدهم ملجأ ومالذا
نتألم مرتين ،مرة للثقة التي اندثرت بقلوبنا،
ومرة ألنفسنا التي هانت على من نحب!
وبعد أن مضى ما يقارب العام ،أتى بعض
المصلحون لنعود أدراجنا إلى سجن أبي ومعتقله
الخاص ،وبالفعل استجابت أمي لرغبتهم وعدنا
109
برفقة من حضر على الرغم من عدم قدوم أبي
معهم ذلك اليوم..
عندما اقتربت من المنزل انتابني شعور مختلط،
يحمل الضيق والحزن واألسى والبغض .وألول
مرة أتذوق البغض يومذاك ،حين استقبلنا والدي
بذات الغضب الذي غادرناه به ،ورغم ذلك
أسرعت نحوه بابتسامة كأنني كنت أحمل قدرا
من االشتياق نحو ذلك الشخص الذي لم تظهر
بوارد ود منه تجاهي من قبل ،فرمقني بنظرة
اشمئزاز وربت على كتفي على استحياء ،كمن
ينفض الغبار عنه ،كأنه يخشى أن تطاله لعنتي،
أو تتنقل إليه عدوى مرضي .لكنني على كل
حال ،كنت أوفر حظا من الصغيرة رغد التي
غادرت قبل أن تدرك حقيقة خروجها للدنيا،
110
وعادت تخطو أولى خطواتها به ،كضيف غير
مرحب بوجوده واستقباله .لم يبال بها مطلقا،
وال البتسامتها الصغيرة التي تسلب العقول،
اكتفي بقوله :أهال ،بامتعاض ألمي ،ثم غادر
المنزل..
عندها أصبحت أراه كسيف للظلم قد سلط على
هذه النبتة الصغيرة ،التي لم يلتفت يوما إلى
رعايتها أو االهتمام بها ،ومع تقدم الوقت،
أصبح ينأى عن مناداة أمي باسمها ويكتفي بقوله
"يا شايلة الهم للمات" لجريمتها الشنعاء على حد
اعتقاده بإنجاب فتاتين على التوالي...
على الرغم من ذلك كنت سعيدة لعودتي للدراسة
التي فقدتُ إثر ذهابي برفقة والدتي إلى بيت
جدتي ،وهنا بدأت أرسم أحالما وردية لمستقبل
111
مزهر ،لم أكن أعلم أنني لن أناله حتى بأحالمي.
رحت ألقب نفسي بالدكتورة" نسمة رمضان"
أخصائي األطفال وحديثي الوالدة .وكنت أرى
في الطفولة عالما خاليا من األحزان واآلالم ،لذا
اخترت أن تقتصر عالقتي مع هذا العالم به،
واختزل تعاملي معه في محيط البراءة التي لم
تدنس بالظلم والخذالن.
وسرعان ما توالت األيام ،وكبرت رغد،
وأصبحت ترافقني للمدرسة ،التي أخذتنا نحو
شاطئ أحالم لن تطأه أقدامنا يوما ،ولن تسير
قافلتنا نحوه ،كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف .لم نقدر على شيء من أمرنا ،حين
112
قرر والدي أننا سنعمل بعد ساعات الدراسة،
وإال لن نفكر في األمر بعدها حتى..
وبالفعل استسلم الجميع لمادة الزيف الجديدة التي
أصدرها أبي في قانونه ،فعملت إحدانا بمتجر
مجاور ،واألخرى عن عملت بمصنع في مدينة
قريبة ،وظلت هكذا الحال ما بين دراسة بأول
النهار وعمل بآخره ،والذي كان يمتد أحيانا إلى
الليل ،جهد جهيد ،كنت أتم يومي بشق األنفس،
ال أكاد أشعر بنفسي لشدة إجهادي ،ومواصلة
الليل بالنهار..
ومضت بنا األيام لترسو على مرفأ جديد لليأس
يختلف إلى حد كبير عن العناء السابق ،لقد
وصل قطار المأساة إلى محطته األخيرة ،وبات
اآلن على مسافريه الترجل نحو وجهة غير
113
معروفة إلى اآلن ..لقد بلغ السيل الزبى ،فقد ولد
ألبي فتاة ثالثة ،لكنه أنكر نسبتها إليه هذه المرة
تماما ،وطلق أمي بال رجعة ،وطردنا من
المنزل نهائيا!!
هنا بدأت معركتنا الجديدة ،إثبات نسب الوليدة،
وتأمين منزل ،وسبل عيش ألربعة أرواح،
ومواجهة مجتمع بأسره ..ثم أخيرا استكمال
دراستنا..
لم تكن البداية يسيرة ،ما بين مشقة االنتقال من
المدرسة ،واالستقرار ببلدة غريبة ،ونظرة
سفاحي األخالق والمبادئ ،وبعد عناء شاق
ألربعة أشهر يمكن القول أننا استطعنا إحراز
تقدم بتلك المعركة الدامية ،التي استلت كل
شعور بالسعادة منا ،وسامتنا سوء العذاب بلهيب
114
جمارها ..فعلى الرغم من أننا ابتعدنا عن البلدة
التي يسكنها أبي ،إال أننا أُرغمنا على زيارته
صل من راتبنا نوعا من
في نهاية كل أسبوع ليُ َح ّ
اإلتاوة التي فرضها علينا ..نعم لم يكن يترك لنا
سوى الفتات ،أقل ما يقام به رمق الحياة .لم يبد
يوما أية شفقة لحالنا وما آلت إليه األمور ،حتى
أنه تزوج بأخرى ،علها تغسل حوبته ،ويكون له
منها الوالد ..ولكن األقدار أضمرت له عقابا من
نوع خاص ،فالمرأة التي تزوج كانت عقيم!!.
وظل البيت خاويا على عروشه لسنوات ،يبكي
جدار السعادة الذي انقض فلم يستطع إقامته،
كأنه رسم دارس ،وأنقاض بناء ،كان يضم بين
جنباته في يوم ما قد يوصف بأنه أسرة..
115
تتابعت السنوات من جديد ،وحطت بي في
محطة الثانوية العامة ،السنة التي يشيب لها
الولدان في كل بيت بأرجاء المعمورة .لكن ما
ألم بنا من أهوال ،ال يقوى على مناهضته أي
شيء ،ظللتُ على سابق عهدي من الذهاب
للمدرسة صباحا ،والعمل بعدها حتى المساء،
لكنني هذه المرة كنت أختلس بعضا من ساعات
نومي حتى يتسنى لي الدراسة ،ومراجعة
دروسي..
كنت أحاول أن أبذل جهدي ،وأسعى على قدر
استطاعتي ،وقد الح بخاطري أمنيتي الصغيرة
التي خبأتها بين طيات الزمن ،ورغبتي بأن
أصبح طبيبة ،كما أنني اعتقدت أنه سبيل نجاتي
األول واألخير ،فربما اعترف بنا والدي،
116
وتحسنت أوضاعنا المادية ،وعصمت أختاي من
العمل والتعب ..لم أدخر وسعا لتحقيق أمنيتي
التي كانت بمثابة معركتي األولى واألخيرة في
الحياة..
وبالفعل ،لم يقابل هللا جهودي بمثلها فقط ،بل
ضاعفها بفضله وإحسانه الكريم ،وبدال من
حلمي بااللتحاق بكلية الطب ،كللت جهودي
بتتويجي للحصول على المركز األول على
مستوى الجمهورية...كان فضل هللا علي مذهال
لدرجة لم أحلم بها حتى ،التفت نحو الماضي
األليم للحظات ورددت بداخلي "ما رأيت شرا
قط".
117
لقد برئت كل أوجاعي وأسقامي ،لوهلة كأن كل
ما حدث لم يحدث أبدا ،حلقت في سماء الفرح
والسعادة التي لم أكن أعرف لهما سبيال من
قبل ،ال سيما وقد حضرت الصحافة لتقيم معي
حوارا حول أسباب تفوقي ونجاحي..
لكن مع بداية المقابلة انعقد لساني ،وكأنني
سقطت من أعلى الهاوية نحو أعماق الجحيم،
لقد قتلني ذلك الصحفي برمية مسددة دون أن
يدري ،حين سألني :يبدو أن والدك متوفي ،ترى
ما سيكون شعوره لو كان معنا؟؟
حاولت تجميع بعض الكلمات ألجيب عن
سؤاله ،لكن كل ألفاظ التعبير قد خانتني عندها،
وزل لساني ،ليصدع بالحقيقة المؤلمة" ال
118
أعرف ،ربما سيجحد األمر كما جحد وجودي
من قبل"..
ال أعرف كيف أمكنني قول ذلك وال ما حدث
بعدها ،لكنني بقيت بمفردي مدة طويلة أبكي كل
لحظة عناء سكتُ عنها من قبل ،أبكي َبطر حقي
وحق أخوتي ،أبكي نفسي التي أعتصرها األلم،
أبكي لرغد التي ولدت قرينة للذل واإلهانة،
أبكي لوالدتي ولضعفها وقلة حيلتها ،أبكي
لياسمين التي فقدت حقها في االنتساب إلى أبيها،
وشردت على طرقات الذل كلقيطة منبوذة ،أبكي
إجحاف مجتمعي قبل كل شيء ،الذي نبذ من
الجاهلية ما كره واستثنى منها ما طابت إليه
نفسه...بكيت حد االرتواء ،حتى غسلت ندوب
119
قلبي بماء دمعي ،حتى جفت المآقي ،حتى
اكتفيت واكتفى مني البكاء..
