أحاديث - 3
ﻣﻤﺰﻗﺎ ﻟﻠﻘﻠﻮب ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ ﺣﺘﻰ ﻓﺮق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻘﺪم اﻟﻠﻴﻞ ﻓﺘﻔﺮﻗﺎ
راﺋﻘﺎ ﻟﻠﻨﻔﻮس ﺣﻴﻨًﺎ وﺣﺎدٍّا
وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﻣﻮﻋﺪ ﻟﻠﻘﺎء …
وﻛﻠﻜﻢ ﻳﻌﺮف إﻻ َم ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻫﺬه املﻮاﻋﻴﺪ ﺣني ﺗﺘﺼﻞ ،وﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ ﻣﻮاﻋﻴﺪ ﺻﺎﺣﺒﻴﻨﺎ
إﱃ ﺣﺐ ﻫﺎﺋﺞ ﻣﻀﻄﺮم ﻟﻢ ﻳﺨﻔﻒ ﻣﻦ ﻟﻮﻋﺘﻪ إﻻ اﻟﺰواج ،ﻓﺼﻮﱢروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ إن ﻛﻨﺘﻢ ﰲ
ﺣﺎﺟﺔ إﱃ أن ﺗﺼﻮروا ﻟﻬﺎ ﻫﻴﺎم اﻟﻌﺎﺷﻘني أﺛﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﺼﻠﺖ وﻗﺘًﺎ ﻏري ﻗﺼري،
وﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ أﺛﺮ ﻫﺬا اﻟﻬﻴﺎم ﰲ ﺣﻴﺎة اﻟﻔﺘﻰ وﰲ ﻃﻠﺒﻪ ﻟﻠﻌﻠﻢ وإﻗﺒﺎﻟﻪ ﻋﲆ اﻟﺪرس،
وأﺛﺮه ﰲ أﴎة اﻟﻔﺘﻰ املﴫﻳﺔ ﰲ ﻗﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻗﺮى اﻟﺮﻳﻒ ،وأﺛﺮه ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻔﺘﺎة وﰲ
أﴎﺗﻬﺎ املﺤﺎﻓﻈﺔ ،ﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻗﺪروا أن اﻟﺤﺐ اﻟﺬي أﺛﺎرﺗﻪ ﻫﺬه اﻟﻠﻄﻤﺔ ﻗﺪ
ﻗﻬﺮ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﺗﻐﻠﺐ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺻﻌﺎب وﻋﻘﺎب واﻧﺘﻬﻰ إﱃ اﻟﺰواج ﻋﲆ رﻏﻢ اﻟﺪرس
اﻟﺬي أﻫﻤﻞ ،وﻋﲆ رﻏﻢ املﻘﺎوﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﻣﻦ اﻟﺮﻳﻒ املﴫي ،واملﻘﺎوﻣﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ
ﺟﺎءت ﻣﻦ اﻟﺮﻳﻒ اﻟﻔﺮﻧﴘ ،وﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ ﻛﺬﻟﻚ أن ﻫﺬه اﻟﻠﻄﻤﺔ ﻗﺪ أذﻛﺖ اﻟﺤﴪة ﰲ
39
أﺣﺎدﻳﺚ
ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻮب وأﺷﺒﱠﺖ اﻟﻐﻴﻆ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻮب ً
أﻳﻀﺎ :أذﻛﺖ اﻟﺤﴪة ﰲ ﻗﻠﻮب ﻓﺘﻴﺎت
ﻛﻦ ﻳﻔﻜﺮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺎب ،وأﺷﺒﱠﺖ اﻟﻐﻴﻆ ﰲ ﻗﻠﻮب ﺷﺒﺎب ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻜﺮون ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة،
وﻟﻜﻦ اﻟﺤﺐ ﺳﻴﻞ ﺟﺎرف ﻻ ﻳﻤﺮ ﺑﴚء إﻻ اﻛﺘﺴﺤﻪ اﻛﺘﺴﺎﺣً ﺎ ،ورﻳﺢ ﻋﺎﺻﻔﺔ ﻻ ﺗﺪع ﺷﻴﺌًﺎ
أﺗﺖ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻛﺎﻟﺮﻣﻴﻢ ،واﻟﺤﺐ ﻗﺎﻫﺮ ﺑﻄﺒﻌﻪ :ﻗﺎﻫﺮ ﻟﻠﻨﺎس وﻗﺎﻫﺮ ﻟﻸﺷﻴﺎء وﻗﺎﻫﺮ
ﻟﻸﺣﺪاث واﻟﺨﻄﻮب ً
أﻳﻀﺎ ،وﺣﺐ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻌﺎﺷﻘني ﻗﺪ ﻗﻬﺮ ﻛﻞ ﳾء وﻗﻬﺮ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن،
ووﻗﻒ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ذات ﺻﺒﺎح أﻣﺎم اﻟﻌﻤﺪة ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻮﻧﺒﻠﻴﻴﻪ ﻓﺄﻟﻘﻰ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺳﺆاﻟني وﺳﻤﻊ
ً
ﻃﺮﻓﺎ ﻣﻦ أﻃﺮاف اﻟﻘﺎﻧﻮن املﺪﻧﻲ وأﻋﻠﻦ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ
ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺟﻮاﺑني ،وﺗﻼ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ
أﺻﺒﺤﺎ زوﺟني ،واﻧﺘﻬﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻄﻤﺔ إﱃ ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ اﻷوﱃ.
ُ
ﻓﻔﺘﺢ ﻟﻠﻌﺎﺷﻘني ﺑﺎب ﻣﻦ أﺑﻮاب اﻟﻨﻌﻴﻢ اﻟﺬي ﻟﻢ ﺗ َﺮ ﻣﺜﻠﻪ ﻋني وﻟﻢ ﺗﺴﻤﻊ ﺑﻪ أذن وﻟﻢ
ﻳﺨﻄﺮ ﻷﺣﺪ ﻋﲆ ﺑﺎل ،وﻛﺄﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻄﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻄﺮق ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ﻟﻼﺳﺘﺌﺬان ﰲ
اﻟﺪﺧﻮل ،وﻛﺄﻧﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺐ ﻫﻮ اﻟﺬي اﺻﻄﻨﻊ ﻳﺪ اﻟﻔﺘﺎة ﻓﻄﺮق ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﻗﻠﺐ اﻟﻔﺘﻰ ﺑﺎﺑﻪ،
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎب ﻫﺬا اﻟﻘﻠﺐ ﻋني اﻟﻔﺘﻰ وﻻ أذﻧﻪ وﻻ ﻓﻤﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﺻﻔﺤﺔ وﺟﻬﻪ اﻟﺬي ﻟﻢ
ً
ﺟﻤﻴﻼ.
ﻳﻜﻦ راﺋﻌً ﺎ وﻻ
وﻗﺪ اﺳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ﺑﻬﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ أن ﻳﺴﺘﻤﺘﻌﺎ ﺑﻪ ،ذاﻗﺎ ﻟﺬاﺋﺬه ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ
وﺗﻨﻘﻼ ﺑﻬﺎ ﺑني إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺳﻮﻳﴪا ،وﻋﱪا ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺤﺮ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إﱃ ﻣﴫ واﺳﺘﻘﺮا ﺑﻬﺎ ﺣﻴﺚ
ﺗﻌﻠﻤﻮن ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ املﺪن املﴫﻳﺔ ﺳﻌﻴﺪﻳﻦ ﻣﻮﻓﻮرﻳﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﺎن ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ وﺟﻬﻬﺎ
اﻟﺒﺎﺳﻢ اﻟﺼﺒﻮح ،وﻟﻜﻦ وﺟﻪ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻴﺲ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻌﱰﻳﻪ اﻟﻌﺒﻮس ،وﻟﻴﺲ
ً
ﻣﴩﻗﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻐﺸﺎه اﻟﻈﻼم أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﻗﺪ ﻳﺼﺪر ﻋﺒﻮس اﻟﺤﻴﺎة وإﻇﻼﻣﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﺎس
ﺣني ﻳﺄﺗﻮن ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮ وﻳﺪﻋﻮن ﺑﻌﻀﻪ ،ﺣني ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻪ ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﴩ،
ً
ﺳﺒﻴﻼ إﱃ اﻟﺮﻳﺐ ،ﺣني ﻳﻌﻤﻠﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻣﺜريًا
وﺣني ﻳﺴﻜﺘﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﺳﻜﻮﺗﻬﻢ
ﻟﻠﺴﺨﻂ ،وﺣني ﻳﻜﺴﻠﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻛﺴﻠﻬﻢ وﺳﻴﻠﺔ إﱃ اﻻﺗﻬﺎم.
واﻟﻮاﻗﻊ أن ﺣﻴﺎة اﻟﺰوﺟني أﻇﻠﻤﺖ ذات ﻳﻮم ،ﻻ ﻷن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺎل ﺷﻴﺌًﺎ أو ﻋﻤﻞ ﺷﻴﺌًﺎ،
وﻟﻜﻦ ﻷن ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺼﻔﻮ اﻟﺤﻠﻮ اﻟﱪيء أﺑﺖ أن ﺗﻨﻘﴤ دون أن ﺗﻌﻘﺐ ﻛﺪ ًرا
وﻣﺮارة وﺷ ٍّﻜﺎ.
ﻓﻘﺪ ﻓﺮغ اﻟﺰوﺟﺎن ذات ﻳﻮم ملﺠﻠﺲ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺎﻟﺲ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻤﺮ ﻓﻴﻬﺎ
ﺣﺴﻦ إﻋﺪاده وﴍاب أ ُ ِ
اﻷﺻﺪﻗﺎء ﺑﻌﺪ اﻟﻐﺪاء أو ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﺣني ﻳﻔﺮﻏﻮن ﻣﻦ ﻃﻌﺎم أ ُ ِ
ﺣﺴﻦ
اﺧﺘﻴﺎره ،وﺣني ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻋﲆ اﻟﺤﺪﻳﺚ أﺣﻴﺎﻧًﺎ وﻋﲆ املﻮﺳﻴﻘﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى وﻋﲆ اﻟﺮﻗﺺ
ﰲ أﺛﻨﺎء ذﻟﻚ ،وﻗﺪ أﺧﺬ اﻷﺻﺪﻗﺎء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺑﺤﻈﻬﻢ ﻣﻦ ﻧﻌﻴﻢ اﻟﺤﻴﺎة وﺗﻔﺮﻗﻮا ،وﺧﻼ
40
ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺸﻴﻄﺎن
اﻟﺰوﺟﺎن وأﺧﺬا ﻳﺘﺤﺪﺛﺎن ﻋﻦ وﻟﻴﻤﺘﻬﻤﺎ وﻋﻤﺎ دار ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ،وﻋﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻣﻦ
ً
ﻣﺘﺤﻤﺴﺎ ﰲ اﺳﺘﻌﺮاض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻣﺮأﺗﻪ ﺗﺴﻤﻊ ﻟﻪ ﰲ ﻏري ﻧﺸﺎط
ﺳﻤﺮ ،وﻛﺎن اﻟﺰوج
أو ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻤﻊ ﻟﻪ ﺑﺈﺣﺪى أذﻧﻴﻬﺎ ﻻ ﺑﻬﻤﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ذاﻫﻠﺔ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺾ
ً
رﻓﻴﻘﺎ ﺑﻬﺎ ﻓﻠﻢ ﺗﺘﻨﺒﻪ ،وﻗﺪ ﻧﺒﻬﻬﺎ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻓﻠﻢ ﻳﻐﻦ ﻋﻨﻪ اﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ،
اﻟﺬﻫﻮل ،وﻗﺪ ﻧﺒﻬﻬﺎ
وإﻧﻤﺎ ﻣﴣ ﻫﻮ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ املﺘﺤﻤﺲ ،وﻣﻀﺖ ﻫﻲ ﰲ اﺳﺘﻤﺎﻋﻬﺎ اﻟﺬاﻫﻞ ﺣﺘﻰ راﺑﻪ ﻣﻦ أﻣﺮﻫﺎ
ﳾء.
وأﻳﴪ اﻟﺮﻳﺐ ﺑني اﻟﻌﺎﺷﻘني ﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺧﻄﺮ ،ﻓﻘﻠﻮﺑﻬﻢ ﺣﺴﺎﺳﺔ وﻧﻔﻮﺳﻬﻢ أﺷﺒﻪ
ً
ﺣﺮﻳﻘﺎ ﻣﻀﻄﺮﺑًﺎ ﻳﻤﻸ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻪ
ﳾء ﺑﺎﻟﺤﻄﺐ اﻟﺠﺬل ﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﻤﺴﻪ اﻟﻨﺎر ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ
ﻟﻬﺒًﺎ ،وﻛﺄن ﻧﻔﺲ اﻟﻔﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻣُﻌﺪﱠة ﻟﴚء ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻏريان ﻻ ﻳﻄﻴﻖ اﻟﺸﻚ وﻻ
ﻳﺤﺘﻤﻞ اﻟﺮﻳﺐ ،ﻓﻠ َﻢ ذﻫﻮل اﻣﺮأﺗﻪ ﻋﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ وإﻣﻌﺎﻧﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺬﻫﻮل؟! ﺿﺎﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺛﻢ
اﺷﺘﺪ ﺿﻴﻘﻬﺎ ﺛﻢ ﺛﺎرت ﺛﻢ ﺧﺮﺟﺖ ﻋﻦ ﻃﻮرﻫﺎ وإذا ﻫﻮ ﻳﻘﻮل أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ ،وإذا
ﻫﻲ ﺗﻈﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ ،وإذا أﻟﻔﺎظ ﻃﺎﺋﺸﺔ ﺗﻠﺘﻘﻲ ﺛﻢ ﺗﺼﻄﺪم ،وإذا ﻳﺪ اﻟﻔﺘﻰ
ﺗﻤﺘﺪ ﺛﻢ ﺗﻨﻘﺒﺾ ،وإذا اﻟﻠﻄﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻘﺎﻫﺎ ﰲ ﻣﻮﻧﺒﻠﻴﻴﻪ ﻓﻔﺘﺤﺖ ﺑﺎب اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻟﻠﻌﺎﺷﻘني ﻗﺪ
ُردﱠت إﱃ ﺻﺎﺣﺒﺘﻬﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ املﺪن املﴫﻳﺔ ﻓﻔﺘﺤﺖ ﺑﺎب اﻟﺠﺤﻴﻢ ﻟﻠﺒﺎﺋﺴني.
وﻣﺎ أﺣﺐ أن أﺻﻮر ﻟﻜﻢ ﻣﻦ أﻣﺮﻫﻤﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﻤﺎ أرﻳﺪ أن أﺧﺮج ﻣﻦ اﻹﺷﺎرة
إﱃ اﻟﺪﻻﻟﺔ ،وﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﻠﻤﻴﺢ إﱃ اﻟﺘﴫﻳﺢ ،وإﻧﻲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﻌﺮﻓﻮن ﻣﻦ إﻣﻌﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﺒﻐﺾ
ﺣني أﺑﻐﺾ ،ﻷﻛﺮه أن أﺗﻤﻨﻰ ﻷﺷﺪ اﻟﻨﺎس ﱄ ﻋﺪاءً أن ﻳﺼري إﱃ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺻﺎر إﻟﻴﻪ اﻟﻔﺘﻰ
وإﱃ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺻﺎرت إﻟﻴﻪ اﻟﻔﺘﺎة .أﻻ ﺗﺮون أن ﻫﺬا اﻟﴩ ﻛﻠﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن إﻻ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ
اﻟﺸﻴﻄﺎن؟ وﻫ ﱠﻢ اﻟﻘﻮم أن ﻳﺠﻌﻠﻮا ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻟﻠﺠﺪال ﻳﻌﻠﻠﻮن ﻓﻴﻪ وﻳُﺌَﻮﱢﻟﻮن،
وﻳﻨﻜﺮون ﻣﻨﻪ وﻳﻌﺮﻓﻮن ،وﻟﻜﻦ أﺣﺪﻫﻢ رﻓﻊ ﺻﻮﺗﻪ ﺣﺘﻰ اﺿﻄﺮﻫﻢ إﱃ اﻟﺼﻤﺖ وﻗﺎل ﰲ
ﺳﺨﺮﻳﺔ ﻻذﻋﺔ :ﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﺗﻔﺘﺢ اﻟﻠﻄﻤﺎت أﺑﻮاﺑًﺎ ﻟﻠﻨﻌﻴﻢ ﺛﻢ ﺗﻔﺘﺢ ﺑﻌﺪﻫﺎ أﺑﻮاﺑًﺎ ﻟﻠﺠﺤﻴﻢ! أﻟﻢ
ﺗﺴﻤﻌﻮا أن ﻟﻄﻤﺔ وﺛﺒﺖ ﺑﻔﻼن إﱃ ﻣﻜﺎن رﻓﻴﻊ ،وأن ﻟﻄﻤﺔ أﺧﺮى ﻗﺪ ﺗﻬﺒﻂ ﺑﻪ ﻗﻄﻌً ﺎ إﱃ
ﻣﻜﺎن ﺳﺤﻴﻖ؟!
ﻗﺎل ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ :أﻣﺎ وﻗﺪ أﺧﺬﺗﻢ ﺗﺨﻮﺿﻮن ﰲ ﺣﺪﻳﺚ اﻷﺷﺨﺎص ،وﺗﻠﻤﺤﻮن إﱃ
أﺣﺪاث اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﻓﻠﻴﺲ ﱄ ﺑﻴﻨﻜﻢ ﻣﻘﺎم ،واﻧﴫف وأﺻﺤﺎﺑﻪ ﻳﺪﻋﻮﻧﻪ إﱃ أن ﻳﻌﻮد وﻫﻢ
ﻳﻘﻮﻟﻮن :أﻗﺒﻞ ﻓﻘﺪ آﻣﻨﺎ ﺑﺄن ﻗﺼﺘﻚ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺸﻴﻄﺎن.
41
اﻟﻔﺄل
ﻛﺎن ﻣﻤﻌﻨًﺎ ﰲ اﻟﻘﺮاءة ﺣني ﺳﻤﻊ ﺻﻮﺗًﺎ ﻋﺬﺑًﺎ ﻳﺪﻋﻮه ،ﻓﻠﻤﺎ رﻓﻊ رأﺳﻪ رأى زوﺟﻪ ﻗﺎﺋﻤﺔ
أﻣﺎﻣﻪ وﻗﺪ أﴍﻗﺖ ﻣﻦ وﺟﻬﻬﺎ ﻛﻠﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺣﻠﻮة ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺨﻔﺮ وﻓﻴﻬﺎ ﳾء ﻣﻦ
ﺧﻮف ﺿﺌﻴﻞ وﳾء ﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ ً
أﻳﻀﺎ .ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻀﺤﻚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺎوم
ً
ﺿﻴﻔﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮك ،وﻫ ﱠﻢ أن ﻳﺴﺄﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻀﻴﻒ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ
اﻻرﺗﻴﺎع :إن ﰲ ﺣﺠﺮة اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل
أﺧﺬت ﻳﺪه ﰲ رﻓﻖ ،وأﻧﻬﻀﺘﻪ ﻓﺎﺳﺘﺠﺎب ﻟﻬﺎ ﻣﺪاﻋﺒًﺎ ﻣﺨﻔﻴًﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﺟﻞ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ أﺣﺐ
إﻟﻴﻪ ﻣﻦ أن ﻳﻤﴤ ﰲ ﻗﺮاءﺗﻪ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮض ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ
أﺛﻨﺎء اﻟﺼﺒﺎ.
ً
وﻗﺪ ﺳﻌﺖ ﺑﻪ زوﺟﻪ ﺳﻌﻴًﺎ رﻓﻴﻘﺎ إﱃ ﺣﺠﺮة اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل ،ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﺑﺎب اﻟﺤﺠﺮة ﻟﻢ ﻳﺠﺪ
أﺣﺪًا ،وإﻧﻤﺎ وﺟﺪ ﻫﺪﻫﺪًا ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﰲ ﻫﺪوء واﻃﻤﺌﻨﺎن ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺮاه ﺣﺘﻰ
أﻏﺮق وأﻏﺮﻗﺖ زوﺟﻪ ﻣﻌﻪ ﰲ ﺿﺤﻚ ﻣﺘﺼﻞ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﺮغ ﻣﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻼ اﻵﻳﺔ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ:
َ
ﻄﺖ ِﺑﻤَ ﺎ َﻟ ْﻢ ﺗُﺤِ ْ
ري ﺑَﻌِ ﻴ ٍﺪ َﻓ َﻘﺎ َل أَﺣَ ُ
ِني﴾ ﺛﻢ داﻋﺐ ﺧﺪ
﴿ﻓﻤَ َﻜ َﺚ َﻏ ْ َ
ﻂ ِﺑ ِﻪ و َِﺟﺌْﺘُ َﻚ ِﻣﻦ َﺳﺒَ ٍﺈ ِﺑﻨَﺒَ ٍﺈ ﻳَﻘ ٍ
اﻣﺮأﺗﻪ وﻗﺎل ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮت ﺣﺎزم ﺟﺎزم :اﻧﺘﻈﺮي ﻧﺒﺄ ً ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻳﺒﻠﻐﻚ اﻟﻴﻮم أو ﻏﺪًا ،ﻓﻨﻈﺮت
إﻟﻴﻪ ﻛﺎﻟﺤﺎﺋﺮة املﺴﺘﻔﻬﻤﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺎل ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮﺗﻪ اﻟﺤﺎزم اﻟﺠﺎزم :ﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ أن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻻ
ﻳﻜﺬب وﻻ ﻳﺤﺐ اﻟﻜﺬب .ﺛﻢ ﻋﺎد إﱃ ﻛﺘﺎﺑﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ،واﻧﺘﻈﺮت ﻫﻲ أن ﻳﻨﴫف
اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻋﻦ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ،ﻓﻠﻤﺎ اﻧﴫف أﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ املﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺰف ،وإﻧﻤﺎ ﺟﻌﻠﺖ
أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﺗﺬﻫﺐ وﺗﺠﻲء ﰲ ﻏري اﻧﺘﻈﺎم ،ﻛﺎن ﻣﴩد اﻟﻨﻔﺲ أﻣﺎم اﻟﻜﺘﺎب ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﴩدة
اﻟﻨﻔﺲ أﻣﺎم اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ.
