أحببت السراب - 1
1
2
★تصميم غالف وداخلي وتعبئة★
وفاء سامي
★حسابات تواصل الكاتبة★
فيس بوك
4
آسك
حاصلة على ليسانس اللغة العربية جامعة
األزهر بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف األولى
وماجستير اللغة العربية
3
س َراب
-١أَ ْح َب ْبت ال َّ
ال أدري حقا كيف أبدأ حكايتي ،وما سأقتبس
منها ،وكيف سأنسج خيوطها ،لكنها تتلخص في
كلمتين ال ثالث لهما" ،أحببت السراب"
نادمة بشدة ،وال أدري على أي شيء أندم ،هل
على أيام عمري التي تمضي دون فائدة تذكر،
أم أحالمي التي ولت مدبرة ولن تعقب ،أم على
شكلي ومظهري وصحتي التي ذهبت ولن تعود!
بدأت قصتي المؤلمة منذ سبع سنوات تقريبا،
حين التحقت بالجامعة .شيرين طالبة متفوقة ،لي
قلة من الصديقات ،ال أميل إلى التجمعات وكثرة
االرتباطات ،لم تعني لي الجامعة أكثر من مكان
4
للتعلم .حققت نجاحا باهرا في أول عامين لي في
الدراسة ،وظلت هكذا حالي ،إلى أن جاء يوم لم
أحسب له قبال ،أشارت زميلة لي إلى شاب يقف
على بعد أمتار من مجلسنا ،ثم نظرت نحوي
بخبث بالغ مردفة :سبحانه! وله في ذلك
حكم...ثم حملت حقدها وجرت أذيال خبثها
مغادرة المكان ..ولم يمض أسبوع على تلك
الحادثة؛ حتى وجدت أحدهم يتبعني إلى المنزل،
لم أُعر األمر اهتماما ،وبدوت متجاهلة لما
يجري .وصلت للمنزل وأسرعت الخطى نحو
غرفتي ،ال أتذكر شيء مما حدث بعد ذلك،
سوى أن ذلك الشبح كان يطاردني بعدها بكل
اتجاه ،وال زلت حتى اآلن أجهل السبب ،ال
5
أعرف ماذا كنت أعني له ،وماذا قد أصبحت
أعني اآلن!
فجأة ظهر أمامي بعدها في قاعة المحاضرات،
رمقته بنظرة تتأجج غضبا ،ولم ألتفت لكلمة
واحدة مما قالها ،تركت المكان بهدوء تام
وانصرفت نحو المنزل .وبعد أيام قليلة ،حلت
اختبارات انتهاء العام الدراسي ،فاختفى تماما
عن األنظار ،حمدت هللا من قلبي ،تمنيت لو أن
كل األيام تكون اختبارا ،وال أراه أمامي من
جديد ..لكنه كان اختباري األعظم في الحياة،
االختبار الذي لم تحسم نتائجه ،ولم ترصد
درجاته بعد ،االختبار الذي لم أتهيأ له على
القدر الكافي ،وربما يكون األسوأ على
اإلطالق..
6
بعد تجاوز فترة االمتحان ،أخبرني والدي أن
هناك من يتقدم لخطبتي ،وطلب مني االستعداد،
وبالفعل بعد تململ طويل خرجت ألجد آخر
وجه قد أرغب في رؤيته ،لقد كان هو بالفعل
من ظننتم ،وما إن رأيته حتى اختنق داخلي
وضاق صدري ،جلست نحو خمس دقائق كانت
دهرا بالنسبة إلي ،ثم انسحبت من المكان،
وداخلي مبعثر تماما ،ينتابني عدة تساؤالت،
لماذا أنا ،لم اختارني من بين كل الفتيات الالتي
تلحقن به مرارا؟
هل أراد أن يثبت لنفسه انتصارا جديدا بضمي
للقائمة؟ أم أنه معجب بي بالفعل كما أخبرني
والدي بعد انصرافه ،حاولت جاهدة التخلص من
األمر ،وتبرير رفضي له ،لم أجد سببا مقنعا في
7
ذلك؛ فأسامة كانت به كل المواصفات التي
وضعها والدي ألحالمهما ،عائلة يضج صيتها
باألرجاء ،مال ،ترف ،ونفوذ غير متناهي ،ثم
إن الشاب متعلم ،في كلية كما يقولون عنها من
(كليات القمة) وليست القمة في كلية أو غيرها،
بل القمة في النفس التي تحمل صاحبة إلى أعلى
قمة ،ومع مرور الوقت وإلحاح والداي،
وإصرارهما على فتى أحالمهم ،وافقت بالنهاية،
وكانت تلك أولى خطواتي نحو الهالك ،لم أكلف
نفسي بالدفاع عن مبادئي حتى النهاية ،وبدأت
استمع لما تلوكه األلسنة وتتغنى به من مآثر
الفارس الهمام..
ثم وقعت الكارثة ،فبدأت أساير الوهم شيئا فشيئا
حتى تسلل إلى داخلي تماما ،وسايرت األمر كما
8
لو كانت تحكى عن األساطير كقيس وليلي،
ولكن أنى نحن وأين الليالي التي جمعتنا ثم
بعثرتنا في مهب الريح ..تمت خطبتنا سريعا،
وكنت أوهم قلبي بأنه هو ،هو اختياري وحلمي،
والنفس التي أتمنى أن تشاطرني أحالمي إلى
نهايتها ،ال يحضرني اآلن من قصة الحب وإن
شئت القول قصة الوهم سوى نظرات اإلعجاب
التي كانت تغزو وجوه الفتيات عند رؤيتنا معا،
ربما كان هذا االنبهار والزهو الزائف هو ما
دفعني لخوض تلك المأساة عن طيب خاطر ،أنا
لم أحب أسامة يوما ،بل أحببت نظرات
اإلعجاب التي كانت تطوقني برفقته ،كنت أشعر
بشيء من التميز ألنه قد وقع اختياري من بين
كل هؤالء..
9
وتقدمت األيام لتعلن الزفاف المنتظر ،كان كما
حلم به والداي تماما ،شخصيات مرموقة مزهوة
بالسطوة الزائفة ،فرق موسيقية عتيدة تعزف
لحن وفاتي ،وجوه تكتسي بالنفاق واالبتسام
المصطنع وإن كان بعضها يشي بقولهم :من
تلك!
بعد الزفاف علمت أنني كنت بمثابة تحدي في
حياة أسامة ،الشاب الذي ال يعرف حدودا لما
يريد ،ولم يعتد أن هناك ما هو ممنوع عليه،
كانت تجربة إلثبات سطوته وجبروته،
ومطاوعة من والده الذي وجد في األمر ما قد
يصلحه ويقيم به شتاته ويقوم به فساده،
بعد الزفاف ،بدأت األمور تتغير تماما ،وجدت
عقال فارغا ،ال يحتوي بداخله على رمق من
10
التفكير أو التعقل حتى ،اتكال تام على الوالد
فاحش الثراء ،فوضوية وعدم تحمل للمسئولية،
تذمر وسخط ألتفه األسباب ،كنت ألوم نفسي كل
يوم ،واتدثر بحزني ودمعي في المساء ،ارسم
ابتسامات زائفة بوجه والداي وكل من حولي،
لكن هناك نظرات كانت تقتلني كل يوم ،كلما
نظرت إلى تلك المرآة ،ال أجد بها من كانت
تشبهني ،تسرب اليأس إلى نفسي حتى انطفأ كل
أمل بداخلي ،ومات كل حلم بالنسبة إلي،
وأصبحت ال اهتدي إلى نفسي التي اشتقتها
وبحق!
مرت األيام ،وحلت السنة الدراسية الجديدة التي
كانت تحمل معها أعباء حدّبت ظهري ،وأوهنت
عقلي أضعاف ما قد كان عليه ،مسؤوليات عدة،
11
ما بين طالبة ،وربة منزل ،واألسوأ من ذلك أم
جديدة على مشارف األمومة ،كان كل يوم
بمثابة جحيم على ظهر األرض ،ابتعدت عن
كل من أعرف ،قضيت أياما كثيرة بمفردي
أعاني ألم نفسي التي أحكمت قيدها بيدي ،أعاني
من إهانات فارس أحالمي ،لقد تغير شكلك
كثيرا ،وازداد وزنك بضع كليو جرامات ،وما
هذا الشحوب بوجهك ،لماذا أنت متعبة دائما؟
والكثير من العبارات التي ال تنم إال عن شيء
واحد ،نعم لقد أحببت السراب ،لم أجد صفة
واحدة ذاتية أحبه ألجلها ،لم يكن يوما رحيما
معي ،لم أجد منه مساعدة قط ،لم يسألني يوما
عن حالي ،وما إن كنت بخير ،إنه عار تماما
12
عن كل معنى لإلنسانية قبل الحب أو حتى
بوادره من اإلعجاب!
حتى أنه ال يمكن وصفه بجماد في صورة بشر؛
فالجمادات ال تضر وال تنفع أما هو فال يرجى
منه غير الضرر..
مرت األيام ووضعت طفلي األول ،وانشغلت به
تماما عن كل شيء ،تأخر معدلي الدراسي،
حتى تخليت عن دراستي تماما تحت منطلق
والداي (ولم تحتاجين إلى شهادة ومعك هذا
المال) ،نعم معي المال ،بال مشاعر ،أو تفاهم،
أو أدنى اهتمام..
معي شيء واحد ،بينما أضعت ألف شيء!
ليت الحل كان يكمن في تلك الوريقات التي
استخدمها والداي كحد بين فارس وغيره ،بين
13
أسامة الذي كان قلبه هواء ،وعقله هواء ،وكل
شيء فيه ،وبين غيره..
أقضي األيام كأسيرة في قصري الكبير ،لم أعد
أنظر بمرآتي حتى أتجنب تلك النظرات ،لم يعد
بإمكاني التحمل أكثر ،أرغب في االنفصال عن
أسامة ،وهجر العالم بأسره واالنفراد بصغيري،
الذي يحيا اليتم وكال أبويه بين األحياء ،وال
أدري إلى متى يسعني البقاء في هذا األسر..
أكتب إليكم تلك الكلمات حتى ال تختبرن مرارة
األسر التي أعاني ،حتى ال يصبح كل بيت يأسر
بين جدرانه شيرين أخرى ،حتى ال تنخدعوا في
كل فارس يدق بابكم ،حتى أكشف آالف األوجه
من أسامة التي كانت ومازالت تحيا بيننا ،وأنقذ
14
أرواحا تولد على ساحة اليأس األسري ،تولد
وليس لها ملجأ سوى بيت العنكبوت..
اختاريه إنسانا قبل كل شيء..
اختاري روحا تكمل روحك..
ونفسا تسكنين إليها وتسكن..