بعدها وقررت مواجهة أبي ،قررت أن أنزع
الغشاوة عن عينه ،وأجلو الران الذي غشي
قلبه ،قررت أخيرا أن اقتحم صرح كبريائه،
وأهدم قلعة جبروته وسطوته وبطشه ،وبالفعل
غادرت المنزل نحو بيته ألصطدم بآخر
توقعاتي ،إنه يبدو كزفاف من بعيد ،ومن
العريس المنشود ،إنه أبي!!
كانت تلك محاولته الثالثة ،في سجل بؤسه
للحصول على الذكور ،اكتفيت بإشارة من بعيد
على استحياء ثم غادرت المكان من فوري،
وبماذا سيفيد العتاب لمن ليس له قلب! إن طلب
الشيء من فاقده يعد ضربا من العبث والجنون!
120
تخطيت تلك األيام التي طال مرورها على
قلبي ،والتحقت بكلية الطب بالفعل ،كنت أرسم
لوحة سعادتي بهدوء وتروي ،أخشى أن تختلط
علي األلوان فيتسلل إلى لوحتي األسود من
جديد ..حتى فجعني القدر بما لم أحسب له من
قبل ،ولم أفكر فيه مطلقا ،إنه هول من نوع
خاص ،قاس إلى حد يجعلك تتمنى الموت بكل
ثانية تمر عليك في هذه الحياة .لقد كان أقسى
اختبار مقدر لي في هذه الدنيا ..لقد توفيت "
الياسمين" توفيت لتترك شذاها يؤرقني بذاكرها
في كل ليلة ..لتترك االبتسامة تنأى عن بيتنا،
ويسكنه األلم وبحق ..عندها أدركت أن كل
جرح عهدناه وتجرعنا ألمه بالماضي لم يكن
جرحا بمعناه الحقيقي ..لقد كانت صدعا شقق
121
قلبي ،فلم أستطع مداواته حتى اآلن ..واأللم
الذي خلفته لم تكتشف له العقاقير بعد ..يصعب
علي تشخيصه إلى هذه اللحظة ،كما أعجز عن
وصفه حتى!
انطفأ كل بريق لألمل كان يسكن بيننا ،وسرمد
الحزن على كل زاوية في المنزل ،لم أكن أدرك
أن الياسمين كانت قلب المنزل النابض ،وبريق
األمل بعينه ،رمق روحه ،وترياق سعادته،
ووميض فرحه الذي سلبه منا أبي بجوره منقطع
النظير ..لقد توفيت في طريقا لتوصيل اإلتاوة
األسبوعية التي ندفعها ألبي ،ومما يكويني
ويذيبني كمدا أنه قد أخذ تعويضا عن الحادث
بكل تبجح وعدم مباالة ،لقد تمكنت القسوة منه
حتى أن الوحش يعد مالكا مقارنة به!
122
لقد قتلها وشرب دمائها بأخذ ديتها بكل دم بارد..
تخرجت بعدها بفترة ،وتقدم إلى خطبتي زميل
لي ،لكن أبي تدخل وللمرة األولى فيما يعنيني
قائال :إذا أمكنك أن تدفع ثمنها فال أمانع أن
تأخذها ،ثم اتبع ذلك بضحكة ساخرة ولك أن
تأخذ األخرى هدية أيضا ..وراح يثقل كاهله
بمطالبه التي ما أنزل هللا بها من سلطان ،فلم
يجد المسكين بدا في الفرار...كان هذا أول
اعتراف بي من أبي ،أعلم أنه لم يعترف بي
كابنة له ،قطعة منه ،لكن كصفقة رابحة له..
الصفقة التي ستجلب له أمواال طائلة على فرض
أنني سأعمل في المتاجرة بأوجاع الخلق كما
يفعل البعض ،لكن المأساة لم تنتهي عند هذه
الحد ،بل امتدت يد الظلم لتطال رغد هي
123
األخرى ،تخرجت لتعمل في مكتب هندسي،
يحصد أبي أجرها وال يدع لها حتى النقير...
فأين المفر؟!
أين هو المفر من مستنقع األحزان؟! وكيف
السبيل إلى النجاة؟
أين المفر من لظى معاناتي ومأساتي؟!
أين المفر من قيد معتقدات هدمت صرح
سعادتي وبقائي؟
أين المفر من آالمي وأسقامي التي تطاردني
كأشباح الظالم؟!
124
أين المفر من علة ولدت بها في جور مجتمع
ظالم عاتي!
أين المفر وأنا طبيبة عجزت عن فهم علتي،
وسبب معاناتي ،وكيفية مداواتي؟!
أنا جرح الزمان الذي لم يبرأ ولن يبرأ ،أنا
الموءودة على ظهر األرض ..أنا االبتسامة
المسلوبة ،والعبرات المكتومة ،واآلالم
المسمومة...
أنا خطيئة مجتمع كامل ،لم يعرف يوما" بأي
ذنب قتلت"..
★★★
125
ص ْبر َج ِميل
-8فَ َ
كنت صغيرة جدا حينها ألدرك ما قد حدث لي،
ألدرك أنني كنت بضاعة مزجاة ،ألدرك أنني
قد سلبت أبسط حقوقي على مرأى ومسمع من
العالمين ،ولم يبال ألمري أحد...
بالمناسبة أنا أمنية ،األمنية الوحيدة التي كتب لها
أن تعلق في كهف األمنيات الحزينة ،الغير
محققة .األمنية الصغيرة التي عجزت عن
مداوتها أمي ،ومساندتها أخي ،ونصرتها مجتمع
بأكمله ...لكن هناك يقين بداخلي أن نجاتي
ستصير عجبا لبني العالمين...
126
كنت بالصف الثالث في المرحلة المتوسطة،
حين قررت أمي وجمعها الغفير من أخوتي
تزويجي في أحد أكثر الليالي بؤسا بحياتي..
كانت الصدمة قد فاقت كل توقعاتي ،لم أدر بأي
عذر أتعلل وما هي حجتي لتفادي الحادث
األكثر ألما بحياتي .فبعد وفاة والدي لم يعد هناك
ما يستحق البقاء ألجله ،لقد كان عصاتي التي
أتوكأ عليها ،وأذود بها عن قلبي العناء الذي
يصيبه ،مالذي اآلمن لدى الخطوب المفزعة،
وبلسم روحي إذا اشتدت اآلالم ..حقا أعجب
كثيرا من آالمي في تلك الفترة التي كانت تتمثل
في مشاجرة عابرة مع إحدى الزميالت ،أو
امتحان في مادة ال أحبها كثيرا ،أو زيارة عائلية
ال أرغب في استقبال ضيوفها ..فهل هذه آالم
127
حقا...اليوم أيقنت المعنى الحقيقي لآلالم ،حين
يكتب مصيرك بيد أكثر األشخاص بعدا عن
روحك ،وما تطمئن وتسكن إليه نفسك .لقد انعقد
مجلس حكماء العائلة الموقرة برئاسة أخوتي
الثالث ،وأمي القائد األعلى ،وأصدروا فرمانا
يفيد تزويجي برجل يزيد عمري بخمسة عشر
عاما .نعم ،أسمع اآلن من يقول إنه عمر آخر،
والبعض يرى أنه ال بأس مادام هناك توافق
وتفاهم ،لكنني أعدمت في مظلمتي شتى
الخيارين؛ فلم يملك كمال قدرا من التوافق ،ولم
يكن بيننا تفاهم في يوم ما .كنت خادمة مطيعة،
تلبي األوامر بحذافيرها بكل هدوء واستسالم ،لم
أعرف يوما إجابة سوى سمعا وطاعة .لكن
إحساني لم يقابل يوما باإلحسان ،بل كان في
128
مقابله كل قسوة وازدراء ونكران للجميل.
تزوجت كمال وهو ال يملك من حطام الدنيا
الكثير ،كان يصعد سلم الثراء درجة بدرجة،
حتى أنه غادرني بعد الزفاف بثالثة أشهر ،في
أحوج ما يكون إليه ،فبينما كانت زميالتي تذهبن
يوميا للدراسة ،كنت استيقظ على طرق والدته
الشديد على باب شفتي تردد :ما كل هذا
النعاس ،ستجلبين الفقر للمنزل ،سينقطع رزقنا
بسببك ،هيا استيقظي لتحضري الفطور ،هناك
أناس لديهم أشغال ،فليس الكل عديم الفائدة
مثلك...
وكل يوم كنت استيقظ على ذات االسطوانة
البذيئة عديمة الشعور ،فأنزل لبيتها أعمل
كخادمة لديها ولدى بنيها وبناتها الالتي كن في
129
نفس سني تقريبا ،لكن الران الذي كسى قلبها
بالكامل لم يسعها يوما أن تنظر إلي بذات العين
س ّخرة كليا،
التي كانت تنظر بها إليهن ..كنت ُم َ
أعمل بدوام كامل ،ال يتخلله ولو بعض الراحة،
حتى الدقائق التي كنت اختلسها للصالة ،كانت
تضيقها ذرعا :أنت ،هل تصلين التراويح أم
ماذا ،هل تمتد صالتك طوال النهار؟ ال أعلم ما
الذي جناه ولدي الحبيب ليبتلى بزوجة مثلك ،آه
عليك يا ولدي زين الرجال ،ليس لك حظ في
هذه الدنيا .وكل يوم على نفس الحال من اإلهانة
والسباب ،والهمز واللمز هي وبناتها.
