أحببت السراب - 1

1

2

‫★تصميم غالف وداخلي وتعبئة★‬

‫وفاء سامي‬
‫★حسابات تواصل الكاتبة★‬
‫فيس بوك‬
4‬‬
‫آسك‬

‫حاصلة على ليسانس اللغة العربية جامعة‬
‫األزهر بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف األولى‬
‫وماجستير اللغة العربية‬

‫‪3‬‬

‫س َراب‬
‫‪-١‬أَ ْح َب ْبت ال َّ‬
‫ال أدري حقا كيف أبدأ حكايتي‪ ،‬وما سأقتبس‬
‫منها‪ ،‬وكيف سأنسج خيوطها‪ ،‬لكنها تتلخص في‬
‫كلمتين ال ثالث لهما‪" ،‬أحببت السراب"‬
‫نادمة بشدة‪ ،‬وال أدري على أي شيء أندم‪ ،‬هل‬
‫على أيام عمري التي تمضي دون فائدة تذكر‪،‬‬
‫أم أحالمي التي ولت مدبرة ولن تعقب‪ ،‬أم على‬
‫شكلي ومظهري وصحتي التي ذهبت ولن تعود!‬
‫بدأت قصتي المؤلمة منذ سبع سنوات تقريبا‪،‬‬
‫حين التحقت بالجامعة‪ .‬شيرين طالبة متفوقة‪ ،‬لي‬
‫قلة من الصديقات‪ ،‬ال أميل إلى التجمعات وكثرة‬
‫االرتباطات‪ ،‬لم تعني لي الجامعة أكثر من مكان‬
‫‪4‬‬

‫للتعلم‪ .‬حققت نجاحا باهرا في أول عامين لي في‬
‫الدراسة‪ ،‬وظلت هكذا حالي‪ ،‬إلى أن جاء يوم لم‬
‫أحسب له قبال‪ ،‬أشارت زميلة لي إلى شاب يقف‬
‫على بعد أمتار من مجلسنا‪ ،‬ثم نظرت نحوي‬
‫بخبث بالغ مردفة‪ :‬سبحانه! وله في ذلك‬
‫حكم‪...‬ثم حملت حقدها وجرت أذيال خبثها‬
‫مغادرة المكان‪ ..‬ولم يمض أسبوع على تلك‬
‫الحادثة؛ حتى وجدت أحدهم يتبعني إلى المنزل‪،‬‬
‫لم أُعر األمر اهتماما‪ ،‬وبدوت متجاهلة لما‬
‫يجري‪ .‬وصلت للمنزل وأسرعت الخطى نحو‬
‫غرفتي‪ ،‬ال أتذكر شيء مما حدث بعد ذلك‪،‬‬
‫سوى أن ذلك الشبح كان يطاردني بعدها بكل‬
‫اتجاه‪ ،‬وال زلت حتى اآلن أجهل السبب‪ ،‬ال‬

‫‪5‬‬

‫أعرف ماذا كنت أعني له‪ ،‬وماذا قد أصبحت‬
‫أعني اآلن!‬
‫فجأة ظهر أمامي بعدها في قاعة المحاضرات‪،‬‬
‫رمقته بنظرة تتأجج غضبا‪ ،‬ولم ألتفت لكلمة‬
‫واحدة مما قالها‪ ،‬تركت المكان بهدوء تام‬
‫وانصرفت نحو المنزل‪ .‬وبعد أيام قليلة‪ ،‬حلت‬
‫اختبارات انتهاء العام الدراسي‪ ،‬فاختفى تماما‬
‫عن األنظار‪ ،‬حمدت هللا من قلبي‪ ،‬تمنيت لو أن‬
‫كل األيام تكون اختبارا‪ ،‬وال أراه أمامي من‬
‫جديد‪ ..‬لكنه كان اختباري األعظم في الحياة‪،‬‬
‫االختبار الذي لم تحسم نتائجه‪ ،‬ولم ترصد‬
‫درجاته بعد‪ ،‬االختبار الذي لم أتهيأ له على‬
‫القدر الكافي‪ ،‬وربما يكون األسوأ على‬
‫اإلطالق‪..‬‬
‫‪6‬‬

‫بعد تجاوز فترة االمتحان‪ ،‬أخبرني والدي أن‬
‫هناك من يتقدم لخطبتي‪ ،‬وطلب مني االستعداد‪،‬‬
‫وبالفعل بعد تململ طويل خرجت ألجد آخر‬
‫وجه قد أرغب في رؤيته‪ ،‬لقد كان هو بالفعل‬
‫من ظننتم‪ ،‬وما إن رأيته حتى اختنق داخلي‬
‫وضاق صدري‪ ،‬جلست نحو خمس دقائق كانت‬
‫دهرا بالنسبة إلي‪ ،‬ثم انسحبت من المكان‪،‬‬
‫وداخلي مبعثر تماما‪ ،‬ينتابني عدة تساؤالت‪،‬‬
‫لماذا أنا‪ ،‬لم اختارني من بين كل الفتيات الالتي‬
‫تلحقن به مرارا؟‬
‫هل أراد أن يثبت لنفسه انتصارا جديدا بضمي‬
‫للقائمة؟ أم أنه معجب بي بالفعل كما أخبرني‬
‫والدي بعد انصرافه‪ ،‬حاولت جاهدة التخلص من‬
‫األمر‪ ،‬وتبرير رفضي له‪ ،‬لم أجد سببا مقنعا في‬
‫‪7‬‬

‫ذلك؛ فأسامة كانت به كل المواصفات التي‬
‫وضعها والدي ألحالمهما‪ ،‬عائلة يضج صيتها‬
‫باألرجاء‪ ،‬مال‪ ،‬ترف‪ ،‬ونفوذ غير متناهي‪ ،‬ثم‬
‫إن الشاب متعلم‪ ،‬في كلية كما يقولون عنها من‬
‫(كليات القمة) وليست القمة في كلية أو غيرها‪،‬‬
‫بل القمة في النفس التي تحمل صاحبة إلى أعلى‬
‫قمة‪ ،‬ومع مرور الوقت وإلحاح والداي‪،‬‬
‫وإصرارهما على فتى أحالمهم‪ ،‬وافقت بالنهاية‪،‬‬
‫وكانت تلك أولى خطواتي نحو الهالك‪ ،‬لم أكلف‬
‫نفسي بالدفاع عن مبادئي حتى النهاية‪ ،‬وبدأت‬
‫استمع لما تلوكه األلسنة وتتغنى به من مآثر‬
‫الفارس الهمام‪..‬‬
‫ثم وقعت الكارثة‪ ،‬فبدأت أساير الوهم شيئا فشيئا‬
‫حتى تسلل إلى داخلي تماما‪ ،‬وسايرت األمر كما‬
‫‪8‬‬