★★★
15
-2نَ ْظرة أ ْخ َرى
أعلم أني مذنب يقينا ،وليس هناك ما يشفيني من
الندم ،حقا لقد كنت المذنب الوحيد في هذه
القضية .كنت مذنبا وقاضيا وجالدا في الوقت
ذاته ،أصدرت حكما بإعدام روحي ،ثم خففته
فيما بعد إلى السجن المؤبد خلف جدران
األحزان ،مع األشغال الشاقة بالتفكير الذي كاد
يسطر شهادة وفاتي!
تبدأ قصتي عندما هممت بالتقدم لخطبة ابنة
عمتي" أميرة" يكفي أن ألفظ اسمها فقط،
ليستحضر ذهنك كل معاني الجمال .لقد كانت
أميرة وبحق! كأنها أخذت كل مقادير السعادة
16
والنجاح المقدرة للخلق جميعا ،ثم مزجتها في
كوب سحري وتناولته في صغرها .متميزة إلى
أبعد حد قد يتصوره العقل ،وال أريد أن أسمع
من يقول أنها عين المحب أو غيره ،فأنا لم أعد
ذلك المحب ،ولكنها تبقى كما هي!
تحمل وجها تفيض قسماته بالصفاء والبراءة،
لها حضور اجتماعي مذهل ،تشد انتباه كل من
عرفها إليها ،لو دخلت إلى أي مكان اللتف من
حولها من فيه .كما أنها كانت متوفقة دراسيا،
مجتهدة إلى أبعد الحدود ،تضع هالة حولها من
االحترام ،ومساحة من األدب .كنت قد أشغفت
بها منذ صغري ،وكبرت وكبر ذلك الشغف
بداخلي .لطالما صارعت إلخفائه وستره ،حتى
أتى يوم ونفد كل صبر كان بداخلي ،صارحت
17
أمي بالحقيقة ،فسعدت لذلك كثيرا؛ فالفتاة يتمنى
الجميع بضمها لعائلته ،فوق هذا فصلة القرابة
سترفع عنا التكلف عند التقدم لخطبتها ،وبالفعل
قطعت أمي لي وعدا بالذهاب لزيارتهم في
أقرب وقت ممكن.
في تلك األثناء كنت أحيا سعادة ال تنم عنها
الكلمات مطلقا ،كمن وجد ضالته بعد انقطاع
سيبله وفقد كل شيء لديه ،رحت أرسم لوحة
سعادتنا وأضع خططا لمستقبلنا وحياتنا ،أرتب
كلمات بداخل قلبي أحدثها بها ،وأنظم فيها
أشعار شوق دام من الصبا.
ثم استيقظت في أحد األيام على انقباض بوجه
أمي ،سألتها مرارا عن السبب ،لكنها كانت
تتخلص من اإلجابة ،حتى هاتفني األخ األصغر
18
ألميرة يخبرني بانعقاد خطبتها في الخميس
المقبل ،ويشدد على رغبته في حضوري ،لم
أدر بما أجبته ،وكيف استقبلت طلقاته التي
أصابت وسط قلبي مباشرة ،حيث تجلس ملكته
متربعة على عرش الحب ،ران الصمت لبضع
لحظات ثم وضعت الهاتف من يدي ،ولم أدر ما
حدث تماما بعد ذلك ،لكن ما أتذكره جيدا أن
روحي كانت تتصعد للسماء شيئا فشيئا ،وكنت
كذبيحة ذبحت بسكين صدأ ذبحت كقربان على
نُصب الحب الزائف!
تتابعت األيام بل والشهور ،وأنا في عمق
مأساتي ،أتكبد خسائرها وحدي ،وأضرم
بجمرها بمفردي ،ال أذكر كم العبرات التي
تحيرت بمقلتي على فراقها ،وكم التي جادت
19
فانهمرت لتطفأ ظمأ روحي ،وتروي صحراء
نفسي المجدبة.
لم تدخر أمي وسعا في البحث عن عروس لي،
وسعت جاهدة لتحمل أوصافا استثنائية للغاية،
حتى تنسيني من قد أضعت ،وال أخفيكم أنها
حطمت الرقم القياسي في األمر ،حتى لم أجد بدا
في االستسالم لها بالنهاية ،راحت تمطرني
بسيل من المديح عن األميرة التي أحضرت،
إنها ابنة األحساب واألنساب ،والجمال اآلسر
الباهر ،كما أنها تحمل شهادة جامعية ،وأضافت
بنبرتها النسائية التي ال تخفى على الجميع :خذ
التي ستصونك ،وتكرمك ،وكل شيء قسمة
ونصيب.
20
نظرت لها بفتور بارد ،رددت بداخلي ومن الذي
قال بأن األخرى لم تكن لتصونني أو تكرمني،
هل تراها لن تصون من ظفر بالفوز بها ،ثم
مضيت معها نحو منزل الفتاة.
اجتاحتني خواطر عدة أثناء ذهابي ،فكرت في
العودة أدراجي غير مرة ،حتى وصلنا إلى بيت
شاهق مرصع بالحسب والنسب ،وأهال ومرحبا
بصحبتك الحاج فالن وريث عائالت فالن آخر.
مضيت للداخل ،وحتى هذا اليوم لم أشعر ولو
طرفة عين بشيء من اإلساءة من هذا البيت
ومن كل من ضم بداخله وكانوا دائما على أتم
استعداد وترحيب..
كانت الجلسة روتين بحت ،تعارف ،وماذا
تعمل ،وماذا تحب وماذا تبغض ،والعجيب أن
21
إجابة كال السؤالين ذاتها؛ عندما سأل الرجل
عما أحب ،كانت أول من حضر بقلبي ،وعندما
عاود سؤاله بالنقيض كانت نفس اإلجابة ،لكأنها
احتلت كل تعبيرات الشعور لدى قلبي ،ولم يعد
ينبض لغيرها ،على أية حال مرت فقرة
االستجواب ،وماذا سنحضر وماذا ستحضرون،
واختتمت بأنه لن نختلف وما بين المحسنين من
حساب .ثم أردف الوالد إذا خير البر عاجله،
لنقرأ الفاتحة ،ثم أضرب قائال :لقد نسيت تماما،
يا أم العروسة ،احضري نهى ،لتقرأ معنا
الفاتحة ،ولتتعرف إلى خاطبها ،وبعد لحظات
أقبلت الفتاة ،فأطلق والدها :تعالى يا نهى ،إنه
ماجد العريس ،وهذه حماتك ثم سحبها من فوره
أقصد أمك الثانية ،اجلسي يا ابنتي بجانبي ،لقد
22
كنا على وشك قراءة الفاتحة ،ثم رفع يديه ،وبدأ
الجميع يُسر باآليات..
تعرفت فيما بعد إلى الفتاة ،التي كانت تقتلني
كلما نظرت بوجهها ،كانت تكن لي احتراما
كبيرا ،تحمل عيناها الحب لي ،وألهلي ،ولكل
ما أحب .كانت حريصة كل الحرص على
إرضائي وسعادتي ،مرت فترة الخطبة وأنا
أبادلها االهتمام من باب الشفقة عليها ،فأنا
أعرف من يكون بمعنى الخذالن ،أكثر من
يعرف الكسر من الهجر .قلت لذاتي علني أحبها
بعد الزواج ،ما دام هناك توافق ،واهتمام،
فلنترك الحب جانبا اآلن .وكانت أمي حريصة
على إتمام الزواج بأقصى سرعة ،كما أن
23
اإلسراف في تأدية دور العاشق المتيم حدى بها
نحو تعجل األمر.
وبالفعل تزوجنا بيوم ال أذكر منه شيء مطلقا،
سوى السعادة التي كانت تسكن بعيني أميرة
حينما حضرت إلى الزفاف ،تراها كانت سعيدة
ألجلي ،أم أنها سعيدة ألن عذاب الضمير
سيفارقها ،أم أنها سعيدة بالتخلص مني ،أم أنها
ابتسامة الشماتة الزائفة ،لم أشعر بما يدور من
حولي ،وقمت بتمثيل دوي ببراعة ،أساير كل ما
يدعونني إليه ،كإحدى عرائس مسرح الدمى!
وبقيت بعدها معلقا بأفالك حبها ألسبوع كامل،
كثمل هائم تائه ،ال يهتدي إلى وجهة...
تقدمت األيام وبدأت انساب مع تيار شفقتي تجاه
نهى ،كانت ال تدخر وسعا إلرضائي ،زوجة
24
مثالية على أحسن ما يكون ،لكن خطئها الوحيد
أنها ليست من تمنيت أن تكون!
بعدها ،جمعتها عدة مصادفات مع أميرة في
مناسبات عائلية ،لم تكن على علم بقصتي
مطلقا ،ولم أشأ أن أخبرها ،توطدت بينهما
العالقات سريعا ،وكونا صداقة مقربة .أخذ
االنبهار من نهى مأخذه بشخص أميرة ،البد أن
هذه الفتاة تملك نوعا من السحر بكل من يقترب
منها ،كانت تقضي الكثير من الوقت القليل الذي
أقضيه معها تتحدث عن مفاخرها ومآثرها وكم
أنها شخص أكثر من رائع ،وهي ال تدري أنني
أعرف بهذا منها ،وأنها تشعل فتيل نار حبي
المتأجج بداخلي .كنت أساير حديثها ،وتطيب
نفسي بسماعه ،بل وصل بي األمر أحيانا أنني
25
كنت أتعمد أن تبدأ بالحديث عنها ،أعلم أنني
كنت خائنا لنفسي ،ولنهى ،وللميثاق الغليظ الذي
عقدته ووقعته بيني وبينها .حتى ضاق داخلي
كثيرا ،وأصبحت أبغض نفسي كليا.
حتى كانت أحد تلك الجلسات العفوية ،وما إن
بدأت نهى حديثها حتى صحت بوجهها وعنفتها
بشدة ،كادت أوداجي تنفجر غضبا حين دفعتها
أرضا ،مغلقا الباب من خلفي بشدة حتى توهمت
أنه فارق موضعه .قضيت الليلة بالخارج ،ولدى
عودتي مع إشراقة الصباح ،تمددت على
السرير بكامل وقاحتي كأن شيئا لم يكن،
فسمعت صوتا هاتفا من الغرفة المجاورة يبكي
ويتضرع بحرقة يئن لها من كان له قلب،
حاولت التغافل في بداية األمر لكن لم أستطع
26
منع قدماي التي حملتني حيث جلست نهى،
تشتكي إلى هللا ،وأثر ندبة في جبينها .احتقرت
نفسي بشدة ،شعرت بقدر من الضآلة أمام تلك
الفتاة ،أدركت أنني ال أستحق نهى ،وال أستحق
لحظة أمضيها برفقتها ،ندمت ندما كما أنه لم
يخلق من قبل .ونظرت إلى نفسي " نظرة
أخرى" إلى النعم التي أفاض بها هللا علي ،إلى
الصحة ،إلى المنزل ،إلى السالمة ،إلى المال،
إلى الزوجة ،التي ال أساوي قدر أنملة منها.