ﻛﺎن ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺻﺎﺣﺒﻪ وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻔﻜﺮان ﰲ ﳾء واﺣﺪ ،أو ﰲ أﺷﻴﺎء
ﻣﺆﺗﻠﻔﺔ ﻣﺘﻘﺎرﺑﺔ ،ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺰء ﻗﻴﻢ ﻣﻦ ﻧﺴﻴﺞ اﻟﺬﻛﺮى ﻫﺬا اﻟﺬي ﻳﻌﻤﺮ اﻟﻘﻠﻮب وﻳﻤﺘﻊ
اﻟﻌﻘﻮل ،وﻳﴤء ﰲ اﻟﻨﻔﻮس ﺣني ﺗﻈﻠﻢ اﻷﺣﺪاث وﺗﺪ َﻟ ِﻬ ﱡﻢ اﻟﺨﻄﻮب ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﻠﻬﺪﻫﺪ أﺛﺮ
أﺣﺎدﻳﺚ
ﻋﻈﻴﻢ اﻟﺨﻄﺮ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻤﺎ اﻷوﱃ ،ﻛﺎن رﺳﻮل اﻟ ْ
ِﺒﴩ واﻟﻐﺒﻄﺔ واﻟﺤﺒﻮر إﱃ أﺑﻨﺎﺋﻬﻤﺎ ﺣني
ً
أﻃﻔﺎﻻ ﻻ ﻳﻜﺎدون ﻳﻌﻘﻠﻮن ،ﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ أﻣﻬﻢ أن
ﻛﺎﻧﻮا
ﺗﻤﺘﻌﻬﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻃﺮﻓﺔ ،وﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ أﺑﻮﻫﻢ أن ﻳﴪﻫﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻫﺪﻳﺔ ،وﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻳﺴﺘﺨﻔﻲ
ﺑﻄﺮﻓﻪ وﻫﺪاﻳﺎه ﻳﻨﺜﺮﻫﺎ ﰲ ﺣﺠﺮات اﻟﺒﻴﺖ وﻏﺮﻓﺎﺗﻪ ﻧﺜ ًﺮا ،وﻳﻨﴩﻫﺎ ﰲ أﺑﻬﺎء اﻟﺪار ودﻫﺎﻟﻴﺰﻫﺎ
ﻧﴩً ا ،ورﺑﻤﺎ أﺧﻔﺎﻫﺎ إﺧﻔﺎءً ﰲ أﻋﺸﺎب اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ وﺑني أﺷﺠﺎرﻫﺎ وﻧﺠﻮﻣﻬﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻋﻠﻘﻬﺎ ﰲ
اﻷﻏﺼﺎن أو ﺗﺮﻛﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺎت اﻟﻨﻮاﻓﺬ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻤﴤ ﻳﻮم ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺼﺎﻳﺢ اﻷﻃﻔﺎل ﰲ اﻟﺼﺒﺎح أو ﰲ املﺴﺎء ﺑﺄن اﻟﻬﺪﻫﺪ
ﻗﺪ زار اﻟﺪار وﺗﺮك ﻓﻴﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎن اﻷﻃﻔﺎل ﻳﺤﺒﻮن اﻟﻬﺪﻫﺪ أﺷﺪ اﻟﺤﺐ ،وﻳﻮدون ﻟﻮ
اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا أن ﻳﺆﻧﺴﻮه وﻳﺤﺪﺛﻮه وﻳﺴﻤﻌﻮا ﻣﻨﻪ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮوﻧﻪ ﻗﺪ وﻗﻒ ﻣﻨﻬﻢ ﻏري
ﺑﻌﻴﺪ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن أو ذاك ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،ﻓﺈذا دﻋﻮه ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻬﻢ ﻛﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﻤﻊ ﻣﻨﻬﻢ،
وإذا ﺳﻌﻮا إﻟﻴﻪ ارﺗﻔﻊ ﰲ اﻟﺠﻮ ارﺗﻔﺎﻋً ﺎ ﻳﺴريًا ،ﺛﻢ اﻧﴫف ﻋﻨﻬﻢ دون أن ﻳُﻮﺋ َِﺴﻬﻢ ﻣﻦ
ﻣﻨﻈﺮه ،ودون أن ﻳﺒﺨﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺼﻮﺗﻪ ﻫﺬا اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺪي ،وﻛﺎن اﻷﻃﻔﺎل
ﻳﺴﺄﻟﻮن أﻣﻬﻢ ﺣﻴﻨًﺎ وأﺑﺎﻫﻢ ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ :ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻬﻢ ﻻ ﻳﺮون اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣني ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ُ
ﻃ َﺮﻓﻪ
ً
ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ ﻋﻨﻬﻢ؟ ﻓﻜﺎﻧﺖ أﻣﻬﻢ
ﻓﺎرﻏﺎ ﺧﺎﻟﻴًﺎ إﱃ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻧﺎﻓ ًﺮا ﻣﻨﻬﻢ
وﺗﺤﻔﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺮوﻧﻪ داﺋﻤً ﺎ
ﺗﺠﻴﺒﻬﻢ ،وﻛﺎن أﺑﻮﻫﻢ ﻳﺠﻴﺒﻬﻢ ً
أﻳﻀﺎ ،ﺑﺄن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣَ ﺬِر َﻟ ِﺒﻖ ﻇﺮﻳﻒ ﻳﺤﺐ املﺪاﻋﺒﺔ ،وﻳﺆﺛﺮ
أن ﻳﻔﺠﺄ أﺻﺪﻗﺎءه ﺑﻤﺎ ﻳﱰك ﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ،وﻗﺪ ﺷﺐ اﻷﻃﻔﺎل وﻋﻘﻠﻮا واﺳﺘﺒﺎﻧﻮا اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ
ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﺧﺎدﻋﻮا أﺑﻮﻳﻬﻢ ﺣﻴﻨًﺎ
وﺧﻴﻠﻮا إﻟﻴﻬﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺼﺪﻗﻮن ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺎن ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﺛﻢ ﺧﺎدﻋﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ
ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ وأرادوا أن ﻳﺼﺪﻗﻮا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳ َُﻘ ﱡ
ﺺ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﺠﺪوا ﺑُﺪٍّا
ﻣﻦ اﻹذﻋﺎن ﻟﺤﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ واﻻﻧﺤﺮاف ﻋﻦ ﻗﺼﺔ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﻓﺠﻌﻠﻮا ﻳﺘﻨﺪرون ﺑﻬﺎ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ
اﻟﺤﻨﺎن ﺳﺎﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ وﻣﺪاﻋﺒني ﻷﺑﻮﻳﻬﻢ ،ﺛﻢ ُﴏﻓﻮا إﱃ ﺷﺌﻮن اﻟﺼﺒﺎ واﻟﺸﺒﺎب ﻋﻦ
ﺷﺌﻮن اﻟﻄﻔﻮﻟﺔُ ،
وﺷﻐِ ﻠﻮا ﺑﺎﻟﺪرس واﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﻋﻦ ﻫﺪاﻳﺎ اﻟﻬﺪﻫﺪ و ُ
ﻃ َﺮﻓﻪ.
ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻳﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ دون أن ﻳﺮى
ﻣﻤﺎ ُﻛﺘِﺐ ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ زوﺟﻪ ﺗﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻫﻲ ﺗﺠﺮي أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ
دون أن ﺗﺴﺘﺨﺮج ﻣﻨﻪ ﻟﺤﻨًﺎ ﻣﺴﺘﻘﻴﻤً ﺎ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻠﺒﺚ أن ﺣﺰﻣﺖ أﻣﺮﻫﺎ ،وأﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ
ً
اﻧﻐﻤﺎﺳﺎ ،أﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﻠﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﺤﺰم أﻣﺮه وﻻ أن ﻳﻌﻮد إﱃ
ﻣﻮﺳﻴﻘﺎﻫﺎ ،ﻓﺎﻧﻐﻤﺴﺖ ﻓﻴﻬﺎ
ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ،ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﺮغ ﻣﻦ اﺳﺘﻌﺮاض ﻃﻔﻮﻟﺔ أﺑﻨﺎﺋﻪ ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻌﺮض ﻃﻔﻮﻟﺔ
ﻧﻔﺴﻪ.
44
اﻟﻔﺄل
ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺑﻌﻴﺪة ﺟﺪٍّا أﺑﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني زوﺟﻪ
وﺑﻨﻴﻪ .ﻛﺎن ﻳﻌﺮف اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﻨﺬ ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ اﻷوﱃ ،ﻳﺮاه ﻓﻴﻌﺠﺐ ﺑﺸﻜﻠﻪ ،وﻳﺴﻤﻌﻪ ﻓﻴﺤﻦ إﱃ
ً
رﻓﻴﻘﺎ ،وﻣﺎ زال ﻳﻠﺢ ﺑﻬﺬا
ﺻﻮﺗﻪ ،وﻳﺘﻤﻨﻰ أن ﻳﺘﺎح ﻟﻪ ﻫﺪﻫﺪ ﻳﻤﺴﻜﻪ ﰲ اﻟﺪار وﻳﺘﺨﺬه ﻟﻪ
اﻟﺘﻤﻨﻲ ﻋﲆ أﺑﻴﻪ وإﺧﻮﺗﻪ وذوي ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺣﺘﻰ رﻓﻖ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ أﻫﻞ اﻟﻘﺮﻳﺔ ﻓﺠﺎءه ذات
ﺻﺒﺎح ﺑﻘﻔﺺ ﻇﺮﻳﻒ ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﺪﻫﺪ ﻇﺮﻳﻒ ،وﻫﻮ ﻳﺬﻛﺮ اﺑﺘﻬﺎﺟﻪ ﺑﻬﺬه اﻟﺘﺤﻔﺔ
وإﴎاﻋﻪ إﱃ أﻣﻪ راﺿﻴًﺎ ﻣﴪو ًرا ،ﻳﺨﺮﺟﻪ اﻟﺮﺿﺎ واﻟﴪور ﻋﻦ ﻃﻮره ،وﻫﻮ ﻳﺬﻛﺮ ﻛﻴﻒ
ﻋﴪا،
اﺑﺘﺴﻤﺖ ﻟﻪ أﻣﻪ ﰲ رﻓﻖ وﻛﻴﻒ ﺗﻘﺪﻣﺖ إﻟﻴﻪ ﰲ أﻻ ﻳﻌﺬب اﻟﻬﺪﻫﺪ وﻻ ﻳﺮﻫﻘﻪ ﻣﻦ أﻣﺮه ً
وﻛﻴﻒ ﻧﻬﻀﺖ ﻓﺄﺧﺬت ﻣﻨﻪ اﻟﻘﻔﺺ وﻋﻠﻘﺘﻪ إﱃ ﺟﺪار ﻣﻦ ﺟﺪران اﻟﺪار ،ووﺿﻌﺖ ﻓﻴﻪ
إﻧﺎءﻳﻦ ﺻﻐريﻳﻦ ﰲ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﺎء وﰲ اﻵﺧﺮ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺣﺐ ،وﻃﺮﺣﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ
اﻟﺠﺪار وﺳﺎدة ،وﻗﺎﻟﺖ ﻻﺑﻨﻬﺎ وﻫﻲ ﺗﻤﺴﺢ ﻋﲆ رأﺳﻪ :ﻫﺬا ﻣﻜﺎﻧﻚ ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﻚ اﻟﻬﺪﻫﺪ،
ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺄوي إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎ أﺣﺒﺒﺖ أن ﺗﺮاه أو ﺗﺴﻤﻊ ﻣﻨﻪ .وﻗﺪ وﰱ اﻟﺼﺒﻲ ﻟﻬﺪﻫﺪه أﻳﺎﻣً ﺎ
ً
ﻃﻮاﻻ ﻓﻜﺎن ﻳﴪع إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺎد ﻣﻦ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب وﺳﻂ اﻟﻨﻬﺎر وآﺧﺮه ﻓﻴﺘﺤﺪث إﻟﻴﻪ ،وﻳﺴﻤﻊ
ﻣﻨﻪ ،وﻳﻄﻴﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ واﻻﺳﺘﻤﺎع.
وﻟﻜﻦ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي أﻫﺪى إﻟﻴﻪ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻦ اﻟﻔﻬﻢ ﻋﻨﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻫﻮ
ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻦ اﻟﻔﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﻘﺪ أﻗﺒﻞ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻀﺤﻰ ذات ﻳﻮم وأﻫﺪى إﻟﻴﻪ
ً
ﻟﻄﻴﻔﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻗﺺ ﻣﻦ ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ ،وﻓﺮح اﻟﺼﺒﻲ ﺑﺼﻘﺮه ذاك اﻟﺠﻤﻴﻞُ ،
وﺧﻴﱢﻞ
ﺻﻘ ًﺮا ﺻﻐريًا
إﻟﻴﻪ ﺑﻞ أُﻟﻘِ ﻲ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻫﺬا اﻟﺼﻘﺮ ﺳﻴﺆﻧﺲ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﰲ وﺣﺪﺗﻪ ،وﺳﻴﻜﻮن رﻓﻴﻘﻪ ﺣني
ﻳﺸﻐﻞ ﻫﻮ ﺑﻬﺬا اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب اﻟﺒﻐﻴﺾ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ أول اﻟﻨﻬﺎر وﻳﻌﻮد ﻣﻨﻪ ﻟﺤﻈﺔ ﻟﻠﻐﺪاء
ﺛﻢ ﻳﺮﺟﻊ إﻟﻴﻪ ﻣﴪﻋً ﺎ وﻻ ﻳﻌﻮد إﱃ ﺻﺪﻳﻘﻪ اﻟﻬﺪﻫﺪ إﻻ آﺧﺮ اﻟﻨﻬﺎر .وﻛﺎن اﻟﺼﺒﻲ ﻳﺸﻔﻖ
ﻋﲆ ﻫﺪﻫﺪه ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة املﺘﺼﻠﺔ ،ﻓﺄي ﻏﺮاﺑﺔ ﰲ أن ﻳﺴﻌﺪ ﺑﻬﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي
ﺳﻴﺴﲇ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﺎ ﺑَﻌُ ﺪ ﻋﻨﻪ ﺻﺎﺣﺒﻪ ،ﻓﺈذا ﻋﺎد ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺪث إﱃ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﺣﺪه وإﻧﻤﺎ ﺗﺤﺪث
إﻟﻴﻪ وإﱃ اﻟﺼﻘﺮ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ أن ﻳﺪﺧﻞ اﻟﺼﻘﺮ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﰲ ﻗﻔﺼﻪ وﻳﻨﴫف
ﻟﺒﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﻨﴫف إﻟﻴﻪ اﻟﺼﺒﻴﺔ ﺛﻢ ﻳﻌﻮد ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية أو ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓريى ،وﻳﺎ ﻫﻮل
ﻣﺎ ﻳﺮى! ﻳﺮى اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﻴﺘًﺎ ﻗﺪ ﻧﻘﺮ اﻟﺼﻘﺮ رأﺳﻪ واﺳﺘﺨﺮج ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ،إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف أن
اﻟﻄري ﻳﻌﺪو ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ.
وﻳﺮى أﻣﻪ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﺗﻠﻮﻣﻪ وﺗﻌﻨﻒ ﺑﻪ ﰲ اﻟﻠﻮم ،وﺗﺮﺳﻞ إﱃ ذﻟﻚ اﻟﻔﻼح اﻟﺬي أﻫﺪى إﻟﻴﻪ
اﻟﺼﻘﺮ ﺷﺘﻤً ﺎ ﻗﺒﻴﺤً ﺎ ،وﻗﺪ أﺧﺬ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ دون أن ﻳﺮى
ﻣﺎ ُﻛﺘِﺐ ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬه اﻟﺬﻛﺮى ،وﻳﺴﺘﻌﺮض ﺣﺰﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﺣﺒﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ
45
أﺣﺎدﻳﺚ
ﺑﻌﻴﺪ ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﺎرﺛﺔ واﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﺄن اﻟﺨري ﻟﻪ وﻟﻠﻬﺪﻫﺪ ﰲ أن ﻳﱰاءﻳﺎ وﻳﺘﺤﺪﺛﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ،
ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻌﺮاض إﱃ ﻣﺎ ﻋﺮف ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣني ﺣﻔﻆ اﻟﻘﺮآن واﺳﺘﻈﻬﺮ
ﺳﻮرة اﻟﻨﻤﻞ وﻋﺮف ﻗﺼﺔ ﺳﻠﻴﻤﺎن وﻣﻠﻜﺔ ﺳﺒﺄ .ﻛﻞ ذﻟﻚ ﺟﻌﻞ ﻳﺴﺘﻌﺮﺿﻪ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ
ﻛﺘﺎﺑﻪ دون أن ﻳﺮى ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ،وﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻟﺰﻳﺎرة اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻟﺪاره ﺷﺄﻧًﺎ ،وأﻧﻪ ﻗﺪ
ﺟﺎء ﺑﺎﻟﻨﺒﺄ اﻟﻴﻘني ،وأن اﻟﻨﻬﺎر ﻟﻦ ﻳﻨﻘﴤ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻐﻪ أﻣﺮ ذو ﺑﺎل .واﻟﻐﺮﻳﺐ اﻟﺬي ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ
أن ﺗﺼﺪﻗﻪ أو ﺗﻜﺬﺑﻪ — ﻓﻠﻦ ﻳﻐري ﺗﺼﺪﻳﻘﻚ وﻻ ﺗﻜﺬﻳﺒﻚ ﻣﻦ اﻟﺤﻖ ﺷﻴﺌًﺎ — ﻫﻮ أن اﻟﻨﻬﺎر
ﻳﻨﻘﺾ دون أن ﻳﺄﺗﻴﻪ اﻟﻨﺒﺄ اﻟﻌﻈﻴﻢ.
ﻟﻢ
ِ
ﱠ
ً
واﻟﺤﻖ أن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻗﺪ ﻋﺎد ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﻃﻔﻼ ﻓﻌﻠﻖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ
ﺑﺎﻟﺘﻠﻔﻮن ،وﻋ ﱠﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ اﻷﺧﺮى ﺑﺎﻟﺠﺮس ،وﻋ ﱠﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻣﻦ
ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ ﺑﺴﺎﻋﻲ اﻟﱪﻳﺪ ،وﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻘﻮل إﻧﻪ ﺟﻠﺲ ﰲ ﻣﻜﺘﺒﻪ واﺟﻤً ﺎ وﺧﺼﺺ إﺣﺪى
أذﻧﻴﻪ ﻟﻠﺘﻠﻔﻮن وإﺣﺪاﻫﻤﺎ اﻷﺧﺮى ﻟﻠﺠﺮس ،وﻣﺪ ﻋﻴﻨﻴﻪ أﻣﺎﻣﻪ إﱃ اﻟﻨﺎﻓﺬة ﻳﺮﻗﺐ ﻣﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن
ﻳﺼﻌﺪ ﺳﻠﻢ اﻟﺪار ﻣﻦ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ،وﻗﺪ ﻃﺎل ﺑﻪ ذﻟﻚ وﺷﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﺛﻢ أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﺌﻮن اﻟﺤﻴﺎة
ً
ﴏﻓﺎ ﻇﺎﻫ ًﺮا ،وﻟﻜﻦ ﻗﻠﺒﻪ ﻇﻞ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻨﻬﺎر ﻳﻨﺘﻈﺮ ﺷﻴﺌًﺎ
اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻓﴫﻓﺘﻪ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﺨﻒ
ً
ﻏﺎﻣﻀﺎ ،وﻗﺪ دﻋﺎه اﻟﺘﻠﻔﻮن ﺣني أﻗﺒﻞ اﻷﺻﻴﻞ ،ﻓﻠﻤﺎ اﺳﺘﻤﻊ إﱃ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ وأﺟﺎب ﺑﻜﻠﻤﺎت
ﻗﺼﺎر أﴎع إﱃ زوﺟﻪ ﻳﻘﺒﱢﻠﻬﺎ وﻳﻘﻮل ﻣﺴﺘﺒﴩً ا :أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ إن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺪ ﺟﺎء ﺑﺎﻟﻨﺒﺄ
اﻟﻴﻘني؟ ﻗﺎﻟﺖ زوﺟﻪ :وﻣﺎ ذاك؟ ﻗﺎل :اﺳﺘﻘﺎﻟﺖ اﻟﻮزارة ودُﻋﻴﺖ إﱃ اﻻﺷﱰاك ﰲ اﻟﺤﻜﻢ.
وﻟﻢ ﺗﴩق اﻟﺸﻤﺲ ﻣﻦ ﻏﺪ ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ وزﻳ ًﺮا ،وﻟﻢ ﻳﺮﺗﻔﻊ اﻟﻀﺤﻰ ﻣﻦ اﻟﻴﻮم
ﻧﻔﺴﻪ ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻻ ﻳﺨﺎف ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺨﺎف اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻻ ﻳﺒﻐﺾ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﻐﺾ
اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻳﺄﻧﺲ إﱃ ﳾء ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺄﻧﺲ إﱃ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺲ
ﻳﺤﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺐ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻜﻦ ﺻﺪق اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺪ أﻗ ﱠﺮ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ً
أﻳﻀﺎ أن اﻟﻬﺪﻫﺪ
ﻳﴪ أو ﻳﺮوق؛ ﻓﻤﻦ ﻳﺪري إن أﻗﺒﻞ اﻟﻬﺪﻫﺪ إﻟﻴﻪ
ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺑﻌﺪ اﻟﻮزارة ﺑﻨﺒﺄ ﱡ
ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻟﻪ وﺣﺪه ﻣﻦ دون اﻟﻨﺎس ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ
ﻳﺤﻤﻞ ﻧﺒﺄ اﺳﺘﻘﺎﻟﺔ اﻟﻮزارة؟ وﻟﻴﺲ اﻟﻬﺪﻫﺪ
وﺣﺪه اﻷﻧﺒﺎء اﻟﺴﺎرة ،ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻬﺪﻫﺪ أﺻﺪﻗﺎء آﺧﺮون ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ أﻧﺒﺎء ﺳﺎرة
ﺻﺎدﻗﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻧﺒﺎء ﻧﺒﺄ اﺳﺘﻘﺎﻟﺔ اﻟﻮزارة واﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻻﺷﱰاك ﰲ
اﻟﺤﻜﻢ.
ً
ً
ﺳﺨﻴﻔﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ أؤﻛﺪ
ﻣﻨﻄﻘﺎ
ﻗﻞ إن ﻫﺬا ﻣﻨﻄﻖ ﺳﺨﻴﻒ ،وأؤﻛﺪ ﻟﻚ أﻧﻲ أرى ﻫﺬا
ً
ﻟﻚ ً
ﻣﻨﻄﻘﺎ ﻏري ﻣﻨﻄﻖ اﻟﻨﺎس ،وإن اﻟﺘﻔﺎؤل واﻟﺘﺸﺎؤم ﻳﻌﺒﺜﺎن ﺑﻌﻘﻮل
أﻳﻀﺎ أن ﻟﻠﺤﻮادث
اﻟﻨﺎس ،ﻓﻴﻔﺴﺪان ﻣﻨﻄﻘﻬﻢ ﰲ رأي أرﺳﻄﺎﻃﻠﻴﺲ وﰲ رأي اﻷﺳﺘﺎذ ﻟﻄﻔﻲ اﻟﺴﻴﺪ ،وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ
46
اﻟﻔﺄل
ﻳﻘﺮﺑﺎن ﺑني ﻫﺬا املﻨﻄﻖ وﺑني ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺤﻮادث أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،واﻟﴚء اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺷﻚ ﻫﻮ
ً
أن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻗﺪ ﱠ
ﺗﻔﺎؤﻻ ﺷﺪﻳﺪًا،
ﺗﻄري ﺑﺎﻟﻬﺪﻫﺪ ﻃرية ﺷﺪﻳﺪة ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻔﺎءل ﺑﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ
وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴ َﻊ ﻗﻂ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻪ إﻻ وﰲ ﻧﻔﺴﻪ إﺷﻔﺎق ﺷﺪﻳﺪ أن ﻳﺮى اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ
ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ذاك ،وﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع ﻟﺘﻘﺪم إﱃ أﻫﻠﻪ ﰲ أن ﺗﻐﻠﻖ ﻧﻮاﻓﺬ اﻟﺪار ﻣﺎ أﴍق
اﻟﻨﻬﺎر ،وﰲ أﻻ ﺗﻔﺘﺢ إﻻ ﺣني ﺗﻨﺎم اﻟﻄري ،واﻟﴚء اﻟﺬي ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ ً
أﻳﻀﺎ ﻫﻮ أن اﺳﺘﺤﻰ
أن ﻳﺘﻘﺪم ﰲ ذﻟﻚ إﱃ أﻫﻠﻪ ﻣﺨﺎﻓﺔ أن ﻳﻈﻨﻮا ﺑﻪ اﻟﻈﻨﻮن ،وﻟﻜﻨﻪ ﺗﻘﺪم إﱃ أﻋﻮاﻧﻪ ﰲ اﻟﻮزارة
أﻻ ﺗُﻔﺘَﺢ ﻧﻮاﻓﺬ ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وزﻋﻢ ﻟﻬﻢ أﻧﻪ ﻳﻜﺮه أن ﻳﺄﺗﻴﻪ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻀﺠﻴﺞ واﻟﻌﺠﻴﺞ وﻳﺸﻔﻖ ﻣﻦ
ﺗﻴﺎرات اﻟﻬﻮاء وﻳﺆﺛﺮ اﻟﻀﻮء اﻟﺮﻓﻴﻖ ﻋﲆ اﻟﻀﻮء اﻟﻌﻨﻴﻒ.
وﺣﻴﺎة اﻟﻮزراء ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺨﻄﻮب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وأﺣﺪاﺛﻬﺎ ،ﻓﻬﻢ ﻳﺮﺿﻮن إذا أﺻﺒﺤﻮا،
وﻳﻐﻀﺒﻮن إذا ارﺗﻔﻊ اﻟﻀﺤﻰ ،وﻳﻌﻮدون إﱃ اﻟﺮﺿﺎ ﺣني ﻳﻨﺘﺼﻒ اﻟﻨﻬﺎر ،وﻳﺮدون إﱃ
اﻟﺴﺨﻂ ﺣني ﻳﺠﻠﺴﻮن إﱃ اﻟﻐﺪاء ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر ﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﰲ
دﻗﺎﺋﻘﻬﺎ أﻟﻮاﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﺿﺎ واﻟﺴﺨﻂ ،وﻣﻦ اﻷﻣﻦ واﻟﺨﻮف ،وﻣﻦ اﻟﻘﻠﻖ واﻟﻬﺪوء ،ﻓﻜﺎن
ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﺣﺪث ﺣﺎدث ﻣﻐﻀﺐ أو ﻣﻘﻠﻖ وﻛﻠﻤﺎ ﻧﴩ ﺧﱪ ﻣﺴﺨﻂ أو ﻣﺜري ﻟﻠﺨﻮف ﻟﻢ
ﻳﺬﻛﺮ إﻻ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﻟﻢ ﻳﺮ أﻣﺎﻣﻪ إﻻ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ رﺳﻮل اﻟﻨﻌﻤﺔ إﻟﻴﻪ ﻗﺒﻞ أن
ﻳﺮﻗﻰ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ ،ﻓﺄﺻﺒﺢ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻧﺬﻳﺮ اﻟﻨﻘﻤﺔ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺪ أن ارﺗﻘﻰ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ.