‫لو كانت تحكى عن األساطير كقيس وليلي‪،‬‬
‫ولكن أنى نحن وأين الليالي التي جمعتنا ثم‬
‫بعثرتنا في مهب الريح‪ ..‬تمت خطبتنا سريعا‪،‬‬
‫وكنت أوهم قلبي بأنه هو‪ ،‬هو اختياري وحلمي‪،‬‬
‫والنفس التي أتمنى أن تشاطرني أحالمي إلى‬
‫نهايتها‪ ،‬ال يحضرني اآلن من قصة الحب وإن‬
‫شئت القول قصة الوهم سوى نظرات اإلعجاب‬
‫التي كانت تغزو وجوه الفتيات عند رؤيتنا معا‪،‬‬
‫ربما كان هذا االنبهار والزهو الزائف هو ما‬
‫دفعني لخوض تلك المأساة عن طيب خاطر‪ ،‬أنا‬
‫لم أحب أسامة يوما‪ ،‬بل أحببت نظرات‬
‫اإلعجاب التي كانت تطوقني برفقته‪ ،‬كنت أشعر‬
‫بشيء من التميز ألنه قد وقع اختياري من بين‬
‫كل هؤالء‪..‬‬
‫‪9‬‬

‫وتقدمت األيام لتعلن الزفاف المنتظر‪ ،‬كان كما‬
‫حلم به والداي تماما‪ ،‬شخصيات مرموقة مزهوة‬
‫بالسطوة الزائفة‪ ،‬فرق موسيقية عتيدة تعزف‬
‫لحن وفاتي‪ ،‬وجوه تكتسي بالنفاق واالبتسام‬
‫المصطنع وإن كان بعضها يشي بقولهم‪ :‬من‬
‫تلك!‬
‫بعد الزفاف علمت أنني كنت بمثابة تحدي في‬
‫حياة أسامة‪ ،‬الشاب الذي ال يعرف حدودا لما‬
‫يريد‪ ،‬ولم يعتد أن هناك ما هو ممنوع عليه‪،‬‬
‫كانت تجربة إلثبات سطوته وجبروته‪،‬‬
‫ومطاوعة من والده الذي وجد في األمر ما قد‬
‫يصلحه ويقيم به شتاته ويقوم به فساده‪،‬‬
‫بعد الزفاف‪ ،‬بدأت األمور تتغير تماما‪ ،‬وجدت‬
‫عقال فارغا‪ ،‬ال يحتوي بداخله على رمق من‬
‫‪10‬‬

‫التفكير أو التعقل حتى‪ ،‬اتكال تام على الوالد‬
‫فاحش الثراء‪ ،‬فوضوية وعدم تحمل للمسئولية‪،‬‬
‫تذمر وسخط ألتفه األسباب‪ ،‬كنت ألوم نفسي كل‬
‫يوم‪ ،‬واتدثر بحزني ودمعي في المساء‪ ،‬ارسم‬
‫ابتسامات زائفة بوجه والداي وكل من حولي‪،‬‬
‫لكن هناك نظرات كانت تقتلني كل يوم‪ ،‬كلما‬
‫نظرت إلى تلك المرآة‪ ،‬ال أجد بها من كانت‬
‫تشبهني‪ ،‬تسرب اليأس إلى نفسي حتى انطفأ كل‬
‫أمل بداخلي‪ ،‬ومات كل حلم بالنسبة إلي‪،‬‬
‫وأصبحت ال اهتدي إلى نفسي التي اشتقتها‬
‫وبحق!‬
‫مرت األيام‪ ،‬وحلت السنة الدراسية الجديدة التي‬
‫كانت تحمل معها أعباء حدّبت ظهري‪ ،‬وأوهنت‬
‫عقلي أضعاف ما قد كان عليه‪ ،‬مسؤوليات عدة‪،‬‬
‫‪11‬‬

‫ما بين طالبة‪ ،‬وربة منزل‪ ،‬واألسوأ من ذلك أم‬
‫جديدة على مشارف األمومة‪ ،‬كان كل يوم‬
‫بمثابة جحيم على ظهر األرض‪ ،‬ابتعدت عن‬
‫كل من أعرف‪ ،‬قضيت أياما كثيرة بمفردي‬
‫أعاني ألم نفسي التي أحكمت قيدها بيدي‪ ،‬أعاني‬
‫من إهانات فارس أحالمي‪ ،‬لقد تغير شكلك‬
‫كثيرا‪ ،‬وازداد وزنك بضع كليو جرامات‪ ،‬وما‬
‫هذا الشحوب بوجهك‪ ،‬لماذا أنت متعبة دائما؟‬
‫والكثير من العبارات التي ال تنم إال عن شيء‬
‫واحد‪ ،‬نعم لقد أحببت السراب‪ ،‬لم أجد صفة‬
‫واحدة ذاتية أحبه ألجلها‪ ،‬لم يكن يوما رحيما‬
‫معي‪ ،‬لم أجد منه مساعدة قط‪ ،‬لم يسألني يوما‬
‫عن حالي‪ ،‬وما إن كنت بخير‪ ،‬إنه عار تماما‬

‫‪12‬‬

‫عن كل معنى لإلنسانية قبل الحب أو حتى‬
‫بوادره من اإلعجاب!‬
‫حتى أنه ال يمكن وصفه بجماد في صورة بشر؛‬
‫فالجمادات ال تضر وال تنفع أما هو فال يرجى‬
‫منه غير الضرر‪..‬‬
‫مرت األيام ووضعت طفلي األول‪ ،‬وانشغلت به‬
‫تماما عن كل شيء‪ ،‬تأخر معدلي الدراسي‪،‬‬
‫حتى تخليت عن دراستي تماما تحت منطلق‬
‫والداي (ولم تحتاجين إلى شهادة ومعك هذا‬
‫المال)‪ ،‬نعم معي المال‪ ،‬بال مشاعر‪ ،‬أو تفاهم‪،‬‬
‫أو أدنى اهتمام‪..‬‬
‫معي شيء واحد‪ ،‬بينما أضعت ألف شيء!‬
‫ليت الحل كان يكمن في تلك الوريقات التي‬
‫استخدمها والداي كحد بين فارس وغيره‪ ،‬بين‬
‫‪13‬‬

‫أسامة الذي كان قلبه هواء‪ ،‬وعقله هواء‪ ،‬وكل‬
‫شيء فيه‪ ،‬وبين غيره‪..‬‬
‫أقضي األيام كأسيرة في قصري الكبير‪ ،‬لم أعد‬
‫أنظر بمرآتي حتى أتجنب تلك النظرات‪ ،‬لم يعد‬
‫بإمكاني التحمل أكثر‪ ،‬أرغب في االنفصال عن‬
‫أسامة‪ ،‬وهجر العالم بأسره واالنفراد بصغيري‪،‬‬
‫الذي يحيا اليتم وكال أبويه بين األحياء‪ ،‬وال‬
‫أدري إلى متى يسعني البقاء في هذا األسر‪..‬‬
‫أكتب إليكم تلك الكلمات حتى ال تختبرن مرارة‬
‫األسر التي أعاني‪ ،‬حتى ال يصبح كل بيت يأسر‬
‫بين جدرانه شيرين أخرى‪ ،‬حتى ال تنخدعوا في‬
‫كل فارس يدق بابكم‪ ،‬حتى أكشف آالف األوجه‬
‫من أسامة التي كانت ومازالت تحيا بيننا‪ ،‬وأنقذ‬

‫‪14‬‬

‫أرواحا تولد على ساحة اليأس األسري‪ ،‬تولد‬
‫وليس لها ملجأ سوى بيت العنكبوت‪..‬‬

‫اختاريه إنسانا قبل كل شيء‪..‬‬
‫اختاري روحا تكمل روحك‪..‬‬
‫ونفسا تسكنين إليها وتسكن‪..‬‬
‫★★★‬