ورحت أفكر في صمت ما الذي فعلت ،وماذا
أفعل ،أفني أيامي وسعادتي أطارد ذكرى
غابرة ،أطارد الوهم ،ما ذنب نهى؟ ،وماذا جنت
لتتزوج من جسد بال قلب أول عقل؟ ،صراف
آلي يحضر لها األغراض! ،وإذا كانت تآلفت مع
27
أميرة إلى هذه الدرجة؛ فالبد أنها تحمل كثيرا
من صفاتها ،وسماتها الشخصية؛ فاألرواح جنود
مجندة...
اعتذرت من نهى ،وقطعت لها وعدا بإصالح
كل شيء ،وبدأت أعلم نفسي الحب من جديد،
خطوة خطوة مع اكتشاف الجمال الذي عميت
عيني عنه بنهى ،ورضيت بما قسمه هللا لي،
فجملها بعيني على أفضل مما رمت وتمنيت.
وآنس هللا شملنا بمولودة جميلة تحمل جمال
أمها ،أسميتها "سكن" لتذكرني دائما بالمغزى
الذي ربطني بأمها ،والوعد الذي قطعت لها .أما
أميرة فلم يعد هناك ما يربطني بها ،سوى ما
أتمنى لجميع البشر من الخير ،والتوفيق في
28
الحياة ،أتمنى أن تنال سعادتها كما فعلت وتنعم
بصفاء عيشها..
أعلم أن قصتي ربما لن تحدث كثيرا ،لكن كل
منا يحمل بداخله أميرة ،في أمنيات نتتبعها بال
وهن ،ونحزن كثيرا لفقدها ،ظنا أنه الخير ونحن
ال نعلم .ربما كنا نملك األفضل ونلهث خلف
الجيد أو المقبول ،كأحالم زائفة رسمناها على
جناح ريح جامحة ،مضطربة ،ال تبقي وال
تذر..
أتمنى أن أكون سببا في سعادة البعض بما لديه
من نعم ،وأداء شكرها ،والحمد هلل أن استعدت
وعي في الوقت المناسب ،فمن لم يجعل هللا له
نورا فما له من نور..
★★★
29
َ -٣دقَّة ِبدَقة
هي زالتنا التي نغفل عنها ،نجترمها في حق
أنفسنا ،وحق من نحب...
نقع في شرك الزلل على حين غفلة من ميزان
الحق الذي قامت عليه السماوات واألرض..
كنت صغيرا جدا أو أقل تعقال من أن أعي
العبارة التي كانت آخر ما حدثني به أبي على
فراش موته ،لم أدرك تماما ماذا كانت تعني
قبضته على يداي المرتعشتين خوفا ،وقوله لتلك
العبارة .كان في هول الوقف ما يقطع ذهني عن
30
التفكير في األمر ،أو محاولة تحليله ،ربما هي
لغز أو مفتاح لشيء ما ،لكنني لم أهتم مطلقا.
كانت روحي تنشطر إلى آالف الذرات تخرج
على وهن حينها ،أموت فزعا في كل ثانية.
موت بطيء قاهر ،ذاك الذي يصيبنا ونحن على
قيد الحياة ،لكن تلك القبضة كانت بمثابة صمام
األمان ،الذي فتح سيال من األلم بعد ارتخائها،
ولست أحدثكم عمن فقد والده ،بل من فقد حياته،
بينما يتردد اسمه على األلسنة هنا وهناك ،أحمد
احضر كذا ،وافعل ذاك ،تجلد وكن رجال ،أنت
اآلن رب هذا البيت...
ولكن عن أي رجل تتحدثون! ،وهل يخلق
الرجال ما بين عشية وضحاها ،هل ينام المرء
ليستيقظ على أقصى ما قد يبتلى به ،وفوق كل
31
هذا يستوي رجال .أهكذا هو األمر! إذا كانت
الرجولة تلك هي أحرف نرددها على األلسنة،
نجمل بها المواقف ،فأهال بها ومرحبا ،لكنني
اآلن وعيت أنها أكبر من تلك األحرف بكثير،
هي الدنيا التي نخرج إليها لتسحقنا في ساحات
االختبار آالف المرات ،ثم تسجل نتائج من
اجتازه ويوسم بهذه الصفة ،اآلن أستطيع قول
أنني رجل أو أرقى لالتصاف بهذه الصفة.
على كل باشرت المهمة الموكلة لدي ،كانت كل
مهاتي تتخلص في كلمة واحدة ،ذاكر ،ذاكر ،ثم
ذاكر أخرى ،وبالفعل ،ذاكرت وأنهيت مرحلتي
الثانوية ،التحقت بكلية جيدة ،وأصبح يشار إلي
بالباشمهندس حامي حمى نهضة البالد ،وزاد
طوق آخر حول عنقي وهو محاولة الحفاظ على
32
مستوى التفوق الذي حققت ،ومتابعة أختي
الصغيرة ،ورسم ذات الخطة المحكمة لها ،حتى
تتمكن من تحقيق النجاح الخاص بها ،ليس
كمهندسة هذه المرة بل طبيبة...
كنت أختنق يوميا ،أغص باأللقاب التي جعل
منها البشر جل همهم ،يحرقني األمل الذي تعلقه
أمي علي فتكسر به ظهر تَ َح ّملي ،لطالما هرعت
إلى المقابر حيث مرقد والدي ،كنت أبثه
شكواي ،أسأله كيف اتصرف حيال األمر ،كيف
أتجاوز العقبة التي سرمدت على حياتي
بالكامل ،بكيت كثيرا ،كطفل أضاع والدته
بالزحام واستحال رجوعها ،األمل الذي دفنته
بصحبة والدي كان أكبر ما يحيا بداخلي ،األمل
33
الذي نتكأ عليه كلما أضنتنا الشدائد ،وأثقلتنا
المهالك ،ودارت بنا في فلك الحيرة والوهن..
األمل ،الطاقة السحرية التي تظل تهمس بداخلنا
أن بنهاية النفق النجاة ،وأن أحلك ال ُ
ظلَم هو ما
يعقبها النور مباشرة ،هو درع المقاتل ،وسيفه،
ورمحه ،وكل شيء يحكم خطته قبل بداية
المعركة ،وما يلوح براية الظفر بالنهاية ،هو ما
فقدت وما زلت أفتقد إلى اآلن....
بعد ذلك بفترة وجيزة ،تعرفت إلى فتاة في
الجامعة ،لم تكن بنفس الكلية ،لكنني كنت أراها
بصفة شبه يومية ،وسريعا ما توطدت بيننا
العالقات ،ظللت أرعى حول حمى حبها لفترة،
إلى أن انهار بي الجرف في جهنم العشق
الزائف ،ولم أعد أشعر بتلك الوخزة من
34
ضميري التي كانت تهاتفني ما بين حين وآخر،
كأن هللا أمد لي حبالي في الغي ،كنت أتحدث
إليها طوال اليوم تقريبا ،لم نفرق بين ليل
ونهار ،شروق وغروب ،كل هذا ال يهم ،تأخر
تحصيلي الدراسي ،أخفقت بمادتين ،كنت على
شفير الهاوية ،لوال أن من هللا علي لخسف بي.
كذبت على أمي وادعيت النجاح ،ولكن
صدقوني أمك هي آخر شخص قد ترغب في
الكذب عليه يوما ما ،إال إذا كنتم تجيدون الكذب
على أنفسكم بالطبع .وكنت قد اقتربت من هذه
المرحلة ،فلم تؤثر بي نظراتها كثيرا ،كلما
رمقتني بعينها ،كنت أقرأ من تبكي في صمت،
تئن بوهن قاتل :من أنت!!
35
لكنني لم أملك جوابا حينها على هذا السؤال،
كان الران قد غشى كل شيء من حولي ،وأسدل
ستارا كثيفا على عيني ،وقلبي قبل كل شيء...
وكما هو الحال ،تقدمت عالقتنا خطوة ،لم يعد
يكفينا المحادثات الهاتفية المطولة ،شبه
المستديمة ،بل أصبحنا نلتقي ،على مرأى
ومسمع! كان الحياء قد انصرم تاركا مسخ قلبينا
من خلفه ،تجددت اللقاءات وتعددت األماكن،
وتنوعت المواعيد ما بين صباح ومساء حتى
يتسنى " لدنيا" اختالق األعذار لخروجها من
المنزل ،أحدثكم اآلن وأنا أنظر بازدراء إلى ما
كنت عليه ،لقد كنت على علم بما يجري ،هناك
والدان يخدعان ،تسرق أمانتهما على المأل،
36
وكانت لصا حقيرا ،ال يتوارى ،متبجحا ال أهتم
للعواقب!
مرت األيام وكنت على موعد زائف لمسرحية
العشق المحظور تلك ،تأنقت إلى حد كبير،
جلبت باقة توليب حمراء ،وصوبت نحو المكان
المنشود ،ولكنني ما إن وصلت إلى هناك ،حتى
سقطت السماوات كلها على ظهري ،فهشمته
كذرات الزجاج المتناثرة بكل اتجاه ،لقد وقعت
عيني على آخر شيء ال أقول توقعت حصوله،
بل لم يخطر ببالي مطلقا حتى في أبشع
كوابيسي قسوة ومرارة ،لقد آن األوان ،نعم،
كانت تلك الرشفة األولى التي تجرعتها من
كأس خيانتي ،خيانتي لنفسي ،ولقلبي الذي دنسته
على غير طائل ،ألمي ،ألمانة والدي التي لم
37
أصن ،نعم لقد كانت "رضوى" الطفلة الصغيرة
التي فارقت مهدها للتو ،تركض باتجاه وغد
يتهلل وجهه فرحا وسعادة ،ول َم قد أسمه بالوغد
برأيكم أليس كل منا غرسه بالختام؟ ،ألسنا
نجني ثمارنا إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر!،
ألسنا نتلقف ما صدر عنا ابتدا ًء ،فلم الدهشة،
وعالم الحيرة إذا؟!!