فكرت كثيرا أن أهجر المنزل واذهب إلى
والدتي وأخوتي ،ولكن هيهات فهم من أهدوني
لجالدي بال ذرة واحدة من الشفقة أو االحساس،
130
وكان جل ما يتعللون به :إنك جميلة ،ونحن
نخاف عليك ،ومهما بلغت من التعليم ،ليس
للمرأة سوى بيت زوجها ..ربما كنت ألصدقهم،
لو دام هذا الجمال الذي تشدقوا به ،أو كان ذلك
بيتا على األقل .إنه حكم مؤبد باألسى واآلالم
الشاقة ،إنه كهف لليأس للكسر للعجز ،إنه ُجب
كجب يوسف ،إال أنه ال تطرقه سيارة أبدا!
وبالفعل قضيت أيامي أعاني وحدي ،حتى فقدت
احساسي باألشياء وبريقها ،بل وجودها! ومما
زاد معاناتي أنني رزقت بفتاة ،وهنا قامت قيامة
من نوع آخر ،فما قد ما مضى ال يساوي معشار
ما أعانيه اآلن ،وكنت أعجب حقا مما تعرني به
أم زوجي وهي التي رزقت من البنات ثالث،
وهي في ذاتها أنثى أو كما يبدو..
131
على كل انقضت فترة سفر زوجي ككابوس
مزعج ،كنت أؤمل نصرته لدى عودته ،ورد
اعتباري واعتبار ابنته التي وسمتها جدتها "
أر
بمصيبة" ساخرة من اسمها" منة" ،وحقيقة لم َ
في نوائب الدهر مصيبة تعدل هذه المرأة التي
كاد الحقد والغضب يذيب داخلها ..أضناني
الذهول عند عودة زوجي وقد استقبلته على
مدخل البيت ،تبكي وتشكو سوء معاملتي،
وإساءة أدبي بحقها .ال أخفيكم سرا انعقد لساني
عن التفسير وقتها ،كدت أصدقها لو لم أكن
خصيمها المدعى عليه زورا وبهتانا ،حتى أن
زوجي مكث لديها بعد عودته لمدة أسبوع كامل
كنوع من التأديب لي ،وإرضاء لوالدته.
وألصدقكم القول لم أتعجب كثيرا؛ فاألب الذي
132
يقسو على ابنته في أول لقاء لهما ،ويقابلها بهذا
الفتور البارد ،ال يتوقع منه اشفاقا أو تقديرا
لشريكته! ...
مرت األيام ثقاال على قلبي ،حتى أصبحت
صخرا أصما ،لم أعد اتضرر مطلقا لم يفعلون،
كنت أتدثر في كل ليلة "بيوسف" ،تلك اآليات
التي كنت أشعر بها تربت على قلبي بهدوء،
وحنان ،كانت بمثابة دواء لكل داء ،السباب،
التطاول ،الكسر ،والفقد ،وكل ما جال ببالكم وما
لم يَجل ،كأنها وصفة سرية لمداواة علل الروح
والنفس والقلب ،وكل ما قد يتعثر أو يبتلى به
المرء ،إنها الدواء الذي لم يفشل أبدا في مداواة
ألمي ،كأن قلبي يغسل في كل مرة كنت أقرأها
فيها .حتى حفظتها عن ظهر قلب ،وأصبحت
133
أهمس بها لنفسي طوال فترة دوامي" إنما أشكوا
بثي وحزني إلى هللا وأعلم من هللا ما تعلمون"
نعم أعلم من هللا ما ال تعلمون ،أعلم أن كل ألم
مؤقت ما دام في ثنايا الدنيا المؤقتة ،وكل هذا
سينقضي يوما ما ،وهللا وحده المستعان عليكم،
وعلى ما تصفون ،وما تفعلون ،هللا حسبي
وناصري وكفى به نعم النصير...
وبعد فترة زفت إلى طبيبتي بشرى حملي للمرة
الثانية ،وهنا فتحت قذائف الحمم على
مصراعيها ،يا أم البنات ،وأنت أرض مالح ال
تنبت األوالد قط ،وكل هذه الويالت التي لم تعد
تجذب اهتمامي ،لم يكن هناك أسوأ من إصابتي
بالسكري ،وتساقط بعض أسناني ،وتناثر بعض
الخصالت البيضاء بشعري ،وذهاب كل ُحسن
134
قد عهدته بنفسي .أنا لم أعد أمنية ،بل أنا أنشودة
الفناء ،وأهزوجة األلم ،وقصيدة اليأس واألسى،
لكنني كنت بالرغم من كل ذلك أردد" فصبر
جميل" وهللا المستعان على كل من ظلمني
وأودى بي ،على كل ألم عانيت وعايشت ،على
كل الليالي التي أمضيتها أبكي في صمت،
تتساقط العبرات كشالل حارق على وجنتاي في
صمت تام ،كم كنت أتمنى أن أحظى بفرصة في
الصراخ ،لكنني حتى التألم قد سلبت حقي فيه!.
وبمجرد أن وضعت ابنتي الثانية ،حتى أبرم
زوجي خطة أمه بالزواج من أخرى ،لم أمانع
في الواقع ،كنت انتظر الدائرة لتدور عليهم،
وتقتص لربيع عمري الذي أفنيته على من ال
يستحق ،وبالفعل تزوج من ابنة خالته " عال"
135
الحصان الرزان التي تتغنى بها أمه على الدوام.
وال أريد أن أقص عليكم قدر المأساة بعدها،
لكني على يقين تام بأن أقسى ما توقعتم ال
يناهض ما قد حدث.
ثم شاءت األقدار ووضعت عال بنتا ثالثة
لزوجي ،أصيبت حماتي بجلطة إثر إخبارها
بالبشارة ،فقدت النطق وقضت ما بقي من
أعوامها على كرسي متحرك ،ثم أضمرت لها
العدالة اإللهية أمرا آخر ،لقد توفيت الفتاة بعد
والدتها بفترة ،وطلبت عال الطالق ألنها لم تجد
توافق بينها وبين زوجها المتعجرف ،إنه ال
يطاق وال يحتمل ،كهذا وصفته في الجلسة
العرفية أمام أعيان بلدتنا الكرام ،وبالفعل طلقها
ودفع كل ما يملك كمؤخر لها ،وثمنا لقائمة
136
المنقوالت ،وغير ذلك مما كان يثمن وهو على
يقين ببقاء زيجة الهنا والسعادة..
ثم لم يبقَ أحد! نعم الوالدة أصبحت حمال ثقيال
على عاتقه ،والزوجة لم تبق قطرة من ماء وجه
حتى أراقت ودنست هيبته باألرجاء ،كما نسيت
أن أخبركم أن مخازن تجارته قد احترقت ،وعاد
كأول يوم التقيته فيه ،يعمل في بقالة مجاورة،
لكنني على الرغم من كل ذلك كنت كما أنا،
السامعة المطيعة ،التي مرت بأحلك الظروف،
وكنت على استعداد أن أخطو فوق الجمر ثانية
حتى ال أفرق بين بناتي ووالدهم ،وأهدم صرح
أمانهم الوحيد ،فحتى وإن كان متصدع إال أنه
يبقى منزلهم ومأواهم الوحيد بهذه الدنيا...
137
"منة ومرام" كانتا شغلي الشاغل في الحياة ،كل
أملي ،وأمنياتي المبعثرة في ريح معانتي ،كل
عدتي وعتادي وذخيرتي ،وحصوني وقالعي،
كانتا شعاعي المشرق الوحيد ،وما يستحق أن
أعيش ألجله بحق..
ومع تقدم الوقت ،توارى ستار الزيف عن عين
زوجي شيئا فشيئا ،وأصبح بإمكانه أن يبصر
نور الحقيقة ،ومظلمتي التي عشتها خلف
جدران زواجه واالرتباط به .بدأ بحسن إلى
على استحياء ،كأن طبيعة الحال هي اإلساءة،
ولم يغير ذلك شيئا بداخلي ،كنت كما أنا ،في
الحقيقة لم يعد يمثل لي قدرا من األهمية تجعلني
أتألم لما يفعل أو لم يفعل .كنت أعيش صورة
زائفة ألسرة حتى ال أؤرق ابنتاي فحسب.
138
أما عن حماتي فقد سامحتها ،ليس ألنني أشفقت
على حالها وقد كنت الشخص الوحيد القائم على
خدمتها وكفى بهذا واعظا .لكن ألنني أحب أن
يغفر هللا لي ،كما كنت على أمل بعاقبة صبري،
فاألزمات مهما طالت واشتدت ،فالبد من يوم
لزوالها.
وبالفعل قد أذن هللا بنجاحي في االختبار القاسي،
دخلت ليلة وفاة حماتي ،فوجدت كمال يبكي
بشدة ،كما لو كان لم يعرف البكاء من قبل.
أذهلني ما رأيت ،لم اتوقع ما يحدث مطلقا ،كان
هذا آخر شيء أتوقع رؤيته في حياتي ،تسمرت
أقدامي باألرض ،وتجمدت أجزائي كلها ،كأني
منحوتة حجرية في مدخل الغرفة ،أراقب بعين
ال ترف ما يفعل زوجي ،وسط حالة شديدة من
139
الدهشة والذهول ،حتى أنهى صالته ملتفتا
نحوي ،فتسارعت أنفاسي محاولة مغادرة
المكان ،إال أنه هتف بي" سامحيني أمنية" فخفق
قلبي بشدة كأنما قنبلة بدأت عدها العكسي للتو،
لم أستطع أن أنبس ببنت شفة ،فعاودني :أعلم
أن ما أطلبه ليس باليسير ،ولكن ليكن ابنتاي
شفاعتي لديك ،ال أريد أن أموت وأنا أحمل
مظلمتك كما فعلت أمي .عندها أجهشت في
البكاء ،لم أع شيئا مما حدث بعدها ،كان جميل
عوض هللا ما يعجز عن استيعابه ،لقد نلت
ذاتي ،وكرامتي ،وحريتي ،وتقديري بتلك
الكلمات الوجيزة.