وﻟﻜﻞ أﺟﻞ ﻛﺘﺎب ،وﻟﻜﻞ وزارة آﺧﺮ ،وﻗﺪ أﻗﺒﻞ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻀﺤﻰ ذات ﻳﻮم ﻋﲆ
ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺪﺧﻞ ﺣﺘﻰ رأى ﺣﺒﻴﺒﻪ أﻣﺲ وﻋﺪوه اﻟﻴﻮم ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﺑﺸﻜﻠﻪ اﻟﺠﻤﻴﻞ
اﻟﺒﺸﻊ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺔ اﻟﻨﺎﻓﺬة وﻗﺪ ﻧﴘ اﻟﺨﺪم إﻏﻼﻗﻬﺎ ﻷﻣﺮ ﻣﺎ ،وﻟﺴﺖ أﺻﻒ ﻟﻚ ﺛﻮرة اﻟﻮزﻳﺮ
اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻓﻘﺪ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ وﻫﻲ ﻻ ﺗﻌﻨﻴﻨﻲ ،وإن ﻛﺎن ﺧﺎدم ﻣﻜﺘﺒﻪ ﻗﺪ ﺳﻤﻊ ﻣﺎ ﻻ ﻳ ِ
ُﺮﴈ
وﻗﴣ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻨﻜﺮة ،وإﻧﻤﺎ أﺻﻒ ﻟﻚ ﺗﺸﺎؤم اﻟﻮزﻳﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻓﻘﺪ أﻇﻠﻢ
ﻗﻠﺒﻪ وارﺑﺪﱠت ﻧﻔﺴﻪ وﺳﺎء ﺧﻠﻘﻪ َ
وﻗﺒُﺢ ﻟﻘﺎؤه ﻟﻠﻤﻮﻇﻔني واﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻋﺎد إﱃ أﻫﻠﻪ
ﻏﻀﺒﺎن ِ
أﺳ ًﻔﺎ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻨﻄﻖ ،وﺟﻠﺲ إﱃ اﻟﻐﺪاء ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺼﻴﺐ ﻣﻨﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻟﺖ
زوﺟﻪ :إﻧﻚ ملﺤﺰون ﻣﻨﺬ اﻟﻴﻮم ،ﻫﻞ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ؟ ﻗﺎل وﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻒ اﻻﺑﺘﺴﺎم :ﻣﺎ أدري وﻟﻜﻦ
ً
ﺑﻐﻴﻀﺎ
رأﻳﺖ اﻟﻬﺪﻫﺪ اﻟﺒﻐﻴﺾ .ﻗﺎﻟﺖ وﻗﺪ ﻛﺎدت اﻟﻌﱪة ﺗﺨﻨﻖ ﺻﻮﺗﻬﺎ :ﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﻬﺪﻫﺪ
اﻵن وﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﻸ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻏﺒﻄﺔ وﴎو ًرا! ﺛﻢ ﺧﻠﺖ إﱃ أﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻓﻀﺤﻜﺖ وﺿﺤﻜﻮا.
وﻟﻜﻦ املﺴﺎء ﻟﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻳﺴﺘﺄﻧﻒ اﻟﻘﺮاءة ﰲ ﻛﺘﺎب
ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻛﻬﺎ ،وﺣﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ زوﺟﻪ ﺗﻌﺰف ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ أﻟﺤﺎن
ﻣﻮزار ،أﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﻜﺎن ﻣﺤﺰوﻧًﺎ ﻳﻠﻌﻦ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وأﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﻜﺎﻧﺖ راﺿﻴﺔ ﺗﺜﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺛﻨﺎءً
ً
ﺗﻤﺰﻳﻘﺎ.
ﻛﺜريًا ،وأﻣﺎ اﻟﻨﺎس ﻓﻜﺎن ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺮاﴈ املﺴﺘﺒﴩ وﻛﺎن ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺰق اﻟﻐﻴﻆ ﻗﻠﺒﻪ
47
ﻳﺄس
ً
ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺮﻓﻊ ﻗﺪح اﻟﺸﺎي إﱃ ﻓﻤﻪ ﺣﺘﻰ رده إﱃ املﺎﺋﺪة
ﻣﺘﻌﺠﻼ ﺣﺬ ًرا ،ﻓﻘﺪ أﺣﺲ رﻋﺪة
ﺧﻔﻴﻔﺔ ﺗﺼﻌﺪ ﰲ ﺟﺴﻤﻪ وﺗﻨﺘﴩ وﺗﻮﺷﻚ أن ﺗﺒﻠﻎ ذراﻋﻪ ،ﻓﺘﻀﻄﺮب ﻳﺪه ﺑﻬﺬا اﻟﻘﺪح
املﻤﺘﻠﺊ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﻓﻌﻪ ،وﻳُﺤﺪِث ﻫﺬا اﻻﺿﻄﺮاب — وإن ﱠ
ﺧﻒ — ﺣﺪﺛًﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه املﺎﺋﺪة
اﻷﻧﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻔﺴﺪ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ﻗﺪح ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﻳﻤني أو إﱃ ﺷﻤﺎل وﻳﺘﺨﻔﻒ ﻣﻦ
ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻮﻳﻪ ،وﻟﻢ ﻳﺴﺄل ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﻣﺼﺪر ﻫﺬه اﻟﺮﻋﺪة اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﺗﺴﻌﻰ ﰲ ﺟﺴﻤﻪ
ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ اﻟﻨﻤﻞ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن وﻗﺘﻪ أﺿﻴﻖ ﻣﻦ اﻟﺴﺆال واﻟﺠﻮاب وﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء،
وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻮ ﻋﺎ ًملﺎ ﰲ دﺧﻴﻠﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻤﺼﺪر ﻫﺬه اﻟﺮﻋﺪة ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﺮض
ﻟﻪ إﻻ إذا أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ رﺑﺔ اﻟﺪار ﻋﺎﻣﺪة إﻟﻴﻪ ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺨﺘﺼﻪ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻣﻦ
أﺟﻞ ﻫﺬا ﺗﻌﺠﻞ وﺿﻊ اﻟﻘﺪح ﻋﲆ املﺎﺋﺪة ،ورﻓﻊ رأﺳﻪ ،وﻋﺪل ﻗﺎﻣﺘﻪ وﺗﻬﻴﺄ ﻟﻠﻨﻬﻮض.
وﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﻟﺤﻈﺔ أو ﻟﺤﻈﺘﺎن ﺣﺘﻰ رآﻫﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﴩﻗﺔ اﻟﻮﺟﻪ ﻣﺒﺴﻮﻃﺔ اﻷﺳﺎرﻳﺮ
ﻗﺪ رﺳﻤﺖ ﻋﲆ ﺛﻐﺮﻫﺎ اﻟﺠﻤﻴﻞ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺣﻠﻮة ﻏﺎﻣﻀﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ ﺗﺒني أﻧﻬﺎ ﻋﺎﻣﺪة إﻟﻴﻪ ﻧﻬﺾ،
ﱠ
ً
وﻟﻜﻦ
ﻫﻤﺴﺎ
وﻟﻜﻨﻬﺎ أﺷﺎرت إﻟﻴﻪ أﻻ ﻳﻔﻌﻞ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ ﻳﻮﺷﻚ أن ﻳﻜﻮن
ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻏﻀﺐ :ﻫﻞ ﺗﻌﻠﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي أن ﺻﻤﺘﻚ اﻟﻴﻮم ﻳﺴﻮءﻧﻲ؟ ﻗﺎل :وﻫﻞ ﴎك
ﻗﻂ ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪﺗﻲ؟ ﻗﺎﻟﺖ وﻗﺪ اﺗﺴﻌﺖ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ :ﻫﺬا ﺣﺴﺎب ﺳﻨﺴﺘﻮﻓﻴﻪ إذا ﺧﻠﺖ
ﻟﻨﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺣني .ﻗﺎل وﻫﻮ ﻳﺪاﻓﻊ ﻏﻴ ً
ﻈﺎ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻨﻔﺠﺮ :ﺗﺮﻳﺪﻳﻦ أن ﺗﻘﻮﱄ إذا ﺧﻼ
ﻟﻨﺎ اﻟﺠﺤﻴﻢ ﺑﻌﺪ ﺣني .ﻫﻨﺎﻟﻚ اﻧﴫﻓﺖ ﻋﻨﻪ رﻓﻴﻘﺔ رﺷﻴﻘﺔ ﺑﻌﺪ أن أﻟﻘﺖ إﻟﻴﻪ ﻧﻈﺮة ذﻫﺒﺖ
ﺑﻘﻠﺒﻪ ﻛﻞ ﻣﺬﻫﺐ وﺳﻠﻜﺖ ﺑﻌﻘﻠﻪ ﻛﻞ ﺳﺒﻴﻞ ،وﻗﺪ ﻇﻞ واﺟﻤً ﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻟﺤﻈﺎت ﺛﻢ أﻗﺒﻞ
ﻋﲆ ﻣﺎ ﻛﺎن أﻣﺎﻣﻪ ،ﻓﺄﻛﻞ ً
ﻗﻠﻴﻼ وﴍب ﻛﺜريًا ،وﺗﺮك ﻣﺠﻠﺴﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ وﺟﻌﻞ ﻳﺘﻨﻘﻞ ﰲ
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺑﺄﺣﺎدﻳﺜﻪ وﺗﺤﻴﺎﺗﻪ واﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺗﻪ ﻓﺮﺣً ﺎ ﻣﺮﺣً ﺎ ﻣﻨﻄﻠﻖ اﻟﻠﺴﺎن ﺧﻔﻴﻒ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺣﺘﻰ
ﻗﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻟﺒﻌﺾ :ﻟﻘﺪ ﻋﺮﻓﺖ رﺑﺔ اﻟﺪار ﻛﻴﻒ ﺗﺮد إﻟﻴﻪ اﻟﺤﻴﺎة ،وﺗﺸﺠﻊ ﻓﻴﻪ
أﺣﺎدﻳﺚ
اﻟﻨﺸﺎط ،وﺗﻨﻘﻠﻪ ﻣﻦ ﺟﻤﻮد وﺧﻤﻮد إﱃ ﻧﺸﺎط ﻳﻮﺷﻚ أن ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺎر .أﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﻘﺪ
ﻣﻀﺖ ﰲ ﺗﺤﻴﺔ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻛﺄن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﳾء ،وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻮزع ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺴﻂ ﺣﻴﻨًﺎ وﺑﻐري
اﻟﻘﺴﻂ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺳﺤﺮ اﻟﻠﺤﻆ واﻟﻠﻔﻆ ،ﺗﻘﻒ إﱃ ﻫﺬا ﻓﺘﻄﻴﻞ اﻟﻮﻗﻮف ،وﺗﻠﻘﻲ إﱃ ﻫﺬا ﻛﻠﻤﺔ
ً
اﺧﺘﻼﺳﺎ ،وﺗﴩف ﻣﻊ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ أو رﻏﻢ ﻫﺬا
ﴎﻳﻌﺔ ﻋﺎﺑﺮة ،وإﱃ ﻫﺬا ﻧﻈﺮة ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺨﺘﻠﺴﻬﺎ
ﻛﻠﻪ ﻋﲆ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺨﺪم اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻌﻮن ﺑﺄﻟﻮان اﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب ﻋﲆ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ
ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ذات ﻧﻔﺲ واﺣﺪة ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ذات ﻧﻔﻮس ﻛﺜرية ﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ
وﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﺑﺎﻟﺨﺪم ،ﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺨﺒﺰ وﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﺑﺘﻮزﻳﻊ
اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ ،وﻋﻴﻮن اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻋﲆ ﻛﺜﺮﺗﻬﻢ ﺗﺮﻣﻘﻬﺎ ﰲ إﻋﺠﺎب وإﻛﺒﺎر أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﺗﺮﺷﻘﻬﺎ ﰲ ﻏﻴﻆ
وﺣﺴﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻌﻠﻘﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻴﻮن ﺑﻮﺟﻬﻬﺎ املﴩق اﻟﺠﻤﻴﻞ ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻌﻠﻘﺖ
ﻋﻴﻮن أﺧﺮى ﺑﻬﺬا اﻟﻔﻦ أو ذاك ﻣﻦ ﻓﻨﻮن زﻳﻨﺘﻬﺎ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺒﺎرﻋﺔ ،ورﺑﻤﺎ اﺟﱰأت ﺑﻌﺾ
اﻟﻌﻴﻮن اﻟﻮﻗﺤﺔ ﻓﺘﺰﻟﻘﺖ ﻋﲆ ﺷﺨﺼﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ رأﺳﻬﺎ إﱃ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ ﺗﻌﺮب ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻦ ﻋﻮاﻃﻒ
ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻒ واﻟﻔﺘﻮن.
وﻟﻮ ُﺧ ﱢري اﻟﺰاﺋﺮون ﻻﺧﺘﺎروا وﻷﻃﺎﻟﻮا املﻘﺎم ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،وﰲ ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع
اﻟﺤﻠﻮ ،وﺣﻮل ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻘﺪم اﻟﻠﻴﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أوﺿﺎﻋﻬﺎ
وﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻫﺎ ،وﺳﺎﻋﺎت اﻟﺸﺎي ﻣﺤﺪودة ﻳﻘﺎس ﻃﻮﻟﻬﺎ وﻗﴫﻫﺎ ﺑﻤﺎ ﻟﻠﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب
اﻟﺪار ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﺔ .ﻫﺆﻻء ﻳﻠﻤﻮن إملﺎﻣﺔ ﻗﺼرية ﺛﻢ ﻳﻨﴫﻓﻮن ،وﻫﺆﻻء ﻳﻘﻴﻤﻮن ﺳﺎﻋﺔ أو ﺑﻌﺾ
ﺳﺎﻋﺔ ﺛﻢ ﻳﻤﻀﻮن ،وﻫﺆﻻء ﻳﻤﺪون اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﻠﻮ ﻟﻬﻢ وﺟﻪ ﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﻟﺤﻈﺎت
ً
ﻃﻮاﻻ ،واملﻘﺮﺑﻮن املﻘﺮﺑﻮن ﻣﻦ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻳﺘﺨﻠﻔﻮن وﻳﻨﻈﺮون إﱃ املﻨﴫﻓني ﰲ
ﻗﺼﺎ ًرا أو
ﳾء ﻣﻦ اﻹﺷﻔﺎق واﻻزدراء أو اﻟﺘﻌﺠﻞ ،ﺣﺘﻰ إذا اﻧﴫﻓﺖ ﻛﺜﺮة اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ أﺣﺎﻃﻮا ﺑﺼﺎﺣﺒﺔ
اﻟﺪار ﻣﻬﻨﺌني ﻟﻬﺎ ﻣﱰﻓﻘني ﺑﻬﺎ ،ﻣﺘﻨﺪرﻳﻦ ﺑﻘﻮم ﻛﺎﻧﻮا ﻳﱰﺿﻮﻧﻬﻢ وﻳﺘﻤﻠﻘﻮﻧﻬﻢ ﻣﻨﺬ ﺣني،
وﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺧﺺ اﻟﺨﺎﺻﺔ وأﻗﺮب املﻘﺮﺑني ،وﻫﻮ ﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ ﻗﺪ ﺗﺨﻠﻒ ﻣﻊ
املﺘﺨﻠﻔني ،ﻓﻠﻢ ﻳﻨﴫف ﺣني اﻧﴫﻓﺖ اﻟﻜﺜﺮة ،وﻟﻢ ﻳﻨﴫف ﺣني اﻧﴫﻓﺖ اﻟﻘﻠﺔ ،وﻣﺎ ﻛﺎن
ﻟﻪ أن ﻳﻨﴫف وﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﺣﺴﺎب ﺳﻴﺴﺘﻮﻓﻴﺎﻧﻪ إذا ﺧﻠﺖ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﻛﻤﺎ
ﻗﺎﻟﺖ ،أو إذا ﺧﻼ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﺤﻴﻢ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل.
وﰲ اﻟﺤﻖ أن ﻫﺬه اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ُﻣﺪﱠت ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻮاﺋﺪ اﻟﺸﺎي ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻨﺔ وﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﰲ
وﻗﺖ واﺣﺪ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻨﺔ ﺑﻬﺬه اﻷﺷﺠﺎر اﻟﺒﺎﺳﻘﺔ املﻠﺘﻔﺔ املﺘﻜﺎﺛﻔﺔ وﺑﻬﺬا اﻟﺰﻫﺮ اﻟﺒﺎﺳﻢ ﻋﻦ
أﻟﻮان ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎل ،وﺑﻬﺬه اﻟﺒﺴﻂ اﻟﺨﴬ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺴﺖ أرﺿﻬﺎ وﻧﴩت ﻓﻴﻬﺎ
راﺋﺤﺔ ودﻋﺔ وﻟﺬة ﻟﻠﺠﺴﻢ واﻟﻨﻔﺲ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﺑﻬﺬه اﻟﻨﺠﻮم اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺳﻞ ﺑني ﺣني
50
ﻳﺄس
وﺣني أﺷﻌﺘﻬﺎ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ اﻟﻨﺤﻴﻠﺔ ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺒﺤﺚ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﳾء ﰲ أﻓﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺒﺴﻂ أو ﰲ أﺣﻨﺎء
ﻫﺬا اﻟﺸﺠﺮ ،ﺛﻢ ﺑﻀﻮء اﻟﻘﻤﺮ ﻫﺬا اﻟﺮﻓﻴﻖ اﻟﺬي ﻧﴩ ﻋﲆ ﺷﺠﺮﻫﺎ وزﻫﺮﻫﺎ وﻋﺸﺒﻬﺎ أردﻳﺔ
ً
دﻗﺎﻗﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺼﻔﻮ ﻛﻞ اﻟﺼﻔﺎء ،وﻟﻜﻦ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻠﻴﻞ ﺗﺸﻮﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ،ﻓﺘﺸﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ
ﻣﺎ ﻳﻤﻸ اﻟﻨﻔﺲ رﺿﺎ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺼﻔﻮ ﻟﻮﻻ ﻫﺬا اﻟﻘﻠﻖ اﻟﻴﺴري اﻟﺬي ﻳﱰدد ﰲ ﺟﻨﺒﺎﺗﻪ ﺑني
ﺣني وﺣني.
وﻛﺎﻧﺖ ﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻫﺬا ا ُمل َﻮ ﱠﻟﻪ املﻔﺘﻮن اﻟﺬي ﻳﺮى اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﻗﺮﻳﺒًﺎ أﺷﺪ
اﻟﻘﺮب وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﻴﺪ أﺷﺪ اﻟﺒﻌﺪ؛ ﻷن ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﻧﺎ ًرا ﺗﺘﺄرﺟﺢ وﺗﺘﻠﻈﻰ وﺗﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ أن ﻳﺒﺴﻂ
ﻳﺪه إﱃ ﳾء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ اﻟﻘﺮﻳﺐ .ﻗﺪ ُﻓﺘِﻦ ﺑﺼﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﻓﺘﻨﺔ ﺟﺎﻣﺤﺔ ﻃﻐﺖ ﻋﲆ ﻛﻞ
ﳾء ﻛﺄﻧﻬﺎ اﻟﺴﻴﻞ اﻟﻌﻨﻴﻒ املﻨﺪﻓﻊ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﻤﺎ ﻳﻌﱰﺿﻪ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻣﻦ املﺼﺎﻋﺐ
واﻟﻌﻘﺒﺎت ،ﻓﻬﺬه اﻟﺠﻨﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺸﺎﺋﻘﺔ ﺗﻐﺮﻳﻪ ﺑﺄﻟﻮان ﻣﻦ اﻟﻨﻌﻴﻢ وﺗﺜري ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﴐوﺑًﺎ
ﻣﻦ اﻷﻣﺎﻧﻲ وﺗﺨﻴﻞ إﻟﻴﻪ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻬﻲ ﻣﻴﴪ ﻟﻪ ،ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻴﺒﻠﻎ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ،وﻟﻜﻦ
ﻫﺬه اﻟﻨﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻠﻈﻰ ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﺗﺮده ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ ردٍّا ،وﺗﺨﻴﻞ إﻟﻴﻪ أﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻤﺲ ﻣﻨﻪ
ﺷﻴﺌًﺎ إﻻ أﺣﺮﻗﻪ وﺟﻌﻠﻪ رﻣﺎدًا ﺗﺬروه اﻟﺮﻳﺎح.
وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮى ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة اﻟﺤﺴﻨﺎء ﰲ ﻫﺬه اﻟﺮوﺿﺔ اﻟﻔﻴﺤﺎء ﻟﻴﺠﻦ ﺟﻨﻮﻧﻪ
وﻟﻴﺒﻠﻎ اﻟﻴﺄس ﺑﻪ أﻗﺼﺎه ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ أﺟﻤﻞ وﻻ أروع وﻻ أﺷﺪ ﻣﻼءﻣﺔ ﻟﺬوﻗﻪ
وﻃﺒﻌﻪ وﻫﻮاه ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة ﺣني ﺗﺴﻌﻰ ﰲ ﺣﺪﻳﻘﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ
أﺑﻌﺪ ً
ً
ﻳﺎﺋﺴﺎ أو ﻗﻞ
ﻣﻨﺎﻻ وﻻ أﺷﺪ اﻣﺘﻨﺎﻋً ﺎ ﻣﻦ إرﺿﺎء ذوﻗﻪ وﻃﺒﻌﻪ وﻫﻮاه ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺣﺒﻪ
ً
ً
ﺑﻐﻴﻀﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أن
ﺛﻘﻴﻼ
ﻛﺎن ﺣﺒﻪ ﻫﻮ اﻟﻴﺄس ﻧﻔﺴﻪ ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻴﺄس
ﻳﺮﻳﺤﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻮﱠد اﻟﻴﺄس أن ﻳﺮﻳﺢ اﻟﻴﺎﺋﺴني ،وﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﻳﻌﺮف ﻟﻪ أﺻﻼً
وﻻ ﻳﺘﺒني ﻟﻪ ﻣﺼﺪ ًرا ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻨﻔﺮدًا ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻣﻦ دون ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ،وﻟﻌﻞ ﺣﻈﻪ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻒ
واﻟﻬﻴﺎم أﻻ ﻳﻜﻮن أﻗﻞ ﻣﻦ ﺣﻈﻬﺎ ﻣﻨﻬﻤﺎ.
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﺻﱪًا ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻪ ﺳﻠﻮٍّا ،وﻣﺎ أﻛﺜﺮ
ﻣﺎ اﻣﺘﺤﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﺐ ﻓﺸﻐﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻳﻮﻣني أو أﻳﺎﻣً ﺎ وأﻛﺮه ﻧﻔﺴﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﲆ
اﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﻌﻢ داﺋﻤً ﺎ ﺣني ﻳﺴﺘﻮﺛﻖ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺄﻟﻢ وﺣﺪه ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺠﺮ ،وﻟﻢ
َ
ﻳﺸﻖ وﺣﺪه ﺑﻬﺬه اﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺴﻌﺪ ﺣني ﻳﺘﺤﻘﻖ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺣﺪه ﻳﻠﺘﻤﺲ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ
وﻳﻌﻤﻞ اﻟﺤﻴﻠﺔ وﻳﺘﻜﻠﻒ املﻤﻜﻦ وﻏري املﻤﻜﻦ ﻟﻴﺼﻞ ﻣﺎ اﻧﻘﻄﻊ ﻣﻦ اﻟﻮد وﻳﺠﺪد ﻣﺎ رث ﻣﻦ
ﺻﻼت اﻟﺤﺐ وﻳﺴﺘﺄﻧﻒ ﻣﺎ أﻫﻤﻞ ﻣﻦ اﻟﻠﻘﺎء ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم.
وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ﻛﺎن ﺟﺪﺑًﺎ ﻻ ﺣﻆ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺐ ،ﻛﺎن أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﺼﺤﺮاء املﺤﺮﻗﺔ
اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺠﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻴﻬﺎ روﺣً ﺎ وﻻ ً
أﻣﻼ ﰲ اﻟﺮوح ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﺸﻤﺲ املﺘﻮﻫﺠﺔ واﻟﺮﻣﻠﺔ
51
أﺣﺎدﻳﺚ
املﺤﱰﻗﺔ واﻟﻌﺬاب اﻟﺬي ﻳﺄﺧﺬ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن .ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ﺷﻜﺎة ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺗﺼﺪر
ً
ﻣﺘﺼﻼ ﻳﺼﺪر ﻋﻨﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﺠﺎوز اﻟﺸﻜﺎة واﻟﺮﺛﺎء ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻒ
ﻋﻨﻪ ورﺛﺎءً
ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺤﺐ أن ﻳﺄﻟﻢ اﻟﻌﺎﺷﻖ وﻳﺮﺣﻢ املﻌﺸﻮق ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺷﺪ اﻷﺷﻴﺎء
ﻳﺄﺳﺎ وﻗﻨﻮ ً
ﺗﻌﺬﻳﺒًﺎ ﻟﻘﻠﺒﻪ وﻣﺸﻘﺔ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ ﺟﻬﻠﻪ ﺑﻬﺬه املﺼﺎدر اﻟﺨﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻸ ﺣﺒﻪ ً
ﻃﺎ.