‫‪15‬‬

‫‪-2‬نَ ْظرة أ ْخ َرى‬
‫أعلم أني مذنب يقينا‪ ،‬وليس هناك ما يشفيني من‬
‫الندم‪ ،‬حقا لقد كنت المذنب الوحيد في هذه‬
‫القضية‪ .‬كنت مذنبا وقاضيا وجالدا في الوقت‬
‫ذاته‪ ،‬أصدرت حكما بإعدام روحي‪ ،‬ثم خففته‬
‫فيما بعد إلى السجن المؤبد خلف جدران‬
‫األحزان‪ ،‬مع األشغال الشاقة بالتفكير الذي كاد‬
‫يسطر شهادة وفاتي!‬
‫تبدأ قصتي عندما هممت بالتقدم لخطبة ابنة‬
‫عمتي" أميرة" يكفي أن ألفظ اسمها فقط‪،‬‬
‫ليستحضر ذهنك كل معاني الجمال‪ .‬لقد كانت‬
‫أميرة وبحق! كأنها أخذت كل مقادير السعادة‬
‫‪16‬‬

‫والنجاح المقدرة للخلق جميعا‪ ،‬ثم مزجتها في‬
‫كوب سحري وتناولته في صغرها‪ .‬متميزة إلى‬
‫أبعد حد قد يتصوره العقل‪ ،‬وال أريد أن أسمع‬
‫من يقول أنها عين المحب أو غيره‪ ،‬فأنا لم أعد‬
‫ذلك المحب‪ ،‬ولكنها تبقى كما هي!‬
‫تحمل وجها تفيض قسماته بالصفاء والبراءة‪،‬‬
‫لها حضور اجتماعي مذهل‪ ،‬تشد انتباه كل من‬
‫عرفها إليها‪ ،‬لو دخلت إلى أي مكان اللتف من‬
‫حولها من فيه‪ .‬كما أنها كانت متوفقة دراسيا‪،‬‬
‫مجتهدة إلى أبعد الحدود‪ ،‬تضع هالة حولها من‬
‫االحترام‪ ،‬ومساحة من األدب‪ .‬كنت قد أشغفت‬
‫بها منذ صغري‪ ،‬وكبرت وكبر ذلك الشغف‬
‫بداخلي‪ .‬لطالما صارعت إلخفائه وستره‪ ،‬حتى‬
‫أتى يوم ونفد كل صبر كان بداخلي‪ ،‬صارحت‬
‫‪17‬‬

‫أمي بالحقيقة‪ ،‬فسعدت لذلك كثيرا؛ فالفتاة يتمنى‬
‫الجميع بضمها لعائلته‪ ،‬فوق هذا فصلة القرابة‬
‫سترفع عنا التكلف عند التقدم لخطبتها‪ ،‬وبالفعل‬
‫قطعت أمي لي وعدا بالذهاب لزيارتهم في‬
‫أقرب وقت ممكن‪.‬‬
‫في تلك األثناء كنت أحيا سعادة ال تنم عنها‬
‫الكلمات مطلقا‪ ،‬كمن وجد ضالته بعد انقطاع‬
‫سيبله وفقد كل شيء لديه‪ ،‬رحت أرسم لوحة‬
‫سعادتنا وأضع خططا لمستقبلنا وحياتنا‪ ،‬أرتب‬
‫كلمات بداخل قلبي أحدثها بها‪ ،‬وأنظم فيها‬
‫أشعار شوق دام من الصبا‪.‬‬
‫ثم استيقظت في أحد األيام على انقباض بوجه‬
‫أمي‪ ،‬سألتها مرارا عن السبب‪ ،‬لكنها كانت‬
‫تتخلص من اإلجابة‪ ،‬حتى هاتفني األخ األصغر‬
‫‪18‬‬

‫ألميرة يخبرني بانعقاد خطبتها في الخميس‬
‫المقبل‪ ،‬ويشدد على رغبته في حضوري‪ ،‬لم‬
‫أدر بما أجبته‪ ،‬وكيف استقبلت طلقاته التي‬
‫أصابت وسط قلبي مباشرة‪ ،‬حيث تجلس ملكته‬
‫متربعة على عرش الحب‪ ،‬ران الصمت لبضع‬
‫لحظات ثم وضعت الهاتف من يدي‪ ،‬ولم أدر ما‬
‫حدث تماما بعد ذلك‪ ،‬لكن ما أتذكره جيدا أن‬
‫روحي كانت تتصعد للسماء شيئا فشيئا‪ ،‬وكنت‬
‫كذبيحة ذبحت بسكين صدأ ذبحت كقربان على‬
‫نُصب الحب الزائف!‬
‫تتابعت األيام بل والشهور‪ ،‬وأنا في عمق‬
‫مأساتي‪ ،‬أتكبد خسائرها وحدي‪ ،‬وأضرم‬
‫بجمرها بمفردي‪ ،‬ال أذكر كم العبرات التي‬
‫تحيرت بمقلتي على فراقها‪ ،‬وكم التي جادت‬
‫‪19‬‬

‫فانهمرت لتطفأ ظمأ روحي‪ ،‬وتروي صحراء‬
‫نفسي المجدبة‪.‬‬
‫لم تدخر أمي وسعا في البحث عن عروس لي‪،‬‬
‫وسعت جاهدة لتحمل أوصافا استثنائية للغاية‪،‬‬
‫حتى تنسيني من قد أضعت‪ ،‬وال أخفيكم أنها‬
‫حطمت الرقم القياسي في األمر‪ ،‬حتى لم أجد بدا‬
‫في االستسالم لها بالنهاية‪ ،‬راحت تمطرني‬
‫بسيل من المديح عن األميرة التي أحضرت‪،‬‬
‫إنها ابنة األحساب واألنساب‪ ،‬والجمال اآلسر‬
‫الباهر‪ ،‬كما أنها تحمل شهادة جامعية‪ ،‬وأضافت‬
‫بنبرتها النسائية التي ال تخفى على الجميع‪ :‬خذ‬
‫التي ستصونك‪ ،‬وتكرمك‪ ،‬وكل شيء قسمة‬
‫ونصيب‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫نظرت لها بفتور بارد‪ ،‬رددت بداخلي ومن الذي‬
‫قال بأن األخرى لم تكن لتصونني أو تكرمني‪،‬‬
‫هل تراها لن تصون من ظفر بالفوز بها‪ ،‬ثم‬
‫مضيت معها نحو منزل الفتاة‪.‬‬
‫اجتاحتني خواطر عدة أثناء ذهابي‪ ،‬فكرت في‬
‫العودة أدراجي غير مرة‪ ،‬حتى وصلنا إلى بيت‬
‫شاهق مرصع بالحسب والنسب‪ ،‬وأهال ومرحبا‬
‫بصحبتك الحاج فالن وريث عائالت فالن آخر‪.‬‬
‫مضيت للداخل‪ ،‬وحتى هذا اليوم لم أشعر ولو‬
‫طرفة عين بشيء من اإلساءة من هذا البيت‬
‫ومن كل من ضم بداخله وكانوا دائما على أتم‬
‫استعداد وترحيب‪..‬‬
‫كانت الجلسة روتين بحت‪ ،‬تعارف‪ ،‬وماذا‬
‫تعمل‪ ،‬وماذا تحب وماذا تبغض‪ ،‬والعجيب أن‬
‫‪21‬‬