اجتاحتني أفكار عدة ،هممت أن أسير باتجاهها
س ّويا سمعة أميرها
وانهرها أمام الجمع الغير ُم َ
باألرض .أم علي أن انتظرها حتى انتهاء
الموعد وأعود بها للمنزل الذي سيغدو لها
محبسا بعد ذلك؟ ،أم أمضي لموعدي كأن شيئا
لم يكن! ،أم وأم وألف بعدهما خاطبت بها عقلي
الذي شل بمعنى الكلمة ،لكنه ال يستجيب ألي
38
منها مطلقا .تسمرت قدماي باألرضُ ،رحت
أجر أذيال حسرتي بوهن ساحق ،قاتل ،مضن،
كوقع صدمتي ،اليوم وللمرة األولى أحسست
ولو بالقليل من شعور والدا دنيا ،شعرت
بالحسرة ،واأللم الذي يخلفه الخذالن ،شعرت
بسكين الخيانة تذبحني لمرات عدة ال أكاد
أحصيها .وكم كنت أقول أنني لبث في العشق
يوما أو بعض يوم ،وكنت على شَك في تعداد
أيامي ،لكن اليقين الوحيد بأن تلك الطعنة بداخل
قلبي ،على قصرها كالمائة عام!
زحفت بأقدام ال تحملني حتى وصلت إلى
سيارتي بعد جهد جاهد ،قدت بسرعة جنونية،
بكيت بحرقة تحاكي نيران قلبي الممزق ،بكا ًء
يلملم أجزاء روحي المبعثرة ألما وخيبة
39
وحسرة ،بكيت ألنني ضيعت أمانتي بأبخس
األثمان!
ارتعدت السماء ،وهطلت أمطار غزيرة ،لكنها
لم تضاهي سيول عيني الجارفة ،وفجأة لم أشعر
بشيء مطلقا ،كانت األحداث أسرع من محاولة
استيعابها ،درات بي السيارة عدة مرات في
الهواء ،ثم كان كل شيء قد انتهى...
لم هناك ما يردده قلبي سوى " رب ارجعون"
لعلي أصلح ما أفسدت ،لعلي استرد ما أشفقت
منه السماوات واألرض والجبال ،كان كل ما
يتردد بأذني هو صوت والدي ،وقبضته تشد
على يدي..
40
ثم بدأ الهواء يتقلص برئتي ،وتحتشد المياه
مكانه ،وتضيق أنفاسي شيئا فشيئا حتى انقطعت
تماما أو هذا ما اعتقدت حينها...
بعد فترة من الوقت لم أعلمها أفقت على صرير
بأذني ،وأزيز أشعر أنه كان يصدر من داخلي،
فتحت عيني بخفوت ،وجدتني مزود بأشياء
كثيرة تخرج من داخل جسمي هنا وهناك،
حاولت النهوض فلم أقوى على ذلك مطلقا،
رفعت يدي وألقيت بها على السرير ،الحمد هلل،
ظننت أنني لن اتحرك ثانيةً ،وأن نهايتي قد
بدأت لتوها ،لكن رحمة هللا كانت أسبق من
عقابه...
أمضيت نحو شهرين كاملين بالمشفى ،كلما
نظرت بوجه أمي ،رأيت ما تنوء عن حمله
41
الجبال ،رأيت صدعا لن يلتئم ،وندوبا قد عجز
الطب عن معافاتها .وحدها خيبات األمل هي ما
تقتل كل جميل معها ،تستل من روح المرء
سعادته وأمله الذي يحيا بداخله!.
ران صمت تام أليام متتالية ،كانت النظرات
كفيلة بقول كل شيء ،وقول ما يُع َجز عن قوله،
وقول مالم ولن يقال .الصمت هو أقوى سالح
في المعارك محسومة النتائج .هو الحصن الذي
نلجأ إليه دوما ،هو ما تعجز عنه جيوش
الكلمات والعبارات ،وال يتقنه سوى محارب
بارع ،قد انطوت روحه على أن تئن في
صمت ،تبكي في صمت ،ترى العالم من حولها
في صمت...
42
ثم بعد عدة أيام ،بدأت أمي الخروج عن صمتها
أخيرا ،مزقت شرنقة أنينها وقالت :بصوت
يكسوه الشجون :اعلم أن هذه البيوت ال تقام
على غير الحب ،ولكن كن على يقين تام أن ما
تدعيه ليس حبا ،فهل رأيت يوما محطة قطار
تحتفظ بمالمح بعض من يطرقها ويتوارد
عليها؟! محال إال أن يكون حامال لمزايا قد
استحالت بغيره ،وهذا األمر يترك لتقدير المرء،
ومدى استجابته لمراتع الهلكة ،سترى كل
الوجوه جميلة ،وكل األخالق حسنة ،وكل
األرواح متقبلة ،ألنك لم تضبط مقاديرك منذ
البداية .ثم دعني أسألك أمرا ،هل تتوقع أن تنتقل
بين هذه وذاك وتلك وتتزوج أي منهن ،ألن
تحدثك نفسك اآلن ربما تكون قد رافقت غيري،
43
أو ما هو ضماني أنني الوحيد بحياتها ،ودعني
أذكرك بقولهم" من قتل يقتل ولو بعد حين"
وكسرك لوالدين كان جل جنايتهم أنهم ائتمنوا
خائن وخائنة ليس بالجرم الذي يمضي دون
مجازة بالعدل ،ثم إياك أن يخيل إليك أنني لست
على علم بكل شيء ،قد أمهلك هللا ،ومنحك
فرصة ثانية ،ربما لم تتوفر للبعض ،فاختر
مصيرك من اآلن...
ثم غادرت المكان ،لتتركني احترق منفردا في
أعماق ندمي ،وحسرتي .كلما انتابني شعور أنها
ربما كانت نهايتي ،أشعر بفزع تشيب له
الولدان ..على كل حال تحسنت أحوالي،
وغادرت المشفى ،وكانت أول وجهة لي هي
المقابر ،ذهبت لزيارة أبي ،قصصت عليه كل
44
ما قد حدث معي ،وما رأيته من حال أختي،
شعرت بقبضته تشد على يدي لتذكرني بأنني
من نكثت بوعدي ،وضيعت أمانتي ،وخنت ذاتي
قبل كل شيء ،كأني به في ذلك اليوم وهو
يقول" دقة بدقة" عندها فقط جال بخاطري ماذا
قد تعني هذه الكلمات ،غادرت المكان بعد جلسة
طويلة ،بحثت عن أصل الكلمات ،فوجدتها
أقصوصة لم استطع التوقف على صحتها كثيرا،
وحتى لو لم تكن قد وقعت ،إال أن معناها هو
الحقيقة المطلقة ،الحقيقة التي قامت عليها
السماوات واألرض ،حمدت هللا أنه لم يملي لي
أكثر من ذلك ،حمدت أني لم أنجرف أكثر مع
تيار غفلتي ،عدت إلى المنزل ،عزمت على
تغيير كل شيء ،بدأت بتغير رقم هاتفي ،ومحو
45
كل ذكريات دنيا من ذاكرتي ،وإصالح ما بيني
وما بين هللا.
في الصباح التالي ذهبت للجامعة ،اصطدمت
عيني برؤيتها بصحبة أحدهم ،يبدو عليها
انسجاما وتآلفا كبيرا ،وكانت الصدمة الكبرى،
لقد كان ذاك هو نفسه من رأيت يوم الحادث،
وليت ظهري لها ،ومضيت في دربي ،لم يعد
يعنيني من ومتى وأين ،كل ما أفكر به اآلن هو
كيف؟ كيف أصلح ما أفسدته أيام الماضي ،وبتُ
على يقين بأن ذلك الشخص لم يظهر بطريق
أختي أبدا ولكنها كانت منحتي من هللا ألعرف
الحقيقة ،وأعيد ترتيب أدواري ،وأصحح مسار
عز علي استيعابه ابتدا ًء ،لكن
حياتي ،كان درسا َ
الحمد هلل أنها لم تكن النهاية...
46
أصبحت دقة بدقة كميزان راسخ في قلبي ،لو أن
كل منا يعي أن كل ذرة سيؤاخذ بها لم يجرؤ
على الظلم قدر أنملة ،الظلم ظلمات ،ومن ظن
أنه أفلت من عقاب الدنيا ،فليبك على نفسه
البواكي ،فاليوم الذي تشخص فيه األبصار هو
أشد هوال وهوانا ..ومهما ظننت أنك قادر ،فاهلل
أقدر منك..
ليست دقة بدقة قصة ذاك التاجر الموصلي ،وال
حتى قصتي مع دنيا ،إنها حكمة سطرتها محكمة
العدل اإللهية ،المحكمة التي ال تفصل بين
الشكاوى التي ترفع إليها ،وال يبقى بها قضية
عالقة أو مسجلة ضد مجهول...
47
ومهما أعتقد المرء أنه أفلت ،فال يحسبن هللا
غافال عنه ،والسعيد هو من سدد دينه وهو قادر
قبل أن يدركه في أحوج عوزه وإعساره...
★★★
48
الم ْرآة
-٤ال ّ
ش َبح الّذي ِفي ِ
على الرغم من أنني كنت صغيرا حينها ،إال
أنني ال أزال أتذكر كل شيء حتى اآلن ،كأنه
يعاد أمامي في بث مباشر ال ينقطع أبدا..
في ذلك اليوم استيقظت على صراخ أمي
المفاجئ ،كانت تصرخ وتبكي بشدة وتردد
كلمات لم أفهمها ،هرعت إلى غرفتها ألعرف
السبب ،فوجدتها تمسك بأبي من كتفيه وتهزه
بشدة وتحركه ذهابا وإيابا ،تسأله مرارا أن
يجيبها ،لكن أبي لم يجب أبدا ،وحتى اآلن
يراودني شعور بسماع صوته وتلبية ذلك النداء.
49
وفقت منزويا في أحد أركان الغرفة ،أحاول فهم
ما يجري ،هل هذه أحد مقالب أبي التي اعتاد
تنفيذها؟ ،أم أنه مقلب مشترك بينه وبين أمي؟!،
هواجس كثيرة كانت تجول بخاطري عندما
باغتني نحيب أمي العالي" لقد توفي كمال"،
نزلت كلماتها كصاعقة أصابتني ،أعجز عن
استيعابها فضال عن التصديق .كلمات أسدلت
ستار أسود حزين على عيني أحسبه لم ينزع
حتى اآلن .هرولت نحو أبي أحاول أن أفسد
عليهم المشهد ،وتنتهي فصول تلك المسرحية،
لكن شيئا لم يحدث .عندها فقط أدركت أنها
حقيقة ،وما يحدث ليس سوى الواقع ،أما عن
إدراك معنى أن أبي مات فصدقا ال أزال أعاني
مرارته حتى هذه اللحظة..