ً
ً
ﻣﺸﻮﻗﺎ إﻟﻴﻪ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﻌﺪ وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻠﻘﺎء
ﻣﺸﻮﻗﺎ وﻛﺎن
ﻛﺎن ﻳﺤﺐ وﻛﺎن ﻣﺤﺒﻮﺑًﺎ وﻛﺎن
ﺣني ﻳﺒﺘﺪئ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺸﻘﻰ وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻠﻘﺎء ﺣني ﻳﺘﺼﻞ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﻌﺬب وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻔﺮاق
ﺣني ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻮﻋﺪه ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﺮوق ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺔ واملﻨﺰﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﻮل
ﺑني ﻫﺬا اﻟﺤﺐ اﻟﺸﻘﻲ وﺑني أن ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ إﱃ زواج ﺳﻌﻴﺪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﺰواج أو
ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺣﺘﻰ ﺗﺜﻮر اﻟﺜﺎﺋﺮة ،وﺗﻔﻮر اﻟﻔﺎﺋﺮة ،وﺗﻌﺼﻒ اﻟﻌﻮاﺻﻒ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺴﺪ
ﻋﲆ اﻟﺤﺒﻴﺒني ﻣﻦ أﻣﺮﻫﻤﺎ ﻛﻞ ﳾء.
ﱠ
ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ذات ﻳﻮم وﻗﺪ ﺷﻜﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﻣﻠﻬﺎ وأﻟﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺑﺮﻣﻬﺎ واﺗﻬﻤﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﻐﻲ
ﻋﻠﻴﻪ واﻟﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻪ ،وﺑﺄﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺧﺪﻋﺘﻪ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ وأﻇﻬﺮت ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ ﻣﺎ أﻃﻤﻌﻪ وأﻏﺮاه،
ﺣﺘﻰ إذا اﺳﺘﻮﺛﻘﺖ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﻣﻠﻜﺖ ﻋﻘﻠﻪ وﺳﺤﺮت ﻟﺒﻪ واﺳﺘﺄﺛﺮت ﺑﻘﻠﺒﻪ واﺳﺘﻴﻘﻨﺖ أﻧﻪ
ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ وﻻ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﻋﺰاء ،ﺗﻨﺎءت ﻋﻨﻪ وﺗﻨﻜﺮت ﻟﻪ وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻀﺠﻪ
ﻟﻦ ﻳﺠﺪ ﻋﻦ ﺣﺒﻬﺎ
ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻨﺎر اﻟﻬﺎدﺋﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﴍ أﻧﻮاع اﻟﻨﺎر .ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ذات ﻳﻮم وﻗﺪ ﺷﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻬﺬا
ﻛﻠﻪ :إﻧﻚ ﻟﺘﻌﻠﻢ أﻧﻲ ﻻ أﺿﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﺒﻚ أﻗﻞ ﻣﻤﺎ ﺗﻀﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﺒﻲ ،وأﻧﻲ ﻻ أﺟﺪ إﱃ اﻟﺴﻠﻮ
ﺳﺒﻴﻼ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻴﻨﻚ وﺑﻴﻨﻲ ً
ً
ً
ﻓﺮﻗﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وأﻣﺪًا
ﺳﺒﻴﻼ ﻛﻤﺎ أﻧﻚ ﻻ ﺗﺠﺪ إﱃ اﻟﺴﻠﻮ ﻋﻨﻲ
ﻋﻨﻚ
ٍ
ﺻﺎف ﻣﻐﺮق ﰲ اﻟﺼﻔﺎء ﻳﺠﺪ
ﺑﻌﻴﺪًا ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﺤﺐ وﺗﻘﺪﻳﺮه؛ ﻓﺤﺒﻲ ﻧﻘﻲ ﻣﻤﻌﻦ ﰲ اﻟﻨﻘﺎء
ﻏﺎﻳﺘﻪ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ وﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻓﺄﻧﺎ أﺣﺒﻚ وﺣﺴﺒﻲ أﻧﻲ أﺣﺒﻚ ،وﻗﺪ ﻻ
ً
ﺿﻌﻔﺎ وﻓﺘﻮ ًرا وأﻧﻚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻠﻬﻮ ﻋﻨﻲ ﺑﻤﺎ ﺷﺌﺖ
ﻳُﻮﺋِﺴﻨﻲ أن أﻋﺮف أن ﰲ ﺣﺒﻚ ﱄ
ﻣﻦ أﺳﺒﺎب اﻟﻠﻬﻮ ،وأﻣﺎ أﻧﺖ ﻓﺈن ﺣﺒﻚ ﻻ ﻳﻘﻨﻊ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺘﺠﺎوزﻫﺎ إﱃ أﺷﻴﺎء ﻟﻌﻞ
اﻻﺗﺼﺎل ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﺤﺐ اﻟﻨﻘﻲ اﻟﱪيء ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﻈﻦ ،وإﻧﻲ ﻷﻣﻨﺤﻚ
ﺧري ﻣﺎ ﻋﻨﺪي وأﺻﻔﻴﻚ ﻣﻮدﺗﻲ وأﺷﻐﻞ ﺑﻚ ﻋﻘﲇ وﻗﻠﺒﻲ وﺿﻤريي ،وأرى أن ﻫﺬه املﻨﺰﻟﺔ
ﻫﻲ أرﻓﻊ ﻣﻨﺎزل اﻟﺤﺐ وأرﻗﺎﻫﺎ وأدﻧﺎﻫﺎ إﱃ اﻟﻜﻤﺎل ،وﻟﻜﻨﻚ ﻻ ﺗﻘﻨﻊ ﻣﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ ،وﻟﻌﻠﻚ ﻻ
ﺗﺤﻔﻞ ﺑﺬﻟﻚ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﺤﻔﻞ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﺧﻄ ًﺮا وأﻫﻮن ﻣﻨﻪ ﺷﺄﻧًﺎ وأﴎع ﻣﻨﻪ إﱃ
اﻟﺰوال واﻻﻧﺤﻼل.
أﺻﻔﻴﻚ ﺣﺒٍّﺎ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ اﻟﺒﻘﺎء واﻻﺗﺼﺎل اﻟﺬي ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺨﻠﻮد ،وﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﺣﺒٍّﺎ ﻫﻴﻨًﺎ
ً
ً
ﻃﻮاﻻ ،وإﻧﻲ ﻷﻛﱪ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ
رﺧﻴﺼﺎ ﻳﻨﻌﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻪ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية ﺛﻢ ﻳﺸﻘﻰ ﺑﻪ ﺳﺎﻋﺎت
52
ﻳﺄس
ﻣﻦ اﻟﺤﺐ وأرﺗﻔﻊ ﺑﻪ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻐﺎﺋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻧﺴﻪ وﺗﻔﺴﺪه ،وﻟﻮﻻ أن ﻫﺬا ﳾء ﻏري
ﻣﺄﻟﻮف وأﻧﻲ أرﻓﻊ ﻧﻔﴘ ﻋﻨﻪ وأﺑ ﱢﺮﺋﻬﺎ ﻣﻨﻪ ،ﻷﺑﺤﺖ ﻟﻜﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﺎ أن ﻳﻠﺘﻤﺲ ﻣﺘﺎﻋﻪ ورﺿﺎ
ﺟﺴﻤﻪ ﺣﻴﺚ ﺷﺎء ،ﺣﺘﻰ إذا اﻟﺘﻘﻴﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻨﻨﺎ إﻻ ﻃﻬﺮ ﻻ ﺗﺸﻮﺑﻪ ﺷﺎﺋﺒﺔ ،وﻧﻘﺎء ﻻ
ﻳﻌﺮض ﻟﻪ اﻟﻜﺪر ﺑﻤﺎ ﺗﺜري ﻏﺮاﺋﺰ اﻟﺠﺴﻢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻵﺛﻤﺔ اﻟﻬﻮﺟﺎء .وﻟﻜﻨﻪ ﺳﻤﻊ
ﻟﻬﺎ وﻓﻬﻢ ﻋﻨﻬﺎ ،وأﺑﻰ إﻻ أن ﻳﻤﴤ ﰲ ﺷﻜﺎﺗﻪ املﺘﺼﻠﺔ وإﻟﺤﺎﺣﻪ اﻟﻌﻨﻴﻒ ،وإﻻ أن ﻳﻜﺮر ﻣﺎ
ﻛﺎن ﻳﻘﻮﻟﻪ داﺋﻤً ﺎ ،وﻫﻮ أن اﻟﺤﺐ واﺣﺪ ﻻ ﻳﺘﻌﺪد ،وﻛ ﱞﻞ ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﻔﺮق ﺑني رﺿﺎ
اﻟﻨﻔﺲ واﻟﻌﻘﻞ واﻟﻘﻠﺐ وإرﺿﺎء اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﺠﺎﻣﺤﺔ واﻷﻫﻮاء اﻟﺜﺎﺋﺮة.
وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎﺗﻬﻤﺎ ﻣﺎﺿﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ :إﻟﺤﺎح واﻣﺘﻨﺎع ،وﺷﻜﺎة ورﺛﺎء ،ورﺿﺎ
وﻏﻀﺐ ،ورﺟﺎء وﻗﻨﻮط ،ﺣﺘﻰ إذا ﻛﺎن املﺴﺎء ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم أﻗﺒﻞ ﻋﲆ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻓﻴﻤﻦ
أﻗﺒﻞ ﻟﺤﻔﻞ دﻋﺖ إﻟﻴﻪ ﻓﺠﺄة وﻟﻐري ﻋﻠﺔ واﺿﺤﺔ وﻻ ﺳﺒﺐ ﻣﻌﺮوف ،وﻗﺪ رأى ﻧﻔﺴﻪ ﰲ
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺿﻴﻖ اﻟﺼﺪر ﻣﻔ ﱠﺮق اﻟﻨﻔﺲ ﺑ َِﺮﻣً ﺎ ﺑﻤﺎ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء وﺑﻤﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس،
وﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع ﻟﻌﺎد أدراﺟﻪ وﻟﺮﺟﻊ إﱃ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﰲ أول اﻟﻠﻴﻞ ﺣني ﻳﻨﴫف ﻋﻨﻬﺎ اﻟﺰاﺋﺮون،
وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ،وﻗﺪ ﻋﻠﻞ ﺑﻘﺎءه ﺑﺄن اﻟﻨﺎس ﻗﺪ رأوا وﻋﺮﻓﻮا ﻣﻜﺎﻧﻪ ،وﺑﺄن اﻧﴫاﻓﻪ ﻗﺪ
ﻳﺜري اﻟﺮﻳﺒﺔ وﻳﻐﺮي ﺑﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﻟﺴﻨﺔ اﻟﻄﻮال اﻟﺤﺪاد ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ٍّ
ﺣﻘﺎ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ
وﻻ ﻏﺒﺎر ﻋﻠﻴﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺣﺪه ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻔﴪ ﺑﻘﺎءه ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﻠﺔ أﺧﺮى أو
ﻋﻠﻞ أﺧﺮى ،ﻓﻬﻮ ﻗﺪ رأى ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮاﻫﺎ ﻟﻴﻘﻴﺪه ﻣﻨﻈﺮﻫﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ،ورأى
اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮى أﺣﺪًا ﻳﺪﻧﻮ ﻣﻨﻬﺎ أو ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻟﺘﻀﻄﺮم ﰲ
ﻗﻠﺒﻪ ﻧﺎر ﺗﺠﻌﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﻛﻠﻬﺎ ،وﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ أﻗﺎم وأﻗﺎم ﺳﺎﺧ ً
ﻄﺎ ﺑﺮﻣً ﺎ ﻋﺎﺑﺲ اﻟﻮﺟﻪ
ً
ﻣﻐﺮﻗﺎ ﰲ اﻟﺼﻤﺖ ،ﺣﺘﻰ ﻧﺒﻬﺘﻪ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ إﱃ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﻤﺖ ﻣﻦ إﻏﺮاء ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻼﺣﻈﻮن
ﺛﻢ ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻮن ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ وإﻧﻤﺎ ﻳﺘﻨﺪرون ﺑﻤﺎ ﻻﺣﻈﻮا ،وﻫﻲ ﻗﺪ وﻋﺪﺗﻪ ﺑﺄﻧﻬﻤﺎ ﺳﻴﺴﺘﻮﻓﻴﺎن
ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺣﺴﺎب ﺣني ﺗﺨﻠﻮ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻟﺖ أو ﺣني ﻳﺨﻠﻮ ﻟﻬﻤﺎ
اﻟﺠﺤﻴﻢ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ،وﻗﺪ ﺧﻠﺖ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ،وﻧﻈﺮ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ،ﻓﺈذا ﻫﻮ
ﻗﺎﺋﻢ ﻣﻦ ﻣﺼﺪر ﺷﻘﺎﺋﻪ وﺳﻌﺎدﺗﻪ ﻏري ﺑﻌﻴﺪ ﻛﺄﻧﻪ اﻟﺨﺎدم ﻳﻨﺘﻈﺮ أن ﻳﺼﺪر إﻟﻴﻪ ﻣﻮﻻه أﻣ ًﺮا.
وﻗﺪ ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻓﺄﻃﺎﻟﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﺛﻢ ﻟﻢ ﺗﻤﻠﻚ أن ﺗﻐﺮق ﰲ ﺿﺤﻚ ﻣﺘﺼﻞ ﻃﻮﻳﻞ
ً
ﺣﻔﻴﻈﺔ وزاده اﺿﻄﺮاﺑًﺎ إﱃ اﺿﻄﺮاب ،ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎد اﻟﻀﺤﻚ ﻳﺴﻜﺖ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ
ﻣﻸه
ﺻﻮت ﻣﺘﻘﻄﻊ :وﻣﺎ ﻳﻐﻴﻈﻚ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻀﺤﻚ وإن ﻣﻘﺎﻣﻚ ﻫﺬا ملﻀﺤﻚ ٍّ
ﺣﻘﺎ ،اد ُن ﻣﻨﻲ
وﺧﺬ ﻣﺠﻠﺴﻚ اﻟﺬي أَﻟِﻔﺘﻪ ﺣني ﻳﺨﻠﺺ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﻟﺼﺎﺣﺒﻪ وﻟﻨﺒﺪأ ﰲ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ
ﻧﻤﻞ ﺗﻤﺜﻴﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ أرﻳﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ أﻻ ﻳﻄﻮل اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ،ﻓﻘﺪ أﺗﻌﺒﻨﻲ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل
53
أﺣﺎدﻳﺚ
وأﻇﻨﻨﻲ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﳾء ﻣﻦ راﺣﺔ ،وإن ﺷﺌﺖ ﻓﺴﺄﻣﻨﺤﻚ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ ﺗﺸﻜﻮ ﻓﻴﻬﺎ ﺑَﺜﱠﻚ
وﺗﻔﺠﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻏﻀﺒﻚ ﺛﻢ ﺗﻐﺴﻞ ﻫﺬا اﻟﻐﻀﺐ ﺑﻤﺎ ﺗﺬرف ﻣﻦ دﻣﻮع ،وﺳﺄﻣﻨﺢ ﻧﻔﴘ ﻋﴩ
دﻗﺎﺋﻖ أرد ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺗﺠﻨﻴﻚ وأزﺟﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻏﻀﺒﻚ اﻟﺬي ﺳﻴﻜﻮن ﺟﺎﻣﺤً ﺎ وﻗﺤً ﺎ ،وأﻣﺴﺢ
ﻓﻴﻬﺎ دﻣﻮﻋﻚ اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻜﻮن ﻏﺰا ًرا ،ﺛﻢ أﺧﺼﺺ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ أﺧﺮى ﻟﻠﺘﺼﺎﰲ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺘﺎب
واﻟﱰاﴈ ﺑﻌﺪ اﻟﺘﻐﺎﺿﺐ واﻻﺋﺘﻼف ﺑﻌﺪ اﻻﺧﺘﻼف ،ﻓﺈذا ﺑﻠﻐﻨﺎ ذﻟﻚ اﻧﺘﻬﻰ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ وأﺳﺪل
اﻟﺴﺘﺎر ،واﻧﴫﻓﺖ أﻧﺖ إﱃ ﻣﺎ ﺷﺌﺖ أن ﺗﻨﻔﻖ ﻓﻴﻪ أول اﻟﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻟﻘﺎء اﻷﺻﺪﻗﺎء أو اﻟﺨﻠﻮة
إﱃ اﻟﻜﺘﺎب أو اﻟﺨﻠﻮة إﱃ ﺣﺒﻚ ﻫﺬا اﻟﺬي ﻳﻌﺬﺑﻚ وﻳﻀﻨﻴﻚ ﰲ ﻏري ﻃﺎﺋﻞ وﻻ َﻏﻨَﺎء.
وﻟﺴﺖ أدري أأﻧﻔﺬ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ﺑﺮﻧﺎﻣﺠﻬﻤﺎ ﻛﻤﺎ رﺳﻤﺘﻪ اﻟﻐﺎدة اﻟﺤﺴﻨﺎء ﻟﻢ ﻳﺘﺠﺎوز
اﻟﺨﻄﺔ املﺮﺳﻮﻣﺔ ﺑﻘﴫ أو ﻃﻮل ،أم ﻟﻢ ﻳﻨﻔﺬاه ،وإﻧﻤﺎ أراﻫﻤﺎ ﺣني ﺗﻘﺪم اﻟﻠﻴﻞ ﻗﺪ ﺟﻠﺴﺎ
إﱃ ﻣﺎﺋﺪة اﻟﻄﻌﺎم ﻳﺼﻴﺒﺎن ﰲ دﻋﺔ وﻫﺪوء ﻣﻤﺎ ﻳُﻘﺪﱠم إﻟﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﻟﻮان ،وأراﻫﻤﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
ﻳﺘﴫﻓﺎن ﰲ أﻟﻮان ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﻬﺎدئ املﻄﻤﱧ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﺻﺪﻳﻘﺎن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺛﻮرة وﻻ
ﺧﺼﺎم ،ﺛﻢ أراﻫﻤﺎ وﻗﺪ ﻧﻬﻀﺎ ﻟﻴﻔﱰﻗﺎ ،وﻫﻲ ﺗﺒﺴﻢ ﻟﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺣﺰن ،وﻫﻮ
ﻳﺒﺴﻢ ﻟﻬﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻏﻴﻆ ،ﺣﺘﻰ إذا ﺑﻠﻐﺎ ﺑﺎب اﻟﺤﺠﺮة ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت
ﻫﺎدئ ﻣﻜﻈﻮم :أﻣﺎ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺈﻧﻲ ﻗﺪ أﻋﺪدت ﻟﻚ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗُﻘﺪﱢر ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم أﻧﻲ
ﺳﺄﻋﺪﻫﺎ ﻟﻚ ،وﻫ ﱠﻢ أن ﻳﺴﺄﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬه املﻔﺎﺟﺄة ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻤﻬﻠﻪ وإﻧﻤﺎ وﺿﻌﺖ ﻳﺪﻳﻬﺎ
ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻴﻪ وأدﻧﺖ ﺟﺒﻬﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻓﻤﻪ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﺳﺄﻣﻨﺤﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻗﺒﻠﺔ ،ﻓﺈذا ﻇﻔﺮت ﺑﻬﺎ
ﻓﺎﻧﴫف ﻣﻮﻓﻮ ًرا وﻻ ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﻏريﻫﺎ.
وﻟﺴﺖ أدري أﻃﺎﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺒﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺒﻬﺔ أم ﻗﴫت وﻟﻜﻨﻲ أﻋﻠﻢ أن اﻟﻔﺘﻰ ﺻﺪع
ﺑﺎﻷﻣﺮ واﻧﴫف ﻣﻮﻓﻮ ًرا ﺳﻌﻴﺪًا ﻟﻢ ﻳﺴﺄل ﻏريﻫﺎ وﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻠﻨﻮم أو ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻪ اﻟﻨﻮم
ﺣﺘﻰ ﺗﺠﺎوز اﻟﻠﻴﻞ ﺛﻠﺜﻴﻪ ،ﺛﻢ دﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﺎدﻣﻪ ﻣﻊ اﻟﺼﺒﺢ ﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ ﻃﻌﺎم اﻹﻓﻄﺎر
أﻳﻀﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪﻣﺖ إﻟﻴﻪ ً
وﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺼﺤﻒ ً
ﻏﻼﻓﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺄﺧﺬه ﺣﺘﻰ أﺣﺲ ﻣﻦ وراﺋﻪ
ﺷﻴﺌًﺎ ﺻﻠﺒًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻋﺮف ﺧﻂ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﻀﻪ ﺣﺘﻰ وﻗﻌﺖ ﰲ
ﻳﺪه ﺻﻮرة ،ﻧﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺄﺧﺬﺗﻪ رﻋﺪة ﻋﻨﻴﻔﺔ وﺳﺎل ﻋﲆ ﺟﺴﻤﻪ ﻛﻠﻪ ﻋﺮق ﺑﺎرد ،وﻗﺪ وﻗﻊ ﰲ
ﻳﺪه ﻣﻊ اﻟﺼﻮرة ﻗﺮﻃﺎس ﺻﻐري ﻗﺪ ﺧﻄﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ :ﻟﻌﻠﻚ ﻋﺮﻓﺖ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬه
اﻟﺼﻮرة وﺗﺒﻴﻨﺖ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻚ وﺑﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺷﺒﻪ ﻗﺮﻳﺐ ،وﻓﻬﻤﺖ ﻣﺼﺪر اﻟﻴﺄس اﻟﺬي ُﻛﺘﺐ ﻋﲆ
ﺣﺒﻨﺎ ،وﻓﻬﻤﺖ ﻛﺬﻟﻚ أن اﻟﻘﺒﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﺘﻚ إﻳﺎﻫﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺒﻠﺔ اﻟﻮداع ،ﻓﺈن اﻟﺤﺐ واملﻮت
ﺻﺪﻳﻘﺎن ﺗﻔﺮق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ اﻟﺤﻴﺎة ﺣﻴﻨًﺎ ﺛﻢ ﻻ ﻳﻠﺒﺜﺎن أن ﻳﻠﺘﻘﻴﺎ ذات ﺻﺒﺎح أو ذات ﻣﺴﺎء ،أﻣﺎ
ﺣﺒﻲ وﻣﻮﺗﻲ ﻓﺴﻴﻠﺘﻘﻴﺎن ﻗﺒﻞ أن ﻳﺴﻔﺮ اﻟﺼﺒﺢ.