‫إجابة كال السؤالين ذاتها؛ عندما سأل الرجل‬
‫عما أحب‪ ،‬كانت أول من حضر بقلبي‪ ،‬وعندما‬
‫عاود سؤاله بالنقيض كانت نفس اإلجابة‪ ،‬لكأنها‬
‫احتلت كل تعبيرات الشعور لدى قلبي‪ ،‬ولم يعد‬
‫ينبض لغيرها‪ ،‬على أية حال مرت فقرة‬
‫االستجواب‪ ،‬وماذا سنحضر وماذا ستحضرون‪،‬‬
‫واختتمت بأنه لن نختلف وما بين المحسنين من‬
‫حساب‪ .‬ثم أردف الوالد إذا خير البر عاجله‪،‬‬
‫لنقرأ الفاتحة‪ ،‬ثم أضرب قائال‪ :‬لقد نسيت تماما‪،‬‬
‫يا أم العروسة‪ ،‬احضري نهى‪ ،‬لتقرأ معنا‬
‫الفاتحة‪ ،‬ولتتعرف إلى خاطبها‪ ،‬وبعد لحظات‬
‫أقبلت الفتاة‪ ،‬فأطلق والدها‪ :‬تعالى يا نهى‪ ،‬إنه‬
‫ماجد العريس‪ ،‬وهذه حماتك ثم سحبها من فوره‬
‫أقصد أمك الثانية‪ ،‬اجلسي يا ابنتي بجانبي‪ ،‬لقد‬
‫‪22‬‬

‫كنا على وشك قراءة الفاتحة‪ ،‬ثم رفع يديه‪ ،‬وبدأ‬
‫الجميع يُسر باآليات‪..‬‬
‫تعرفت فيما بعد إلى الفتاة‪ ،‬التي كانت تقتلني‬
‫كلما نظرت بوجهها‪ ،‬كانت تكن لي احتراما‬
‫كبيرا‪ ،‬تحمل عيناها الحب لي‪ ،‬وألهلي‪ ،‬ولكل‬
‫ما أحب‪ .‬كانت حريصة كل الحرص على‬
‫إرضائي وسعادتي‪ ،‬مرت فترة الخطبة وأنا‬
‫أبادلها االهتمام من باب الشفقة عليها‪ ،‬فأنا‬
‫أعرف من يكون بمعنى الخذالن‪ ،‬أكثر من‬
‫يعرف الكسر من الهجر‪ .‬قلت لذاتي علني أحبها‬
‫بعد الزواج‪ ،‬ما دام هناك توافق‪ ،‬واهتمام‪،‬‬
‫فلنترك الحب جانبا اآلن‪ .‬وكانت أمي حريصة‬
‫على إتمام الزواج بأقصى سرعة‪ ،‬كما أن‬

‫‪23‬‬

‫اإلسراف في تأدية دور العاشق المتيم حدى بها‬
‫نحو تعجل األمر‪.‬‬
‫وبالفعل تزوجنا بيوم ال أذكر منه شيء مطلقا‪،‬‬
‫سوى السعادة التي كانت تسكن بعيني أميرة‬
‫حينما حضرت إلى الزفاف‪ ،‬تراها كانت سعيدة‬
‫ألجلي‪ ،‬أم أنها سعيدة ألن عذاب الضمير‬
‫سيفارقها‪ ،‬أم أنها سعيدة بالتخلص مني‪ ،‬أم أنها‬
‫ابتسامة الشماتة الزائفة‪ ،‬لم أشعر بما يدور من‬
‫حولي‪ ،‬وقمت بتمثيل دوي ببراعة‪ ،‬أساير كل ما‬
‫يدعونني إليه‪ ،‬كإحدى عرائس مسرح الدمى!‬
‫وبقيت بعدها معلقا بأفالك حبها ألسبوع كامل‪،‬‬
‫كثمل هائم تائه‪ ،‬ال يهتدي إلى وجهة‪...‬‬
‫تقدمت األيام وبدأت انساب مع تيار شفقتي تجاه‬
‫نهى‪ ،‬كانت ال تدخر وسعا إلرضائي‪ ،‬زوجة‬
‫‪24‬‬

‫مثالية على أحسن ما يكون‪ ،‬لكن خطئها الوحيد‬
‫أنها ليست من تمنيت أن تكون!‬
‫بعدها‪ ،‬جمعتها عدة مصادفات مع أميرة في‬
‫مناسبات عائلية‪ ،‬لم تكن على علم بقصتي‬
‫مطلقا‪ ،‬ولم أشأ أن أخبرها‪ ،‬توطدت بينهما‬
‫العالقات سريعا‪ ،‬وكونا صداقة مقربة‪ .‬أخذ‬
‫االنبهار من نهى مأخذه بشخص أميرة‪ ،‬البد أن‬
‫هذه الفتاة تملك نوعا من السحر بكل من يقترب‬
‫منها‪ ،‬كانت تقضي الكثير من الوقت القليل الذي‬
‫أقضيه معها تتحدث عن مفاخرها ومآثرها وكم‬
‫أنها شخص أكثر من رائع‪ ،‬وهي ال تدري أنني‬
‫أعرف بهذا منها‪ ،‬وأنها تشعل فتيل نار حبي‬
‫المتأجج بداخلي‪ .‬كنت أساير حديثها‪ ،‬وتطيب‬
‫نفسي بسماعه‪ ،‬بل وصل بي األمر أحيانا أنني‬
‫‪25‬‬

‫كنت أتعمد أن تبدأ بالحديث عنها‪ ،‬أعلم أنني‬
‫كنت خائنا لنفسي‪ ،‬ولنهى‪ ،‬وللميثاق الغليظ الذي‬
‫عقدته ووقعته بيني وبينها‪ .‬حتى ضاق داخلي‬
‫كثيرا‪ ،‬وأصبحت أبغض نفسي كليا‪.‬‬
‫حتى كانت أحد تلك الجلسات العفوية‪ ،‬وما إن‬
‫بدأت نهى حديثها حتى صحت بوجهها وعنفتها‬
‫بشدة‪ ،‬كادت أوداجي تنفجر غضبا حين دفعتها‬
‫أرضا‪ ،‬مغلقا الباب من خلفي بشدة حتى توهمت‬
‫أنه فارق موضعه‪ .‬قضيت الليلة بالخارج‪ ،‬ولدى‬
‫عودتي مع إشراقة الصباح‪ ،‬تمددت على‬
‫السرير بكامل وقاحتي كأن شيئا لم يكن‪،‬‬
‫فسمعت صوتا هاتفا من الغرفة المجاورة يبكي‬
‫ويتضرع بحرقة يئن لها من كان له قلب‪،‬‬
‫حاولت التغافل في بداية األمر لكن لم أستطع‬
‫‪26‬‬