كان سندي أعظم من أن يضام أو يترك مظلمتي
وشكايتي ،وللمرة األولى أصبحت أؤمن بأني
140
أمنية حقا ،أمنية الصبر الذي عزت معاركه،
وعظمت جائزته ،الصبر هو المعركة الوحيدة
التي تخرج منها على يقين تام بالنصر ،تلك
الدعوات التي ترسل إلى بريد ال يضل وجهته
أبدا ،البريد الذي ال يعرف العطالت أو فترات
االستراحة؛ فالباب مفتوح أمام الجميع في أي
وقت شاء..
مهما اشتد البأس فانتظر الفرج؛ واعلم أن أحلك
الظلمات هي التي يعقبها بزوغ الفجر ،ثم إياك
أن تنسى بأن الصبر وإن كان مر مذاقته ،إال أن
عواقبه أحلى من العسل!.
★★★
141
-٩أجر المحسنين
إنها األقدار ..تمنحنا قدر ما تأخذ ،فقط المزيد
من الصبر والرضا ،واليقين بأن كل منا
مستوفي رزقه غير منقوص ،هو ما يحكم
طبيعة الموقف ،ويحول كل محنة إلى أجمل
المنح!
ولدت يتيمة لوالد ال أتذكر أي لحظة جمعتني به
مطلقا ،إال اللحظة التي فارق فيها العالم بأسره.
اللحظة التي لقى عندها حتفه بينما يحاول إنقاذي
من لظى حريق شب بمنزلنا نتيجة ماس
كهربائي..فآثر حياتي على حياته .واليوم أتمنى
لو أحظى بحياة ثانية إلى جواره في الجنان..
142
لطالما تذكرت عبراته التي ذرف خوفا على
طفلة صغيرة تكاد تحترق بين ألعابها
الصغيرة..استيقظت كثيرا على هول النار
تفترسه أمام عيني ،المشهد األكثر فزعا وترويعا
في حياتي؛ فكل ما ألم بي بعدها ليس إال كرماد
بيتنا المحترق بعد ما حدث...
تذكرت أمرا ،أنا أميمة ،وال أدري لم قد أطلق
علي والدي هذا االسم ،فلم أحظ بفرصة لسؤاله،
ولم تخبرني أمي باألمر ،ولم أسع لسؤالها حتى،
لكنني أحبه ،وأعده ذكرى والدي الوحيدة،
بجانب صورة شخصية صغيرة ،أذوب إذا
تأملتها من حين آلخر...
143
وبالحادث تعرضت أمي لحروق كثيرة ،بأجزاء
متفرقة في جسدها ،تركت على إثرها الكثير
من الندوب التي ُجعل الزمن عامل مداوتها
الوحيد ،بينما استقر باألعماق جرح من نوع
آخر ،أوقن أنه لم تكتشف له العقاقير حتى اآلن!
وتلك هي ندوب القلوب ،يمتد تأثيرها لمدى
طويل ،وفي كثير من األحوال تعصى على
التعافي!
كنت أرى هذا الصدع يشقق وجهها ،كلما سألتها
عن أبي ،كيف كان ،وما يحب ،وما يكره ،حتى
كانت أحد األيام التي أجابت قائلة :كان عطاء
هللا لي ولك ،العطاء الذي عجزت عن استيعابه
144
طيلة حياتي معه ،وازاد األمر بعد فقدي إياه ،ثم
انتفضت تواري عبراتها مسرعة..
حينها قررت عدم سؤالها في األمر أبدا،
أدركت أن تكون معنى مصابا بعلة مزمنة،
ويأتي أحدهم كل يوم ليذكرك بأنك مريض،
فآثرت أن احتفظ بكل تلك التساؤالت إلى لقاء
غير معلوم..
ورحلنا في قافلة الحياة ،نتلمس الخطى على
تراب القدر المحتوم ،بنفوس يغشاها الرضا،
وتملؤها السكينة ،فكل ما جاء من عند هللا خير،
وكل مصيبة يبتلى بها المرء تهون مادامت في
غير الدين...
145
وبعد سنوات ،تخرجت من الجامعة ،أردت أن
أزيح بعصا من العناء عن كاهل أمي ،التي
تحملت مشقة السير بمفردها ،ولم تدخر في
سبيل سعادتي وسعا وال قوة ..وبالفعل تمت
الموافقة على طلبي أللتحق بهيئة التدريس في
إحدى المدارس الخاصة ،كمعلمة للغة الفرنسية،
ورغم أن األجر كان زهيدا في البداية ،إال أن
البركة كانت تصنع المعجزات!
وبعد فترة ،تقدم إلى خطبتي زميل لي في
المدرسة ،رفضت وبشدة ،لم يكن يخيل إلي أن
أترك أمي مطلقا ،ولم أجعل الزواج أحد أهدافي
في الحياة ..قصرتها على التدريس ورعاية أمي
المريضة ،وبعض العمل التطوعي في أوقات
الفراغ..لم أجد في حياتي حينها من قد أئتمنه
146
عليها من بعد أبي ،لطالما جاهدت أمي إلقناعي
بالعدول عن األمر ،لكنني تشبثت برأي حتى
النهاية..النهاية التي أسدلت ستارا جديدا للحزن
على قلبي ،لقد توفيت أمي ،وأذن هللا باسترداد
األمانة الثانية ،وبعض روحي التي ظلت على
األرض ،عندها أدركت معنى اليتم الحقيقي،
السابقة ،ليتني عدته بذات النفس التي قد
خرجت ،ولكن هيهات ،فالعناء في األسر أفظع
وأدهى منه في الحرية!
شعرت أن كل مخاوفي تطاردني ،وتستل سيفها
نحوي .كل ألم راح يلوح بسكينه المسموم في
وجهي .كل خذالن يشهر رمحه أمام ناظري.
كل كسر يعتصر فؤادي الصغير ،الذي لم يعد
يقوى على الدفاع أو التصدي!!
99
ذهبت إلى الطبيب الذي اعرفه تماما ،كما
أعرف اآلالم التي تغزوني ،ولم أعد احتمل
المزيد منها .ذهبت طواعية إلى سجن اخترته
بكامل قواي العقلية ،كنت أراه مالذي الوحيد..
100
أكتب إليكم اآلن من داخل غرفة بيضاء
موحشة .فضاء واسع ،ال يقطنه سوى شبح
ذكرياتي الدامية ،يتوسطه سرير دقيق ،تقبع
عليه ذات النفس المهلهلة المؤرقة الذابلة..
أكتب إليكم وال أعلم ما إذا كان سيقرأ أحدهم ما
خطت يمناي ،لكنني مرتاحة إلى كتابته على أية
حال ،واإلفضاء بما في نفسي إليكم .ربما
وجدت بكم من يؤازرني ولو حتى بتالقي
مخيلته وعقله مع ما خضتُه من معارك ..أو
دعوات صادقة بتفريج كربتي..
أو ربما لن يقرأه أحد ،لكنه سيظل شاهدا على
وقيعة قلبي الذي كنت السبب األول في عناءه،
ودرب معاناته التي ال تزول...
★★★
101
-٧أَ ْي َن ال َمفَ ّر
أعلم أننا قد تخطينا زمن الجاهلية منذ زمن
بعيد .لكن البعض مازال يحيا بين أطاللها
بتفكيره ،ويعتنق الكثير من معتقداتها الفانية
بمقاديره ،ليس كمن عبد األصنام ،وعاقر
الخمر ،وأدمن المقامرة ،بل كان عقله صنما
أصما في حد ذاته .العقل الذي يزين صاحبه أو
يرديه هالكا وخيبة وندم.
تلك هي األصنام الفكرية ،والمعتقدات الجائرة
التي كانت ومازالت تحكم عقول الكثيرين حتى
اآلن ،وآسف من داخلي حقا حين أُذب ُح يوميا
بسيف االعتقاد الجائر الذي يرى في إنجاب
102
البنات أعظم داهية قد يصاب بها أحدهم في
حياته....
نعم وبكل أسف ،لقد ولدت ألب يحيا ما بين"
أيمسكه على هون أم يدسه في التراب" ،ولدت
ألب ظل وجهه مسودا ..لم يمر على قلبه يوما"
وإذا الموءودة سئلت"
دائما ما كان يردد من ابتلي من البنات ،لكنه ال
يذكر ختام الحديث أبدا ،يتوقف عند قوله ابتلي،
ويتعامل معها على أنها أفظع بالء ،ينظر نحونا
مرددا :أنتم بالء ،أعظم مصيبة قد أصابتني بعد
الزواج بوالدتكم!
كثيرا ما كنت أشعر بأن ذلك "الوأد" قد يكون
أيسر ألما من الوأد كل ثانية على ظهر هذه
األرض .الموت لمرة واحدة أقل عذابا من
103
الموت في كل مرة أنظر فيها بوجه أبي .مفارقة
الحياة أقل معاناة من موت في ثوب حياة مهترئة
تعيسة...
بدأت رحلتي في المعاناة يوم والدتي ،بعد أن
خرجت الطبيبة تزف بشرى والدتي بخير ألبي
ووالدته ،فلم يتقبل حقيقة األمر ،كأن الحقيقة
كانت مؤلمة كثيرا بالنسبة إليه .إلى حد قد بلغ
عدم تصديقها أو استيعابها حتى ،كأن موتي
وعدم سالمتي في ذلك اليوم كان أقل ألما
بالنسبة إليه ،خرج أبي من المشفى ،ولم يرغب
في تسجيلي باسمه ،جاهدت أمي كثيرا معه حتى
تقنعه بذلك ،ويتقبل في نهاية األمر أنه قد رزق
بفتاة.