50
أسرعت إلينا بعض الجارات لتري ما حدث،
توجهت إحداهن نحو أمي تحاول أن تذهب
روعها وتذكرها باهلل ،واتصلت األخرى بأقارب
أبي وأسرة والدتي ،امتأل المنزل عن آخره ما
بين جار أو قريب أو صديق ،وال زلت ال أعي
حقيقة ذاك الذي دعوه بالموت .أهو رحيل
2
★تصميم غالف وداخلي وتعبئة★
وفاء سامي
★حسابات تواصل الكاتبة★
فيس بوك
4
آسك
حاصلة على ليسانس اللغة العربية جامعة
األزهر بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف األولى
وماجستير اللغة العربية
3
س َراب
-١أَ ْح َب ْبت ال َّ
ال أدري حقا كيف أبدأ حكايتي ،وما سأقتبس
منها ،وكيف سأنسج خيوطها ،لكنها تتلخص في
كلمتين ال ثالث لهما" ،أحببت السراب"
نادمة بشدة ،وال أدري على أي شيء أندم ،هل
على أيام عمري التي تمضي دون فائدة تذكر،
أم أحالمي التي ولت مدبرة ولن تعقب ،أم على
شكلي ومظهري وصحتي التي ذهبت ولن تعود!
بدأت قصتي المؤلمة منذ سبع سنوات تقريبا،
حين التحقت بالجامعة .شيرين طالبة متفوقة ،لي
قلة من الصديقات ،ال أميل إلى التجمعات وكثرة
االرتباطات ،لم تعني لي الجامعة أكثر من مكان
4
للتعلم .حققت نجاحا باهرا في أول عامين لي في
الدراسة ،وظلت هكذا حالي ،إلى أن جاء يوم لم
أحسب له قبال ،أشارت زميلة لي إلى شاب يقف
على بعد أمتار من مجلسنا ،ثم نظرت نحوي
بخبث بالغ مردفة :سبحانه! وله في ذلك
حكم...ثم حملت حقدها وجرت أذيال خبثها
مغادرة المكان ..ولم يمض أسبوع على تلك
الحادثة؛ حتى وجدت أحدهم يتبعني إلى المنزل،
لم أُعر األمر اهتماما ،وبدوت متجاهلة لما
يجري .وصلت للمنزل وأسرعت الخطى نحو
غرفتي ،ال أتذكر شيء مما حدث بعد ذلك،
سوى أن ذلك الشبح كان يطاردني بعدها بكل
اتجاه ،وال زلت حتى اآلن أجهل السبب ،ال
5
أعرف ماذا كنت أعني له ،وماذا قد أصبحت
أعني اآلن!
فجأة ظهر أمامي بعدها في قاعة المحاضرات،
رمقته بنظرة تتأجج غضبا ،ولم ألتفت لكلمة
واحدة مما قالها ،تركت المكان بهدوء تام
وانصرفت نحو المنزل .وبعد أيام قليلة ،حلت
اختبارات انتهاء العام الدراسي ،فاختفى تماما
عن األنظار ،حمدت هللا من قلبي ،تمنيت لو أن
كل األيام تكون اختبارا ،وال أراه أمامي من
جديد ..لكنه كان اختباري األعظم في الحياة،
االختبار الذي لم تحسم نتائجه ،ولم ترصد
درجاته بعد ،االختبار الذي لم أتهيأ له على
القدر الكافي ،وربما يكون األسوأ على
اإلطالق..
6
بعد تجاوز فترة االمتحان ،أخبرني والدي أن
هناك من يتقدم لخطبتي ،وطلب مني االستعداد،
وبالفعل بعد تململ طويل خرجت ألجد آخر
وجه قد أرغب في رؤيته ،لقد كان هو بالفعل
من ظننتم ،وما إن رأيته حتى اختنق داخلي
وضاق صدري ،جلست نحو خمس دقائق كانت
دهرا بالنسبة إلي ،ثم انسحبت من المكان،
وداخلي مبعثر تماما ،ينتابني عدة تساؤالت،
لماذا أنا ،لم اختارني من بين كل الفتيات الالتي
تلحقن به مرارا؟
هل أراد أن يثبت لنفسه انتصارا جديدا بضمي
للقائمة؟ أم أنه معجب بي بالفعل كما أخبرني
والدي بعد انصرافه ،حاولت جاهدة التخلص من
األمر ،وتبرير رفضي له ،لم أجد سببا مقنعا في
7
ذلك؛ فأسامة كانت به كل المواصفات التي
وضعها والدي ألحالمهما ،عائلة يضج صيتها
باألرجاء ،مال ،ترف ،ونفوذ غير متناهي ،ثم
إن الشاب متعلم ،في كلية كما يقولون عنها من
(كليات القمة) وليست القمة في كلية أو غيرها،
بل القمة في النفس التي تحمل صاحبة إلى أعلى
قمة ،ومع مرور الوقت وإلحاح والداي،
وإصرارهما على فتى أحالمهم ،وافقت بالنهاية،
وكانت تلك أولى خطواتي نحو الهالك ،لم أكلف
نفسي بالدفاع عن مبادئي حتى النهاية ،وبدأت
استمع لما تلوكه األلسنة وتتغنى به من مآثر
الفارس الهمام..
ثم وقعت الكارثة ،فبدأت أساير الوهم شيئا فشيئا
حتى تسلل إلى داخلي تماما ،وسايرت األمر كما
8
لو كانت تحكى عن األساطير كقيس وليلي،
ولكن أنى نحن وأين الليالي التي جمعتنا ثم
بعثرتنا في مهب الريح ..تمت خطبتنا سريعا،
وكنت أوهم قلبي بأنه هو ،هو اختياري وحلمي،
والنفس التي أتمنى أن تشاطرني أحالمي إلى
نهايتها ،ال يحضرني اآلن من قصة الحب وإن
شئت القول قصة الوهم سوى نظرات اإلعجاب
التي كانت تغزو وجوه الفتيات عند رؤيتنا معا،
ربما كان هذا االنبهار والزهو الزائف هو ما
دفعني لخوض تلك المأساة عن طيب خاطر ،أنا
لم أحب أسامة يوما ،بل أحببت نظرات
اإلعجاب التي كانت تطوقني برفقته ،كنت أشعر
بشيء من التميز ألنه قد وقع اختياري من بين
كل هؤالء..
9
وتقدمت األيام لتعلن الزفاف المنتظر ،كان كما
حلم به والداي تماما ،شخصيات مرموقة مزهوة
بالسطوة الزائفة ،فرق موسيقية عتيدة تعزف
لحن وفاتي ،وجوه تكتسي بالنفاق واالبتسام
المصطنع وإن كان بعضها يشي بقولهم :من
تلك!
بعد الزفاف علمت أنني كنت بمثابة تحدي في
حياة أسامة ،الشاب الذي ال يعرف حدودا لما
يريد ،ولم يعتد أن هناك ما هو ممنوع عليه،
كانت تجربة إلثبات سطوته وجبروته،
ومطاوعة من والده الذي وجد في األمر ما قد
يصلحه ويقيم به شتاته ويقوم به فساده،
بعد الزفاف ،بدأت األمور تتغير تماما ،وجدت
عقال فارغا ،ال يحتوي بداخله على رمق من
10
التفكير أو التعقل حتى ،اتكال تام على الوالد
فاحش الثراء ،فوضوية وعدم تحمل للمسئولية،
تذمر وسخط ألتفه األسباب ،كنت ألوم نفسي كل
يوم ،واتدثر بحزني ودمعي في المساء ،ارسم
ابتسامات زائفة بوجه والداي وكل من حولي،
لكن هناك نظرات كانت تقتلني كل يوم ،كلما
نظرت إلى تلك المرآة ،ال أجد بها من كانت
تشبهني ،تسرب اليأس إلى نفسي حتى انطفأ كل
أمل بداخلي ،ومات كل حلم بالنسبة إلي،
وأصبحت ال اهتدي إلى نفسي التي اشتقتها
وبحق!
مرت األيام ،وحلت السنة الدراسية الجديدة التي
كانت تحمل معها أعباء حدّبت ظهري ،وأوهنت
عقلي أضعاف ما قد كان عليه ،مسؤوليات عدة،
11
ما بين طالبة ،وربة منزل ،واألسوأ من ذلك أم
جديدة على مشارف األمومة ،كان كل يوم
بمثابة جحيم على ظهر األرض ،ابتعدت عن
كل من أعرف ،قضيت أياما كثيرة بمفردي
أعاني ألم نفسي التي أحكمت قيدها بيدي ،أعاني
من إهانات فارس أحالمي ،لقد تغير شكلك
كثيرا ،وازداد وزنك بضع كليو جرامات ،وما
هذا الشحوب بوجهك ،لماذا أنت متعبة دائما؟
والكثير من العبارات التي ال تنم إال عن شيء
واحد ،نعم لقد أحببت السراب ،لم أجد صفة
واحدة ذاتية أحبه ألجلها ،لم يكن يوما رحيما
معي ،لم أجد منه مساعدة قط ،لم يسألني يوما
عن حالي ،وما إن كنت بخير ،إنه عار تماما
12
عن كل معنى لإلنسانية قبل الحب أو حتى
بوادره من اإلعجاب!
حتى أنه ال يمكن وصفه بجماد في صورة بشر؛
فالجمادات ال تضر وال تنفع أما هو فال يرجى
منه غير الضرر..
مرت األيام ووضعت طفلي األول ،وانشغلت به
تماما عن كل شيء ،تأخر معدلي الدراسي،
حتى تخليت عن دراستي تماما تحت منطلق
والداي (ولم تحتاجين إلى شهادة ومعك هذا
المال) ،نعم معي المال ،بال مشاعر ،أو تفاهم،
أو أدنى اهتمام..
معي شيء واحد ،بينما أضعت ألف شيء!
ليت الحل كان يكمن في تلك الوريقات التي
استخدمها والداي كحد بين فارس وغيره ،بين
13
أسامة الذي كان قلبه هواء ،وعقله هواء ،وكل
شيء فيه ،وبين غيره..
أقضي األيام كأسيرة في قصري الكبير ،لم أعد
أنظر بمرآتي حتى أتجنب تلك النظرات ،لم يعد
بإمكاني التحمل أكثر ،أرغب في االنفصال عن
أسامة ،وهجر العالم بأسره واالنفراد بصغيري،
الذي يحيا اليتم وكال أبويه بين األحياء ،وال
أدري إلى متى يسعني البقاء في هذا األسر..
أكتب إليكم تلك الكلمات حتى ال تختبرن مرارة
األسر التي أعاني ،حتى ال يصبح كل بيت يأسر
بين جدرانه شيرين أخرى ،حتى ال تنخدعوا في
كل فارس يدق بابكم ،حتى أكشف آالف األوجه
من أسامة التي كانت ومازالت تحيا بيننا ،وأنقذ
14
أرواحا تولد على ساحة اليأس األسري ،تولد
وليس لها ملجأ سوى بيت العنكبوت..
اختاريه إنسانا قبل كل شيء..
اختاري روحا تكمل روحك..
ونفسا تسكنين إليها وتسكن..