‫منع قدماي التي حملتني حيث جلست نهى‪،‬‬
‫تشتكي إلى هللا‪ ،‬وأثر ندبة في جبينها‪ .‬احتقرت‬
‫نفسي بشدة‪ ،‬شعرت بقدر من الضآلة أمام تلك‬
‫الفتاة‪ ،‬أدركت أنني ال أستحق نهى‪ ،‬وال أستحق‬
‫لحظة أمضيها برفقتها‪ ،‬ندمت ندما كما أنه لم‬
‫يخلق من قبل‪ .‬ونظرت إلى نفسي " نظرة‬
‫أخرى" إلى النعم التي أفاض بها هللا علي‪ ،‬إلى‬
‫الصحة‪ ،‬إلى المنزل‪ ،‬إلى السالمة‪ ،‬إلى المال‪،‬‬
‫إلى الزوجة‪ ،‬التي ال أساوي قدر أنملة منها‪.‬‬
‫ورحت أفكر في صمت ما الذي فعلت‪ ،‬وماذا‬
‫أفعل‪ ،‬أفني أيامي وسعادتي أطارد ذكرى‬
‫غابرة‪ ،‬أطارد الوهم‪ ،‬ما ذنب نهى؟‪ ،‬وماذا جنت‬
‫لتتزوج من جسد بال قلب أول عقل؟‪ ،‬صراف‬
‫آلي يحضر لها األغراض!‪ ،‬وإذا كانت تآلفت مع‬
‫‪27‬‬

‫أميرة إلى هذه الدرجة؛ فالبد أنها تحمل كثيرا‬
‫من صفاتها‪ ،‬وسماتها الشخصية؛ فاألرواح جنود‬
‫مجندة‪...‬‬
‫اعتذرت من نهى‪ ،‬وقطعت لها وعدا بإصالح‬
‫كل شيء‪ ،‬وبدأت أعلم نفسي الحب من جديد‪،‬‬
‫خطوة خطوة مع اكتشاف الجمال الذي عميت‬
‫عيني عنه بنهى‪ ،‬ورضيت بما قسمه هللا لي‪،‬‬
‫فجملها بعيني على أفضل مما رمت وتمنيت‪.‬‬
‫وآنس هللا شملنا بمولودة جميلة تحمل جمال‬
‫أمها‪ ،‬أسميتها "سكن" لتذكرني دائما بالمغزى‬
‫الذي ربطني بأمها‪ ،‬والوعد الذي قطعت لها‪ .‬أما‬
‫أميرة فلم يعد هناك ما يربطني بها‪ ،‬سوى ما‬
‫أتمنى لجميع البشر من الخير‪ ،‬والتوفيق في‬

‫‪28‬‬

‫الحياة‪ ،‬أتمنى أن تنال سعادتها كما فعلت وتنعم‬
‫بصفاء عيشها‪..‬‬
‫أعلم أن قصتي ربما لن تحدث كثيرا‪ ،‬لكن كل‬
‫منا يحمل بداخله أميرة‪ ،‬في أمنيات نتتبعها بال‬
‫وهن‪ ،‬ونحزن كثيرا لفقدها‪ ،‬ظنا أنه الخير ونحن‬
‫ال نعلم‪ .‬ربما كنا نملك األفضل ونلهث خلف‬
‫الجيد أو المقبول‪ ،‬كأحالم زائفة رسمناها على‬
‫جناح ريح جامحة‪ ،‬مضطربة‪ ،‬ال تبقي وال‬
‫تذر‪..‬‬
‫أتمنى أن أكون سببا في سعادة البعض بما لديه‬
‫من نعم‪ ،‬وأداء شكرها‪ ،‬والحمد هلل أن استعدت‬
‫وعي في الوقت المناسب‪ ،‬فمن لم يجعل هللا له‬
‫نورا فما له من نور‪..‬‬
‫★★★‬
‫‪29‬‬

‫‪َ -٣‬دقَّة ِبدَقة‬
‫هي زالتنا التي نغفل عنها‪ ،‬نجترمها في حق‬
‫أنفسنا‪ ،‬وحق من نحب‪...‬‬
‫نقع في شرك الزلل على حين غفلة من ميزان‬
‫الحق الذي قامت عليه السماوات واألرض‪..‬‬

‫كنت صغيرا جدا أو أقل تعقال من أن أعي‬
‫العبارة التي كانت آخر ما حدثني به أبي على‬
‫فراش موته‪ ،‬لم أدرك تماما ماذا كانت تعني‬
‫قبضته على يداي المرتعشتين خوفا‪ ،‬وقوله لتلك‬
‫العبارة‪ .‬كان في هول الوقف ما يقطع ذهني عن‬

‫‪30‬‬

‫التفكير في األمر‪ ،‬أو محاولة تحليله‪ ،‬ربما هي‬
‫لغز أو مفتاح لشيء ما‪ ،‬لكنني لم أهتم مطلقا‪.‬‬
‫كانت روحي تنشطر إلى آالف الذرات تخرج‬
‫على وهن حينها‪ ،‬أموت فزعا في كل ثانية‪.‬‬
‫موت بطيء قاهر‪ ،‬ذاك الذي يصيبنا ونحن على‬
‫قيد الحياة‪ ،‬لكن تلك القبضة كانت بمثابة صمام‬
‫األمان‪ ،‬الذي فتح سيال من األلم بعد ارتخائها‪،‬‬
‫ولست أحدثكم عمن فقد والده‪ ،‬بل من فقد حياته‪،‬‬
‫بينما يتردد اسمه على األلسنة هنا وهناك‪ ،‬أحمد‬
‫احضر كذا‪ ،‬وافعل ذاك‪ ،‬تجلد وكن رجال‪ ،‬أنت‬
‫اآلن رب هذا البيت‪...‬‬
‫ولكن عن أي رجل تتحدثون!‪ ،‬وهل يخلق‬
‫الرجال ما بين عشية وضحاها‪ ،‬هل ينام المرء‬
‫ليستيقظ على أقصى ما قد يبتلى به‪ ،‬وفوق كل‬
‫‪31‬‬

‫هذا يستوي رجال‪ .‬أهكذا هو األمر! إذا كانت‬
‫الرجولة تلك هي أحرف نرددها على األلسنة‪،‬‬
‫نجمل بها المواقف‪ ،‬فأهال بها ومرحبا‪ ،‬لكنني‬
‫اآلن وعيت أنها أكبر من تلك األحرف بكثير‪،‬‬
‫هي الدنيا التي نخرج إليها لتسحقنا في ساحات‬
‫االختبار آالف المرات‪ ،‬ثم تسجل نتائج من‬
‫اجتازه ويوسم بهذه الصفة‪ ،‬اآلن أستطيع قول‬
‫أنني رجل أو أرقى لالتصاف بهذه الصفة‪.‬‬
‫على كل باشرت المهمة الموكلة لدي‪ ،‬كانت كل‬
‫مهاتي تتخلص في كلمة واحدة‪ ،‬ذاكر‪ ،‬ذاكر‪ ،‬ثم‬
‫ذاكر أخرى‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬ذاكرت وأنهيت مرحلتي‬
‫الثانوية‪ ،‬التحقت بكلية جيدة‪ ،‬وأصبح يشار إلي‬
‫بالباشمهندس حامي حمى نهضة البالد‪ ،‬وزاد‬
‫طوق آخر حول عنقي وهو محاولة الحفاظ على‬
‫‪32‬‬