104
اللعنة التي حلت عليه ولم يستطع التخلص منها
على حد قوله عدة مرات...
يحضرني كثيرا كم المرات التي استيقظت على
بكاء أمي ونحيبها ليال،
لم تجرم بما يستحق الندم ،ولم تقترف أي ذنب،
سوى خطيئة واحدة ال يمكن أن تغتفر في نظر
مجتمع بائس لم يتجاوز أعتاب الجاهلية
األولى...
أحيانا شعرت أنني مريضة نوعا ما ،ألنني
منبوذة بين أفراد عائلة أبي ،ورحت أفكر
بداخلي ربما أنني مصابة بمرض معد ،أو علة
ال تزول ..هل سأموت عند مرحلة ما من هذا
المرض؟ ،وإذا كان األمر بهذا السوء فال لوم
105
عليهم إذا؛ فالجميع يسعى إلنقاذ حياته،
والمحافظة عليها..
لكنني كبرت ألعرف أنني لم أصب بعلة قط.
إنها لعنة األنوثة ،نوع من األسقام يظل مرافقا
طوال الحياة ،إنها لعنة ال تزول بالنسبة لمجتمع
مريض بسرطان الذكورة المقيت ،يرتوي من
ماءه اآلسن الكدر...
مجتمع يحكم عليك بالوفاة قبل أن تتم والدتك
حتى ،مجتمع ترسخ بداخله" إنها شجرة خبيثة
ما لها من قرار"
الولد سر أبيه ،وسنده ،يحمل اسمه ،لكن الفتاة
ستتزوج وتلتحق ببيت زوجها يوما ما ،إال بال
فائدة تذكر ،وهذا في اعتقاد من ال يعدها ضررا
في حد ذاتها...
106
ومرت األيام ،وحان أوان التحاقي بمدرسة ما،
وبالرغم من كوني ابنة الست أعوام ،إال أنني
كنت على وعي كاف ،ألرى سچين أبي الملتهبة
ع ّرضت
تلفح أمي كلما ذكرت األمر أمامه ،أو َ
باألمر ..حتى استوى األمر على ذهابي
للمدرسة مقابل أال يدفع أبي جنيها واحدا على
دراستي ..إنه لن يجني منها أي ربح ،فلم يغامر
في أمواج الخسارة بماله النفيس ،الذي يثمن
لوريثه وحامي شرفه وجنابه..
وبالفعل ذهبت للدراسة ،وكانت كل شغفي..
أمضيت جل أوقاتي أردد الحروف ،وأتغنى
باألرقام .أعمل كمعلمة لطالب في مخيلتي،
أصبحت عالمي الخاص الذي كان يضخ أمال
107
بين عروقي ،وبريقا بعيني ،حتى أنهيت الصف
الثالث ،عندها قد بدأت مأساة جديدة بين جدران
محبسنا الصغير ..لقد ولدت فتاة أخرى ألبي،
وكانت الصدمة في تلك المرة أشد وقعا من التي
سبقتها ،على الرغم من أنني قرأت يوما أن
الصدمات يقل تأثيرها إذا تكررت لكن هول
الفاجعة كان أقسى في تلك المرة على كال
والداي ،فأبي أصيب بحالة اكتئاب شديدة ،طرد
على إثرها أمي من المنزل بعد أن سولت له
نفسه أن يضربها ..وبالطبع غادرت معها برفقة
" الصغيرة رغد"
التي لم تكن طفلة في الواقع ،بل كانت مالكا في
صورة بشرية محببة ،لم أنظر لنفسي يوما بذات
العين التي أبصرتها بها ،ربما ألنني لم أحضر
108
مأساتي بوعي كامل ،واختلست النظر عنها بين
مذاكرات أمي ..أو ربما كان أبي يسير وفق
القاعدة التي تقول" أن الخطأ حين يكرر ال
يغتفر" لكنني أرى إجحافا كبيرا في هذه القاعدة،
فالخطأ الذي يكرر ال يعد خطأ من األساس ..ثم
من تلك التي ترغب بتدمير حياتها وتسولها
المودة من الخلق!
حين يأتينا األذى ممن كنا نعتقدهم ملجأ ومالذا
نتألم مرتين ،مرة للثقة التي اندثرت بقلوبنا،
ومرة ألنفسنا التي هانت على من نحب!
وبعد أن مضى ما يقارب العام ،أتى بعض
المصلحون لنعود أدراجنا إلى سجن أبي ومعتقله
الخاص ،وبالفعل استجابت أمي لرغبتهم وعدنا
109
برفقة من حضر على الرغم من عدم قدوم أبي
معهم ذلك اليوم..
عندما اقتربت من المنزل انتابني شعور مختلط،
يحمل الضيق والحزن واألسى والبغض .وألول
مرة أتذوق البغض يومذاك ،حين استقبلنا والدي
بذات الغضب الذي غادرناه به ،ورغم ذلك
أسرعت نحوه بابتسامة كأنني كنت أحمل قدرا
من االشتياق نحو ذلك الشخص الذي لم تظهر
بوارد ود منه تجاهي من قبل ،فرمقني بنظرة
اشمئزاز وربت على كتفي على استحياء ،كمن
ينفض الغبار عنه ،كأنه يخشى أن تطاله لعنتي،
أو تتنقل إليه عدوى مرضي .لكنني على كل
حال ،كنت أوفر حظا من الصغيرة رغد التي
غادرت قبل أن تدرك حقيقة خروجها للدنيا،
110
وعادت تخطو أولى خطواتها به ،كضيف غير
مرحب بوجوده واستقباله .لم يبال بها مطلقا،
وال البتسامتها الصغيرة التي تسلب العقول،
اكتفي بقوله :أهال ،بامتعاض ألمي ،ثم غادر
المنزل..
عندها أصبحت أراه كسيف للظلم قد سلط على
هذه النبتة الصغيرة ،التي لم يلتفت يوما إلى
رعايتها أو االهتمام بها ،ومع تقدم الوقت،
أصبح ينأى عن مناداة أمي باسمها ويكتفي بقوله
"يا شايلة الهم للمات" لجريمتها الشنعاء على حد
اعتقاده بإنجاب فتاتين على التوالي...
على الرغم من ذلك كنت سعيدة لعودتي للدراسة
التي فقدتُ إثر ذهابي برفقة والدتي إلى بيت
جدتي ،وهنا بدأت أرسم أحالما وردية لمستقبل
111
مزهر ،لم أكن أعلم أنني لن أناله حتى بأحالمي.
رحت ألقب نفسي بالدكتورة" نسمة رمضان"
أخصائي األطفال وحديثي الوالدة .وكنت أرى
في الطفولة عالما خاليا من األحزان واآلالم ،لذا
اخترت أن تقتصر عالقتي مع هذا العالم به،
واختزل تعاملي معه في محيط البراءة التي لم
تدنس بالظلم والخذالن.
وسرعان ما توالت األيام ،وكبرت رغد،
وأصبحت ترافقني للمدرسة ،التي أخذتنا نحو
شاطئ أحالم لن تطأه أقدامنا يوما ،ولن تسير
قافلتنا نحوه ،كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف .لم نقدر على شيء من أمرنا ،حين
112
قرر والدي أننا سنعمل بعد ساعات الدراسة،
وإال لن نفكر في األمر بعدها حتى..
وبالفعل استسلم الجميع لمادة الزيف الجديدة التي
أصدرها أبي في قانونه ،فعملت إحدانا بمتجر
مجاور ،واألخرى عن عملت بمصنع في مدينة
قريبة ،وظلت هكذا الحال ما بين دراسة بأول
النهار وعمل بآخره ،والذي كان يمتد أحيانا إلى
الليل ،جهد جهيد ،كنت أتم يومي بشق األنفس،
ال أكاد أشعر بنفسي لشدة إجهادي ،ومواصلة
الليل بالنهار..
ومضت بنا األيام لترسو على مرفأ جديد لليأس
يختلف إلى حد كبير عن العناء السابق ،لقد
وصل قطار المأساة إلى محطته األخيرة ،وبات
اآلن على مسافريه الترجل نحو وجهة غير
113
معروفة إلى اآلن ..لقد بلغ السيل الزبى ،فقد ولد
ألبي فتاة ثالثة ،لكنه أنكر نسبتها إليه هذه المرة
تماما ،وطلق أمي بال رجعة ،وطردنا من
المنزل نهائيا!!
هنا بدأت معركتنا الجديدة ،إثبات نسب الوليدة،
وتأمين منزل ،وسبل عيش ألربعة أرواح،
ومواجهة مجتمع بأسره ..ثم أخيرا استكمال
دراستنا..
لم تكن البداية يسيرة ،ما بين مشقة االنتقال من
المدرسة ،واالستقرار ببلدة غريبة ،ونظرة
سفاحي األخالق والمبادئ ،وبعد عناء شاق
ألربعة أشهر يمكن القول أننا استطعنا إحراز
تقدم بتلك المعركة الدامية ،التي استلت كل
شعور بالسعادة منا ،وسامتنا سوء العذاب بلهيب
114
جمارها ..فعلى الرغم من أننا ابتعدنا عن البلدة
التي يسكنها أبي ،إال أننا أُرغمنا على زيارته
صل من راتبنا نوعا من
في نهاية كل أسبوع ليُ َح ّ
اإلتاوة التي فرضها علينا ..نعم لم يكن يترك لنا
سوى الفتات ،أقل ما يقام به رمق الحياة .لم يبد
يوما أية شفقة لحالنا وما آلت إليه األمور ،حتى
أنه تزوج بأخرى ،علها تغسل حوبته ،ويكون له
منها الوالد ..ولكن األقدار أضمرت له عقابا من
نوع خاص ،فالمرأة التي تزوج كانت عقيم!!.