★★★
15
-2نَ ْظرة أ ْخ َرى
أعلم أني مذنب يقينا ،وليس هناك ما يشفيني من
الندم ،حقا لقد كنت المذنب الوحيد في هذه
القضية .كنت مذنبا وقاضيا وجالدا في الوقت
ذاته ،أصدرت حكما بإعدام روحي ،ثم خففته
فيما بعد إلى السجن المؤبد خلف جدران
األحزان ،مع األشغال الشاقة بالتفكير الذي كاد
يسطر شهادة وفاتي!
تبدأ قصتي عندما هممت بالتقدم لخطبة ابنة
عمتي" أميرة" يكفي أن ألفظ اسمها فقط،
ليستحضر ذهنك كل معاني الجمال .لقد كانت
أميرة وبحق! كأنها أخذت كل مقادير السعادة
16
والنجاح المقدرة للخلق جميعا ،ثم مزجتها في
كوب سحري وتناولته في صغرها .متميزة إلى
أبعد حد قد يتصوره العقل ،وال أريد أن أسمع
من يقول أنها عين المحب أو غيره ،فأنا لم أعد
ذلك المحب ،ولكنها تبقى كما هي!
تحمل وجها تفيض قسماته بالصفاء والبراءة،
لها حضور اجتماعي مذهل ،تشد انتباه كل من
عرفها إليها ،لو دخلت إلى أي مكان اللتف من
حولها من فيه .كما أنها كانت متوفقة دراسيا،
مجتهدة إلى أبعد الحدود ،تضع هالة حولها من
االحترام ،ومساحة من األدب .كنت قد أشغفت
بها منذ صغري ،وكبرت وكبر ذلك الشغف
بداخلي .لطالما صارعت إلخفائه وستره ،حتى
أتى يوم ونفد كل صبر كان بداخلي ،صارحت
17
أمي بالحقيقة ،فسعدت لذلك كثيرا؛ فالفتاة يتمنى
الجميع بضمها لعائلته ،فوق هذا فصلة القرابة
سترفع عنا التكلف عند التقدم لخطبتها ،وبالفعل
قطعت أمي لي وعدا بالذهاب لزيارتهم في
أقرب وقت ممكن.
في تلك األثناء كنت أحيا سعادة ال تنم عنها
الكلمات مطلقا ،كمن وجد ضالته بعد انقطاع
سيبله وفقد كل شيء لديه ،رحت أرسم لوحة
سعادتنا وأضع خططا لمستقبلنا وحياتنا ،أرتب
كلمات بداخل قلبي أحدثها بها ،وأنظم فيها
أشعار شوق دام من الصبا.
ثم استيقظت في أحد األيام على انقباض بوجه
أمي ،سألتها مرارا عن السبب ،لكنها كانت
تتخلص من اإلجابة ،حتى هاتفني األخ األصغر
18
ألميرة يخبرني بانعقاد خطبتها في الخميس
المقبل ،ويشدد على رغبته في حضوري ،لم
أدر بما أجبته ،وكيف استقبلت طلقاته التي
أصابت وسط قلبي مباشرة ،حيث تجلس ملكته
متربعة على عرش الحب ،ران الصمت لبضع
لحظات ثم وضعت الهاتف من يدي ،ولم أدر ما
حدث تماما بعد ذلك ،لكن ما أتذكره جيدا أن
روحي كانت تتصعد للسماء شيئا فشيئا ،وكنت
كذبيحة ذبحت بسكين صدأ ذبحت كقربان على
نُصب الحب الزائف!
تتابعت األيام بل والشهور ،وأنا في عمق
مأساتي ،أتكبد خسائرها وحدي ،وأضرم
بجمرها بمفردي ،ال أذكر كم العبرات التي
تحيرت بمقلتي على فراقها ،وكم التي جادت
19
فانهمرت لتطفأ ظمأ روحي ،وتروي صحراء
نفسي المجدبة.
لم تدخر أمي وسعا في البحث عن عروس لي،
وسعت جاهدة لتحمل أوصافا استثنائية للغاية،
حتى تنسيني من قد أضعت ،وال أخفيكم أنها
حطمت الرقم القياسي في األمر ،حتى لم أجد بدا
في االستسالم لها بالنهاية ،راحت تمطرني
بسيل من المديح عن األميرة التي أحضرت،
إنها ابنة األحساب واألنساب ،والجمال اآلسر
الباهر ،كما أنها تحمل شهادة جامعية ،وأضافت
بنبرتها النسائية التي ال تخفى على الجميع :خذ
التي ستصونك ،وتكرمك ،وكل شيء قسمة
ونصيب.
20
نظرت لها بفتور بارد ،رددت بداخلي ومن الذي
قال بأن األخرى لم تكن لتصونني أو تكرمني،
هل تراها لن تصون من ظفر بالفوز بها ،ثم
مضيت معها نحو منزل الفتاة.
اجتاحتني خواطر عدة أثناء ذهابي ،فكرت في
العودة أدراجي غير مرة ،حتى وصلنا إلى بيت
شاهق مرصع بالحسب والنسب ،وأهال ومرحبا
بصحبتك الحاج فالن وريث عائالت فالن آخر.
مضيت للداخل ،وحتى هذا اليوم لم أشعر ولو
طرفة عين بشيء من اإلساءة من هذا البيت
ومن كل من ضم بداخله وكانوا دائما على أتم
استعداد وترحيب..
كانت الجلسة روتين بحت ،تعارف ،وماذا
تعمل ،وماذا تحب وماذا تبغض ،والعجيب أن
21
إجابة كال السؤالين ذاتها؛ عندما سأل الرجل
عما أحب ،كانت أول من حضر بقلبي ،وعندما
عاود سؤاله بالنقيض كانت نفس اإلجابة ،لكأنها
احتلت كل تعبيرات الشعور لدى قلبي ،ولم يعد
ينبض لغيرها ،على أية حال مرت فقرة
االستجواب ،وماذا سنحضر وماذا ستحضرون،
واختتمت بأنه لن نختلف وما بين المحسنين من
حساب .ثم أردف الوالد إذا خير البر عاجله،
لنقرأ الفاتحة ،ثم أضرب قائال :لقد نسيت تماما،
يا أم العروسة ،احضري نهى ،لتقرأ معنا
الفاتحة ،ولتتعرف إلى خاطبها ،وبعد لحظات
أقبلت الفتاة ،فأطلق والدها :تعالى يا نهى ،إنه
ماجد العريس ،وهذه حماتك ثم سحبها من فوره
أقصد أمك الثانية ،اجلسي يا ابنتي بجانبي ،لقد
22
كنا على وشك قراءة الفاتحة ،ثم رفع يديه ،وبدأ
الجميع يُسر باآليات..
تعرفت فيما بعد إلى الفتاة ،التي كانت تقتلني
كلما نظرت بوجهها ،كانت تكن لي احتراما
كبيرا ،تحمل عيناها الحب لي ،وألهلي ،ولكل
ما أحب .كانت حريصة كل الحرص على
إرضائي وسعادتي ،مرت فترة الخطبة وأنا
أبادلها االهتمام من باب الشفقة عليها ،فأنا
أعرف من يكون بمعنى الخذالن ،أكثر من
يعرف الكسر من الهجر .قلت لذاتي علني أحبها
بعد الزواج ،ما دام هناك توافق ،واهتمام،
فلنترك الحب جانبا اآلن .وكانت أمي حريصة
على إتمام الزواج بأقصى سرعة ،كما أن
23
اإلسراف في تأدية دور العاشق المتيم حدى بها
نحو تعجل األمر.
وبالفعل تزوجنا بيوم ال أذكر منه شيء مطلقا،
سوى السعادة التي كانت تسكن بعيني أميرة
حينما حضرت إلى الزفاف ،تراها كانت سعيدة
ألجلي ،أم أنها سعيدة ألن عذاب الضمير
سيفارقها ،أم أنها سعيدة بالتخلص مني ،أم أنها
ابتسامة الشماتة الزائفة ،لم أشعر بما يدور من
حولي ،وقمت بتمثيل دوي ببراعة ،أساير كل ما
يدعونني إليه ،كإحدى عرائس مسرح الدمى!
وبقيت بعدها معلقا بأفالك حبها ألسبوع كامل،
كثمل هائم تائه ،ال يهتدي إلى وجهة...
تقدمت األيام وبدأت انساب مع تيار شفقتي تجاه
نهى ،كانت ال تدخر وسعا إلرضائي ،زوجة
24
مثالية على أحسن ما يكون ،لكن خطئها الوحيد
أنها ليست من تمنيت أن تكون!
بعدها ،جمعتها عدة مصادفات مع أميرة في
مناسبات عائلية ،لم تكن على علم بقصتي
مطلقا ،ولم أشأ أن أخبرها ،توطدت بينهما
العالقات سريعا ،وكونا صداقة مقربة .أخذ
االنبهار من نهى مأخذه بشخص أميرة ،البد أن
هذه الفتاة تملك نوعا من السحر بكل من يقترب
منها ،كانت تقضي الكثير من الوقت القليل الذي
أقضيه معها تتحدث عن مفاخرها ومآثرها وكم
أنها شخص أكثر من رائع ،وهي ال تدري أنني
أعرف بهذا منها ،وأنها تشعل فتيل نار حبي
المتأجج بداخلي .كنت أساير حديثها ،وتطيب
نفسي بسماعه ،بل وصل بي األمر أحيانا أنني
25
كنت أتعمد أن تبدأ بالحديث عنها ،أعلم أنني
كنت خائنا لنفسي ،ولنهى ،وللميثاق الغليظ الذي
عقدته ووقعته بيني وبينها .حتى ضاق داخلي
كثيرا ،وأصبحت أبغض نفسي كليا.
حتى كانت أحد تلك الجلسات العفوية ،وما إن
بدأت نهى حديثها حتى صحت بوجهها وعنفتها
بشدة ،كادت أوداجي تنفجر غضبا حين دفعتها
أرضا ،مغلقا الباب من خلفي بشدة حتى توهمت
أنه فارق موضعه .قضيت الليلة بالخارج ،ولدى
عودتي مع إشراقة الصباح ،تمددت على
السرير بكامل وقاحتي كأن شيئا لم يكن،
فسمعت صوتا هاتفا من الغرفة المجاورة يبكي
ويتضرع بحرقة يئن لها من كان له قلب،
حاولت التغافل في بداية األمر لكن لم أستطع
26
منع قدماي التي حملتني حيث جلست نهى،
تشتكي إلى هللا ،وأثر ندبة في جبينها .احتقرت
نفسي بشدة ،شعرت بقدر من الضآلة أمام تلك
الفتاة ،أدركت أنني ال أستحق نهى ،وال أستحق
لحظة أمضيها برفقتها ،ندمت ندما كما أنه لم
يخلق من قبل .ونظرت إلى نفسي " نظرة
أخرى" إلى النعم التي أفاض بها هللا علي ،إلى
الصحة ،إلى المنزل ،إلى السالمة ،إلى المال،
إلى الزوجة ،التي ال أساوي قدر أنملة منها.