‫مستوى التفوق الذي حققت‪ ،‬ومتابعة أختي‬
‫الصغيرة‪ ،‬ورسم ذات الخطة المحكمة لها‪ ،‬حتى‬
‫تتمكن من تحقيق النجاح الخاص بها‪ ،‬ليس‬
‫كمهندسة هذه المرة بل طبيبة‪...‬‬
‫كنت أختنق يوميا‪ ،‬أغص باأللقاب التي جعل‬
‫منها البشر جل همهم‪ ،‬يحرقني األمل الذي تعلقه‬
‫أمي علي فتكسر به ظهر تَ َح ّملي‪ ،‬لطالما هرعت‬
‫إلى المقابر حيث مرقد والدي‪ ،‬كنت أبثه‬
‫شكواي‪ ،‬أسأله كيف اتصرف حيال األمر‪ ،‬كيف‬
‫أتجاوز العقبة التي سرمدت على حياتي‬
‫بالكامل‪ ،‬بكيت كثيرا‪ ،‬كطفل أضاع والدته‬
‫بالزحام واستحال رجوعها‪ ،‬األمل الذي دفنته‬
‫بصحبة والدي كان أكبر ما يحيا بداخلي‪ ،‬األمل‬

‫‪33‬‬

‫الذي نتكأ عليه كلما أضنتنا الشدائد‪ ،‬وأثقلتنا‬
‫المهالك‪ ،‬ودارت بنا في فلك الحيرة والوهن‪..‬‬
‫األمل‪ ،‬الطاقة السحرية التي تظل تهمس بداخلنا‬
‫أن بنهاية النفق النجاة‪ ،‬وأن أحلك ال ُ‬
‫ظلَم هو ما‬
‫يعقبها النور مباشرة‪ ،‬هو درع المقاتل‪ ،‬وسيفه‪،‬‬
‫ورمحه‪ ،‬وكل شيء يحكم خطته قبل بداية‬
‫المعركة‪ ،‬وما يلوح براية الظفر بالنهاية‪ ،‬هو ما‬
‫فقدت وما زلت أفتقد إلى اآلن‪....‬‬
‫بعد ذلك بفترة وجيزة‪ ،‬تعرفت إلى فتاة في‬
‫الجامعة‪ ،‬لم تكن بنفس الكلية‪ ،‬لكنني كنت أراها‬
‫بصفة شبه يومية‪ ،‬وسريعا ما توطدت بيننا‬
‫العالقات‪ ،‬ظللت أرعى حول حمى حبها لفترة‪،‬‬
‫إلى أن انهار بي الجرف في جهنم العشق‬
‫الزائف‪ ،‬ولم أعد أشعر بتلك الوخزة من‬
‫‪34‬‬

‫ضميري التي كانت تهاتفني ما بين حين وآخر‪،‬‬
‫كأن هللا أمد لي حبالي في الغي‪ ،‬كنت أتحدث‬
‫إليها طوال اليوم تقريبا‪ ،‬لم نفرق بين ليل‬
‫ونهار‪ ،‬شروق وغروب‪ ،‬كل هذا ال يهم‪ ،‬تأخر‬
‫تحصيلي الدراسي‪ ،‬أخفقت بمادتين‪ ،‬كنت على‬
‫شفير الهاوية‪ ،‬لوال أن من هللا علي لخسف بي‪.‬‬
‫كذبت على أمي وادعيت النجاح‪ ،‬ولكن‬
‫صدقوني أمك هي آخر شخص قد ترغب في‬
‫الكذب عليه يوما ما‪ ،‬إال إذا كنتم تجيدون الكذب‬
‫على أنفسكم بالطبع‪ .‬وكنت قد اقتربت من هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬فلم تؤثر بي نظراتها كثيرا‪ ،‬كلما‬
‫رمقتني بعينها‪ ،‬كنت أقرأ من تبكي في صمت‪،‬‬
‫تئن بوهن قاتل‪ :‬من أنت!!‬

‫‪35‬‬

‫لكنني لم أملك جوابا حينها على هذا السؤال‪،‬‬
‫كان الران قد غشى كل شيء من حولي‪ ،‬وأسدل‬
‫ستارا كثيفا على عيني‪ ،‬وقلبي قبل كل شيء‪...‬‬
‫وكما هو الحال‪ ،‬تقدمت عالقتنا خطوة‪ ،‬لم يعد‬
‫يكفينا المحادثات الهاتفية المطولة‪ ،‬شبه‬
‫المستديمة‪ ،‬بل أصبحنا نلتقي‪ ،‬على مرأى‬
‫ومسمع! كان الحياء قد انصرم تاركا مسخ قلبينا‬
‫من خلفه‪ ،‬تجددت اللقاءات وتعددت األماكن‪،‬‬
‫وتنوعت المواعيد ما بين صباح ومساء حتى‬
‫يتسنى " لدنيا" اختالق األعذار لخروجها من‬
‫المنزل‪ ،‬أحدثكم اآلن وأنا أنظر بازدراء إلى ما‬
‫كنت عليه‪ ،‬لقد كنت على علم بما يجري‪ ،‬هناك‬
‫والدان يخدعان‪ ،‬تسرق أمانتهما على المأل‪،‬‬

‫‪36‬‬

‫وكانت لصا حقيرا‪ ،‬ال يتوارى‪ ،‬متبجحا ال أهتم‬
‫للعواقب!‬
‫مرت األيام وكنت على موعد زائف لمسرحية‬
‫العشق المحظور تلك‪ ،‬تأنقت إلى حد كبير‪،‬‬
‫جلبت باقة توليب حمراء‪ ،‬وصوبت نحو المكان‬
‫المنشود‪ ،‬ولكنني ما إن وصلت إلى هناك‪ ،‬حتى‬
‫سقطت السماوات كلها على ظهري‪ ،‬فهشمته‬
‫كذرات الزجاج المتناثرة بكل اتجاه‪ ،‬لقد وقعت‬
‫عيني على آخر شيء ال أقول توقعت حصوله‪،‬‬
‫بل لم يخطر ببالي مطلقا حتى في أبشع‬
‫كوابيسي قسوة ومرارة‪ ،‬لقد آن األوان‪ ،‬نعم‪،‬‬
‫كانت تلك الرشفة األولى التي تجرعتها من‬
‫كأس خيانتي‪ ،‬خيانتي لنفسي‪ ،‬ولقلبي الذي دنسته‬
‫على غير طائل‪ ،‬ألمي‪ ،‬ألمانة والدي التي لم‬
‫‪37‬‬

‫أصن‪ ،‬نعم لقد كانت "رضوى" الطفلة الصغيرة‬
‫التي فارقت مهدها للتو‪ ،‬تركض باتجاه وغد‬
‫يتهلل وجهه فرحا وسعادة‪ ،‬ول َم قد أسمه بالوغد‬
‫برأيكم أليس كل منا غرسه بالختام؟‪ ،‬ألسنا‬
‫نجني ثمارنا إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر!‪،‬‬
‫ألسنا نتلقف ما صدر عنا ابتدا ًء‪ ،‬فلم الدهشة‪،‬‬
‫وعالم الحيرة إذا؟!!‬
‫اجتاحتني أفكار عدة‪ ،‬هممت أن أسير باتجاهها‬
‫س ّويا سمعة أميرها‬
‫وانهرها أمام الجمع الغير ُم َ‬
‫باألرض‪ .‬أم علي أن انتظرها حتى انتهاء‬
‫الموعد وأعود بها للمنزل الذي سيغدو لها‬
‫محبسا بعد ذلك؟‪ ،‬أم أمضي لموعدي كأن شيئا‬
‫لم يكن!‪ ،‬أم وأم وألف بعدهما خاطبت بها عقلي‬
‫الذي شل بمعنى الكلمة‪ ،‬لكنه ال يستجيب ألي‬
‫‪38‬‬