وظل البيت خاويا على عروشه لسنوات ،يبكي
جدار السعادة الذي انقض فلم يستطع إقامته،
كأنه رسم دارس ،وأنقاض بناء ،كان يضم بين
جنباته في يوم ما قد يوصف بأنه أسرة..
115
تتابعت السنوات من جديد ،وحطت بي في
محطة الثانوية العامة ،السنة التي يشيب لها
الولدان في كل بيت بأرجاء المعمورة .لكن ما
ألم بنا من أهوال ،ال يقوى على مناهضته أي
شيء ،ظللتُ على سابق عهدي من الذهاب
للمدرسة صباحا ،والعمل بعدها حتى المساء،
لكنني هذه المرة كنت أختلس بعضا من ساعات
نومي حتى يتسنى لي الدراسة ،ومراجعة
دروسي..
كنت أحاول أن أبذل جهدي ،وأسعى على قدر
استطاعتي ،وقد الح بخاطري أمنيتي الصغيرة
التي خبأتها بين طيات الزمن ،ورغبتي بأن
أصبح طبيبة ،كما أنني اعتقدت أنه سبيل نجاتي
األول واألخير ،فربما اعترف بنا والدي،
116
وتحسنت أوضاعنا المادية ،وعصمت أختاي من
العمل والتعب ..لم أدخر وسعا لتحقيق أمنيتي
التي كانت بمثابة معركتي األولى واألخيرة في
الحياة..
وبالفعل ،لم يقابل هللا جهودي بمثلها فقط ،بل
ضاعفها بفضله وإحسانه الكريم ،وبدال من
حلمي بااللتحاق بكلية الطب ،كللت جهودي
بتتويجي للحصول على المركز األول على
مستوى الجمهورية...كان فضل هللا علي مذهال
لدرجة لم أحلم بها حتى ،التفت نحو الماضي
األليم للحظات ورددت بداخلي "ما رأيت شرا
قط".
117
لقد برئت كل أوجاعي وأسقامي ،لوهلة كأن كل
ما حدث لم يحدث أبدا ،حلقت في سماء الفرح
والسعادة التي لم أكن أعرف لهما سبيال من
قبل ،ال سيما وقد حضرت الصحافة لتقيم معي
حوارا حول أسباب تفوقي ونجاحي..
لكن مع بداية المقابلة انعقد لساني ،وكأنني
سقطت من أعلى الهاوية نحو أعماق الجحيم،
لقد قتلني ذلك الصحفي برمية مسددة دون أن
يدري ،حين سألني :يبدو أن والدك متوفي ،ترى
ما سيكون شعوره لو كان معنا؟؟
حاولت تجميع بعض الكلمات ألجيب عن
سؤاله ،لكن كل ألفاظ التعبير قد خانتني عندها،
وزل لساني ،ليصدع بالحقيقة المؤلمة" ال
118
أعرف ،ربما سيجحد األمر كما جحد وجودي
من قبل"..
ال أعرف كيف أمكنني قول ذلك وال ما حدث
بعدها ،لكنني بقيت بمفردي مدة طويلة أبكي كل
لحظة عناء سكتُ عنها من قبل ،أبكي َبطر حقي
وحق أخوتي ،أبكي نفسي التي أعتصرها األلم،
أبكي لرغد التي ولدت قرينة للذل واإلهانة،
أبكي لوالدتي ولضعفها وقلة حيلتها ،أبكي
لياسمين التي فقدت حقها في االنتساب إلى أبيها،
وشردت على طرقات الذل كلقيطة منبوذة ،أبكي
إجحاف مجتمعي قبل كل شيء ،الذي نبذ من
الجاهلية ما كره واستثنى منها ما طابت إليه
نفسه...بكيت حد االرتواء ،حتى غسلت ندوب
119
قلبي بماء دمعي ،حتى جفت المآقي ،حتى
اكتفيت واكتفى مني البكاء..
بعدها وقررت مواجهة أبي ،قررت أن أنزع
الغشاوة عن عينه ،وأجلو الران الذي غشي
قلبه ،قررت أخيرا أن اقتحم صرح كبريائه،
وأهدم قلعة جبروته وسطوته وبطشه ،وبالفعل
غادرت المنزل نحو بيته ألصطدم بآخر
توقعاتي ،إنه يبدو كزفاف من بعيد ،ومن
العريس المنشود ،إنه أبي!!
كانت تلك محاولته الثالثة ،في سجل بؤسه
للحصول على الذكور ،اكتفيت بإشارة من بعيد
على استحياء ثم غادرت المكان من فوري،
وبماذا سيفيد العتاب لمن ليس له قلب! إن طلب
الشيء من فاقده يعد ضربا من العبث والجنون!
120
تخطيت تلك األيام التي طال مرورها على
قلبي ،والتحقت بكلية الطب بالفعل ،كنت أرسم
لوحة سعادتي بهدوء وتروي ،أخشى أن تختلط
علي األلوان فيتسلل إلى لوحتي األسود من
جديد ..حتى فجعني القدر بما لم أحسب له من
قبل ،ولم أفكر فيه مطلقا ،إنه هول من نوع
خاص ،قاس إلى حد يجعلك تتمنى الموت بكل
ثانية تمر عليك في هذه الحياة .لقد كان أقسى
اختبار مقدر لي في هذه الدنيا ..لقد توفيت "
الياسمين" توفيت لتترك شذاها يؤرقني بذاكرها
في كل ليلة ..لتترك االبتسامة تنأى عن بيتنا،
ويسكنه األلم وبحق ..عندها أدركت أن كل
جرح عهدناه وتجرعنا ألمه بالماضي لم يكن
جرحا بمعناه الحقيقي ..لقد كانت صدعا شقق
121
قلبي ،فلم أستطع مداواته حتى اآلن ..واأللم
الذي خلفته لم تكتشف له العقاقير بعد ..يصعب
علي تشخيصه إلى هذه اللحظة ،كما أعجز عن
وصفه حتى!
انطفأ كل بريق لألمل كان يسكن بيننا ،وسرمد
الحزن على كل زاوية في المنزل ،لم أكن أدرك
أن الياسمين كانت قلب المنزل النابض ،وبريق
األمل بعينه ،رمق روحه ،وترياق سعادته،
ووميض فرحه الذي سلبه منا أبي بجوره منقطع
النظير ..لقد توفيت في طريقا لتوصيل اإلتاوة
األسبوعية التي ندفعها ألبي ،ومما يكويني
ويذيبني كمدا أنه قد أخذ تعويضا عن الحادث
بكل تبجح وعدم مباالة ،لقد تمكنت القسوة منه
حتى أن الوحش يعد مالكا مقارنة به!
122
لقد قتلها وشرب دمائها بأخذ ديتها بكل دم بارد..
تخرجت بعدها بفترة ،وتقدم إلى خطبتي زميل
لي ،لكن أبي تدخل وللمرة األولى فيما يعنيني
قائال :إذا أمكنك أن تدفع ثمنها فال أمانع أن
تأخذها ،ثم اتبع ذلك بضحكة ساخرة ولك أن
تأخذ األخرى هدية أيضا ..وراح يثقل كاهله
بمطالبه التي ما أنزل هللا بها من سلطان ،فلم
يجد المسكين بدا في الفرار...كان هذا أول
اعتراف بي من أبي ،أعلم أنه لم يعترف بي
كابنة له ،قطعة منه ،لكن كصفقة رابحة له..
الصفقة التي ستجلب له أمواال طائلة على فرض
أنني سأعمل في المتاجرة بأوجاع الخلق كما
يفعل البعض ،لكن المأساة لم تنتهي عند هذه
الحد ،بل امتدت يد الظلم لتطال رغد هي
123
األخرى ،تخرجت لتعمل في مكتب هندسي،
يحصد أبي أجرها وال يدع لها حتى النقير...
فأين المفر؟!
أين هو المفر من مستنقع األحزان؟! وكيف
السبيل إلى النجاة؟
أين المفر من لظى معاناتي ومأساتي؟!
أين المفر من قيد معتقدات هدمت صرح
سعادتي وبقائي؟
أين المفر من آالمي وأسقامي التي تطاردني
كأشباح الظالم؟!
124
أين المفر من علة ولدت بها في جور مجتمع
ظالم عاتي!
أين المفر وأنا طبيبة عجزت عن فهم علتي،
وسبب معاناتي ،وكيفية مداواتي؟!
أنا جرح الزمان الذي لم يبرأ ولن يبرأ ،أنا
الموءودة على ظهر األرض ..أنا االبتسامة
المسلوبة ،والعبرات المكتومة ،واآلالم
المسمومة...
أنا خطيئة مجتمع كامل ،لم يعرف يوما" بأي
ذنب قتلت"..
★★★
125
ص ْبر َج ِميل
-8فَ َ
كنت صغيرة جدا حينها ألدرك ما قد حدث لي،
ألدرك أنني كنت بضاعة مزجاة ،ألدرك أنني
قد سلبت أبسط حقوقي على مرأى ومسمع من
العالمين ،ولم يبال ألمري أحد...
بالمناسبة أنا أمنية ،األمنية الوحيدة التي كتب لها
أن تعلق في كهف األمنيات الحزينة ،الغير
محققة .األمنية الصغيرة التي عجزت عن
مداوتها أمي ،ومساندتها أخي ،ونصرتها مجتمع
بأكمله ...لكن هناك يقين بداخلي أن نجاتي
ستصير عجبا لبني العالمين...