ورحت أفكر في صمت ما الذي فعلت ،وماذا
أفعل ،أفني أيامي وسعادتي أطارد ذكرى
غابرة ،أطارد الوهم ،ما ذنب نهى؟ ،وماذا جنت
لتتزوج من جسد بال قلب أول عقل؟ ،صراف
آلي يحضر لها األغراض! ،وإذا كانت تآلفت مع
27
أميرة إلى هذه الدرجة؛ فالبد أنها تحمل كثيرا
من صفاتها ،وسماتها الشخصية؛ فاألرواح جنود
مجندة...
اعتذرت من نهى ،وقطعت لها وعدا بإصالح
كل شيء ،وبدأت أعلم نفسي الحب من جديد،
خطوة خطوة مع اكتشاف الجمال الذي عميت
عيني عنه بنهى ،ورضيت بما قسمه هللا لي،
فجملها بعيني على أفضل مما رمت وتمنيت.
وآنس هللا شملنا بمولودة جميلة تحمل جمال
أمها ،أسميتها "سكن" لتذكرني دائما بالمغزى
الذي ربطني بأمها ،والوعد الذي قطعت لها .أما
أميرة فلم يعد هناك ما يربطني بها ،سوى ما
أتمنى لجميع البشر من الخير ،والتوفيق في
28
الحياة ،أتمنى أن تنال سعادتها كما فعلت وتنعم
بصفاء عيشها..
أعلم أن قصتي ربما لن تحدث كثيرا ،لكن كل
منا يحمل بداخله أميرة ،في أمنيات نتتبعها بال
وهن ،ونحزن كثيرا لفقدها ،ظنا أنه الخير ونحن
ال نعلم .ربما كنا نملك األفضل ونلهث خلف
الجيد أو المقبول ،كأحالم زائفة رسمناها على
جناح ريح جامحة ،مضطربة ،ال تبقي وال
تذر..
أتمنى أن أكون سببا في سعادة البعض بما لديه
من نعم ،وأداء شكرها ،والحمد هلل أن استعدت
وعي في الوقت المناسب ،فمن لم يجعل هللا له
نورا فما له من نور..
★★★
29
َ -٣دقَّة ِبدَقة
هي زالتنا التي نغفل عنها ،نجترمها في حق
أنفسنا ،وحق من نحب...
نقع في شرك الزلل على حين غفلة من ميزان
الحق الذي قامت عليه السماوات واألرض..
كنت صغيرا جدا أو أقل تعقال من أن أعي
العبارة التي كانت آخر ما حدثني به أبي على
فراش موته ،لم أدرك تماما ماذا كانت تعني
قبضته على يداي المرتعشتين خوفا ،وقوله لتلك
العبارة .كان في هول الوقف ما يقطع ذهني عن
30
التفكير في األمر ،أو محاولة تحليله ،ربما هي
لغز أو مفتاح لشيء ما ،لكنني لم أهتم مطلقا.
كانت روحي تنشطر إلى آالف الذرات تخرج
على وهن حينها ،أموت فزعا في كل ثانية.
موت بطيء قاهر ،ذاك الذي يصيبنا ونحن على
قيد الحياة ،لكن تلك القبضة كانت بمثابة صمام
األمان ،الذي فتح سيال من األلم بعد ارتخائها،
ولست أحدثكم عمن فقد والده ،بل من فقد حياته،
بينما يتردد اسمه على األلسنة هنا وهناك ،أحمد
احضر كذا ،وافعل ذاك ،تجلد وكن رجال ،أنت
اآلن رب هذا البيت...
ولكن عن أي رجل تتحدثون! ،وهل يخلق
الرجال ما بين عشية وضحاها ،هل ينام المرء
ليستيقظ على أقصى ما قد يبتلى به ،وفوق كل
31
هذا يستوي رجال .أهكذا هو األمر! إذا كانت
الرجولة تلك هي أحرف نرددها على األلسنة،
نجمل بها المواقف ،فأهال بها ومرحبا ،لكنني
اآلن وعيت أنها أكبر من تلك األحرف بكثير،
هي الدنيا التي نخرج إليها لتسحقنا في ساحات
االختبار آالف المرات ،ثم تسجل نتائج من
اجتازه ويوسم بهذه الصفة ،اآلن أستطيع قول
أنني رجل أو أرقى لالتصاف بهذه الصفة.
على كل باشرت المهمة الموكلة لدي ،كانت كل
مهاتي تتخلص في كلمة واحدة ،ذاكر ،ذاكر ،ثم
ذاكر أخرى ،وبالفعل ،ذاكرت وأنهيت مرحلتي
الثانوية ،التحقت بكلية جيدة ،وأصبح يشار إلي
بالباشمهندس حامي حمى نهضة البالد ،وزاد
طوق آخر حول عنقي وهو محاولة الحفاظ على
32
مستوى التفوق الذي حققت ،ومتابعة أختي
الصغيرة ،ورسم ذات الخطة المحكمة لها ،حتى
تتمكن من تحقيق النجاح الخاص بها ،ليس
كمهندسة هذه المرة بل طبيبة...
كنت أختنق يوميا ،أغص باأللقاب التي جعل
منها البشر جل همهم ،يحرقني األمل الذي تعلقه
أمي علي فتكسر به ظهر تَ َح ّملي ،لطالما هرعت
إلى المقابر حيث مرقد والدي ،كنت أبثه
شكواي ،أسأله كيف اتصرف حيال األمر ،كيف
أتجاوز العقبة التي سرمدت على حياتي
بالكامل ،بكيت كثيرا ،كطفل أضاع والدته
بالزحام واستحال رجوعها ،األمل الذي دفنته
بصحبة والدي كان أكبر ما يحيا بداخلي ،األمل
33
الذي نتكأ عليه كلما أضنتنا الشدائد ،وأثقلتنا
المهالك ،ودارت بنا في فلك الحيرة والوهن..
األمل ،الطاقة السحرية التي تظل تهمس بداخلنا
أن بنهاية النفق النجاة ،وأن أحلك ال ُ
ظلَم هو ما
يعقبها النور مباشرة ،هو درع المقاتل ،وسيفه،
ورمحه ،وكل شيء يحكم خطته قبل بداية
المعركة ،وما يلوح براية الظفر بالنهاية ،هو ما
فقدت وما زلت أفتقد إلى اآلن....
بعد ذلك بفترة وجيزة ،تعرفت إلى فتاة في
الجامعة ،لم تكن بنفس الكلية ،لكنني كنت أراها
بصفة شبه يومية ،وسريعا ما توطدت بيننا
العالقات ،ظللت أرعى حول حمى حبها لفترة،
إلى أن انهار بي الجرف في جهنم العشق
الزائف ،ولم أعد أشعر بتلك الوخزة من
34
ضميري التي كانت تهاتفني ما بين حين وآخر،
كأن هللا أمد لي حبالي في الغي ،كنت أتحدث
إليها طوال اليوم تقريبا ،لم نفرق بين ليل
ونهار ،شروق وغروب ،كل هذا ال يهم ،تأخر
تحصيلي الدراسي ،أخفقت بمادتين ،كنت على
شفير الهاوية ،لوال أن من هللا علي لخسف بي.
كذبت على أمي وادعيت النجاح ،ولكن
صدقوني أمك هي آخر شخص قد ترغب في
الكذب عليه يوما ما ،إال إذا كنتم تجيدون الكذب
على أنفسكم بالطبع .وكنت قد اقتربت من هذه
المرحلة ،فلم تؤثر بي نظراتها كثيرا ،كلما
رمقتني بعينها ،كنت أقرأ من تبكي في صمت،
تئن بوهن قاتل :من أنت!!
35
لكنني لم أملك جوابا حينها على هذا السؤال،
كان الران قد غشى كل شيء من حولي ،وأسدل
ستارا كثيفا على عيني ،وقلبي قبل كل شيء...
وكما هو الحال ،تقدمت عالقتنا خطوة ،لم يعد
يكفينا المحادثات الهاتفية المطولة ،شبه
المستديمة ،بل أصبحنا نلتقي ،على مرأى
ومسمع! كان الحياء قد انصرم تاركا مسخ قلبينا
من خلفه ،تجددت اللقاءات وتعددت األماكن،
وتنوعت المواعيد ما بين صباح ومساء حتى
يتسنى " لدنيا" اختالق األعذار لخروجها من
المنزل ،أحدثكم اآلن وأنا أنظر بازدراء إلى ما
كنت عليه ،لقد كنت على علم بما يجري ،هناك
والدان يخدعان ،تسرق أمانتهما على المأل،
36
وكانت لصا حقيرا ،ال يتوارى ،متبجحا ال أهتم
للعواقب!
مرت األيام وكنت على موعد زائف لمسرحية
العشق المحظور تلك ،تأنقت إلى حد كبير،
جلبت باقة توليب حمراء ،وصوبت نحو المكان
المنشود ،ولكنني ما إن وصلت إلى هناك ،حتى
سقطت السماوات كلها على ظهري ،فهشمته
كذرات الزجاج المتناثرة بكل اتجاه ،لقد وقعت
عيني على آخر شيء ال أقول توقعت حصوله،
بل لم يخطر ببالي مطلقا حتى في أبشع
كوابيسي قسوة ومرارة ،لقد آن األوان ،نعم،
كانت تلك الرشفة األولى التي تجرعتها من
كأس خيانتي ،خيانتي لنفسي ،ولقلبي الذي دنسته
على غير طائل ،ألمي ،ألمانة والدي التي لم
37
أصن ،نعم لقد كانت "رضوى" الطفلة الصغيرة
التي فارقت مهدها للتو ،تركض باتجاه وغد
يتهلل وجهه فرحا وسعادة ،ول َم قد أسمه بالوغد
برأيكم أليس كل منا غرسه بالختام؟ ،ألسنا
نجني ثمارنا إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر!،
ألسنا نتلقف ما صدر عنا ابتدا ًء ،فلم الدهشة،
وعالم الحيرة إذا؟!!