‫منها مطلقا‪ .‬تسمرت قدماي باألرض‪ُ ،‬رحت‬
‫أجر أذيال حسرتي بوهن ساحق‪ ،‬قاتل‪ ،‬مضن‪،‬‬
‫كوقع صدمتي‪ ،‬اليوم وللمرة األولى أحسست‬
‫ولو بالقليل من شعور والدا دنيا‪ ،‬شعرت‬
‫بالحسرة‪ ،‬واأللم الذي يخلفه الخذالن‪ ،‬شعرت‬
‫بسكين الخيانة تذبحني لمرات عدة ال أكاد‬
‫أحصيها‪ .‬وكم كنت أقول أنني لبث في العشق‬
‫يوما أو بعض يوم‪ ،‬وكنت على شَك في تعداد‬
‫أيامي‪ ،‬لكن اليقين الوحيد بأن تلك الطعنة بداخل‬
‫قلبي‪ ،‬على قصرها كالمائة عام!‬
‫زحفت بأقدام ال تحملني حتى وصلت إلى‬
‫سيارتي بعد جهد جاهد‪ ،‬قدت بسرعة جنونية‪،‬‬
‫بكيت بحرقة تحاكي نيران قلبي الممزق‪ ،‬بكا ًء‬
‫يلملم أجزاء روحي المبعثرة ألما وخيبة‬
‫‪39‬‬

‫وحسرة‪ ،‬بكيت ألنني ضيعت أمانتي بأبخس‬
‫األثمان!‬
‫ارتعدت السماء‪ ،‬وهطلت أمطار غزيرة‪ ،‬لكنها‬
‫لم تضاهي سيول عيني الجارفة‪ ،‬وفجأة لم أشعر‬
‫بشيء مطلقا‪ ،‬كانت األحداث أسرع من محاولة‬
‫استيعابها‪ ،‬درات بي السيارة عدة مرات في‬
‫الهواء‪ ،‬ثم كان كل شيء قد انتهى‪...‬‬
‫لم هناك ما يردده قلبي سوى " رب ارجعون"‬
‫لعلي أصلح ما أفسدت‪ ،‬لعلي استرد ما أشفقت‬
‫منه السماوات واألرض والجبال‪ ،‬كان كل ما‬
‫يتردد بأذني هو صوت والدي‪ ،‬وقبضته تشد‬
‫على يدي‪..‬‬

‫‪40‬‬

‫ثم بدأ الهواء يتقلص برئتي‪ ،‬وتحتشد المياه‬
‫مكانه‪ ،‬وتضيق أنفاسي شيئا فشيئا حتى انقطعت‬
‫تماما أو هذا ما اعتقدت حينها‪...‬‬
‫بعد فترة من الوقت لم أعلمها أفقت على صرير‬
‫بأذني‪ ،‬وأزيز أشعر أنه كان يصدر من داخلي‪،‬‬
‫فتحت عيني بخفوت‪ ،‬وجدتني مزود بأشياء‬
‫كثيرة تخرج من داخل جسمي هنا وهناك‪،‬‬
‫حاولت النهوض فلم أقوى على ذلك مطلقا‪،‬‬
‫رفعت يدي وألقيت بها على السرير‪ ،‬الحمد هلل‪،‬‬
‫ظننت أنني لن اتحرك ثانيةً‪ ،‬وأن نهايتي قد‬
‫بدأت لتوها‪ ،‬لكن رحمة هللا كانت أسبق من‬
‫عقابه‪...‬‬
‫أمضيت نحو شهرين كاملين بالمشفى‪ ،‬كلما‬
‫نظرت بوجه أمي‪ ،‬رأيت ما تنوء عن حمله‬
‫‪41‬‬

‫الجبال‪ ،‬رأيت صدعا لن يلتئم‪ ،‬وندوبا قد عجز‬
‫الطب عن معافاتها‪ .‬وحدها خيبات األمل هي ما‬
‫تقتل كل جميل معها‪ ،‬تستل من روح المرء‬
‫سعادته وأمله الذي يحيا بداخله!‪.‬‬
‫ران صمت تام أليام متتالية‪ ،‬كانت النظرات‬
‫كفيلة بقول كل شيء‪ ،‬وقول ما يُع َجز عن قوله‪،‬‬
‫وقول مالم ولن يقال‪ .‬الصمت هو أقوى سالح‬
‫في المعارك محسومة النتائج‪ .‬هو الحصن الذي‬
‫نلجأ إليه دوما‪ ،‬هو ما تعجز عنه جيوش‬
‫الكلمات والعبارات‪ ،‬وال يتقنه سوى محارب‬
‫بارع‪ ،‬قد انطوت روحه على أن تئن في‬
‫صمت‪ ،‬تبكي في صمت‪ ،‬ترى العالم من حولها‬
‫في صمت‪...‬‬

‫‪42‬‬

‫ثم بعد عدة أيام‪ ،‬بدأت أمي الخروج عن صمتها‬
‫أخيرا‪ ،‬مزقت شرنقة أنينها وقالت‪ :‬بصوت‬
‫يكسوه الشجون‪ :‬اعلم أن هذه البيوت ال تقام‬
‫على غير الحب‪ ،‬ولكن كن على يقين تام أن ما‬
‫تدعيه ليس حبا‪ ،‬فهل رأيت يوما محطة قطار‬
‫تحتفظ بمالمح بعض من يطرقها ويتوارد‬
‫عليها؟! محال إال أن يكون حامال لمزايا قد‬
‫استحالت بغيره‪ ،‬وهذا األمر يترك لتقدير المرء‪،‬‬
‫ومدى استجابته لمراتع الهلكة‪ ،‬سترى كل‬
‫الوجوه جميلة‪ ،‬وكل األخالق حسنة‪ ،‬وكل‬
‫األرواح متقبلة‪ ،‬ألنك لم تضبط مقاديرك منذ‬
‫البداية‪ .‬ثم دعني أسألك أمرا‪ ،‬هل تتوقع أن تنتقل‬
‫بين هذه وذاك وتلك وتتزوج أي منهن‪ ،‬ألن‬
‫تحدثك نفسك اآلن ربما تكون قد رافقت غيري‪،‬‬
‫‪43‬‬

‫أو ما هو ضماني أنني الوحيد بحياتها‪ ،‬ودعني‬
‫أذكرك بقولهم" من قتل يقتل ولو بعد حين"‬
‫وكسرك لوالدين كان جل جنايتهم أنهم ائتمنوا‬
‫خائن وخائنة ليس بالجرم الذي يمضي دون‬
‫مجازة بالعدل‪ ،‬ثم إياك أن يخيل إليك أنني لست‬
‫على علم بكل شيء‪ ،‬قد أمهلك هللا‪ ،‬ومنحك‬
‫فرصة ثانية‪ ،‬ربما لم تتوفر للبعض‪ ،‬فاختر‬
‫مصيرك من اآلن‪...‬‬
‫ثم غادرت المكان‪ ،‬لتتركني احترق منفردا في‬
‫أعماق ندمي‪ ،‬وحسرتي‪ .‬كلما انتابني شعور أنها‬
‫ربما كانت نهايتي‪ ،‬أشعر بفزع تشيب له‬
‫الولدان‪ ..‬على كل حال تحسنت أحوالي‪،‬‬
‫وغادرت المشفى‪ ،‬وكانت أول وجهة لي هي‬
‫المقابر‪ ،‬ذهبت لزيارة أبي‪ ،‬قصصت عليه كل‬
‫‪44‬‬