126
كنت بالصف الثالث في المرحلة المتوسطة،
حين قررت أمي وجمعها الغفير من أخوتي
تزويجي في أحد أكثر الليالي بؤسا بحياتي..
كانت الصدمة قد فاقت كل توقعاتي ،لم أدر بأي
عذر أتعلل وما هي حجتي لتفادي الحادث
األكثر ألما بحياتي .فبعد وفاة والدي لم يعد هناك
ما يستحق البقاء ألجله ،لقد كان عصاتي التي
أتوكأ عليها ،وأذود بها عن قلبي العناء الذي
يصيبه ،مالذي اآلمن لدى الخطوب المفزعة،
وبلسم روحي إذا اشتدت اآلالم ..حقا أعجب
كثيرا من آالمي في تلك الفترة التي كانت تتمثل
في مشاجرة عابرة مع إحدى الزميالت ،أو
امتحان في مادة ال أحبها كثيرا ،أو زيارة عائلية
ال أرغب في استقبال ضيوفها ..فهل هذه آالم
127
حقا...اليوم أيقنت المعنى الحقيقي لآلالم ،حين
يكتب مصيرك بيد أكثر األشخاص بعدا عن
روحك ،وما تطمئن وتسكن إليه نفسك .لقد انعقد
مجلس حكماء العائلة الموقرة برئاسة أخوتي
الثالث ،وأمي القائد األعلى ،وأصدروا فرمانا
يفيد تزويجي برجل يزيد عمري بخمسة عشر
عاما .نعم ،أسمع اآلن من يقول إنه عمر آخر،
والبعض يرى أنه ال بأس مادام هناك توافق
وتفاهم ،لكنني أعدمت في مظلمتي شتى
الخيارين؛ فلم يملك كمال قدرا من التوافق ،ولم
يكن بيننا تفاهم في يوم ما .كنت خادمة مطيعة،
تلبي األوامر بحذافيرها بكل هدوء واستسالم ،لم
أعرف يوما إجابة سوى سمعا وطاعة .لكن
إحساني لم يقابل يوما باإلحسان ،بل كان في
128
مقابله كل قسوة وازدراء ونكران للجميل.
تزوجت كمال وهو ال يملك من حطام الدنيا
الكثير ،كان يصعد سلم الثراء درجة بدرجة،
حتى أنه غادرني بعد الزفاف بثالثة أشهر ،في
أحوج ما يكون إليه ،فبينما كانت زميالتي تذهبن
يوميا للدراسة ،كنت استيقظ على طرق والدته
الشديد على باب شفتي تردد :ما كل هذا
النعاس ،ستجلبين الفقر للمنزل ،سينقطع رزقنا
بسببك ،هيا استيقظي لتحضري الفطور ،هناك
أناس لديهم أشغال ،فليس الكل عديم الفائدة
مثلك...
وكل يوم كنت استيقظ على ذات االسطوانة
البذيئة عديمة الشعور ،فأنزل لبيتها أعمل
كخادمة لديها ولدى بنيها وبناتها الالتي كن في
129
نفس سني تقريبا ،لكن الران الذي كسى قلبها
بالكامل لم يسعها يوما أن تنظر إلي بذات العين
س ّخرة كليا،
التي كانت تنظر بها إليهن ..كنت ُم َ
أعمل بدوام كامل ،ال يتخلله ولو بعض الراحة،
حتى الدقائق التي كنت اختلسها للصالة ،كانت
تضيقها ذرعا :أنت ،هل تصلين التراويح أم
ماذا ،هل تمتد صالتك طوال النهار؟ ال أعلم ما
الذي جناه ولدي الحبيب ليبتلى بزوجة مثلك ،آه
عليك يا ولدي زين الرجال ،ليس لك حظ في
هذه الدنيا .وكل يوم على نفس الحال من اإلهانة
والسباب ،والهمز واللمز هي وبناتها.
فكرت كثيرا أن أهجر المنزل واذهب إلى
والدتي وأخوتي ،ولكن هيهات فهم من أهدوني
لجالدي بال ذرة واحدة من الشفقة أو االحساس،
130
وكان جل ما يتعللون به :إنك جميلة ،ونحن
نخاف عليك ،ومهما بلغت من التعليم ،ليس
للمرأة سوى بيت زوجها ..ربما كنت ألصدقهم،
لو دام هذا الجمال الذي تشدقوا به ،أو كان ذلك
بيتا على األقل .إنه حكم مؤبد باألسى واآلالم
الشاقة ،إنه كهف لليأس للكسر للعجز ،إنه ُجب
كجب يوسف ،إال أنه ال تطرقه سيارة أبدا!
وبالفعل قضيت أيامي أعاني وحدي ،حتى فقدت
احساسي باألشياء وبريقها ،بل وجودها! ومما
زاد معاناتي أنني رزقت بفتاة ،وهنا قامت قيامة
من نوع آخر ،فما قد ما مضى ال يساوي معشار
ما أعانيه اآلن ،وكنت أعجب حقا مما تعرني به
أم زوجي وهي التي رزقت من البنات ثالث،
وهي في ذاتها أنثى أو كما يبدو..
131
على كل انقضت فترة سفر زوجي ككابوس
مزعج ،كنت أؤمل نصرته لدى عودته ،ورد
اعتباري واعتبار ابنته التي وسمتها جدتها "
أر
بمصيبة" ساخرة من اسمها" منة" ،وحقيقة لم َ
في نوائب الدهر مصيبة تعدل هذه المرأة التي
كاد الحقد والغضب يذيب داخلها ..أضناني
الذهول عند عودة زوجي وقد استقبلته على
مدخل البيت ،تبكي وتشكو سوء معاملتي،
وإساءة أدبي بحقها .ال أخفيكم سرا انعقد لساني
عن التفسير وقتها ،كدت أصدقها لو لم أكن
خصيمها المدعى عليه زورا وبهتانا ،حتى أن
زوجي مكث لديها بعد عودته لمدة أسبوع كامل
كنوع من التأديب لي ،وإرضاء لوالدته.
وألصدقكم القول لم أتعجب كثيرا؛ فاألب الذي
132
يقسو على ابنته في أول لقاء لهما ،ويقابلها بهذا
الفتور البارد ،ال يتوقع منه اشفاقا أو تقديرا
لشريكته! ...
مرت األيام ثقاال على قلبي ،حتى أصبحت
صخرا أصما ،لم أعد اتضرر مطلقا لم يفعلون،
كنت أتدثر في كل ليلة "بيوسف" ،تلك اآليات
التي كنت أشعر بها تربت على قلبي بهدوء،
وحنان ،كانت بمثابة دواء لكل داء ،السباب،
التطاول ،الكسر ،والفقد ،وكل ما جال ببالكم وما
لم يَجل ،كأنها وصفة سرية لمداواة علل الروح
والنفس والقلب ،وكل ما قد يتعثر أو يبتلى به
المرء ،إنها الدواء الذي لم يفشل أبدا في مداواة
ألمي ،كأن قلبي يغسل في كل مرة كنت أقرأها
فيها .حتى حفظتها عن ظهر قلب ،وأصبحت
133
أهمس بها لنفسي طوال فترة دوامي" إنما أشكوا
بثي وحزني إلى هللا وأعلم من هللا ما تعلمون"
نعم أعلم من هللا ما ال تعلمون ،أعلم أن كل ألم
مؤقت ما دام في ثنايا الدنيا المؤقتة ،وكل هذا
سينقضي يوما ما ،وهللا وحده المستعان عليكم،
وعلى ما تصفون ،وما تفعلون ،هللا حسبي
وناصري وكفى به نعم النصير...
وبعد فترة زفت إلى طبيبتي بشرى حملي للمرة
الثانية ،وهنا فتحت قذائف الحمم على
مصراعيها ،يا أم البنات ،وأنت أرض مالح ال
تنبت األوالد قط ،وكل هذه الويالت التي لم تعد
تجذب اهتمامي ،لم يكن هناك أسوأ من إصابتي
بالسكري ،وتساقط بعض أسناني ،وتناثر بعض
الخصالت البيضاء بشعري ،وذهاب كل ُحسن
134
قد عهدته بنفسي .أنا لم أعد أمنية ،بل أنا أنشودة
الفناء ،وأهزوجة األلم ،وقصيدة اليأس واألسى،
لكنني كنت بالرغم من كل ذلك أردد" فصبر
جميل" وهللا المستعان على كل من ظلمني
وأودى بي ،على كل ألم عانيت وعايشت ،على
كل الليالي التي أمضيتها أبكي في صمت،
تتساقط العبرات كشالل حارق على وجنتاي في
صمت تام ،كم كنت أتمنى أن أحظى بفرصة في
الصراخ ،لكنني حتى التألم قد سلبت حقي فيه!.
وبمجرد أن وضعت ابنتي الثانية ،حتى أبرم
زوجي خطة أمه بالزواج من أخرى ،لم أمانع
في الواقع ،كنت انتظر الدائرة لتدور عليهم،
وتقتص لربيع عمري الذي أفنيته على من ال
يستحق ،وبالفعل تزوج من ابنة خالته " عال"
135
الحصان الرزان التي تتغنى بها أمه على الدوام.
وال أريد أن أقص عليكم قدر المأساة بعدها،
لكني على يقين تام بأن أقسى ما توقعتم ال
يناهض ما قد حدث.