54
َر ْﺑﻊ َﻣ ﱠﻴﺔ
راﺋﻘﺎ ﻟﻠﻨﻔﻮس ﺣﻴﻨًﺎ وﺣﺎدٍّا
وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﻣﻮﻋﺪ ﻟﻠﻘﺎء …
وﻛﻠﻜﻢ ﻳﻌﺮف إﻻ َم ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻫﺬه املﻮاﻋﻴﺪ ﺣني ﺗﺘﺼﻞ ،وﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ ﻣﻮاﻋﻴﺪ ﺻﺎﺣﺒﻴﻨﺎ
إﱃ ﺣﺐ ﻫﺎﺋﺞ ﻣﻀﻄﺮم ﻟﻢ ﻳﺨﻔﻒ ﻣﻦ ﻟﻮﻋﺘﻪ إﻻ اﻟﺰواج ،ﻓﺼﻮﱢروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ إن ﻛﻨﺘﻢ ﰲ
ﺣﺎﺟﺔ إﱃ أن ﺗﺼﻮروا ﻟﻬﺎ ﻫﻴﺎم اﻟﻌﺎﺷﻘني أﺛﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﺼﻠﺖ وﻗﺘًﺎ ﻏري ﻗﺼري،
وﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ أﺛﺮ ﻫﺬا اﻟﻬﻴﺎم ﰲ ﺣﻴﺎة اﻟﻔﺘﻰ وﰲ ﻃﻠﺒﻪ ﻟﻠﻌﻠﻢ وإﻗﺒﺎﻟﻪ ﻋﲆ اﻟﺪرس،
وأﺛﺮه ﰲ أﴎة اﻟﻔﺘﻰ املﴫﻳﺔ ﰲ ﻗﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻗﺮى اﻟﺮﻳﻒ ،وأﺛﺮه ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻔﺘﺎة وﰲ
أﴎﺗﻬﺎ املﺤﺎﻓﻈﺔ ،ﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻗﺪروا أن اﻟﺤﺐ اﻟﺬي أﺛﺎرﺗﻪ ﻫﺬه اﻟﻠﻄﻤﺔ ﻗﺪ
ﻗﻬﺮ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﺗﻐﻠﺐ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺻﻌﺎب وﻋﻘﺎب واﻧﺘﻬﻰ إﱃ اﻟﺰواج ﻋﲆ رﻏﻢ اﻟﺪرس
اﻟﺬي أﻫﻤﻞ ،وﻋﲆ رﻏﻢ املﻘﺎوﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﻣﻦ اﻟﺮﻳﻒ املﴫي ،واملﻘﺎوﻣﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ
ﺟﺎءت ﻣﻦ اﻟﺮﻳﻒ اﻟﻔﺮﻧﴘ ،وﺻﻮروا ﻷﻧﻔﺴﻜﻢ ﻛﺬﻟﻚ أن ﻫﺬه اﻟﻠﻄﻤﺔ ﻗﺪ أذﻛﺖ اﻟﺤﴪة ﰲ
39
أﺣﺎدﻳﺚ
ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻮب وأﺷﺒﱠﺖ اﻟﻐﻴﻆ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻠﻮب ً
أﻳﻀﺎ :أذﻛﺖ اﻟﺤﴪة ﰲ ﻗﻠﻮب ﻓﺘﻴﺎت
ﻛﻦ ﻳﻔﻜﺮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺎب ،وأﺷﺒﱠﺖ اﻟﻐﻴﻆ ﰲ ﻗﻠﻮب ﺷﺒﺎب ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻜﺮون ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة،
وﻟﻜﻦ اﻟﺤﺐ ﺳﻴﻞ ﺟﺎرف ﻻ ﻳﻤﺮ ﺑﴚء إﻻ اﻛﺘﺴﺤﻪ اﻛﺘﺴﺎﺣً ﺎ ،ورﻳﺢ ﻋﺎﺻﻔﺔ ﻻ ﺗﺪع ﺷﻴﺌًﺎ
أﺗﺖ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻛﺎﻟﺮﻣﻴﻢ ،واﻟﺤﺐ ﻗﺎﻫﺮ ﺑﻄﺒﻌﻪ :ﻗﺎﻫﺮ ﻟﻠﻨﺎس وﻗﺎﻫﺮ ﻟﻸﺷﻴﺎء وﻗﺎﻫﺮ
ﻟﻸﺣﺪاث واﻟﺨﻄﻮب ً
أﻳﻀﺎ ،وﺣﺐ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻌﺎﺷﻘني ﻗﺪ ﻗﻬﺮ ﻛﻞ ﳾء وﻗﻬﺮ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن،
ووﻗﻒ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ذات ﺻﺒﺎح أﻣﺎم اﻟﻌﻤﺪة ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻮﻧﺒﻠﻴﻴﻪ ﻓﺄﻟﻘﻰ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﺳﺆاﻟني وﺳﻤﻊ
ً
ﻃﺮﻓﺎ ﻣﻦ أﻃﺮاف اﻟﻘﺎﻧﻮن املﺪﻧﻲ وأﻋﻠﻦ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ
ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺟﻮاﺑني ،وﺗﻼ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ
أﺻﺒﺤﺎ زوﺟني ،واﻧﺘﻬﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻄﻤﺔ إﱃ ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ اﻷوﱃ.
ُ
ﻓﻔﺘﺢ ﻟﻠﻌﺎﺷﻘني ﺑﺎب ﻣﻦ أﺑﻮاب اﻟﻨﻌﻴﻢ اﻟﺬي ﻟﻢ ﺗ َﺮ ﻣﺜﻠﻪ ﻋني وﻟﻢ ﺗﺴﻤﻊ ﺑﻪ أذن وﻟﻢ
ﻳﺨﻄﺮ ﻷﺣﺪ ﻋﲆ ﺑﺎل ،وﻛﺄﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻄﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻄﺮق ﻋﲆ اﻟﺒﺎب ﻟﻼﺳﺘﺌﺬان ﰲ
اﻟﺪﺧﻮل ،وﻛﺄﻧﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺐ ﻫﻮ اﻟﺬي اﺻﻄﻨﻊ ﻳﺪ اﻟﻔﺘﺎة ﻓﻄﺮق ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﻗﻠﺐ اﻟﻔﺘﻰ ﺑﺎﺑﻪ،
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎب ﻫﺬا اﻟﻘﻠﺐ ﻋني اﻟﻔﺘﻰ وﻻ أذﻧﻪ وﻻ ﻓﻤﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﺻﻔﺤﺔ وﺟﻬﻪ اﻟﺬي ﻟﻢ
ً
ﺟﻤﻴﻼ.
ﻳﻜﻦ راﺋﻌً ﺎ وﻻ
وﻗﺪ اﺳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ﺑﻬﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﺎ ﺷﺎء ﷲ أن ﻳﺴﺘﻤﺘﻌﺎ ﺑﻪ ،ذاﻗﺎ ﻟﺬاﺋﺬه ﰲ ﻓﺮﻧﺴﺎ
وﺗﻨﻘﻼ ﺑﻬﺎ ﺑني إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺳﻮﻳﴪا ،وﻋﱪا ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺤﺮ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ إﱃ ﻣﴫ واﺳﺘﻘﺮا ﺑﻬﺎ ﺣﻴﺚ
ﺗﻌﻠﻤﻮن ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ املﺪن املﴫﻳﺔ ﺳﻌﻴﺪﻳﻦ ﻣﻮﻓﻮرﻳﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﺎن ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ وﺟﻬﻬﺎ
اﻟﺒﺎﺳﻢ اﻟﺼﺒﻮح ،وﻟﻜﻦ وﺟﻪ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻴﺲ ﺑﺎﺳﻤً ﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻌﱰﻳﻪ اﻟﻌﺒﻮس ،وﻟﻴﺲ
ً
ﻣﴩﻗﺎ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻐﺸﺎه اﻟﻈﻼم أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﻗﺪ ﻳﺼﺪر ﻋﺒﻮس اﻟﺤﻴﺎة وإﻇﻼﻣﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﺎس
ﺣني ﻳﺄﺗﻮن ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺮ وﻳﺪﻋﻮن ﺑﻌﻀﻪ ،ﺣني ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻪ ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﴩ،
ً
ﺳﺒﻴﻼ إﱃ اﻟﺮﻳﺐ ،ﺣني ﻳﻌﻤﻠﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻣﺜريًا
وﺣني ﻳﺴﻜﺘﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﺳﻜﻮﺗﻬﻢ
ﻟﻠﺴﺨﻂ ،وﺣني ﻳﻜﺴﻠﻮن ﻓﻴﻜﻮن ﻛﺴﻠﻬﻢ وﺳﻴﻠﺔ إﱃ اﻻﺗﻬﺎم.
واﻟﻮاﻗﻊ أن ﺣﻴﺎة اﻟﺰوﺟني أﻇﻠﻤﺖ ذات ﻳﻮم ،ﻻ ﻷن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺎل ﺷﻴﺌًﺎ أو ﻋﻤﻞ ﺷﻴﺌًﺎ،
وﻟﻜﻦ ﻷن ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﺼﻔﻮ اﻟﺤﻠﻮ اﻟﱪيء أﺑﺖ أن ﺗﻨﻘﴤ دون أن ﺗﻌﻘﺐ ﻛﺪ ًرا
وﻣﺮارة وﺷ ٍّﻜﺎ.
ﻓﻘﺪ ﻓﺮغ اﻟﺰوﺟﺎن ذات ﻳﻮم ملﺠﻠﺲ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺠﺎﻟﺲ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻤﺮ ﻓﻴﻬﺎ
ﺣﺴﻦ إﻋﺪاده وﴍاب أ ُ ِ
اﻷﺻﺪﻗﺎء ﺑﻌﺪ اﻟﻐﺪاء أو ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﺣني ﻳﻔﺮﻏﻮن ﻣﻦ ﻃﻌﺎم أ ُ ِ
ﺣﺴﻦ
اﺧﺘﻴﺎره ،وﺣني ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻋﲆ اﻟﺤﺪﻳﺚ أﺣﻴﺎﻧًﺎ وﻋﲆ املﻮﺳﻴﻘﻰ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى وﻋﲆ اﻟﺮﻗﺺ
ﰲ أﺛﻨﺎء ذﻟﻚ ،وﻗﺪ أﺧﺬ اﻷﺻﺪﻗﺎء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﺑﺤﻈﻬﻢ ﻣﻦ ﻧﻌﻴﻢ اﻟﺤﻴﺎة وﺗﻔﺮﻗﻮا ،وﺧﻼ
40
ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺸﻴﻄﺎن
اﻟﺰوﺟﺎن وأﺧﺬا ﻳﺘﺤﺪﺛﺎن ﻋﻦ وﻟﻴﻤﺘﻬﻤﺎ وﻋﻤﺎ دار ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ،وﻋﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻣﻦ
ً
ﻣﺘﺤﻤﺴﺎ ﰲ اﺳﺘﻌﺮاض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻣﺮأﺗﻪ ﺗﺴﻤﻊ ﻟﻪ ﰲ ﻏري ﻧﺸﺎط
ﺳﻤﺮ ،وﻛﺎن اﻟﺰوج
أو ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻤﻊ ﻟﻪ ﺑﺈﺣﺪى أذﻧﻴﻬﺎ ﻻ ﺑﻬﻤﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ذاﻫﻠﺔ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺾ
ً
رﻓﻴﻘﺎ ﺑﻬﺎ ﻓﻠﻢ ﺗﺘﻨﺒﻪ ،وﻗﺪ ﻧﺒﻬﻬﺎ ﻣﺮة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻓﻠﻢ ﻳﻐﻦ ﻋﻨﻪ اﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ،
اﻟﺬﻫﻮل ،وﻗﺪ ﻧﺒﻬﻬﺎ
وإﻧﻤﺎ ﻣﴣ ﻫﻮ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ املﺘﺤﻤﺲ ،وﻣﻀﺖ ﻫﻲ ﰲ اﺳﺘﻤﺎﻋﻬﺎ اﻟﺬاﻫﻞ ﺣﺘﻰ راﺑﻪ ﻣﻦ أﻣﺮﻫﺎ
ﳾء.
وأﻳﴪ اﻟﺮﻳﺐ ﺑني اﻟﻌﺎﺷﻘني ﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺧﻄﺮ ،ﻓﻘﻠﻮﺑﻬﻢ ﺣﺴﺎﺳﺔ وﻧﻔﻮﺳﻬﻢ أﺷﺒﻪ
ً
ﺣﺮﻳﻘﺎ ﻣﻀﻄﺮﺑًﺎ ﻳﻤﻸ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻪ
ﳾء ﺑﺎﻟﺤﻄﺐ اﻟﺠﺬل ﻻ ﺗﻜﺎد ﺗﻤﺴﻪ اﻟﻨﺎر ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ
ﻟﻬﺒًﺎ ،وﻛﺄن ﻧﻔﺲ اﻟﻔﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﻣُﻌﺪﱠة ﻟﴚء ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻏريان ﻻ ﻳﻄﻴﻖ اﻟﺸﻚ وﻻ
ﻳﺤﺘﻤﻞ اﻟﺮﻳﺐ ،ﻓﻠ َﻢ ذﻫﻮل اﻣﺮأﺗﻪ ﻋﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ وإﻣﻌﺎﻧﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺬﻫﻮل؟! ﺿﺎﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺛﻢ
اﺷﺘﺪ ﺿﻴﻘﻬﺎ ﺛﻢ ﺛﺎرت ﺛﻢ ﺧﺮﺟﺖ ﻋﻦ ﻃﻮرﻫﺎ وإذا ﻫﻮ ﻳﻘﻮل أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ ،وإذا
ﻫﻲ ﺗﻈﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ ،وإذا أﻟﻔﺎظ ﻃﺎﺋﺸﺔ ﺗﻠﺘﻘﻲ ﺛﻢ ﺗﺼﻄﺪم ،وإذا ﻳﺪ اﻟﻔﺘﻰ
ﺗﻤﺘﺪ ﺛﻢ ﺗﻨﻘﺒﺾ ،وإذا اﻟﻠﻄﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻘﺎﻫﺎ ﰲ ﻣﻮﻧﺒﻠﻴﻴﻪ ﻓﻔﺘﺤﺖ ﺑﺎب اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻟﻠﻌﺎﺷﻘني ﻗﺪ
ُردﱠت إﱃ ﺻﺎﺣﺒﺘﻬﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ املﺪن املﴫﻳﺔ ﻓﻔﺘﺤﺖ ﺑﺎب اﻟﺠﺤﻴﻢ ﻟﻠﺒﺎﺋﺴني.
وﻣﺎ أﺣﺐ أن أﺻﻮر ﻟﻜﻢ ﻣﻦ أﻣﺮﻫﻤﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﻤﺎ أرﻳﺪ أن أﺧﺮج ﻣﻦ اﻹﺷﺎرة
إﱃ اﻟﺪﻻﻟﺔ ،وﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﻠﻤﻴﺢ إﱃ اﻟﺘﴫﻳﺢ ،وإﻧﻲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﻌﺮﻓﻮن ﻣﻦ إﻣﻌﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﺒﻐﺾ
ﺣني أﺑﻐﺾ ،ﻷﻛﺮه أن أﺗﻤﻨﻰ ﻷﺷﺪ اﻟﻨﺎس ﱄ ﻋﺪاءً أن ﻳﺼري إﱃ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺻﺎر إﻟﻴﻪ اﻟﻔﺘﻰ
وإﱃ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺻﺎرت إﻟﻴﻪ اﻟﻔﺘﺎة .أﻻ ﺗﺮون أن ﻫﺬا اﻟﴩ ﻛﻠﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن إﻻ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ
اﻟﺸﻴﻄﺎن؟ وﻫ ﱠﻢ اﻟﻘﻮم أن ﻳﺠﻌﻠﻮا ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻟﻠﺠﺪال ﻳﻌﻠﻠﻮن ﻓﻴﻪ وﻳُﺌَﻮﱢﻟﻮن،
وﻳﻨﻜﺮون ﻣﻨﻪ وﻳﻌﺮﻓﻮن ،وﻟﻜﻦ أﺣﺪﻫﻢ رﻓﻊ ﺻﻮﺗﻪ ﺣﺘﻰ اﺿﻄﺮﻫﻢ إﱃ اﻟﺼﻤﺖ وﻗﺎل ﰲ
ﺳﺨﺮﻳﺔ ﻻذﻋﺔ :ﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﺗﻔﺘﺢ اﻟﻠﻄﻤﺎت أﺑﻮاﺑًﺎ ﻟﻠﻨﻌﻴﻢ ﺛﻢ ﺗﻔﺘﺢ ﺑﻌﺪﻫﺎ أﺑﻮاﺑًﺎ ﻟﻠﺠﺤﻴﻢ! أﻟﻢ
ﺗﺴﻤﻌﻮا أن ﻟﻄﻤﺔ وﺛﺒﺖ ﺑﻔﻼن إﱃ ﻣﻜﺎن رﻓﻴﻊ ،وأن ﻟﻄﻤﺔ أﺧﺮى ﻗﺪ ﺗﻬﺒﻂ ﺑﻪ ﻗﻄﻌً ﺎ إﱃ
ﻣﻜﺎن ﺳﺤﻴﻖ؟!
ﻗﺎل ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ :أﻣﺎ وﻗﺪ أﺧﺬﺗﻢ ﺗﺨﻮﺿﻮن ﰲ ﺣﺪﻳﺚ اﻷﺷﺨﺎص ،وﺗﻠﻤﺤﻮن إﱃ
أﺣﺪاث اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﻓﻠﻴﺲ ﱄ ﺑﻴﻨﻜﻢ ﻣﻘﺎم ،واﻧﴫف وأﺻﺤﺎﺑﻪ ﻳﺪﻋﻮﻧﻪ إﱃ أن ﻳﻌﻮد وﻫﻢ
ﻳﻘﻮﻟﻮن :أﻗﺒﻞ ﻓﻘﺪ آﻣﻨﺎ ﺑﺄن ﻗﺼﺘﻚ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺸﻴﻄﺎن.
41
اﻟﻔﺄل
ﻛﺎن ﻣﻤﻌﻨًﺎ ﰲ اﻟﻘﺮاءة ﺣني ﺳﻤﻊ ﺻﻮﺗًﺎ ﻋﺬﺑًﺎ ﻳﺪﻋﻮه ،ﻓﻠﻤﺎ رﻓﻊ رأﺳﻪ رأى زوﺟﻪ ﻗﺎﺋﻤﺔ
أﻣﺎﻣﻪ وﻗﺪ أﴍﻗﺖ ﻣﻦ وﺟﻬﻬﺎ ﻛﻠﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺣﻠﻮة ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺨﻔﺮ وﻓﻴﻬﺎ ﳾء ﻣﻦ
ﺧﻮف ﺿﺌﻴﻞ وﳾء ﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ ً
أﻳﻀﺎ .ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻀﺤﻚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺎوم
ً
ﺿﻴﻔﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮك ،وﻫ ﱠﻢ أن ﻳﺴﺄﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻀﻴﻒ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ
اﻻرﺗﻴﺎع :إن ﰲ ﺣﺠﺮة اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل
أﺧﺬت ﻳﺪه ﰲ رﻓﻖ ،وأﻧﻬﻀﺘﻪ ﻓﺎﺳﺘﺠﺎب ﻟﻬﺎ ﻣﺪاﻋﺒًﺎ ﻣﺨﻔﻴًﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﺟﻞ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ أﺣﺐ
إﻟﻴﻪ ﻣﻦ أن ﻳﻤﴤ ﰲ ﻗﺮاءﺗﻪ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮض ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ
أﺛﻨﺎء اﻟﺼﺒﺎ.
ً
وﻗﺪ ﺳﻌﺖ ﺑﻪ زوﺟﻪ ﺳﻌﻴًﺎ رﻓﻴﻘﺎ إﱃ ﺣﺠﺮة اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل ،ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﺑﺎب اﻟﺤﺠﺮة ﻟﻢ ﻳﺠﺪ
أﺣﺪًا ،وإﻧﻤﺎ وﺟﺪ ﻫﺪﻫﺪًا ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﰲ ﻫﺪوء واﻃﻤﺌﻨﺎن ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺮاه ﺣﺘﻰ
أﻏﺮق وأﻏﺮﻗﺖ زوﺟﻪ ﻣﻌﻪ ﰲ ﺿﺤﻚ ﻣﺘﺼﻞ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﺮغ ﻣﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻼ اﻵﻳﺔ اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ:
َ
ﻄﺖ ِﺑﻤَ ﺎ َﻟ ْﻢ ﺗُﺤِ ْ
ري ﺑَﻌِ ﻴ ٍﺪ َﻓ َﻘﺎ َل أَﺣَ ُ
ِني﴾ ﺛﻢ داﻋﺐ ﺧﺪ
﴿ﻓﻤَ َﻜ َﺚ َﻏ ْ َ
ﻂ ِﺑ ِﻪ و َِﺟﺌْﺘُ َﻚ ِﻣﻦ َﺳﺒَ ٍﺈ ِﺑﻨَﺒَ ٍﺈ ﻳَﻘ ٍ
اﻣﺮأﺗﻪ وﻗﺎل ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮت ﺣﺎزم ﺟﺎزم :اﻧﺘﻈﺮي ﻧﺒﺄ ً ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻳﺒﻠﻐﻚ اﻟﻴﻮم أو ﻏﺪًا ،ﻓﻨﻈﺮت
إﻟﻴﻪ ﻛﺎﻟﺤﺎﺋﺮة املﺴﺘﻔﻬﻤﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺎل ﻟﻬﺎ ﰲ ﺻﻮﺗﻪ اﻟﺤﺎزم اﻟﺠﺎزم :ﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ أن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻻ
ﻳﻜﺬب وﻻ ﻳﺤﺐ اﻟﻜﺬب .ﺛﻢ ﻋﺎد إﱃ ﻛﺘﺎﺑﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ،واﻧﺘﻈﺮت ﻫﻲ أن ﻳﻨﴫف
اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻋﻦ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ،ﻓﻠﻤﺎ اﻧﴫف أﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ املﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺰف ،وإﻧﻤﺎ ﺟﻌﻠﺖ
أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﺗﺬﻫﺐ وﺗﺠﻲء ﰲ ﻏري اﻧﺘﻈﺎم ،ﻛﺎن ﻣﴩد اﻟﻨﻔﺲ أﻣﺎم اﻟﻜﺘﺎب ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﴩدة
اﻟﻨﻔﺲ أﻣﺎم اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ.
ﻛﺎن ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺻﺎﺣﺒﻪ وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻔﻜﺮان ﰲ ﳾء واﺣﺪ ،أو ﰲ أﺷﻴﺎء
ﻣﺆﺗﻠﻔﺔ ﻣﺘﻘﺎرﺑﺔ ،ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺰء ﻗﻴﻢ ﻣﻦ ﻧﺴﻴﺞ اﻟﺬﻛﺮى ﻫﺬا اﻟﺬي ﻳﻌﻤﺮ اﻟﻘﻠﻮب وﻳﻤﺘﻊ
اﻟﻌﻘﻮل ،وﻳﴤء ﰲ اﻟﻨﻔﻮس ﺣني ﺗﻈﻠﻢ اﻷﺣﺪاث وﺗﺪ َﻟ ِﻬ ﱡﻢ اﻟﺨﻄﻮب ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﻠﻬﺪﻫﺪ أﺛﺮ
أﺣﺎدﻳﺚ
ﻋﻈﻴﻢ اﻟﺨﻄﺮ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻤﺎ اﻷوﱃ ،ﻛﺎن رﺳﻮل اﻟ ْ
ِﺒﴩ واﻟﻐﺒﻄﺔ واﻟﺤﺒﻮر إﱃ أﺑﻨﺎﺋﻬﻤﺎ ﺣني
ً
أﻃﻔﺎﻻ ﻻ ﻳﻜﺎدون ﻳﻌﻘﻠﻮن ،ﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ أﻣﻬﻢ أن
ﻛﺎﻧﻮا
ﺗﻤﺘﻌﻬﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻃﺮﻓﺔ ،وﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ أﺑﻮﻫﻢ أن ﻳﴪﻫﻢ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻫﺪﻳﺔ ،وﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻳﺴﺘﺨﻔﻲ
ﺑﻄﺮﻓﻪ وﻫﺪاﻳﺎه ﻳﻨﺜﺮﻫﺎ ﰲ ﺣﺠﺮات اﻟﺒﻴﺖ وﻏﺮﻓﺎﺗﻪ ﻧﺜ ًﺮا ،وﻳﻨﴩﻫﺎ ﰲ أﺑﻬﺎء اﻟﺪار ودﻫﺎﻟﻴﺰﻫﺎ
ﻧﴩً ا ،ورﺑﻤﺎ أﺧﻔﺎﻫﺎ إﺧﻔﺎءً ﰲ أﻋﺸﺎب اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ وﺑني أﺷﺠﺎرﻫﺎ وﻧﺠﻮﻣﻬﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻋﻠﻘﻬﺎ ﰲ
اﻷﻏﺼﺎن أو ﺗﺮﻛﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺎت اﻟﻨﻮاﻓﺬ.