‫ما قد حدث معي‪ ،‬وما رأيته من حال أختي‪،‬‬
‫شعرت بقبضته تشد على يدي لتذكرني بأنني‬
‫من نكثت بوعدي‪ ،‬وضيعت أمانتي‪ ،‬وخنت ذاتي‬
‫قبل كل شيء‪ ،‬كأني به في ذلك اليوم وهو‬
‫يقول" دقة بدقة" عندها فقط جال بخاطري ماذا‬
‫قد تعني هذه الكلمات‪ ،‬غادرت المكان بعد جلسة‬
‫طويلة‪ ،‬بحثت عن أصل الكلمات‪ ،‬فوجدتها‬
‫أقصوصة لم استطع التوقف على صحتها كثيرا‪،‬‬
‫وحتى لو لم تكن قد وقعت‪ ،‬إال أن معناها هو‬
‫الحقيقة المطلقة‪ ،‬الحقيقة التي قامت عليها‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬حمدت هللا أنه لم يملي لي‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬حمدت أني لم أنجرف أكثر مع‬
‫تيار غفلتي‪ ،‬عدت إلى المنزل‪ ،‬عزمت على‬
‫تغيير كل شيء‪ ،‬بدأت بتغير رقم هاتفي‪ ،‬ومحو‬
‫‪45‬‬

‫كل ذكريات دنيا من ذاكرتي‪ ،‬وإصالح ما بيني‬
‫وما بين هللا‪.‬‬
‫في الصباح التالي ذهبت للجامعة‪ ،‬اصطدمت‬
‫عيني برؤيتها بصحبة أحدهم‪ ،‬يبدو عليها‬
‫انسجاما وتآلفا كبيرا‪ ،‬وكانت الصدمة الكبرى‪،‬‬
‫لقد كان ذاك هو نفسه من رأيت يوم الحادث‪،‬‬
‫وليت ظهري لها‪ ،‬ومضيت في دربي‪ ،‬لم يعد‬
‫يعنيني من ومتى وأين‪ ،‬كل ما أفكر به اآلن هو‬
‫كيف؟ كيف أصلح ما أفسدته أيام الماضي‪ ،‬وبتُ‬
‫على يقين بأن ذلك الشخص لم يظهر بطريق‬
‫أختي أبدا ولكنها كانت منحتي من هللا ألعرف‬
‫الحقيقة‪ ،‬وأعيد ترتيب أدواري‪ ،‬وأصحح مسار‬
‫عز علي استيعابه ابتدا ًء‪ ،‬لكن‬
‫حياتي‪ ،‬كان درسا َ‬
‫الحمد هلل أنها لم تكن النهاية‪...‬‬
‫‪46‬‬

‫أصبحت دقة بدقة كميزان راسخ في قلبي‪ ،‬لو أن‬
‫كل منا يعي أن كل ذرة سيؤاخذ بها لم يجرؤ‬
‫على الظلم قدر أنملة‪ ،‬الظلم ظلمات‪ ،‬ومن ظن‬
‫أنه أفلت من عقاب الدنيا‪ ،‬فليبك على نفسه‬
‫البواكي‪ ،‬فاليوم الذي تشخص فيه األبصار هو‬
‫أشد هوال وهوانا‪ ..‬ومهما ظننت أنك قادر‪ ،‬فاهلل‬
‫أقدر منك‪..‬‬
‫ليست دقة بدقة قصة ذاك التاجر الموصلي‪ ،‬وال‬
‫حتى قصتي مع دنيا‪ ،‬إنها حكمة سطرتها محكمة‬
‫العدل اإللهية‪ ،‬المحكمة التي ال تفصل بين‬
‫الشكاوى التي ترفع إليها‪ ،‬وال يبقى بها قضية‬
‫عالقة أو مسجلة ضد مجهول‪...‬‬

‫‪47‬‬

‫ومهما أعتقد المرء أنه أفلت‪ ،‬فال يحسبن هللا‬
‫غافال عنه‪ ،‬والسعيد هو من سدد دينه وهو قادر‬
‫قبل أن يدركه في أحوج عوزه وإعساره‪...‬‬
‫★★★‬

‫‪48‬‬

‫الم ْرآة‬
‫‪-٤‬ال ّ‬
‫ش َبح الّذي ِفي ِ‬
‫على الرغم من أنني كنت صغيرا حينها‪ ،‬إال‬
‫أنني ال أزال أتذكر كل شيء حتى اآلن‪ ،‬كأنه‬
‫يعاد أمامي في بث مباشر ال ينقطع أبدا‪..‬‬
‫في ذلك اليوم استيقظت على صراخ أمي‬
‫المفاجئ‪ ،‬كانت تصرخ وتبكي بشدة وتردد‬
‫كلمات لم أفهمها‪ ،‬هرعت إلى غرفتها ألعرف‬
‫السبب‪ ،‬فوجدتها تمسك بأبي من كتفيه وتهزه‬
‫بشدة وتحركه ذهابا وإيابا‪ ،‬تسأله مرارا أن‬
‫يجيبها‪ ،‬لكن أبي لم يجب أبدا‪ ،‬وحتى اآلن‬
‫يراودني شعور بسماع صوته وتلبية ذلك النداء‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫وفقت منزويا في أحد أركان الغرفة‪ ،‬أحاول فهم‬
‫ما يجري‪ ،‬هل هذه أحد مقالب أبي التي اعتاد‬
‫تنفيذها؟‪ ،‬أم أنه مقلب مشترك بينه وبين أمي؟!‪،‬‬
‫هواجس كثيرة كانت تجول بخاطري عندما‬
‫باغتني نحيب أمي العالي" لقد توفي كمال"‪،‬‬
‫نزلت كلماتها كصاعقة أصابتني‪ ،‬أعجز عن‬
‫استيعابها فضال عن التصديق‪ .‬كلمات أسدلت‬
‫ستار أسود حزين على عيني أحسبه لم ينزع‬
‫حتى اآلن‪ .‬هرولت نحو أبي أحاول أن أفسد‬
‫عليهم المشهد‪ ،‬وتنتهي فصول تلك المسرحية‪،‬‬
‫لكن شيئا لم يحدث‪ .‬عندها فقط أدركت أنها‬
‫حقيقة‪ ،‬وما يحدث ليس سوى الواقع‪ ،‬أما عن‬
‫إدراك معنى أن أبي مات فصدقا ال أزال أعاني‬
‫مرارته حتى هذه اللحظة‪..‬‬
‫‪50‬‬

‫أسرعت إلينا بعض الجارات لتري ما حدث‪،‬‬
‫توجهت إحداهن نحو أمي تحاول أن تذهب‬
‫روعها وتذكرها باهلل‪ ،‬واتصلت األخرى بأقارب‬
‫أبي وأسرة والدتي‪ ،‬امتأل المنزل عن آخره ما‬
‫بين جار أو قريب أو صديق‪ ،‬وال زلت ال أعي‬
‫حقيقة ذاك الذي دعوه بالموت‪ .‬أهو رحيل‬