ثم شاءت األقدار ووضعت عال بنتا ثالثة
لزوجي ،أصيبت حماتي بجلطة إثر إخبارها
بالبشارة ،فقدت النطق وقضت ما بقي من
أعوامها على كرسي متحرك ،ثم أضمرت لها
العدالة اإللهية أمرا آخر ،لقد توفيت الفتاة بعد
والدتها بفترة ،وطلبت عال الطالق ألنها لم تجد
توافق بينها وبين زوجها المتعجرف ،إنه ال
يطاق وال يحتمل ،كهذا وصفته في الجلسة
العرفية أمام أعيان بلدتنا الكرام ،وبالفعل طلقها
ودفع كل ما يملك كمؤخر لها ،وثمنا لقائمة
136
المنقوالت ،وغير ذلك مما كان يثمن وهو على
يقين ببقاء زيجة الهنا والسعادة..
ثم لم يبقَ أحد! نعم الوالدة أصبحت حمال ثقيال
على عاتقه ،والزوجة لم تبق قطرة من ماء وجه
حتى أراقت ودنست هيبته باألرجاء ،كما نسيت
أن أخبركم أن مخازن تجارته قد احترقت ،وعاد
كأول يوم التقيته فيه ،يعمل في بقالة مجاورة،
لكنني على الرغم من كل ذلك كنت كما أنا،
السامعة المطيعة ،التي مرت بأحلك الظروف،
وكنت على استعداد أن أخطو فوق الجمر ثانية
حتى ال أفرق بين بناتي ووالدهم ،وأهدم صرح
أمانهم الوحيد ،فحتى وإن كان متصدع إال أنه
يبقى منزلهم ومأواهم الوحيد بهذه الدنيا...
137
"منة ومرام" كانتا شغلي الشاغل في الحياة ،كل
أملي ،وأمنياتي المبعثرة في ريح معانتي ،كل
عدتي وعتادي وذخيرتي ،وحصوني وقالعي،
كانتا شعاعي المشرق الوحيد ،وما يستحق أن
أعيش ألجله بحق..
ومع تقدم الوقت ،توارى ستار الزيف عن عين
زوجي شيئا فشيئا ،وأصبح بإمكانه أن يبصر
نور الحقيقة ،ومظلمتي التي عشتها خلف
جدران زواجه واالرتباط به .بدأ بحسن إلى
على استحياء ،كأن طبيعة الحال هي اإلساءة،
ولم يغير ذلك شيئا بداخلي ،كنت كما أنا ،في
الحقيقة لم يعد يمثل لي قدرا من األهمية تجعلني
أتألم لما يفعل أو لم يفعل .كنت أعيش صورة
زائفة ألسرة حتى ال أؤرق ابنتاي فحسب.
138
أما عن حماتي فقد سامحتها ،ليس ألنني أشفقت
على حالها وقد كنت الشخص الوحيد القائم على
خدمتها وكفى بهذا واعظا .لكن ألنني أحب أن
يغفر هللا لي ،كما كنت على أمل بعاقبة صبري،
فاألزمات مهما طالت واشتدت ،فالبد من يوم
لزوالها.
وبالفعل قد أذن هللا بنجاحي في االختبار القاسي،
دخلت ليلة وفاة حماتي ،فوجدت كمال يبكي
بشدة ،كما لو كان لم يعرف البكاء من قبل.
أذهلني ما رأيت ،لم اتوقع ما يحدث مطلقا ،كان
هذا آخر شيء أتوقع رؤيته في حياتي ،تسمرت
أقدامي باألرض ،وتجمدت أجزائي كلها ،كأني
منحوتة حجرية في مدخل الغرفة ،أراقب بعين
ال ترف ما يفعل زوجي ،وسط حالة شديدة من
139
الدهشة والذهول ،حتى أنهى صالته ملتفتا
نحوي ،فتسارعت أنفاسي محاولة مغادرة
المكان ،إال أنه هتف بي" سامحيني أمنية" فخفق
قلبي بشدة كأنما قنبلة بدأت عدها العكسي للتو،
لم أستطع أن أنبس ببنت شفة ،فعاودني :أعلم
أن ما أطلبه ليس باليسير ،ولكن ليكن ابنتاي
شفاعتي لديك ،ال أريد أن أموت وأنا أحمل
مظلمتك كما فعلت أمي .عندها أجهشت في
البكاء ،لم أع شيئا مما حدث بعدها ،كان جميل
عوض هللا ما يعجز عن استيعابه ،لقد نلت
ذاتي ،وكرامتي ،وحريتي ،وتقديري بتلك
الكلمات الوجيزة.
كان سندي أعظم من أن يضام أو يترك مظلمتي
وشكايتي ،وللمرة األولى أصبحت أؤمن بأني
140
أمنية حقا ،أمنية الصبر الذي عزت معاركه،
وعظمت جائزته ،الصبر هو المعركة الوحيدة
التي تخرج منها على يقين تام بالنصر ،تلك
الدعوات التي ترسل إلى بريد ال يضل وجهته
أبدا ،البريد الذي ال يعرف العطالت أو فترات
االستراحة؛ فالباب مفتوح أمام الجميع في أي
وقت شاء..
مهما اشتد البأس فانتظر الفرج؛ واعلم أن أحلك
الظلمات هي التي يعقبها بزوغ الفجر ،ثم إياك
أن تنسى بأن الصبر وإن كان مر مذاقته ،إال أن
عواقبه أحلى من العسل!.
★★★
141
-٩أجر المحسنين
إنها األقدار ..تمنحنا قدر ما تأخذ ،فقط المزيد
من الصبر والرضا ،واليقين بأن كل منا
مستوفي رزقه غير منقوص ،هو ما يحكم
طبيعة الموقف ،ويحول كل محنة إلى أجمل
المنح!
ولدت يتيمة لوالد ال أتذكر أي لحظة جمعتني به
مطلقا ،إال اللحظة التي فارق فيها العالم بأسره.
اللحظة التي لقى عندها حتفه بينما يحاول إنقاذي
من لظى حريق شب بمنزلنا نتيجة ماس
كهربائي..فآثر حياتي على حياته .واليوم أتمنى
لو أحظى بحياة ثانية إلى جواره في الجنان..
142
لطالما تذكرت عبراته التي ذرف خوفا على
طفلة صغيرة تكاد تحترق بين ألعابها
الصغيرة..استيقظت كثيرا على هول النار
تفترسه أمام عيني ،المشهد األكثر فزعا وترويعا
في حياتي؛ فكل ما ألم بي بعدها ليس إال كرماد
بيتنا المحترق بعد ما حدث...
تذكرت أمرا ،أنا أميمة ،وال أدري لم قد أطلق
علي والدي هذا االسم ،فلم أحظ بفرصة لسؤاله،
ولم تخبرني أمي باألمر ،ولم أسع لسؤالها حتى،
لكنني أحبه ،وأعده ذكرى والدي الوحيدة،
بجانب صورة شخصية صغيرة ،أذوب إذا
تأملتها من حين آلخر...
143
وبالحادث تعرضت أمي لحروق كثيرة ،بأجزاء
متفرقة في جسدها ،تركت على إثرها الكثير
من الندوب التي ُجعل الزمن عامل مداوتها
الوحيد ،بينما استقر باألعماق جرح من نوع
آخر ،أوقن أنه لم تكتشف له العقاقير حتى اآلن!
وتلك هي ندوب القلوب ،يمتد تأثيرها لمدى
طويل ،وفي كثير من األحوال تعصى على
التعافي!
كنت أرى هذا الصدع يشقق وجهها ،كلما سألتها
عن أبي ،كيف كان ،وما يحب ،وما يكره ،حتى
كانت أحد األيام التي أجابت قائلة :كان عطاء
هللا لي ولك ،العطاء الذي عجزت عن استيعابه
144
طيلة حياتي معه ،وازاد األمر بعد فقدي إياه ،ثم
انتفضت تواري عبراتها مسرعة..
حينها قررت عدم سؤالها في األمر أبدا،
أدركت أن تكون معنى مصابا بعلة مزمنة،
ويأتي أحدهم كل يوم ليذكرك بأنك مريض،
فآثرت أن احتفظ بكل تلك التساؤالت إلى لقاء
غير معلوم..
ورحلنا في قافلة الحياة ،نتلمس الخطى على
تراب القدر المحتوم ،بنفوس يغشاها الرضا،
وتملؤها السكينة ،فكل ما جاء من عند هللا خير،
وكل مصيبة يبتلى بها المرء تهون مادامت في
غير الدين...
145
وبعد سنوات ،تخرجت من الجامعة ،أردت أن
أزيح بعصا من العناء عن كاهل أمي ،التي
تحملت مشقة السير بمفردها ،ولم تدخر في
سبيل سعادتي وسعا وال قوة ..وبالفعل تمت
الموافقة على طلبي أللتحق بهيئة التدريس في
إحدى المدارس الخاصة ،كمعلمة للغة الفرنسية،
ورغم أن األجر كان زهيدا في البداية ،إال أن
البركة كانت تصنع المعجزات!
وبعد فترة ،تقدم إلى خطبتي زميل لي في
المدرسة ،رفضت وبشدة ،لم يكن يخيل إلي أن
أترك أمي مطلقا ،ولم أجعل الزواج أحد أهدافي
في الحياة ..قصرتها على التدريس ورعاية أمي
المريضة ،وبعض العمل التطوعي في أوقات
الفراغ..لم أجد في حياتي حينها من قد أئتمنه
146
عليها من بعد أبي ،لطالما جاهدت أمي إلقناعي
بالعدول عن األمر ،لكنني تشبثت برأي حتى
النهاية..النهاية التي أسدلت ستارا جديدا للحزن
على قلبي ،لقد توفيت أمي ،وأذن هللا باسترداد
األمانة الثانية ،وبعض روحي التي ظلت على
األرض ،عندها أدركت معنى اليتم الحقيقي،