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻤﴤ ﻳﻮم ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺼﺎﻳﺢ اﻷﻃﻔﺎل ﰲ اﻟﺼﺒﺎح أو ﰲ املﺴﺎء ﺑﺄن اﻟﻬﺪﻫﺪ
ﻗﺪ زار اﻟﺪار وﺗﺮك ﻓﻴﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎن اﻷﻃﻔﺎل ﻳﺤﺒﻮن اﻟﻬﺪﻫﺪ أﺷﺪ اﻟﺤﺐ ،وﻳﻮدون ﻟﻮ
اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا أن ﻳﺆﻧﺴﻮه وﻳﺤﺪﺛﻮه وﻳﺴﻤﻌﻮا ﻣﻨﻪ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮوﻧﻪ ﻗﺪ وﻗﻒ ﻣﻨﻬﻢ ﻏري
ﺑﻌﻴﺪ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن أو ذاك ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ،ﻓﺈذا دﻋﻮه ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻬﻢ ﻛﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﻤﻊ ﻣﻨﻬﻢ،
وإذا ﺳﻌﻮا إﻟﻴﻪ ارﺗﻔﻊ ﰲ اﻟﺠﻮ ارﺗﻔﺎﻋً ﺎ ﻳﺴريًا ،ﺛﻢ اﻧﴫف ﻋﻨﻬﻢ دون أن ﻳُﻮﺋ َِﺴﻬﻢ ﻣﻦ
ﻣﻨﻈﺮه ،ودون أن ﻳﺒﺨﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺼﻮﺗﻪ ﻫﺬا اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺪي ،وﻛﺎن اﻷﻃﻔﺎل
ﻳﺴﺄﻟﻮن أﻣﻬﻢ ﺣﻴﻨًﺎ وأﺑﺎﻫﻢ ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ :ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻬﻢ ﻻ ﻳﺮون اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣني ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ُ
ﻃ َﺮﻓﻪ
ً
ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ ﻋﻨﻬﻢ؟ ﻓﻜﺎﻧﺖ أﻣﻬﻢ
ﻓﺎرﻏﺎ ﺧﺎﻟﻴًﺎ إﱃ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻧﺎﻓ ًﺮا ﻣﻨﻬﻢ
وﺗﺤﻔﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺮوﻧﻪ داﺋﻤً ﺎ
ﺗﺠﻴﺒﻬﻢ ،وﻛﺎن أﺑﻮﻫﻢ ﻳﺠﻴﺒﻬﻢ ً
أﻳﻀﺎ ،ﺑﺄن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣَ ﺬِر َﻟ ِﺒﻖ ﻇﺮﻳﻒ ﻳﺤﺐ املﺪاﻋﺒﺔ ،وﻳﺆﺛﺮ
أن ﻳﻔﺠﺄ أﺻﺪﻗﺎءه ﺑﻤﺎ ﻳﱰك ﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ،وﻗﺪ ﺷﺐ اﻷﻃﻔﺎل وﻋﻘﻠﻮا واﺳﺘﺒﺎﻧﻮا اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ
ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻬﺪاﻳﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﺧﺎدﻋﻮا أﺑﻮﻳﻬﻢ ﺣﻴﻨًﺎ
وﺧﻴﻠﻮا إﻟﻴﻬﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺼﺪﻗﻮن ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺎن ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﺛﻢ ﺧﺎدﻋﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ
ﺣﻴﻨًﺎ آﺧﺮ وأرادوا أن ﻳﺼﺪﻗﻮا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳ َُﻘ ﱡ
ﺺ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﺠﺪوا ﺑُﺪٍّا
ﻣﻦ اﻹذﻋﺎن ﻟﺤﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ واﻻﻧﺤﺮاف ﻋﻦ ﻗﺼﺔ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﻓﺠﻌﻠﻮا ﻳﺘﻨﺪرون ﺑﻬﺎ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ
اﻟﺤﻨﺎن ﺳﺎﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ وﻣﺪاﻋﺒني ﻷﺑﻮﻳﻬﻢ ،ﺛﻢ ُﴏﻓﻮا إﱃ ﺷﺌﻮن اﻟﺼﺒﺎ واﻟﺸﺒﺎب ﻋﻦ
ﺷﺌﻮن اﻟﻄﻔﻮﻟﺔُ ،
وﺷﻐِ ﻠﻮا ﺑﺎﻟﺪرس واﻟﺘﺤﺼﻴﻞ ﻋﻦ ﻫﺪاﻳﺎ اﻟﻬﺪﻫﺪ و ُ
ﻃ َﺮﻓﻪ.
ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻳﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ دون أن ﻳﺮى
ﻣﻤﺎ ُﻛﺘِﺐ ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ زوﺟﻪ ﺗﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬا ﻛﻠﻪ وﻫﻲ ﺗﺠﺮي أﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ
دون أن ﺗﺴﺘﺨﺮج ﻣﻨﻪ ﻟﺤﻨًﺎ ﻣﺴﺘﻘﻴﻤً ﺎ ،ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻠﺒﺚ أن ﺣﺰﻣﺖ أﻣﺮﻫﺎ ،وأﻗﺒﻠﺖ ﻋﲆ
ً
اﻧﻐﻤﺎﺳﺎ ،أﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﻠﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﺤﺰم أﻣﺮه وﻻ أن ﻳﻌﻮد إﱃ
ﻣﻮﺳﻴﻘﺎﻫﺎ ،ﻓﺎﻧﻐﻤﺴﺖ ﻓﻴﻬﺎ
ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ،ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﺮغ ﻣﻦ اﺳﺘﻌﺮاض ﻃﻔﻮﻟﺔ أﺑﻨﺎﺋﻪ ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻌﺮض ﻃﻔﻮﻟﺔ
ﻧﻔﺴﻪ.
44
اﻟﻔﺄل
ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺑﻌﻴﺪة ﺟﺪٍّا أﺑﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني زوﺟﻪ
وﺑﻨﻴﻪ .ﻛﺎن ﻳﻌﺮف اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﻨﺬ ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ اﻷوﱃ ،ﻳﺮاه ﻓﻴﻌﺠﺐ ﺑﺸﻜﻠﻪ ،وﻳﺴﻤﻌﻪ ﻓﻴﺤﻦ إﱃ
ً
رﻓﻴﻘﺎ ،وﻣﺎ زال ﻳﻠﺢ ﺑﻬﺬا
ﺻﻮﺗﻪ ،وﻳﺘﻤﻨﻰ أن ﻳﺘﺎح ﻟﻪ ﻫﺪﻫﺪ ﻳﻤﺴﻜﻪ ﰲ اﻟﺪار وﻳﺘﺨﺬه ﻟﻪ
اﻟﺘﻤﻨﻲ ﻋﲆ أﺑﻴﻪ وإﺧﻮﺗﻪ وذوي ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺣﺘﻰ رﻓﻖ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ أﻫﻞ اﻟﻘﺮﻳﺔ ﻓﺠﺎءه ذات
ﺻﺒﺎح ﺑﻘﻔﺺ ﻇﺮﻳﻒ ﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﺪﻫﺪ ﻇﺮﻳﻒ ،وﻫﻮ ﻳﺬﻛﺮ اﺑﺘﻬﺎﺟﻪ ﺑﻬﺬه اﻟﺘﺤﻔﺔ
وإﴎاﻋﻪ إﱃ أﻣﻪ راﺿﻴًﺎ ﻣﴪو ًرا ،ﻳﺨﺮﺟﻪ اﻟﺮﺿﺎ واﻟﴪور ﻋﻦ ﻃﻮره ،وﻫﻮ ﻳﺬﻛﺮ ﻛﻴﻒ
ﻋﴪا،
اﺑﺘﺴﻤﺖ ﻟﻪ أﻣﻪ ﰲ رﻓﻖ وﻛﻴﻒ ﺗﻘﺪﻣﺖ إﻟﻴﻪ ﰲ أﻻ ﻳﻌﺬب اﻟﻬﺪﻫﺪ وﻻ ﻳﺮﻫﻘﻪ ﻣﻦ أﻣﺮه ً
وﻛﻴﻒ ﻧﻬﻀﺖ ﻓﺄﺧﺬت ﻣﻨﻪ اﻟﻘﻔﺺ وﻋﻠﻘﺘﻪ إﱃ ﺟﺪار ﻣﻦ ﺟﺪران اﻟﺪار ،ووﺿﻌﺖ ﻓﻴﻪ
إﻧﺎءﻳﻦ ﺻﻐريﻳﻦ ﰲ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﺎء وﰲ اﻵﺧﺮ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺣﺐ ،وﻃﺮﺣﺖ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ
اﻟﺠﺪار وﺳﺎدة ،وﻗﺎﻟﺖ ﻻﺑﻨﻬﺎ وﻫﻲ ﺗﻤﺴﺢ ﻋﲆ رأﺳﻪ :ﻫﺬا ﻣﻜﺎﻧﻚ ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﻚ اﻟﻬﺪﻫﺪ،
ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺄوي إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎ أﺣﺒﺒﺖ أن ﺗﺮاه أو ﺗﺴﻤﻊ ﻣﻨﻪ .وﻗﺪ وﰱ اﻟﺼﺒﻲ ﻟﻬﺪﻫﺪه أﻳﺎﻣً ﺎ
ً
ﻃﻮاﻻ ﻓﻜﺎن ﻳﴪع إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎ ﻋﺎد ﻣﻦ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب وﺳﻂ اﻟﻨﻬﺎر وآﺧﺮه ﻓﻴﺘﺤﺪث إﻟﻴﻪ ،وﻳﺴﻤﻊ
ﻣﻨﻪ ،وﻳﻄﻴﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ واﻻﺳﺘﻤﺎع.
وﻟﻜﻦ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي أﻫﺪى إﻟﻴﻪ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻦ اﻟﻔﻬﻢ ﻋﻨﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻫﻮ
ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻦ اﻟﻔﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﻘﺪ أﻗﺒﻞ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻀﺤﻰ ذات ﻳﻮم وأﻫﺪى إﻟﻴﻪ
ً
ﻟﻄﻴﻔﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻗﺺ ﻣﻦ ﺟﻨﺎﺣﻴﻪ ،وﻓﺮح اﻟﺼﺒﻲ ﺑﺼﻘﺮه ذاك اﻟﺠﻤﻴﻞُ ،
وﺧﻴﱢﻞ
ﺻﻘ ًﺮا ﺻﻐريًا
إﻟﻴﻪ ﺑﻞ أُﻟﻘِ ﻲ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻫﺬا اﻟﺼﻘﺮ ﺳﻴﺆﻧﺲ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﰲ وﺣﺪﺗﻪ ،وﺳﻴﻜﻮن رﻓﻴﻘﻪ ﺣني
ﻳﺸﻐﻞ ﻫﻮ ﺑﻬﺬا اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب اﻟﺒﻐﻴﺾ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ أول اﻟﻨﻬﺎر وﻳﻌﻮد ﻣﻨﻪ ﻟﺤﻈﺔ ﻟﻠﻐﺪاء
ﺛﻢ ﻳﺮﺟﻊ إﻟﻴﻪ ﻣﴪﻋً ﺎ وﻻ ﻳﻌﻮد إﱃ ﺻﺪﻳﻘﻪ اﻟﻬﺪﻫﺪ إﻻ آﺧﺮ اﻟﻨﻬﺎر .وﻛﺎن اﻟﺼﺒﻲ ﻳﺸﻔﻖ
ﻋﲆ ﻫﺪﻫﺪه ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة املﺘﺼﻠﺔ ،ﻓﺄي ﻏﺮاﺑﺔ ﰲ أن ﻳﺴﻌﺪ ﺑﻬﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي
ﺳﻴﺴﲇ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﺎ ﺑَﻌُ ﺪ ﻋﻨﻪ ﺻﺎﺣﺒﻪ ،ﻓﺈذا ﻋﺎد ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺪث إﱃ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﺣﺪه وإﻧﻤﺎ ﺗﺤﺪث
إﻟﻴﻪ وإﱃ اﻟﺼﻘﺮ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ أن ﻳﺪﺧﻞ اﻟﺼﻘﺮ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﰲ ﻗﻔﺼﻪ وﻳﻨﴫف
ﻟﺒﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﻨﴫف إﻟﻴﻪ اﻟﺼﺒﻴﺔ ﺛﻢ ﻳﻌﻮد ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية أو ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓريى ،وﻳﺎ ﻫﻮل
ﻣﺎ ﻳﺮى! ﻳﺮى اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻣﻴﺘًﺎ ﻗﺪ ﻧﻘﺮ اﻟﺼﻘﺮ رأﺳﻪ واﺳﺘﺨﺮج ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ،إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف أن
اﻟﻄري ﻳﻌﺪو ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ.
وﻳﺮى أﻣﻪ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﺗﻠﻮﻣﻪ وﺗﻌﻨﻒ ﺑﻪ ﰲ اﻟﻠﻮم ،وﺗﺮﺳﻞ إﱃ ذﻟﻚ اﻟﻔﻼح اﻟﺬي أﻫﺪى إﻟﻴﻪ
اﻟﺼﻘﺮ ﺷﺘﻤً ﺎ ﻗﺒﻴﺤً ﺎ ،وﻗﺪ أﺧﺬ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ دون أن ﻳﺮى
ﻣﺎ ُﻛﺘِﺐ ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴﺘﻌﺮض ﻫﺬه اﻟﺬﻛﺮى ،وﻳﺴﺘﻌﺮض ﺣﺰﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﺣﺒﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ
45
أﺣﺎدﻳﺚ
ﺑﻌﻴﺪ ﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻜﺎرﺛﺔ واﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﺄن اﻟﺨري ﻟﻪ وﻟﻠﻬﺪﻫﺪ ﰲ أن ﻳﱰاءﻳﺎ وﻳﺘﺤﺪﺛﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ،
ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻌﺮاض إﱃ ﻣﺎ ﻋﺮف ﻣﻦ أﻣﺮ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺣني ﺣﻔﻆ اﻟﻘﺮآن واﺳﺘﻈﻬﺮ
ﺳﻮرة اﻟﻨﻤﻞ وﻋﺮف ﻗﺼﺔ ﺳﻠﻴﻤﺎن وﻣﻠﻜﺔ ﺳﺒﺄ .ﻛﻞ ذﻟﻚ ﺟﻌﻞ ﻳﺴﺘﻌﺮﺿﻪ وﻫﻮ ﻳﻨﻈﺮ ﰲ
ﻛﺘﺎﺑﻪ دون أن ﻳﺮى ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ،وﻗﺪ اﺳﺘﻘﺮ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻟﺰﻳﺎرة اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻟﺪاره ﺷﺄﻧًﺎ ،وأﻧﻪ ﻗﺪ
ﺟﺎء ﺑﺎﻟﻨﺒﺄ اﻟﻴﻘني ،وأن اﻟﻨﻬﺎر ﻟﻦ ﻳﻨﻘﴤ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻐﻪ أﻣﺮ ذو ﺑﺎل .واﻟﻐﺮﻳﺐ اﻟﺬي ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ
أن ﺗﺼﺪﻗﻪ أو ﺗﻜﺬﺑﻪ — ﻓﻠﻦ ﻳﻐري ﺗﺼﺪﻳﻘﻚ وﻻ ﺗﻜﺬﻳﺒﻚ ﻣﻦ اﻟﺤﻖ ﺷﻴﺌًﺎ — ﻫﻮ أن اﻟﻨﻬﺎر
ﻳﻨﻘﺾ دون أن ﻳﺄﺗﻴﻪ اﻟﻨﺒﺄ اﻟﻌﻈﻴﻢ.
ﻟﻢ
ِ
ﱠ
ً
واﻟﺤﻖ أن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻗﺪ ﻋﺎد ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﻃﻔﻼ ﻓﻌﻠﻖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ
ﺑﺎﻟﺘﻠﻔﻮن ،وﻋ ﱠﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ اﻷﺧﺮى ﺑﺎﻟﺠﺮس ،وﻋ ﱠﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺛﺎﻟﺜﺔ ﻣﻦ
ﻧﻮاﺣﻴﻬﺎ ﺑﺴﺎﻋﻲ اﻟﱪﻳﺪ ،وﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻘﻮل إﻧﻪ ﺟﻠﺲ ﰲ ﻣﻜﺘﺒﻪ واﺟﻤً ﺎ وﺧﺼﺺ إﺣﺪى
أذﻧﻴﻪ ﻟﻠﺘﻠﻔﻮن وإﺣﺪاﻫﻤﺎ اﻷﺧﺮى ﻟﻠﺠﺮس ،وﻣﺪ ﻋﻴﻨﻴﻪ أﻣﺎﻣﻪ إﱃ اﻟﻨﺎﻓﺬة ﻳﺮﻗﺐ ﻣﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن
ﻳﺼﻌﺪ ﺳﻠﻢ اﻟﺪار ﻣﻦ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ،وﻗﺪ ﻃﺎل ﺑﻪ ذﻟﻚ وﺷﻖ ﻋﻠﻴﻪ ،ﺛﻢ أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﺌﻮن اﻟﺤﻴﺎة
ً
ﴏﻓﺎ ﻇﺎﻫ ًﺮا ،وﻟﻜﻦ ﻗﻠﺒﻪ ﻇﻞ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻨﻬﺎر ﻳﻨﺘﻈﺮ ﺷﻴﺌًﺎ
اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻓﴫﻓﺘﻪ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﺨﻒ
ً
ﻏﺎﻣﻀﺎ ،وﻗﺪ دﻋﺎه اﻟﺘﻠﻔﻮن ﺣني أﻗﺒﻞ اﻷﺻﻴﻞ ،ﻓﻠﻤﺎ اﺳﺘﻤﻊ إﱃ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ وأﺟﺎب ﺑﻜﻠﻤﺎت
ﻗﺼﺎر أﴎع إﱃ زوﺟﻪ ﻳﻘﺒﱢﻠﻬﺎ وﻳﻘﻮل ﻣﺴﺘﺒﴩً ا :أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ إن اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺪ ﺟﺎء ﺑﺎﻟﻨﺒﺄ
اﻟﻴﻘني؟ ﻗﺎﻟﺖ زوﺟﻪ :وﻣﺎ ذاك؟ ﻗﺎل :اﺳﺘﻘﺎﻟﺖ اﻟﻮزارة ودُﻋﻴﺖ إﱃ اﻻﺷﱰاك ﰲ اﻟﺤﻜﻢ.
وﻟﻢ ﺗﴩق اﻟﺸﻤﺲ ﻣﻦ ﻏﺪ ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ وزﻳ ًﺮا ،وﻟﻢ ﻳﺮﺗﻔﻊ اﻟﻀﺤﻰ ﻣﻦ اﻟﻴﻮم
ﻧﻔﺴﻪ ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻻ ﻳﺨﺎف ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺨﺎف اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻻ ﻳﺒﻐﺾ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﻐﺾ
اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻳﺄﻧﺲ إﱃ ﳾء ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺄﻧﺲ إﱃ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺲ
ﻳﺤﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺐ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وﻟﻜﻦ ﺻﺪق اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺪ أﻗ ﱠﺮ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ً
أﻳﻀﺎ أن اﻟﻬﺪﻫﺪ
ﻳﴪ أو ﻳﺮوق؛ ﻓﻤﻦ ﻳﺪري إن أﻗﺒﻞ اﻟﻬﺪﻫﺪ إﻟﻴﻪ
ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺑﻌﺪ اﻟﻮزارة ﺑﻨﺒﺄ ﱡ
ً
ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻟﻪ وﺣﺪه ﻣﻦ دون اﻟﻨﺎس ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ
ﻳﺤﻤﻞ ﻧﺒﺄ اﺳﺘﻘﺎﻟﺔ اﻟﻮزارة؟ وﻟﻴﺲ اﻟﻬﺪﻫﺪ
وﺣﺪه اﻷﻧﺒﺎء اﻟﺴﺎرة ،ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻬﺪﻫﺪ أﺻﺪﻗﺎء آﺧﺮون ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ أﻧﺒﺎء ﺳﺎرة
ﺻﺎدﻗﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻧﺒﺎء ﻧﺒﺄ اﺳﺘﻘﺎﻟﺔ اﻟﻮزارة واﻟﺪﻋﻮة إﱃ اﻻﺷﱰاك ﰲ
اﻟﺤﻜﻢ.
ً
ً
ﺳﺨﻴﻔﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ أؤﻛﺪ
ﻣﻨﻄﻘﺎ
ﻗﻞ إن ﻫﺬا ﻣﻨﻄﻖ ﺳﺨﻴﻒ ،وأؤﻛﺪ ﻟﻚ أﻧﻲ أرى ﻫﺬا
ً
ﻟﻚ ً
ﻣﻨﻄﻘﺎ ﻏري ﻣﻨﻄﻖ اﻟﻨﺎس ،وإن اﻟﺘﻔﺎؤل واﻟﺘﺸﺎؤم ﻳﻌﺒﺜﺎن ﺑﻌﻘﻮل
أﻳﻀﺎ أن ﻟﻠﺤﻮادث
اﻟﻨﺎس ،ﻓﻴﻔﺴﺪان ﻣﻨﻄﻘﻬﻢ ﰲ رأي أرﺳﻄﺎﻃﻠﻴﺲ وﰲ رأي اﻷﺳﺘﺎذ ﻟﻄﻔﻲ اﻟﺴﻴﺪ ،وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ
46
اﻟﻔﺄل
ﻳﻘﺮﺑﺎن ﺑني ﻫﺬا املﻨﻄﻖ وﺑني ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺤﻮادث أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،واﻟﴚء اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺷﻚ ﻫﻮ
ً
أن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻗﺪ ﱠ
ﺗﻔﺎؤﻻ ﺷﺪﻳﺪًا،
ﺗﻄري ﺑﺎﻟﻬﺪﻫﺪ ﻃرية ﺷﺪﻳﺪة ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻔﺎءل ﺑﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ
وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴ َﻊ ﻗﻂ إﱃ ﻏﺮﻓﺔ اﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻪ إﻻ وﰲ ﻧﻔﺴﻪ إﺷﻔﺎق ﺷﺪﻳﺪ أن ﻳﺮى اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻗﺎﺋﻤً ﺎ
ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ذاك ،وﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع ﻟﺘﻘﺪم إﱃ أﻫﻠﻪ ﰲ أن ﺗﻐﻠﻖ ﻧﻮاﻓﺬ اﻟﺪار ﻣﺎ أﴍق
اﻟﻨﻬﺎر ،وﰲ أﻻ ﺗﻔﺘﺢ إﻻ ﺣني ﺗﻨﺎم اﻟﻄري ،واﻟﴚء اﻟﺬي ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ ً
أﻳﻀﺎ ﻫﻮ أن اﺳﺘﺤﻰ
أن ﻳﺘﻘﺪم ﰲ ذﻟﻚ إﱃ أﻫﻠﻪ ﻣﺨﺎﻓﺔ أن ﻳﻈﻨﻮا ﺑﻪ اﻟﻈﻨﻮن ،وﻟﻜﻨﻪ ﺗﻘﺪم إﱃ أﻋﻮاﻧﻪ ﰲ اﻟﻮزارة
أﻻ ﺗُﻔﺘَﺢ ﻧﻮاﻓﺬ ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وزﻋﻢ ﻟﻬﻢ أﻧﻪ ﻳﻜﺮه أن ﻳﺄﺗﻴﻪ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻀﺠﻴﺞ واﻟﻌﺠﻴﺞ وﻳﺸﻔﻖ ﻣﻦ
ﺗﻴﺎرات اﻟﻬﻮاء وﻳﺆﺛﺮ اﻟﻀﻮء اﻟﺮﻓﻴﻖ ﻋﲆ اﻟﻀﻮء اﻟﻌﻨﻴﻒ.
وﺣﻴﺎة اﻟﻮزراء ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺨﻄﻮب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وأﺣﺪاﺛﻬﺎ ،ﻓﻬﻢ ﻳﺮﺿﻮن إذا أﺻﺒﺤﻮا،
وﻳﻐﻀﺒﻮن إذا ارﺗﻔﻊ اﻟﻀﺤﻰ ،وﻳﻌﻮدون إﱃ اﻟﺮﺿﺎ ﺣني ﻳﻨﺘﺼﻒ اﻟﻨﻬﺎر ،وﻳﺮدون إﱃ
اﻟﺴﺨﻂ ﺣني ﻳﺠﻠﺴﻮن إﱃ اﻟﻐﺪاء ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎت اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر ﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﰲ
دﻗﺎﺋﻘﻬﺎ أﻟﻮاﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﺿﺎ واﻟﺴﺨﻂ ،وﻣﻦ اﻷﻣﻦ واﻟﺨﻮف ،وﻣﻦ اﻟﻘﻠﻖ واﻟﻬﺪوء ،ﻓﻜﺎن
ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﺣﺪث ﺣﺎدث ﻣﻐﻀﺐ أو ﻣﻘﻠﻖ وﻛﻠﻤﺎ ﻧﴩ ﺧﱪ ﻣﺴﺨﻂ أو ﻣﺜري ﻟﻠﺨﻮف ﻟﻢ
ﻳﺬﻛﺮ إﻻ اﻟﻬﺪﻫﺪ وﻟﻢ ﻳﺮ أﻣﺎﻣﻪ إﻻ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻬﺪﻫﺪ رﺳﻮل اﻟﻨﻌﻤﺔ إﻟﻴﻪ ﻗﺒﻞ أن
ﻳﺮﻗﻰ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ ،ﻓﺄﺻﺒﺢ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﻧﺬﻳﺮ اﻟﻨﻘﻤﺔ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺪ أن ارﺗﻘﻰ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ.