اجتاحتني أفكار عدة ،هممت أن أسير باتجاهها
س ّويا سمعة أميرها
وانهرها أمام الجمع الغير ُم َ
باألرض .أم علي أن انتظرها حتى انتهاء
الموعد وأعود بها للمنزل الذي سيغدو لها
محبسا بعد ذلك؟ ،أم أمضي لموعدي كأن شيئا
لم يكن! ،أم وأم وألف بعدهما خاطبت بها عقلي
الذي شل بمعنى الكلمة ،لكنه ال يستجيب ألي
38
منها مطلقا .تسمرت قدماي باألرضُ ،رحت
أجر أذيال حسرتي بوهن ساحق ،قاتل ،مضن،
كوقع صدمتي ،اليوم وللمرة األولى أحسست
ولو بالقليل من شعور والدا دنيا ،شعرت
بالحسرة ،واأللم الذي يخلفه الخذالن ،شعرت
بسكين الخيانة تذبحني لمرات عدة ال أكاد
أحصيها .وكم كنت أقول أنني لبث في العشق
يوما أو بعض يوم ،وكنت على شَك في تعداد
أيامي ،لكن اليقين الوحيد بأن تلك الطعنة بداخل
قلبي ،على قصرها كالمائة عام!
زحفت بأقدام ال تحملني حتى وصلت إلى
سيارتي بعد جهد جاهد ،قدت بسرعة جنونية،
بكيت بحرقة تحاكي نيران قلبي الممزق ،بكا ًء
يلملم أجزاء روحي المبعثرة ألما وخيبة
39
وحسرة ،بكيت ألنني ضيعت أمانتي بأبخس
األثمان!
ارتعدت السماء ،وهطلت أمطار غزيرة ،لكنها
لم تضاهي سيول عيني الجارفة ،وفجأة لم أشعر
بشيء مطلقا ،كانت األحداث أسرع من محاولة
استيعابها ،درات بي السيارة عدة مرات في
الهواء ،ثم كان كل شيء قد انتهى...
لم هناك ما يردده قلبي سوى " رب ارجعون"
لعلي أصلح ما أفسدت ،لعلي استرد ما أشفقت
منه السماوات واألرض والجبال ،كان كل ما
يتردد بأذني هو صوت والدي ،وقبضته تشد
على يدي..
40
ثم بدأ الهواء يتقلص برئتي ،وتحتشد المياه
مكانه ،وتضيق أنفاسي شيئا فشيئا حتى انقطعت
تماما أو هذا ما اعتقدت حينها...
بعد فترة من الوقت لم أعلمها أفقت على صرير
بأذني ،وأزيز أشعر أنه كان يصدر من داخلي،
فتحت عيني بخفوت ،وجدتني مزود بأشياء
كثيرة تخرج من داخل جسمي هنا وهناك،
حاولت النهوض فلم أقوى على ذلك مطلقا،
رفعت يدي وألقيت بها على السرير ،الحمد هلل،
ظننت أنني لن اتحرك ثانيةً ،وأن نهايتي قد
بدأت لتوها ،لكن رحمة هللا كانت أسبق من
عقابه...
أمضيت نحو شهرين كاملين بالمشفى ،كلما
نظرت بوجه أمي ،رأيت ما تنوء عن حمله
41
الجبال ،رأيت صدعا لن يلتئم ،وندوبا قد عجز
الطب عن معافاتها .وحدها خيبات األمل هي ما
تقتل كل جميل معها ،تستل من روح المرء
سعادته وأمله الذي يحيا بداخله!.
ران صمت تام أليام متتالية ،كانت النظرات
كفيلة بقول كل شيء ،وقول ما يُع َجز عن قوله،
وقول مالم ولن يقال .الصمت هو أقوى سالح
في المعارك محسومة النتائج .هو الحصن الذي
نلجأ إليه دوما ،هو ما تعجز عنه جيوش
الكلمات والعبارات ،وال يتقنه سوى محارب
بارع ،قد انطوت روحه على أن تئن في
صمت ،تبكي في صمت ،ترى العالم من حولها
في صمت...
42
ثم بعد عدة أيام ،بدأت أمي الخروج عن صمتها
أخيرا ،مزقت شرنقة أنينها وقالت :بصوت
يكسوه الشجون :اعلم أن هذه البيوت ال تقام
على غير الحب ،ولكن كن على يقين تام أن ما
تدعيه ليس حبا ،فهل رأيت يوما محطة قطار
تحتفظ بمالمح بعض من يطرقها ويتوارد
عليها؟! محال إال أن يكون حامال لمزايا قد
استحالت بغيره ،وهذا األمر يترك لتقدير المرء،
ومدى استجابته لمراتع الهلكة ،سترى كل
الوجوه جميلة ،وكل األخالق حسنة ،وكل
األرواح متقبلة ،ألنك لم تضبط مقاديرك منذ
البداية .ثم دعني أسألك أمرا ،هل تتوقع أن تنتقل
بين هذه وذاك وتلك وتتزوج أي منهن ،ألن
تحدثك نفسك اآلن ربما تكون قد رافقت غيري،
43
أو ما هو ضماني أنني الوحيد بحياتها ،ودعني
أذكرك بقولهم" من قتل يقتل ولو بعد حين"
وكسرك لوالدين كان جل جنايتهم أنهم ائتمنوا
خائن وخائنة ليس بالجرم الذي يمضي دون
مجازة بالعدل ،ثم إياك أن يخيل إليك أنني لست
على علم بكل شيء ،قد أمهلك هللا ،ومنحك
فرصة ثانية ،ربما لم تتوفر للبعض ،فاختر
مصيرك من اآلن...
ثم غادرت المكان ،لتتركني احترق منفردا في
أعماق ندمي ،وحسرتي .كلما انتابني شعور أنها
ربما كانت نهايتي ،أشعر بفزع تشيب له
الولدان ..على كل حال تحسنت أحوالي،
وغادرت المشفى ،وكانت أول وجهة لي هي
المقابر ،ذهبت لزيارة أبي ،قصصت عليه كل
44
ما قد حدث معي ،وما رأيته من حال أختي،
شعرت بقبضته تشد على يدي لتذكرني بأنني
من نكثت بوعدي ،وضيعت أمانتي ،وخنت ذاتي
قبل كل شيء ،كأني به في ذلك اليوم وهو
يقول" دقة بدقة" عندها فقط جال بخاطري ماذا
قد تعني هذه الكلمات ،غادرت المكان بعد جلسة
طويلة ،بحثت عن أصل الكلمات ،فوجدتها
أقصوصة لم استطع التوقف على صحتها كثيرا،
وحتى لو لم تكن قد وقعت ،إال أن معناها هو
الحقيقة المطلقة ،الحقيقة التي قامت عليها
السماوات واألرض ،حمدت هللا أنه لم يملي لي
أكثر من ذلك ،حمدت أني لم أنجرف أكثر مع
تيار غفلتي ،عدت إلى المنزل ،عزمت على
تغيير كل شيء ،بدأت بتغير رقم هاتفي ،ومحو
45
كل ذكريات دنيا من ذاكرتي ،وإصالح ما بيني
وما بين هللا.
في الصباح التالي ذهبت للجامعة ،اصطدمت
عيني برؤيتها بصحبة أحدهم ،يبدو عليها
انسجاما وتآلفا كبيرا ،وكانت الصدمة الكبرى،
لقد كان ذاك هو نفسه من رأيت يوم الحادث،
وليت ظهري لها ،ومضيت في دربي ،لم يعد
يعنيني من ومتى وأين ،كل ما أفكر به اآلن هو
كيف؟ كيف أصلح ما أفسدته أيام الماضي ،وبتُ
على يقين بأن ذلك الشخص لم يظهر بطريق
أختي أبدا ولكنها كانت منحتي من هللا ألعرف
الحقيقة ،وأعيد ترتيب أدواري ،وأصحح مسار
عز علي استيعابه ابتدا ًء ،لكن
حياتي ،كان درسا َ
الحمد هلل أنها لم تكن النهاية...
46
أصبحت دقة بدقة كميزان راسخ في قلبي ،لو أن
كل منا يعي أن كل ذرة سيؤاخذ بها لم يجرؤ
على الظلم قدر أنملة ،الظلم ظلمات ،ومن ظن
أنه أفلت من عقاب الدنيا ،فليبك على نفسه
البواكي ،فاليوم الذي تشخص فيه األبصار هو
أشد هوال وهوانا ..ومهما ظننت أنك قادر ،فاهلل
أقدر منك..
ليست دقة بدقة قصة ذاك التاجر الموصلي ،وال
حتى قصتي مع دنيا ،إنها حكمة سطرتها محكمة
العدل اإللهية ،المحكمة التي ال تفصل بين
الشكاوى التي ترفع إليها ،وال يبقى بها قضية
عالقة أو مسجلة ضد مجهول...
47
ومهما أعتقد المرء أنه أفلت ،فال يحسبن هللا
غافال عنه ،والسعيد هو من سدد دينه وهو قادر
قبل أن يدركه في أحوج عوزه وإعساره...
★★★
48
الم ْرآة
-٤ال ّ
ش َبح الّذي ِفي ِ
على الرغم من أنني كنت صغيرا حينها ،إال
أنني ال أزال أتذكر كل شيء حتى اآلن ،كأنه
يعاد أمامي في بث مباشر ال ينقطع أبدا..
في ذلك اليوم استيقظت على صراخ أمي
المفاجئ ،كانت تصرخ وتبكي بشدة وتردد
كلمات لم أفهمها ،هرعت إلى غرفتها ألعرف
السبب ،فوجدتها تمسك بأبي من كتفيه وتهزه
بشدة وتحركه ذهابا وإيابا ،تسأله مرارا أن
يجيبها ،لكن أبي لم يجب أبدا ،وحتى اآلن
يراودني شعور بسماع صوته وتلبية ذلك النداء.
49
وفقت منزويا في أحد أركان الغرفة ،أحاول فهم
ما يجري ،هل هذه أحد مقالب أبي التي اعتاد
تنفيذها؟ ،أم أنه مقلب مشترك بينه وبين أمي؟!،
هواجس كثيرة كانت تجول بخاطري عندما
باغتني نحيب أمي العالي" لقد توفي كمال"،
نزلت كلماتها كصاعقة أصابتني ،أعجز عن
استيعابها فضال عن التصديق .كلمات أسدلت
ستار أسود حزين على عيني أحسبه لم ينزع
حتى اآلن .هرولت نحو أبي أحاول أن أفسد
عليهم المشهد ،وتنتهي فصول تلك المسرحية،
لكن شيئا لم يحدث .عندها فقط أدركت أنها
حقيقة ،وما يحدث ليس سوى الواقع ،أما عن
إدراك معنى أن أبي مات فصدقا ال أزال أعاني
مرارته حتى هذه اللحظة..
50
أسرعت إلينا بعض الجارات لتري ما حدث،
توجهت إحداهن نحو أمي تحاول أن تذهب
روعها وتذكرها باهلل ،واتصلت األخرى بأقارب
أبي وأسرة والدتي ،امتأل المنزل عن آخره ما
بين جار أو قريب أو صديق ،وال زلت ال أعي
حقيقة ذاك الذي دعوه بالموت .أهو رحيل