وﻟﻜﻞ أﺟﻞ ﻛﺘﺎب ،وﻟﻜﻞ وزارة آﺧﺮ ،وﻗﺪ أﻗﺒﻞ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻀﺤﻰ ذات ﻳﻮم ﻋﲆ
ﻣﻜﺘﺒﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺪﺧﻞ ﺣﺘﻰ رأى ﺣﺒﻴﺒﻪ أﻣﺲ وﻋﺪوه اﻟﻴﻮم ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﺑﺸﻜﻠﻪ اﻟﺠﻤﻴﻞ
اﻟﺒﺸﻊ ﻋﲆ ﺣﺎﻓﺔ اﻟﻨﺎﻓﺬة وﻗﺪ ﻧﴘ اﻟﺨﺪم إﻏﻼﻗﻬﺎ ﻷﻣﺮ ﻣﺎ ،وﻟﺴﺖ أﺻﻒ ﻟﻚ ﺛﻮرة اﻟﻮزﻳﺮ
اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻓﻘﺪ ﺗﻌﺮﻓﻬﺎ وﻫﻲ ﻻ ﺗﻌﻨﻴﻨﻲ ،وإن ﻛﺎن ﺧﺎدم ﻣﻜﺘﺒﻪ ﻗﺪ ﺳﻤﻊ ﻣﺎ ﻻ ﻳ ِ
ُﺮﴈ
وﻗﴣ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻨﻜﺮة ،وإﻧﻤﺎ أﺻﻒ ﻟﻚ ﺗﺸﺎؤم اﻟﻮزﻳﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻓﻘﺪ أﻇﻠﻢ
ﻗﻠﺒﻪ وارﺑﺪﱠت ﻧﻔﺴﻪ وﺳﺎء ﺧﻠﻘﻪ َ
وﻗﺒُﺢ ﻟﻘﺎؤه ﻟﻠﻤﻮﻇﻔني واﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻋﺎد إﱃ أﻫﻠﻪ
ﻏﻀﺒﺎن ِ
أﺳ ًﻔﺎ ﻻ ﻳﻜﺎد ﻳﻨﻄﻖ ،وﺟﻠﺲ إﱃ اﻟﻐﺪاء ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺼﻴﺐ ﻣﻨﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻟﺖ
زوﺟﻪ :إﻧﻚ ملﺤﺰون ﻣﻨﺬ اﻟﻴﻮم ،ﻫﻞ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ؟ ﻗﺎل وﻫﻮ ﻳﺘﻜﻠﻒ اﻻﺑﺘﺴﺎم :ﻣﺎ أدري وﻟﻜﻦ
ً
ﺑﻐﻴﻀﺎ
رأﻳﺖ اﻟﻬﺪﻫﺪ اﻟﺒﻐﻴﺾ .ﻗﺎﻟﺖ وﻗﺪ ﻛﺎدت اﻟﻌﱪة ﺗﺨﻨﻖ ﺻﻮﺗﻬﺎ :ﻟﻘﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﻬﺪﻫﺪ
اﻵن وﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻤﻸ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻏﺒﻄﺔ وﴎو ًرا! ﺛﻢ ﺧﻠﺖ إﱃ أﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻓﻀﺤﻜﺖ وﺿﺤﻜﻮا.
وﻟﻜﻦ املﺴﺎء ﻟﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم ﺣﺘﻰ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ﻳﺴﺘﺄﻧﻒ اﻟﻘﺮاءة ﰲ ﻛﺘﺎب
ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺟﻮرﻛﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻛﻬﺎ ،وﺣﺘﻰ ﻛﺎﻧﺖ زوﺟﻪ ﺗﻌﺰف ﻋﲆ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ أﻟﺤﺎن
ﻣﻮزار ،أﻣﺎ ﻫﻮ ﻓﻜﺎن ﻣﺤﺰوﻧًﺎ ﻳﻠﻌﻦ اﻟﻬﺪﻫﺪ ،وأﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﻜﺎﻧﺖ راﺿﻴﺔ ﺗﺜﻨﻲ ﻋﲆ اﻟﻬﺪﻫﺪ ﺛﻨﺎءً
ً
ﺗﻤﺰﻳﻘﺎ.
ﻛﺜريًا ،وأﻣﺎ اﻟﻨﺎس ﻓﻜﺎن ﻣﻨﻬﻢ اﻟﺮاﴈ املﺴﺘﺒﴩ وﻛﺎن ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺰق اﻟﻐﻴﻆ ﻗﻠﺒﻪ
47
ﻳﺄس
ً
ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺮﻓﻊ ﻗﺪح اﻟﺸﺎي إﱃ ﻓﻤﻪ ﺣﺘﻰ رده إﱃ املﺎﺋﺪة
ﻣﺘﻌﺠﻼ ﺣﺬ ًرا ،ﻓﻘﺪ أﺣﺲ رﻋﺪة
ﺧﻔﻴﻔﺔ ﺗﺼﻌﺪ ﰲ ﺟﺴﻤﻪ وﺗﻨﺘﴩ وﺗﻮﺷﻚ أن ﺗﺒﻠﻎ ذراﻋﻪ ،ﻓﺘﻀﻄﺮب ﻳﺪه ﺑﻬﺬا اﻟﻘﺪح
املﻤﺘﻠﺊ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﻓﻌﻪ ،وﻳُﺤﺪِث ﻫﺬا اﻻﺿﻄﺮاب — وإن ﱠ
ﺧﻒ — ﺣﺪﺛًﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه املﺎﺋﺪة
اﻷﻧﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻔﺴﺪ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ ﻗﺪح ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﻳﻤني أو إﱃ ﺷﻤﺎل وﻳﺘﺨﻔﻒ ﻣﻦ
ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﻮﻳﻪ ،وﻟﻢ ﻳﺴﺄل ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﻣﺼﺪر ﻫﺬه اﻟﺮﻋﺪة اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﺗﺴﻌﻰ ﰲ ﺟﺴﻤﻪ
ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ اﻟﻨﻤﻞ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن وﻗﺘﻪ أﺿﻴﻖ ﻣﻦ اﻟﺴﺆال واﻟﺠﻮاب وﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء،
وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻮ ﻋﺎ ًملﺎ ﰲ دﺧﻴﻠﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻤﺼﺪر ﻫﺬه اﻟﺮﻋﺪة ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﺮض
ﻟﻪ إﻻ إذا أﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ رﺑﺔ اﻟﺪار ﻋﺎﻣﺪة إﻟﻴﻪ ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺨﺘﺼﻪ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻣﻦ
أﺟﻞ ﻫﺬا ﺗﻌﺠﻞ وﺿﻊ اﻟﻘﺪح ﻋﲆ املﺎﺋﺪة ،ورﻓﻊ رأﺳﻪ ،وﻋﺪل ﻗﺎﻣﺘﻪ وﺗﻬﻴﺄ ﻟﻠﻨﻬﻮض.
وﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﻟﺤﻈﺔ أو ﻟﺤﻈﺘﺎن ﺣﺘﻰ رآﻫﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﴩﻗﺔ اﻟﻮﺟﻪ ﻣﺒﺴﻮﻃﺔ اﻷﺳﺎرﻳﺮ
ﻗﺪ رﺳﻤﺖ ﻋﲆ ﺛﻐﺮﻫﺎ اﻟﺠﻤﻴﻞ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﺣﻠﻮة ﻏﺎﻣﻀﺔ ،ﻓﻠﻤﺎ ﺗﺒني أﻧﻬﺎ ﻋﺎﻣﺪة إﻟﻴﻪ ﻧﻬﺾ،
ﱠ
ً
وﻟﻜﻦ
ﻫﻤﺴﺎ
وﻟﻜﻨﻬﺎ أﺷﺎرت إﻟﻴﻪ أﻻ ﻳﻔﻌﻞ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت ﺧﺎﻓﺖ ﻳﻮﺷﻚ أن ﻳﻜﻮن
ﻓﻴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻏﻀﺐ :ﻫﻞ ﺗﻌﻠﻢ ﻳﺎ ﺳﻴﺪي أن ﺻﻤﺘﻚ اﻟﻴﻮم ﻳﺴﻮءﻧﻲ؟ ﻗﺎل :وﻫﻞ ﴎك
ﻗﻂ ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻳﺎ ﺳﻴﺪﺗﻲ؟ ﻗﺎﻟﺖ وﻗﺪ اﺗﺴﻌﺖ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ :ﻫﺬا ﺣﺴﺎب ﺳﻨﺴﺘﻮﻓﻴﻪ إذا ﺧﻠﺖ
ﻟﻨﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺣني .ﻗﺎل وﻫﻮ ﻳﺪاﻓﻊ ﻏﻴ ً
ﻈﺎ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻨﻔﺠﺮ :ﺗﺮﻳﺪﻳﻦ أن ﺗﻘﻮﱄ إذا ﺧﻼ
ﻟﻨﺎ اﻟﺠﺤﻴﻢ ﺑﻌﺪ ﺣني .ﻫﻨﺎﻟﻚ اﻧﴫﻓﺖ ﻋﻨﻪ رﻓﻴﻘﺔ رﺷﻴﻘﺔ ﺑﻌﺪ أن أﻟﻘﺖ إﻟﻴﻪ ﻧﻈﺮة ذﻫﺒﺖ
ﺑﻘﻠﺒﻪ ﻛﻞ ﻣﺬﻫﺐ وﺳﻠﻜﺖ ﺑﻌﻘﻠﻪ ﻛﻞ ﺳﺒﻴﻞ ،وﻗﺪ ﻇﻞ واﺟﻤً ﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻟﺤﻈﺎت ﺛﻢ أﻗﺒﻞ
ﻋﲆ ﻣﺎ ﻛﺎن أﻣﺎﻣﻪ ،ﻓﺄﻛﻞ ً
ﻗﻠﻴﻼ وﴍب ﻛﺜريًا ،وﺗﺮك ﻣﺠﻠﺴﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ وﺟﻌﻞ ﻳﺘﻨﻘﻞ ﰲ
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺑﺄﺣﺎدﻳﺜﻪ وﺗﺤﻴﺎﺗﻪ واﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺗﻪ ﻓﺮﺣً ﺎ ﻣﺮﺣً ﺎ ﻣﻨﻄﻠﻖ اﻟﻠﺴﺎن ﺧﻔﻴﻒ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺣﺘﻰ
ﻗﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻟﺒﻌﺾ :ﻟﻘﺪ ﻋﺮﻓﺖ رﺑﺔ اﻟﺪار ﻛﻴﻒ ﺗﺮد إﻟﻴﻪ اﻟﺤﻴﺎة ،وﺗﺸﺠﻊ ﻓﻴﻪ
أﺣﺎدﻳﺚ
اﻟﻨﺸﺎط ،وﺗﻨﻘﻠﻪ ﻣﻦ ﺟﻤﻮد وﺧﻤﻮد إﱃ ﻧﺸﺎط ﻳﻮﺷﻚ أن ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺎر .أﻣﺎ ﻫﻲ ﻓﻘﺪ
ﻣﻀﺖ ﰲ ﺗﺤﻴﺔ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻛﺄن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﳾء ،وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻮزع ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺴﻂ ﺣﻴﻨًﺎ وﺑﻐري
اﻟﻘﺴﻂ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺳﺤﺮ اﻟﻠﺤﻆ واﻟﻠﻔﻆ ،ﺗﻘﻒ إﱃ ﻫﺬا ﻓﺘﻄﻴﻞ اﻟﻮﻗﻮف ،وﺗﻠﻘﻲ إﱃ ﻫﺬا ﻛﻠﻤﺔ
ً
اﺧﺘﻼﺳﺎ ،وﺗﴩف ﻣﻊ ﻫﺬا ﻛﻠﻪ أو رﻏﻢ ﻫﺬا
ﴎﻳﻌﺔ ﻋﺎﺑﺮة ،وإﱃ ﻫﺬا ﻧﻈﺮة ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺨﺘﻠﺴﻬﺎ
ﻛﻠﻪ ﻋﲆ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺨﺪم اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻌﻮن ﺑﺄﻟﻮان اﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب ﻋﲆ اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ
ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ذات ﻧﻔﺲ واﺣﺪة ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ذات ﻧﻔﻮس ﻛﺜرية ﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺎﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ
وﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﺑﺎﻟﺨﺪم ،ﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺨﺒﺰ وﻳُﻌﻨﻰ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﺑﺘﻮزﻳﻊ
اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ ،وﻋﻴﻮن اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻋﲆ ﻛﺜﺮﺗﻬﻢ ﺗﺮﻣﻘﻬﺎ ﰲ إﻋﺠﺎب وإﻛﺒﺎر أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﺗﺮﺷﻘﻬﺎ ﰲ ﻏﻴﻆ
وﺣﺴﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻌﻠﻘﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻴﻮن ﺑﻮﺟﻬﻬﺎ املﴩق اﻟﺠﻤﻴﻞ ،ورﺑﻤﺎ ﺗﻌﻠﻘﺖ
ﻋﻴﻮن أﺧﺮى ﺑﻬﺬا اﻟﻔﻦ أو ذاك ﻣﻦ ﻓﻨﻮن زﻳﻨﺘﻬﺎ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺒﺎرﻋﺔ ،ورﺑﻤﺎ اﺟﱰأت ﺑﻌﺾ
اﻟﻌﻴﻮن اﻟﻮﻗﺤﺔ ﻓﺘﺰﻟﻘﺖ ﻋﲆ ﺷﺨﺼﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ رأﺳﻬﺎ إﱃ ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ ﺗﻌﺮب ﺑﺬﻟﻚ ﻋﻦ ﻋﻮاﻃﻒ
ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻒ واﻟﻔﺘﻮن.
وﻟﻮ ُﺧ ﱢري اﻟﺰاﺋﺮون ﻻﺧﺘﺎروا وﻷﻃﺎﻟﻮا املﻘﺎم ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،وﰲ ﻫﺬا اﻻﺟﺘﻤﺎع
اﻟﺤﻠﻮ ،وﺣﻮل ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻘﺪم اﻟﻠﻴﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ أوﺿﺎﻋﻬﺎ
وﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻫﺎ ،وﺳﺎﻋﺎت اﻟﺸﺎي ﻣﺤﺪودة ﻳﻘﺎس ﻃﻮﻟﻬﺎ وﻗﴫﻫﺎ ﺑﻤﺎ ﻟﻠﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب
اﻟﺪار ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﺔ .ﻫﺆﻻء ﻳﻠﻤﻮن إملﺎﻣﺔ ﻗﺼرية ﺛﻢ ﻳﻨﴫﻓﻮن ،وﻫﺆﻻء ﻳﻘﻴﻤﻮن ﺳﺎﻋﺔ أو ﺑﻌﺾ
ﺳﺎﻋﺔ ﺛﻢ ﻳﻤﻀﻮن ،وﻫﺆﻻء ﻳﻤﺪون اﻹﻗﺎﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﻠﻮ ﻟﻬﻢ وﺟﻪ ﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﻟﺤﻈﺎت
ً
ﻃﻮاﻻ ،واملﻘﺮﺑﻮن املﻘﺮﺑﻮن ﻣﻦ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻳﺘﺨﻠﻔﻮن وﻳﻨﻈﺮون إﱃ املﻨﴫﻓني ﰲ
ﻗﺼﺎ ًرا أو
ﳾء ﻣﻦ اﻹﺷﻔﺎق واﻻزدراء أو اﻟﺘﻌﺠﻞ ،ﺣﺘﻰ إذا اﻧﴫﻓﺖ ﻛﺜﺮة اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ أﺣﺎﻃﻮا ﺑﺼﺎﺣﺒﺔ
اﻟﺪار ﻣﻬﻨﺌني ﻟﻬﺎ ﻣﱰﻓﻘني ﺑﻬﺎ ،ﻣﺘﻨﺪرﻳﻦ ﺑﻘﻮم ﻛﺎﻧﻮا ﻳﱰﺿﻮﻧﻬﻢ وﻳﺘﻤﻠﻘﻮﻧﻬﻢ ﻣﻨﺬ ﺣني،
وﻛﺎن ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺧﺺ اﻟﺨﺎﺻﺔ وأﻗﺮب املﻘﺮﺑني ،وﻫﻮ ﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ ﻗﺪ ﺗﺨﻠﻒ ﻣﻊ
املﺘﺨﻠﻔني ،ﻓﻠﻢ ﻳﻨﴫف ﺣني اﻧﴫﻓﺖ اﻟﻜﺜﺮة ،وﻟﻢ ﻳﻨﴫف ﺣني اﻧﴫﻓﺖ اﻟﻘﻠﺔ ،وﻣﺎ ﻛﺎن
ﻟﻪ أن ﻳﻨﴫف وﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﺣﺴﺎب ﺳﻴﺴﺘﻮﻓﻴﺎﻧﻪ إذا ﺧﻠﺖ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﻛﻤﺎ
ﻗﺎﻟﺖ ،أو إذا ﺧﻼ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﺤﻴﻢ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل.
وﰲ اﻟﺤﻖ أن ﻫﺬه اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ُﻣﺪﱠت ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻮاﺋﺪ اﻟﺸﺎي ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻨﺔ وﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﰲ
وﻗﺖ واﺣﺪ ،ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻨﺔ ﺑﻬﺬه اﻷﺷﺠﺎر اﻟﺒﺎﺳﻘﺔ املﻠﺘﻔﺔ املﺘﻜﺎﺛﻔﺔ وﺑﻬﺬا اﻟﺰﻫﺮ اﻟﺒﺎﺳﻢ ﻋﻦ
أﻟﻮان ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎل ،وﺑﻬﺬه اﻟﺒﺴﻂ اﻟﺨﴬ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺴﺖ أرﺿﻬﺎ وﻧﴩت ﻓﻴﻬﺎ
راﺋﺤﺔ ودﻋﺔ وﻟﺬة ﻟﻠﺠﺴﻢ واﻟﻨﻔﺲ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﺑﻬﺬه اﻟﻨﺠﻮم اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺳﻞ ﺑني ﺣني
50
ﻳﺄس
وﺣني أﺷﻌﺘﻬﺎ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ اﻟﻨﺤﻴﻠﺔ ﻛﺄﻧﻤﺎ ﺗﺒﺤﺚ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﳾء ﰲ أﻓﻨﺎء ﻫﺬه اﻟﺒﺴﻂ أو ﰲ أﺣﻨﺎء
ﻫﺬا اﻟﺸﺠﺮ ،ﺛﻢ ﺑﻀﻮء اﻟﻘﻤﺮ ﻫﺬا اﻟﺮﻓﻴﻖ اﻟﺬي ﻧﴩ ﻋﲆ ﺷﺠﺮﻫﺎ وزﻫﺮﻫﺎ وﻋﺸﺒﻬﺎ أردﻳﺔ
ً
دﻗﺎﻗﺎ ﺗﺮﻳﺪ أن ﺗﺼﻔﻮ ﻛﻞ اﻟﺼﻔﺎء ،وﻟﻜﻦ ﻇﻠﻤﺔ اﻟﻠﻴﻞ ﺗﺸﻮﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ،ﻓﺘﺸﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ
ﻣﺎ ﻳﻤﻸ اﻟﻨﻔﺲ رﺿﺎ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺼﻔﻮ ﻟﻮﻻ ﻫﺬا اﻟﻘﻠﻖ اﻟﻴﺴري اﻟﺬي ﻳﱰدد ﰲ ﺟﻨﺒﺎﺗﻪ ﺑني
ﺣني وﺣني.
وﻛﺎﻧﺖ ﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎس إﱃ ﻫﺬا ا ُمل َﻮ ﱠﻟﻪ املﻔﺘﻮن اﻟﺬي ﻳﺮى اﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﻗﺮﻳﺒًﺎ أﺷﺪ
اﻟﻘﺮب وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻌﻴﺪ أﺷﺪ اﻟﺒﻌﺪ؛ ﻷن ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﻧﺎ ًرا ﺗﺘﺄرﺟﺢ وﺗﺘﻠﻈﻰ وﺗﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ أن ﻳﺒﺴﻂ
ﻳﺪه إﱃ ﳾء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ اﻟﻘﺮﻳﺐ .ﻗﺪ ُﻓﺘِﻦ ﺑﺼﺎﺣﺒﺔ اﻟﺪار ﻓﺘﻨﺔ ﺟﺎﻣﺤﺔ ﻃﻐﺖ ﻋﲆ ﻛﻞ
ﳾء ﻛﺄﻧﻬﺎ اﻟﺴﻴﻞ اﻟﻌﻨﻴﻒ املﻨﺪﻓﻊ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺤﻔﻞ ﺑﻤﺎ ﻳﻌﱰﺿﻪ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻣﻦ املﺼﺎﻋﺐ
واﻟﻌﻘﺒﺎت ،ﻓﻬﺬه اﻟﺠﻨﺔ اﻟﺮاﺋﻌﺔ اﻟﺸﺎﺋﻘﺔ ﺗﻐﺮﻳﻪ ﺑﺄﻟﻮان ﻣﻦ اﻟﻨﻌﻴﻢ وﺗﺜري ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﴐوﺑًﺎ
ﻣﻦ اﻷﻣﺎﻧﻲ وﺗﺨﻴﻞ إﻟﻴﻪ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻬﻲ ﻣﻴﴪ ﻟﻪ ،ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻴﺒﻠﻎ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ،وﻟﻜﻦ
ﻫﺬه اﻟﻨﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻠﻈﻰ ﰲ ﻗﻠﺒﻪ ﺗﺮده ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻌﻴﻢ ردٍّا ،وﺗﺨﻴﻞ إﻟﻴﻪ أﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻤﺲ ﻣﻨﻪ
ﺷﻴﺌًﺎ إﻻ أﺣﺮﻗﻪ وﺟﻌﻠﻪ رﻣﺎدًا ﺗﺬروه اﻟﺮﻳﺎح.
وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮى ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة اﻟﺤﺴﻨﺎء ﰲ ﻫﺬه اﻟﺮوﺿﺔ اﻟﻔﻴﺤﺎء ﻟﻴﺠﻦ ﺟﻨﻮﻧﻪ
وﻟﻴﺒﻠﻎ اﻟﻴﺄس ﺑﻪ أﻗﺼﺎه ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ أﺟﻤﻞ وﻻ أروع وﻻ أﺷﺪ ﻣﻼءﻣﺔ ﻟﺬوﻗﻪ
وﻃﺒﻌﻪ وﻫﻮاه ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻐﺎدة ﺣني ﺗﺴﻌﻰ ﰲ ﺣﺪﻳﻘﺘﻬﺎ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ
أﺑﻌﺪ ً
ً
ﻳﺎﺋﺴﺎ أو ﻗﻞ
ﻣﻨﺎﻻ وﻻ أﺷﺪ اﻣﺘﻨﺎﻋً ﺎ ﻣﻦ إرﺿﺎء ذوﻗﻪ وﻃﺒﻌﻪ وﻫﻮاه ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺣﺒﻪ
ً
ً
ﺑﻐﻴﻀﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أن
ﺛﻘﻴﻼ
ﻛﺎن ﺣﺒﻪ ﻫﻮ اﻟﻴﺄس ﻧﻔﺴﻪ ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻴﺄس
ﻳﺮﻳﺤﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻮﱠد اﻟﻴﺄس أن ﻳﺮﻳﺢ اﻟﻴﺎﺋﺴني ،وﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﻳﻌﺮف ﻟﻪ أﺻﻼً
وﻻ ﻳﺘﺒني ﻟﻪ ﻣﺼﺪ ًرا ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻨﻔﺮدًا ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻣﻦ دون ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ،وﻟﻌﻞ ﺣﻈﻪ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻒ
واﻟﻬﻴﺎم أﻻ ﻳﻜﻮن أﻗﻞ ﻣﻦ ﺣﻈﻬﺎ ﻣﻨﻬﻤﺎ.
ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﺻﱪًا ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻪ ﺳﻠﻮٍّا ،وﻣﺎ أﻛﺜﺮ
ﻣﺎ اﻣﺘﺤﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﺐ ﻓﺸﻐﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻳﻮﻣني أو أﻳﺎﻣً ﺎ وأﻛﺮه ﻧﻔﺴﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﲆ
اﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﻌﻢ داﺋﻤً ﺎ ﺣني ﻳﺴﺘﻮﺛﻖ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺄﻟﻢ وﺣﺪه ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺠﺮ ،وﻟﻢ
َ
ﻳﺸﻖ وﺣﺪه ﺑﻬﺬه اﻟﻘﻄﻴﻌﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺴﻌﺪ ﺣني ﻳﺘﺤﻘﻖ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺣﺪه ﻳﻠﺘﻤﺲ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ
وﻳﻌﻤﻞ اﻟﺤﻴﻠﺔ وﻳﺘﻜﻠﻒ املﻤﻜﻦ وﻏري املﻤﻜﻦ ﻟﻴﺼﻞ ﻣﺎ اﻧﻘﻄﻊ ﻣﻦ اﻟﻮد وﻳﺠﺪد ﻣﺎ رث ﻣﻦ
ﺻﻼت اﻟﺤﺐ وﻳﺴﺘﺄﻧﻒ ﻣﺎ أﻫﻤﻞ ﻣﻦ اﻟﻠﻘﺎء ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم.
وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ﻛﺎن ﺟﺪﺑًﺎ ﻻ ﺣﻆ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺧﺼﺐ ،ﻛﺎن أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﺼﺤﺮاء املﺤﺮﻗﺔ
اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺠﺪ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻴﻬﺎ روﺣً ﺎ وﻻ ً
أﻣﻼ ﰲ اﻟﺮوح ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﺸﻤﺲ املﺘﻮﻫﺠﺔ واﻟﺮﻣﻠﺔ
51
أﺣﺎدﻳﺚ
املﺤﱰﻗﺔ واﻟﻌﺬاب اﻟﺬي ﻳﺄﺧﺬ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن .ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ﺷﻜﺎة ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺗﺼﺪر
ً
ﻣﺘﺼﻼ ﻳﺼﺪر ﻋﻨﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﺠﺎوز اﻟﺸﻜﺎة واﻟﺮﺛﺎء ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻒ
ﻋﻨﻪ ورﺛﺎءً
ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺤﺐ أن ﻳﺄﻟﻢ اﻟﻌﺎﺷﻖ وﻳﺮﺣﻢ املﻌﺸﻮق ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺷﺪ اﻷﺷﻴﺎء
ﻳﺄﺳﺎ وﻗﻨﻮ ً
ﺗﻌﺬﻳﺒًﺎ ﻟﻘﻠﺒﻪ وﻣﺸﻘﺔ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ ﺟﻬﻠﻪ ﺑﻬﺬه املﺼﺎدر اﻟﺨﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻸ ﺣﺒﻪ ً
ﻃﺎ.
ً
ً
ﻣﺸﻮﻗﺎ إﻟﻴﻪ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺴﻌﺪ وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻠﻘﺎء
ﻣﺸﻮﻗﺎ وﻛﺎن
ﻛﺎن ﻳﺤﺐ وﻛﺎن ﻣﺤﺒﻮﺑًﺎ وﻛﺎن
ﺣني ﻳﺒﺘﺪئ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺸﻘﻰ وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻠﻘﺎء ﺣني ﻳﺘﺼﻞ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﻌﺬب وﺣﺪه ﺑﺎﻟﻔﺮاق
ﺣني ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻮﻋﺪه ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﺮوق ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺔ واملﻨﺰﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﻮل
ﺑني ﻫﺬا اﻟﺤﺐ اﻟﺸﻘﻲ وﺑني أن ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ إﱃ زواج ﺳﻌﻴﺪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﺰواج أو
ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺣﺘﻰ ﺗﺜﻮر اﻟﺜﺎﺋﺮة ،وﺗﻔﻮر اﻟﻔﺎﺋﺮة ،وﺗﻌﺼﻒ اﻟﻌﻮاﺻﻒ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺴﺪ
ﻋﲆ اﻟﺤﺒﻴﺒني ﻣﻦ أﻣﺮﻫﻤﺎ ﻛﻞ ﳾء.
ﱠ
ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ذات ﻳﻮم وﻗﺪ ﺷﻜﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﻣﻠﻬﺎ وأﻟﺢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ أﺑﺮﻣﻬﺎ واﺗﻬﻤﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﻐﻲ
ﻋﻠﻴﻪ واﻟﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻪ ،وﺑﺄﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺧﺪﻋﺘﻪ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ وأﻇﻬﺮت ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ ﻣﺎ أﻃﻤﻌﻪ وأﻏﺮاه،
ﺣﺘﻰ إذا اﺳﺘﻮﺛﻘﺖ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﻣﻠﻜﺖ ﻋﻘﻠﻪ وﺳﺤﺮت ﻟﺒﻪ واﺳﺘﺄﺛﺮت ﺑﻘﻠﺒﻪ واﺳﺘﻴﻘﻨﺖ أﻧﻪ
ً
ﻣﻨﴫﻓﺎ وﻻ ﻋﻦ ﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﻋﺰاء ،ﺗﻨﺎءت ﻋﻨﻪ وﺗﻨﻜﺮت ﻟﻪ وﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻀﺠﻪ
ﻟﻦ ﻳﺠﺪ ﻋﻦ ﺣﺒﻬﺎ
ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻨﺎر اﻟﻬﺎدﺋﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﴍ أﻧﻮاع اﻟﻨﺎر .ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ذات ﻳﻮم وﻗﺪ ﺷﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻬﺬا
ﻛﻠﻪ :إﻧﻚ ﻟﺘﻌﻠﻢ أﻧﻲ ﻻ أﺿﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﺒﻚ أﻗﻞ ﻣﻤﺎ ﺗﻀﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﺒﻲ ،وأﻧﻲ ﻻ أﺟﺪ إﱃ اﻟﺴﻠﻮ
ﺳﺒﻴﻼ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻴﻨﻚ وﺑﻴﻨﻲ ً
ً
ً
ﻓﺮﻗﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وأﻣﺪًا
ﺳﺒﻴﻼ ﻛﻤﺎ أﻧﻚ ﻻ ﺗﺠﺪ إﱃ اﻟﺴﻠﻮ ﻋﻨﻲ
ﻋﻨﻚ
ٍ
ﺻﺎف ﻣﻐﺮق ﰲ اﻟﺼﻔﺎء ﻳﺠﺪ
ﺑﻌﻴﺪًا ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﺤﺐ وﺗﻘﺪﻳﺮه؛ ﻓﺤﺒﻲ ﻧﻘﻲ ﻣﻤﻌﻦ ﰲ اﻟﻨﻘﺎء
ﻏﺎﻳﺘﻪ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ وﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻓﺄﻧﺎ أﺣﺒﻚ وﺣﺴﺒﻲ أﻧﻲ أﺣﺒﻚ ،وﻗﺪ ﻻ
ً
ﺿﻌﻔﺎ وﻓﺘﻮ ًرا وأﻧﻚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻠﻬﻮ ﻋﻨﻲ ﺑﻤﺎ ﺷﺌﺖ
ﻳُﻮﺋِﺴﻨﻲ أن أﻋﺮف أن ﰲ ﺣﺒﻚ ﱄ
ﻣﻦ أﺳﺒﺎب اﻟﻠﻬﻮ ،وأﻣﺎ أﻧﺖ ﻓﺈن ﺣﺒﻚ ﻻ ﻳﻘﻨﻊ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺘﺠﺎوزﻫﺎ إﱃ أﺷﻴﺎء ﻟﻌﻞ
اﻻﺗﺼﺎل ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني اﻟﺤﺐ اﻟﻨﻘﻲ اﻟﱪيء ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﻈﻦ ،وإﻧﻲ ﻷﻣﻨﺤﻚ
ﺧري ﻣﺎ ﻋﻨﺪي وأﺻﻔﻴﻚ ﻣﻮدﺗﻲ وأﺷﻐﻞ ﺑﻚ ﻋﻘﲇ وﻗﻠﺒﻲ وﺿﻤريي ،وأرى أن ﻫﺬه املﻨﺰﻟﺔ
ﻫﻲ أرﻓﻊ ﻣﻨﺎزل اﻟﺤﺐ وأرﻗﺎﻫﺎ وأدﻧﺎﻫﺎ إﱃ اﻟﻜﻤﺎل ،وﻟﻜﻨﻚ ﻻ ﺗﻘﻨﻊ ﻣﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ ،وﻟﻌﻠﻚ ﻻ
ﺗﺤﻔﻞ ﺑﺬﻟﻚ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺎ ﺗﺤﻔﻞ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﺧﻄ ًﺮا وأﻫﻮن ﻣﻨﻪ ﺷﺄﻧًﺎ وأﴎع ﻣﻨﻪ إﱃ
اﻟﺰوال واﻻﻧﺤﻼل.
أﺻﻔﻴﻚ ﺣﺒٍّﺎ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ اﻟﺒﻘﺎء واﻻﺗﺼﺎل اﻟﺬي ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺨﻠﻮد ،وﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﺣﺒٍّﺎ ﻫﻴﻨًﺎ
ً
ً
ﻃﻮاﻻ ،وإﻧﻲ ﻷﻛﱪ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻨﺎ
رﺧﻴﺼﺎ ﻳﻨﻌﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻪ ﺳﺎﻋﺔ ﻗﺼرية ﺛﻢ ﻳﺸﻘﻰ ﺑﻪ ﺳﺎﻋﺎت
52
ﻳﺄس
ﻣﻦ اﻟﺤﺐ وأرﺗﻔﻊ ﺑﻪ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻐﺎﺋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻧﺴﻪ وﺗﻔﺴﺪه ،وﻟﻮﻻ أن ﻫﺬا ﳾء ﻏري
ﻣﺄﻟﻮف وأﻧﻲ أرﻓﻊ ﻧﻔﴘ ﻋﻨﻪ وأﺑ ﱢﺮﺋﻬﺎ ﻣﻨﻪ ،ﻷﺑﺤﺖ ﻟﻜﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﺎ أن ﻳﻠﺘﻤﺲ ﻣﺘﺎﻋﻪ ورﺿﺎ
ﺟﺴﻤﻪ ﺣﻴﺚ ﺷﺎء ،ﺣﺘﻰ إذا اﻟﺘﻘﻴﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻨﻨﺎ إﻻ ﻃﻬﺮ ﻻ ﺗﺸﻮﺑﻪ ﺷﺎﺋﺒﺔ ،وﻧﻘﺎء ﻻ
ﻳﻌﺮض ﻟﻪ اﻟﻜﺪر ﺑﻤﺎ ﺗﺜري ﻏﺮاﺋﺰ اﻟﺠﺴﻢ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻵﺛﻤﺔ اﻟﻬﻮﺟﺎء .وﻟﻜﻨﻪ ﺳﻤﻊ
ﻟﻬﺎ وﻓﻬﻢ ﻋﻨﻬﺎ ،وأﺑﻰ إﻻ أن ﻳﻤﴤ ﰲ ﺷﻜﺎﺗﻪ املﺘﺼﻠﺔ وإﻟﺤﺎﺣﻪ اﻟﻌﻨﻴﻒ ،وإﻻ أن ﻳﻜﺮر ﻣﺎ
ﻛﺎن ﻳﻘﻮﻟﻪ داﺋﻤً ﺎ ،وﻫﻮ أن اﻟﺤﺐ واﺣﺪ ﻻ ﻳﺘﻌﺪد ،وﻛ ﱞﻞ ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﻔﺮق ﺑني رﺿﺎ
اﻟﻨﻔﺲ واﻟﻌﻘﻞ واﻟﻘﻠﺐ وإرﺿﺎء اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﺠﺎﻣﺤﺔ واﻷﻫﻮاء اﻟﺜﺎﺋﺮة.
وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎﺗﻬﻤﺎ ﻣﺎﺿﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ :إﻟﺤﺎح واﻣﺘﻨﺎع ،وﺷﻜﺎة ورﺛﺎء ،ورﺿﺎ
وﻏﻀﺐ ،ورﺟﺎء وﻗﻨﻮط ،ﺣﺘﻰ إذا ﻛﺎن املﺴﺎء ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻴﻮم أﻗﺒﻞ ﻋﲆ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﻓﻴﻤﻦ
أﻗﺒﻞ ﻟﺤﻔﻞ دﻋﺖ إﻟﻴﻪ ﻓﺠﺄة وﻟﻐري ﻋﻠﺔ واﺿﺤﺔ وﻻ ﺳﺒﺐ ﻣﻌﺮوف ،وﻗﺪ رأى ﻧﻔﺴﻪ ﰲ
اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺿﻴﻖ اﻟﺼﺪر ﻣﻔ ﱠﺮق اﻟﻨﻔﺲ ﺑ َِﺮﻣً ﺎ ﺑﻤﺎ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء وﺑﻤﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس،
وﻟﻮ اﺳﺘﻄﺎع ﻟﻌﺎد أدراﺟﻪ وﻟﺮﺟﻊ إﱃ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ﰲ أول اﻟﻠﻴﻞ ﺣني ﻳﻨﴫف ﻋﻨﻬﺎ اﻟﺰاﺋﺮون،
وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ،وﻗﺪ ﻋﻠﻞ ﺑﻘﺎءه ﺑﺄن اﻟﻨﺎس ﻗﺪ رأوا وﻋﺮﻓﻮا ﻣﻜﺎﻧﻪ ،وﺑﺄن اﻧﴫاﻓﻪ ﻗﺪ
ﻳﺜري اﻟﺮﻳﺒﺔ وﻳﻐﺮي ﺑﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﻟﺴﻨﺔ اﻟﻄﻮال اﻟﺤﺪاد ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻌﻠﻴﻞ ٍّ
ﺣﻘﺎ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ
وﻻ ﻏﺒﺎر ﻋﻠﻴﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺣﺪه ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻔﴪ ﺑﻘﺎءه ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻋﻠﺔ أﺧﺮى أو
ﻋﻠﻞ أﺧﺮى ،ﻓﻬﻮ ﻗﺪ رأى ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮاﻫﺎ ﻟﻴﻘﻴﺪه ﻣﻨﻈﺮﻫﺎ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ،ورأى
اﻟﺰاﺋﺮﻳﻦ ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ وﻛﺎن ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺮى أﺣﺪًا ﻳﺪﻧﻮ ﻣﻨﻬﺎ أو ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻟﺘﻀﻄﺮم ﰲ
ﻗﻠﺒﻪ ﻧﺎر ﺗﺠﻌﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺟﺤﻴﻤً ﺎ ﻛﻠﻬﺎ ،وﻣﻦ أﺟﻞ ذﻟﻚ أﻗﺎم وأﻗﺎم ﺳﺎﺧ ً
ﻄﺎ ﺑﺮﻣً ﺎ ﻋﺎﺑﺲ اﻟﻮﺟﻪ
ً
ﻣﻐﺮﻗﺎ ﰲ اﻟﺼﻤﺖ ،ﺣﺘﻰ ﻧﺒﻬﺘﻪ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ إﱃ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﻤﺖ ﻣﻦ إﻏﺮاء ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻼﺣﻈﻮن
ﺛﻢ ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻮن ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ وإﻧﻤﺎ ﻳﺘﻨﺪرون ﺑﻤﺎ ﻻﺣﻈﻮا ،وﻫﻲ ﻗﺪ وﻋﺪﺗﻪ ﺑﺄﻧﻬﻤﺎ ﺳﻴﺴﺘﻮﻓﻴﺎن
ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺣﺴﺎب ﺣني ﺗﺨﻠﻮ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺠﻨﺔ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻟﺖ أو ﺣني ﻳﺨﻠﻮ ﻟﻬﻤﺎ
اﻟﺠﺤﻴﻢ ﺑﻌﺪ ﺣني ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ،وﻗﺪ ﺧﻠﺖ ﻟﻬﻤﺎ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ آﺧﺮ اﻷﻣﺮ ،وﻧﻈﺮ ﺻﺎﺣﺒﻨﺎ ،ﻓﺈذا ﻫﻮ
ﻗﺎﺋﻢ ﻣﻦ ﻣﺼﺪر ﺷﻘﺎﺋﻪ وﺳﻌﺎدﺗﻪ ﻏري ﺑﻌﻴﺪ ﻛﺄﻧﻪ اﻟﺨﺎدم ﻳﻨﺘﻈﺮ أن ﻳﺼﺪر إﻟﻴﻪ ﻣﻮﻻه أﻣ ًﺮا.
وﻗﺪ ﻧﻈﺮت إﻟﻴﻪ ﻓﺄﻃﺎﻟﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﺛﻢ ﻟﻢ ﺗﻤﻠﻚ أن ﺗﻐﺮق ﰲ ﺿﺤﻚ ﻣﺘﺼﻞ ﻃﻮﻳﻞ
ً
ﺣﻔﻴﻈﺔ وزاده اﺿﻄﺮاﺑًﺎ إﱃ اﺿﻄﺮاب ،ﻓﻠﻤﺎ ﻛﺎد اﻟﻀﺤﻚ ﻳﺴﻜﺖ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ
ﻣﻸه
ﺻﻮت ﻣﺘﻘﻄﻊ :وﻣﺎ ﻳﻐﻴﻈﻚ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻀﺤﻚ وإن ﻣﻘﺎﻣﻚ ﻫﺬا ملﻀﺤﻚ ٍّ
ﺣﻘﺎ ،اد ُن ﻣﻨﻲ
وﺧﺬ ﻣﺠﻠﺴﻚ اﻟﺬي أَﻟِﻔﺘﻪ ﺣني ﻳﺨﻠﺺ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﺎ ﻟﺼﺎﺣﺒﻪ وﻟﻨﺒﺪأ ﰲ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ
ﻧﻤﻞ ﺗﻤﺜﻴﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻲ أرﻳﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﻴﻠﺔ أﻻ ﻳﻄﻮل اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ،ﻓﻘﺪ أﺗﻌﺒﻨﻲ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻘﺒﺎل
53
أﺣﺎدﻳﺚ
وأﻇﻨﻨﻲ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﳾء ﻣﻦ راﺣﺔ ،وإن ﺷﺌﺖ ﻓﺴﺄﻣﻨﺤﻚ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ ﺗﺸﻜﻮ ﻓﻴﻬﺎ ﺑَﺜﱠﻚ
وﺗﻔﺠﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻏﻀﺒﻚ ﺛﻢ ﺗﻐﺴﻞ ﻫﺬا اﻟﻐﻀﺐ ﺑﻤﺎ ﺗﺬرف ﻣﻦ دﻣﻮع ،وﺳﺄﻣﻨﺢ ﻧﻔﴘ ﻋﴩ
دﻗﺎﺋﻖ أرد ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ ﺗﺠﻨﻴﻚ وأزﺟﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻏﻀﺒﻚ اﻟﺬي ﺳﻴﻜﻮن ﺟﺎﻣﺤً ﺎ وﻗﺤً ﺎ ،وأﻣﺴﺢ
ﻓﻴﻬﺎ دﻣﻮﻋﻚ اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻜﻮن ﻏﺰا ًرا ،ﺛﻢ أﺧﺼﺺ ﻋﴩ دﻗﺎﺋﻖ أﺧﺮى ﻟﻠﺘﺼﺎﰲ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺘﺎب
واﻟﱰاﴈ ﺑﻌﺪ اﻟﺘﻐﺎﺿﺐ واﻻﺋﺘﻼف ﺑﻌﺪ اﻻﺧﺘﻼف ،ﻓﺈذا ﺑﻠﻐﻨﺎ ذﻟﻚ اﻧﺘﻬﻰ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ وأﺳﺪل
اﻟﺴﺘﺎر ،واﻧﴫﻓﺖ أﻧﺖ إﱃ ﻣﺎ ﺷﺌﺖ أن ﺗﻨﻔﻖ ﻓﻴﻪ أول اﻟﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻟﻘﺎء اﻷﺻﺪﻗﺎء أو اﻟﺨﻠﻮة
إﱃ اﻟﻜﺘﺎب أو اﻟﺨﻠﻮة إﱃ ﺣﺒﻚ ﻫﺬا اﻟﺬي ﻳﻌﺬﺑﻚ وﻳﻀﻨﻴﻚ ﰲ ﻏري ﻃﺎﺋﻞ وﻻ َﻏﻨَﺎء.
وﻟﺴﺖ أدري أأﻧﻔﺬ اﻟﻌﺎﺷﻘﺎن ﺑﺮﻧﺎﻣﺠﻬﻤﺎ ﻛﻤﺎ رﺳﻤﺘﻪ اﻟﻐﺎدة اﻟﺤﺴﻨﺎء ﻟﻢ ﻳﺘﺠﺎوز
اﻟﺨﻄﺔ املﺮﺳﻮﻣﺔ ﺑﻘﴫ أو ﻃﻮل ،أم ﻟﻢ ﻳﻨﻔﺬاه ،وإﻧﻤﺎ أراﻫﻤﺎ ﺣني ﺗﻘﺪم اﻟﻠﻴﻞ ﻗﺪ ﺟﻠﺴﺎ
إﱃ ﻣﺎﺋﺪة اﻟﻄﻌﺎم ﻳﺼﻴﺒﺎن ﰲ دﻋﺔ وﻫﺪوء ﻣﻤﺎ ﻳُﻘﺪﱠم إﻟﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﻟﻮان ،وأراﻫﻤﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ
ﻳﺘﴫﻓﺎن ﰲ أﻟﻮان ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﻬﺎدئ املﻄﻤﱧ ﻛﺄﻧﻬﻤﺎ ﺻﺪﻳﻘﺎن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺛﻮرة وﻻ
ﺧﺼﺎم ،ﺛﻢ أراﻫﻤﺎ وﻗﺪ ﻧﻬﻀﺎ ﻟﻴﻔﱰﻗﺎ ،وﻫﻲ ﺗﺒﺴﻢ ﻟﻪ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﺣﺰن ،وﻫﻮ
ﻳﺒﺴﻢ ﻟﻬﺎ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻏﻴﻆ ،ﺣﺘﻰ إذا ﺑﻠﻐﺎ ﺑﺎب اﻟﺤﺠﺮة ﻗﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﰲ ﺻﻮت
ﻫﺎدئ ﻣﻜﻈﻮم :أﻣﺎ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻓﺈﻧﻲ ﻗﺪ أﻋﺪدت ﻟﻚ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗُﻘﺪﱢر ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ اﻷﻳﺎم أﻧﻲ
ﺳﺄﻋﺪﻫﺎ ﻟﻚ ،وﻫ ﱠﻢ أن ﻳﺴﺄﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬه املﻔﺎﺟﺄة ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻤﻬﻠﻪ وإﻧﻤﺎ وﺿﻌﺖ ﻳﺪﻳﻬﺎ
ﻋﲆ ﻛﺘﻔﻴﻪ وأدﻧﺖ ﺟﺒﻬﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻓﻤﻪ وﻫﻲ ﺗﻘﻮل :ﺳﺄﻣﻨﺤﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ ﻗﺒﻠﺔ ،ﻓﺈذا ﻇﻔﺮت ﺑﻬﺎ
ﻓﺎﻧﴫف ﻣﻮﻓﻮ ًرا وﻻ ﺗﺴﺄﻟﻨﻲ ﻏريﻫﺎ.
وﻟﺴﺖ أدري أﻃﺎﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺒﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺒﻬﺔ أم ﻗﴫت وﻟﻜﻨﻲ أﻋﻠﻢ أن اﻟﻔﺘﻰ ﺻﺪع
ﺑﺎﻷﻣﺮ واﻧﴫف ﻣﻮﻓﻮ ًرا ﺳﻌﻴﺪًا ﻟﻢ ﻳﺴﺄل ﻏريﻫﺎ وﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻠﻨﻮم أو ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺠﺐ ﻟﻪ اﻟﻨﻮم
ﺣﺘﻰ ﺗﺠﺎوز اﻟﻠﻴﻞ ﺛﻠﺜﻴﻪ ،ﺛﻢ دﺧﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﺎدﻣﻪ ﻣﻊ اﻟﺼﺒﺢ ﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ ﻃﻌﺎم اﻹﻓﻄﺎر
أﻳﻀﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪﻣﺖ إﻟﻴﻪ ً
وﺗﺤﻤﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﺼﺤﻒ ً
ﻏﻼﻓﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﺄﺧﺬه ﺣﺘﻰ أﺣﺲ ﻣﻦ وراﺋﻪ
ﺷﻴﺌًﺎ ﺻﻠﺒًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻋﺮف ﺧﻂ ﺻﺎﺣﺒﺘﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﺪ ﻳﻔﻀﻪ ﺣﺘﻰ وﻗﻌﺖ ﰲ
ﻳﺪه ﺻﻮرة ،ﻧﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺄﺧﺬﺗﻪ رﻋﺪة ﻋﻨﻴﻔﺔ وﺳﺎل ﻋﲆ ﺟﺴﻤﻪ ﻛﻠﻪ ﻋﺮق ﺑﺎرد ،وﻗﺪ وﻗﻊ ﰲ
ﻳﺪه ﻣﻊ اﻟﺼﻮرة ﻗﺮﻃﺎس ﺻﻐري ﻗﺪ ﺧﻄﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ :ﻟﻌﻠﻚ ﻋﺮﻓﺖ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬه
اﻟﺼﻮرة وﺗﺒﻴﻨﺖ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﻚ وﺑﻴﻨﻪ ﻣﻦ ﺷﺒﻪ ﻗﺮﻳﺐ ،وﻓﻬﻤﺖ ﻣﺼﺪر اﻟﻴﺄس اﻟﺬي ُﻛﺘﺐ ﻋﲆ
ﺣﺒﻨﺎ ،وﻓﻬﻤﺖ ﻛﺬﻟﻚ أن اﻟﻘﺒﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﺘﻚ إﻳﺎﻫﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺒﻠﺔ اﻟﻮداع ،ﻓﺈن اﻟﺤﺐ واملﻮت
ﺻﺪﻳﻘﺎن ﺗﻔﺮق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ اﻟﺤﻴﺎة ﺣﻴﻨًﺎ ﺛﻢ ﻻ ﻳﻠﺒﺜﺎن أن ﻳﻠﺘﻘﻴﺎ ذات ﺻﺒﺎح أو ذات ﻣﺴﺎء ،أﻣﺎ
ﺣﺒﻲ وﻣﻮﺗﻲ ﻓﺴﻴﻠﺘﻘﻴﺎن ﻗﺒﻞ أن ﻳﺴﻔﺮ اﻟﺼﺒﺢ.
54
َر ْﺑﻊ َﻣ ﱠﻴﺔ